سورة البقرة
[من الآية (219) إلى الآية (221) ]
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (قل فيهما إثمٌ كبيرٌ... (219).
قرأ حمزة والكسائي: (إثمٌ كثيرٌ) بالثاء.
وقرأ الباقون: (إثمٌ كبيرٌ).
قال أبو منصور: ما أقرب معنى الكثير من الكبير فاقرأ كيف شئت.
وقوله جلّ وعزّ: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو... (219).
قرأ أبو عمرو وحده: (قل العفو) بالرفع.
وقرأ الباقون: (قل العفو) نصبا.
قال أبو منصور: من جعل (ماذا) اسما واحدًا ردّ (العقو) عليه فنصبه.
ومن جعل (ما) اسمًا و(ذا) خبره وهي في المعنى (الذي) رد (العفو) عليه فرفعه، المعنى: ما الذي ينفقون؟
فقال: العفو، أي: الذي ينفقون العفو.
والعفو: ما عفا وتيسر ولم يشقّ، وأصل العفو: الفضل الذي لا يعنّي صاحبه). [معاني القراءات وعللها: 1/201]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الباء والثاء من قوله تعالى: إثمٌ كبيرٌ [البقرة/ 219] فقرأ الكسائيّ وحمزة: إثم كثير بالثاء. وقرأ الباقون: كبيرٌ بالباء.
قال أبو علي: حرّمت الخمر بقوله: قل فيهما إثم كثير سعيد عن قتادة: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ذمّها ولم يحرّمها، وهي يومئذٍ حلالٌ، فأنزل الله تعالى: لا تقربوا الصّلاة [النساء/ 43] وأنزل الآي في المائدة، فحرم قليلها وكثيرها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/307]
ومن أهل النظر من يذهب إلى أن قوله جل وعز: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ [البقرة/ 219] دلالة على تحريمها لقوله: قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي [الأعراف/ 33] فقد حرّم الإثم، وقال: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ فوجب أن يكون محرماً.
وقال: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ، والمعنى: في استحلالهما.
ألا ترى أنّ المحرم إنّما هو بعض المعاني التي فيهما، وكذلك في سائر الأعيان المحرّمة. وقال أبو حنيفة فيما أخبرنا أبو الحسن: أنه إذا نظر إليها على وجه التلذّذ بها فقد أتى محظوراً، وكذلك قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما إنما هو إثم معاصٍ تفعل فيها، وأسبابٍ لها.
وقال بعض نقلة الآثار: تواتر الخبر أن الآية التي في البقرة نزلت، ولم يحرّم بها، وقد اختلف في الآية التي حرّمت [بها الخمر، فقال قوم: حرمت بهذه الآية، وقال قوم:
حرمت] بالآي التي في المائدة.
فيعلم من ذلك أنّ الاثم يجوز أن يقع على الكبير وعلى الصغير، لأن شربها قبل التحريم لم يكن كبيراً، وقد قال:
فيهما إثمٌ كبير. وقال: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً [النساء/ 112] فالخطيئة تقع على الصغير والكبير، فمن الصغير قوله: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين
[الحجة للقراء السبعة: 2/308]
[الشعراء/ 82] ومن الكبير: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81] فهذا كبيرٌ.
فإن قلت: فكيف تقدير قوله: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً [النساء/ 112] والخطيئة قد وقعت على الصغيرة والكبيرة، والإثم كذلك، فكأنه بمنزلة من يكسب صغيراً أو صغيراً، أو من يكسب كبيراً أو كبيراً؟.
قيل له: ليس المعنى كذلك، ولكنّ الإثم قد وقع في التنزيل على ما يقتطعه الإنسان من مال من لا يجوز له أن يقتطع من ماله. فإذا كان كذلك، جاز أن يكون التقدير: من يكسب ذنباً بينه وبين الله، أو ذنباً هو من مظالم العباد، فهما جنسان، فجاز دخول «أو» في الكلام، على أن المعنى: من يكسب أحد هذين الذنبين.
والموضع الذي وقع فيه الإثم على المظلمة قوله تعالى:
فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً [المائدة/ 107] أي: إن اطلعتم على أن الشاهدين اقتطعا بشهادتهما، أو يمينهما على الشهادة إثماً؛ فالأولى بالميت وبولاية أمره، آخران يقومان مقامهما.
وإنّما جاز وقوع الإثم عليه على أحد أمرين: إما أن يكون أريد بالإثم: ذا إثم، أي: ما اقتطعه الإنسان مما اؤتمن فيه من مال صاحبه إثمٌ فيه، أو يكون سمّى المقتطع إثماً لمّا كان يؤدّي آخذه إلى الإثم، كما سمّي مظلمةً لأنه يؤدي إلى الظلم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/309]
قال سيبويه: المظلمة: اسم ما أخذ منك. فكأنّ تقدير: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً: من أذنب ذنباً بينه وبين الله، أو اقتطع حقاً للعباد، وهذان جنسان.
ومما يقوي ذلك: أن قوله: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً إنما نزل في رجل سرق شيئا من آخر، فكأنّ ذلك المسروق أوقع عليه اسم الإثم كما أوقع عليه في الآية الأخرى. فأما الذّكر الذي في ربّه على الإفراد فلأن المعنى: ثم يرم به بأحد هذين، بريئا. أو يكون عاد الذكر إلى الإثم، كما عاد إلى التجارة في قوله عز وجل: وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها [الجمعة/ 11] وقد يكون الذكر في إليها عائداً على المعنى، لأن المعنى: إذا رأوا إحدى هاتين الخصلتين.
وقال تعالى: فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه [البقرة/ 203] والإثم إنما يظنّ أن يكون على المتعجّل، فأمّا المتأخر فليس بآثم لإتمامه نسكه، فقيل:
من تأخّر فلا إثم عليه، فذكر المتأخر بوضع الإثم عنه، كما ذكر المتعجل، فقال بعض المتأولين: ذكر أن وضع الإثم عنهما، وإن كان الذي يلحقه الإثم أحدهما.
قال: وقد يكون المعنى: لا يؤثّمنّ أحدهما الآخر، فلا يقول المتأخر للمتعجل: أنت مقصر. ومثل الوجه الأول عنده قوله في المختلفين: فلا جناح عليهما فيما افتدت به
[الحجة للقراء السبعة: 2/310]
[البقرة/ 229]، والجناح على الزوج، لأنه أخذ ما أعطى، وقد جاء: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً [البقرة/ 229] وقال: فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً [النساء/ 20] فقد وقع الإثم هنا أيضاً على المأخوذ منه.
وقد يجوز أن يكون: لا جناح على كل واحد منهما إذا كان ذلك عن تراض منهما. وشبّه المتأول ما ذكرنا بقوله تعالى: نسيا حوتهما [الكهف/ 61] وبقوله: يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان [الرحمن/ 22] فنسب النسيان إليهما، والناسي فتى موسى، لا موسى. والمخرج منه اللؤلؤ أحدهما.
وهذا يجوز أن يكون على حذف المضاف، كأنه: يخرج من أحدهما، ونسي أحدهما، فحذف المضاف كما حذف في قوله: على رجلٍ من القريتين عظيمٍ [الزخرف/ 31] فالتقدير: على رجل من رجلي القريتين عظيم. وحذف المضاف كثيرٌ جداً.
وقال: ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذاً لمن الآثمين [المائدة/ 106]. وقال: ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه [البقرة/ 283] فوقع الإثم في الموضعين على من لم يؤدّ الأمانة في إقامة الشهادة. وأما قوله تعالى
[الحجة للقراء السبعة: 2/311]
وإذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم [البقرة/ 206] فإن الجار يجوز تعلقه بشيئين، بالأخذ وبالعزة، فإن علقته بالأخذ، كان المعنى: (أخذته بما يؤثم)، أي: أخذته بما يكسبه ذلك، والمعنى: للعزّة، أنه يرتكب ما لا ينبغي له أن يرتكبه، فكأن العزة حملته على ذلك وقلة الخشوع. وقد يكون المعنى:
الاعتزاز بالإثم، أي: يعتزّ بما يؤثمه فيبعده مما يرضاه الله.
وقالوا: تأثّم الرجل: إذا ترك الإثم واجتنبه، وتحوّب: إذا ترك الحوب. وكان القياس أن يكون تأثّم: إذا ركب الإثم، وفعله، مثل: تفوّق، وتجرّع. ومثل تحوّب أنهم قد قالوا:
هجد الرجل: إذا نام، وهجّدته: نوّمته، قال لبيد:
قال هجّدنا فقد طال السّرى أي: نوّمنا. وقالوا تهجّد إذا سهر، فهذا مثل تأثّم إذا اجتنب الإثم وتحوّب. وفي التنزيل: ومن اللّيل فتهجّد به نافلةً لك [الإسراء/ 79].
قال أبو علي: حجة من قرأ بالباء: إثمٌ كبيرٌ أن يقول:
الباء أولى، لأن الكبر مثل العظم، ومقابل الكبر الصغر، قال تعالى: وكلّ صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٌ [القمر/ 53]. وقد استعملوا في الذنب إذا كان موبقا الكبير، يدلّ على ذلك قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/312]
الّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش [النجم/ 53] وقال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [النساء/ 31].
فكما جاء: كبائر الإثم والفواحش وكبائر ما تنهون عنه بالباء، كذلك ينبغي أن يكون قوله: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبير، وكما وصف الموبق بالعظم في قوله عز وجل: إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ [لقمان/ 13] كذلك ينبغي أن يوصف بالكبر في قوله: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ وقالوا في غير الموبق: صغيرٌ وصغيرةٌ، ولم يقولوا: قليل. فلو كان كثيرٌ متجهاً في هذا الباب، لوجب أن يقال في غير الموبق: قليل، ألا ترى أن القلة مقابل الكثرة، كما أن الصغر مقابل الكبر؟
ومما يدل على حسن: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما واتفاقهم على أكبر ورفضهم لأكثر.
ومما يقوي ذلك أنه قد وصف بالعظم في قوله سبحانه: فقد افترى إثماً عظيماً [النساء/ 48] فكما وصف بالعظم، كذلك ينبغي أن يوصف بالكبر.
ووجه قراءة من قرأ بالثاء أنه قد جاء فيهما: إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون [المائدة/ 91] وجاء في الحديث فيما حدثنا ابن قرين
[الحجة للقراء السبعة: 2/313]
ببغداد في درب الحسن بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق بمصر في سنة ثمانٍ وستين ومائتين
قال: حدثنا أبو عاصم عن شبيب عن أنس بن مالك قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في الخمر عشرةً: مشتريها، وبائعها، والمشتراة له، وعاصرها والمعصورة له، وساقيها، والمسقاها، وحاملها، والمحمولة إليه. وآكل ثمنها»
فهذا يقوي قراءة من قرأ (كثيرٌ).
فإن قال قائل: إن الكثرة إنما ذكرت ليس في نفس الخمر، ولا في نفس الميسر، إنما هي في أشياء تحدث عنها أو تؤدّي إليها، قيل: إن ذلك، وإن كان كما ذكرت، فقد وقع الذمّ في التنزيل عليها، ألا ترى أنه قال عز وجل: إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر والميسر: قمارٌ، وأكل المال بالباطل، وقد قال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء/ 29].
ومما يقوي قراءة من قرأ كثير قوله تعالى: ومنافع للنّاس [البقرة/ 219] فكأن الإثم عودل به المنافع، فلما عودل به المنافع حسن أن يوصف بالكثرة، لأنه كأنه قال: فيه مضارٌّ كثيرة، ومنافع. فلما صار الإثم كالمعادل للمنافع، والمنافع يحسن أن توصف بالكثرة، كما جاء: لكم فيها منافع كثيرةٌ: [المؤمنون/ 21]
[الحجة للقراء السبعة: 2/314]
كذلك حسن أن يوصف الذي عودل به بالكثرة. وليس الخمر بالنبيذ في اللغة. والأسماء الأول لا توضع بالمقاييس، يدلّ على ذلك قول أبي الأسود:
دع الخمر تشربها الغواة فإنّني... رأيت أخاها مجزئاً بمكانها
فإلّا يكنها أو تكنه، فإنّه... أخوها غذته أمّه بلبانها
ألا ترى أن الشيء لا يكون أخا نفسه، وأن ما أدى إلى ذلك كان فاسداً.
اختلفوا في فتح الواو وضمها من قوله جل وعز: قل العفو [البقرة/ 219].
فقرأ أبو عمرٍو وحده: قل العفو رفعاً.
وقرأ الباقون: العفو نصباً.
وروي عن ابن عامرٍ نصب الواو أيضاً.
[الحجة للقراء السبعة: 2/315]
حدثني عبد الله بن عمرٍو بن أبي سعدٍ الوراق قال:
حدثنا أبو زيد عمر بن شبّة، عن محبوب بن الحسن، عن إسماعيل المكي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ: قل العفو رفعاً. والذي عليه أهل مكة الآن النصب.
قال أبو علي: قال ابن عباس: العفو: ما فضل عن أهلك.
عطاءٌ وقتادة والسدّي: العفو: الفضل. قال الحسن: قل العفو: ما لا يجهدكم صفوه من أموالكم، ليس بالأصول. أبو عبيدة: العفو: الطاقة التي تطيقها، والقصد، يقال: ما عفا
لك أي ما صفا لك. غيره: غير الجهد من أموالكم.
قال أبو علي: اعلم أن قولهم: (ماذا) تستعمل على وجهين: أحدهما: أن يكون ما مع ذا اسماً واحداً، والآخر: أن يكون ذا بمنزلة الذي. والدليل على جعلهما جميعاً بمنزلة اسم واحد قول العرب: عمّا ذا تسأل؟ فأثبتوا الألف في (ما). فلولا أن «ما» مع «ذا» بمنزلة اسم واحد لقالوا: عمّ ذا تسأل؟ فحذفوا الألف من آخر ما، كما حذف من قوله: عمّ يتساءلون
[الحجة للقراء السبعة: 2/316]
[النبأ/ 1] وفيم أنت من ذكراها [النازعات/ 43] فلما لم يحذفوا الألف من آخر «ما» علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحد، فلم تحذف الألف منه لمّا لم يكن آخر الاسم، والحذف إنما يقع إذا كانت الألف آخراً إلا أن يكون في شعرٍ، كقول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيمٌ... كخنزيرٍ تمرّغ في دمان
ويدل على ذلك قول الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتّقيه... ولكن بالمغيّب نبّئيني
كأنه قال:
دعي شيئاً علمت، ومما يحمل على أن «ماذا» فيه شيءٌ واحد قول الشاعر:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم... لا يستفقن إلى الدّيرين تحنانا
[الحجة للقراء السبعة: 2/317]
فإنما قوله: «ماذا بال نسوتكم» بمنزلة: ما بال نسوتكم، فاستعملوا ماذا استعمال ما، من غير أن ينضم إليها ذا. ألا ترى أنّك لو حملت ذا على الذي في البيت لم يسهل: ما الذي هو بال نسوتكم؟ لأن المستعمل: ما بالك دون الآخر. فإنما جعل ماذا بمنزلة ما، كما جعل الآخر في قوله:
دعي ماذا علمت...
بمنزلة: دعي ما علمت، ألا ترى أنك لو لم تجعلهما اسماً واحداً، لجعلت ما استفهاماً، ولا يجوز وقوع دعي ونحوه من الأفعال قبل الاستفهام، ولا يعلّق عنه.
فإذا تبين بما ذكرنا أن ما مع (ذا) بمنزلة اسم واحد كان قوله تعالى: ماذا ينفقون بمنزلة قوله: ما ينفقون، وقوله: ماذا في موضعٍ نصبٍ، كما أن ما في قولك: ما ينفقون؟ وأيّا في قولك: أياً ينفقون؟ كذلك، فجواب هذا: العفو بالنصب.
كما تقول في جواب ما أنفقت؟ درهماً. أي: أنفقت درهماً.
فهذا وجه قول من نصب العفو في الآية.
وأما وجه قول من رفع فقال: قل العفو فإن ذا تجعل بمنزلة الذي بعد ما. ولا تجعل معها بمنزلة اسم واحد، فإذا قال: ماذا أنزل ربّكم [النحل/ 24] فكأنه قال: ما الذي أنزله ربّكم؟ فجواب هذا: قرآنٌ وموعظةٌ حسنةٌ، فتضمر المبتدأ الذي كان خبراً في سؤال السائل، كما تقول في جواب: ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد. فمما جاء
[الحجة للقراء السبعة: 2/318]
على هذا في التنزيل قوله تعالى: وإذا قيل لهم: ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين [النحل/ 24] فأساطير الأولين في قول سيبويه: يرتفع على ما ذكرته لك. وقد روي عن أبي زيدٍ وغيره من النحويين أنهم قالوا: لم يقرّوا، يريدون: أنهم لم يقرّوا بإنزال الله جلّ وعزّ لذلك، فكأنهم لم يجعلوا: أساطير الأوّلين خبر الذي أنزل.
ووجه قول سيبويه: أن أساطير الأولين خبر «ذا» الذي بمعنى الذي في قوله: ماذا أنزل ربّكم على أن يكون المعنى: الذي أنزل ربّكم عندكم أساطير الأولين.
كما جاءت: وقالوا: يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك [الزخرف/ 49] وكما قال: وقالوا يا أيّها الّذي نزّل عليه الذّكر إنّك لمجنونٌ [الشعراء/ 27] أي الذي نزّل عليه الذكر عنده وعند من تبعه. ومما جاء على هذا قول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول... أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطلٌ
كأنه لما قال: ما الذي يحاوله؟ أبدل بعد، فقال: أنحب؟
أي: الذي يحاوله نحبٌ فيقضى أم ضلال وباطل.
فقوله: فيقضى في موضع نصبٍ على أنه جواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/319]
الاستفهام، وليس بمعطوف على ما في الصلة، ولو كان كذلك لكان رفعاً.
فقول من رفع فقال: العفو على هذا، كأنه لما قال:
ماذا ينفقون فكان المعنى: ما الّذي ينفقون؟ قال:
العفو، أي الذي ينفقون: العفو. فهذا وجه الرفع، ونظيره في التنزيل، في قول سيبويه الآية التي مرّت.
واعلم أنّ سيبويه لا يجيز أن يكون ذا بمنزلة الذي، إلا في هذا الموضع لما قام على ذلك من الدّلالة التي تقدمت.
والبغداديون يجيزون أن يكون ذا بمنزلة الذي في غير هذا الموضع. ويحتجون في ذلك بقول الشاعر:
عدس ما لعبّاد عليك إمارةٌ... نجوت وهذا تحملين طليق
فيذهبون إلى أن المعنى: والذي تحملين طليق.
ويحتجون أيضاً بقوله تعالى: وما تلك بيمينك يا موسى [طه/ 17] فيتأولونه على أن المعنى: ما التي بيمينك؟.
ولا دلالة على ما ذهبوا إليه من حمل الحكم على ذا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/320]
بأنه بمنزلة الذي، وذلك أن قوله: بيمينك يجوز أن يكون ظرفاً في موضع الحال فلا يكون صلةً، وكذلك: «تحملين» في البيت يجوز أن يكون في موضع حال، والعامل في الحال في الموضعين ما في الاسمين المبهمين من معنى الفعل. وإذا أمكن أن يكون على غير ما قالوا لم يكن على قولهم دلالة.
وقد تأوّل أحد شيوخنا: ذلك هو الضّلال البعيد يدعوا [الحج/ 12، 13] على مذهبهم هذا فقال: ذلك بمنزلة الذي، وما بعده صلةٌ، والاسم المبهم مع صلته في موضع نصب بيدعو. وهذا الذي تأوّله عليه تأويلٌ مستقيمٌ إذا صحّ الأصل بدلالةٍ تقام عليه). [الحجة للقراء السبعة: 2/321]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
قرأ حمزة والكسائيّ {قل فيهما إثم كبير} بالثاء وقرأ الباقون {إثم كبير} بالباء وحجتهم قوله {وإثمهما أكبر} ولم يقل أكثر
[حجة القراءات: 132]
وحجّة أخرى وهي أنهم استعملوا في الذّنب إذا كان موبقا يدل على ذلك قوله {الّذين يجتنبون كبائر الإثم} قالوا كذلك ينبغي أن يكون إثم {كبير} لأن شرب الخمر والميسر من الكبير
وحجّة من قرأ بالثاء قوله {إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصّلاة} فذكر أشياء من الإثم وحجّة أخرى أن الإثم واحد يراد به الآثام فوحد في اللّفظ ومعناه الجمع والّذي يدل عليه {ومنافع للنّاس} فعودل الإثم بالمنافع فلمّا عودل بها حسن أن يوصف بالكثير فإن قال قائل ينبغي أن يقرأ وإثمهما أكثر بالثاء قيل هذا لا يلزم من وجهين أحدهما أنهم مجمعون على الباء من وجهين وما خرج بالإجماع فلا نظر فيه والوجه الثّاني أن الاسم الثّاني بخلاف معنى الأول لأن الأول بمعنى الآثام فوحد في اللّفظ ومعناه الجمع والدّليل على ذلك {ومنافع للنّاس} وتقدير الكلام قل فيهما آثام كثيرة ومنافع للنّاس كما قال {يتفيأ ظلاله عن اليمين والشّمائل} فوحد اليمين في اللّفظ والمراد الأيمان فلذلك عطف عليه بالشمائل وهي جمع وأما قوله وإثمهما أكبر من نفعهما فلفظه ومعناه معنى التّوحيد يدل على ذلك أنه أتي بالنفع بعده موحدا
قرأ أبو عمرو {قل العفو} بالرّفع وقرأ الباقون بالنّصب من جعل ما اسما وذا خبرها وهي في موضع الّذي رد
[حجة القراءات: 133]
{العفو} فرفغ كأنّه قال ما الّذي ينفقون فقال العفو أي الّذي ينفقون العفو فيخرج الجواب على معنى لفظ السّؤال وحجته قوله {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأوّلين} قال أبو زيد أساطير ليس بجواب هذا السّؤال لأن الكفّار لم يؤمنوا بإنزال القرآن على النّبي صلى الله عليه وقال {إنّما يعلمه بشر} ولو أقرّوا أن الله ينزل عليه لما قالوا {أساطير الأوّلين} فهذا عدول عن الجواب ولكن التّقدير الّذي تزعمون أنه أنزل ربكم هو أساطير الأوّلين
من نصب {العفو} جعل {ماذا} اسما واحدًا بمعنى الاستفهام أي أي شيء ينفقون رد العفو عليه فينصب أي شيء ينفقون فخرج الجواب على لفظ السّؤال منصوبًا وحجتهم قوله {وقيل للّذين اتّقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} على معنى أي شيء أنزل فقالوا خيرا فجاء الجواب على لفظ السّؤال منصوبًا). [حجة القراءات: 134]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (131- قوله: {إثم كبير} قرأه حمزة والكسائي بالثاء، جعلاه من الكثرة حملًا على المعنى، وذلك أن الخمر تحدث، مع شربها، آثام كثيرة من لغط وتخليط، وسب وأيمان، وعداوة وخيانة، وتفريط في الفرائض، وفي ذكر الله وفي غير ذلك، فوجب أن توصف بالكثرة، وقد قال بعد «ذلك ومنافع للناس» فجمع المنافع، وكذلك يجب أن تكون الآثام جمعًا، والجمع يوصف بالكثرة، وأيضًا فإن وصف الإثم بالكثرة أبلغ، من وصفه بالكبر، وقد قال الله جل ذكره: {وادعوا ثبورًا كثيرًا} «الفرقان 14» وقال: {ذكرًا كثيرًا} «الأحزاب 41» فأما قوله {وإثمهما أكبر} «البقرة 219» فأتى بالباء، فإنما ذلك؛ لأن الإثم الثاني واحد، والأولى بمعنى الآثام، فحسن في الأول الكثرة لكثرته، ولم يحسن في الثاني الكثرة لقلته في المعنى، وأيضًا فإنه إجماع، ويدل على أن الأول بمعنى الجمع قوله: {ومنافع} فعطف عليه بجمع، فهو مثله، ولمعنى الكثرة مزية على معنى الكبر، لأن الكثرة تستوعب معنى العظم ومعنى الكثرة، ولا يستوعب العظم معنى الكثرة؛ لأن الاثم يكون عظيمًا، ولا يكون كثيرًا إلا وهو عظيم، وتقول: كل كثير كبير، ولا تقول: كل كبير كثير، فالقراءة بالثاء أعم، لتضمنها معنى الكثرة والكبر، وقرأ الباقون بالباء، من الكبر، على معنى العظم، أي: فيهما إثم عليه السلام عظيم، ويقوي ذلك إجماعهم على قوله: {وإثمهما أكبر من نفعهما} بالباء، من العظم، وقد أجمعوا على أن شرب الخمر من الكبائر، فوجب أن يوصف إثمه بالكبر، وقد وصف الله الشرك بالعظم فقال: {إن الشرك لظلم عظيم} «لقمان 13» فكذلك ينبغي أن يوصف ما قرب من
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/291]
الشرك بالعظم، وهو شرب الخمر، لأنهما كبائر، والعظم والكبر سواء، ولما قالوا فيما هو دون الكبائر صغائر، وصغير وصغيرة وجب أن يُقال في الكبائر كثير، لأن الكثير مقابل للقليل، والكبير مقابل للصغير، وقد وصف الله الإثم بالعظم في قوله: {فقد افترى إثمًا عظيمًا} «النساء 48» والكبر مقابل للعظم في المعنى، قال أبو محمد: القراءتان حسنتان متداخلتان؛ لأن القراءة بالثاء مراد بها العظم، ولا شك أن ما عظم فقد كثر، وقد كبر، والباء أحبُّ إلي، لأن الجماعة عليه، ولقوله: {حوبًا كبيرًا} «النساء 2» والحوب الإثم، فوصفه بالكبر، وقال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} «البقرة 217» والفتنة هنا الكفر والكفر يشتمل على كل الآثام، وقد وصفه بالكبر، وهو اختيار أبي حاتم وأبي طاهر وأبي عبيد، وبه قرأ الحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وقتادة وابن أبي إسحاق، وعليه العامة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/292]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (132- قوله: {قل العفو} قرأه أبو عمرو بالرفع، ونصب الباقون.
133- ووجه القراءة بالرفع أنه جعل «ما» و«ذا» اسمين، «ذا» بمعنى «الذي» و«ما» استفهام، تقديره: أي شيء الذي تنفقونه فـ «ما» مبتدأ و«الذي» خبره، فيجب أن يكون الجواب مرفوعًا أيضًا، من ابتداء وخبر، تقديره: الذي تنفقونه العفو، فيكون الجواب في الإعراب كالسؤال في الإعراب، والهاء محذوفة، من الصلة، في الجواب، أي: تنفقونه كذلك، هي مقدرة محذوفة من الصلة، وهو مثل قوله: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} «النحل 24» تقديره: أي شيء الذي أنزله ربكم قالوا الذي أنزله أساطير الأولين، فأتى الجواب على نحو السؤال في الإعراب والإضمار،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/292]
لكن حذف الابتداء، لصلته من الجواب، لدلالة الأول عليه، وكذلك هو في الآية مع «العفو».
134- ووجه القراءة بالنصب أن تكون «ما» و«ذا» اسمًا واحدًا في موضع نصب بـ «ينفقون» فيجب أن يكون الجواب أيضًا منصوبًا، كما تقول: ما أنفقت؟ فتقول: درهمًا، أي: أنفقت درهمًا، ولا هاء محذوفة مع النصب، ولا ابتداء مضمر مع النصب، إنما تُضمر فعلًا، تنصب به «العفو»، يدل عليه الأول، تقديره: يسألونك: أي شيء ينفقون، قل ينفقون العفو. ومثله قوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا} «النحل 30» فـ «ما» و«ذا» اسم واحد، في موضع نصب بـ «أنزل» و«خيرًا» جواب منصوب كالسؤال تقديره: قالوا: أنزل خيرًا، والاختيار النصب للإجماع عليه، والقراءتان متقاربتان، لأن كل واحدة محمولة على إعراب السؤال). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/293]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (73- {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [آية/ 219]:-
بالثاء، قرأها حمزة والكسائي.
[الموضح: 324]
ووجه ذلك أن الإثم ههنا عودل به المنافع التي تتصف بالكثرة؛ لكونها جمعًا في قوله تعالى: {ومَنافِعُ للنّاسِ}. فلما عودل به ما تقرر فيه الكثرة حسن فيه أيضًا أن يوصف بالكثرة، ويدل على ذلك قوله تعالى {إنّما يُرِيدُ الشّيطانُ أَنْ يُوقِعَ} الآية، فبين أن ما يحدث من الخمر مضار كثيرة في باب الدين، فدل على أن كثرة الإثم متقررة فيهما.
وقرأ الباقون {كَبِيرٌ} بالباء.
وذلك لأن الإثم إنما يوصف بالكبر نحو قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}، ثم إنهم أجمعوا في قوله تعالى {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ} على الباء دون الثاء، فإجماعهم عليه في الثاني يدل على أنه في الأول أيضًا بالباء). [الموضح: 325]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (74- {قل العفو} [آية/ 219]:
بالرفع قرأها أبو عمرو وحده.
وجه ذلك أنه جعل «ذا» من قوله «ماذا» بمنزلة الذي، ولم يجعلها مع ما بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكون التقدير على هذا: ويسئلونك ما الذي ينفقونه؟ قال العفو، بالرفع، الذي ينفقونه العفو، فيرتفع العفو بخبر المبتدإ، ومبتدأه
[الموضح: 325]
مضمر، يدل عليه الذي ينفقون، وهو ما في سؤالهم.
وقرأ الباقون {العَفْوَ} بالنصب.
وذلك لأنهم جعلوا «ماذا» اسمًا واحدًا في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} فهو مثل قولك: ما ينفقون، فماذا على هذا في موضع النصب بأنه مفعول {يُنْفِقُونَ}، كما تقول: ويسئلونك أي شيء ينفقون؟ فقوله تعالى {العَفْوَ} بالنصب جواب {مَاذَا يُنْفِقُونَ} وهو في موضع نصبٍ، فجوابه أيضًا نصب، كأنه قال: ينفقون العفو). [الموضح: 326]
قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولو شاء اللّه لأعنتكم... (220).
قرأ ابن كثيرٍ: (ولو شاء اللّه لأعنتكم) بغير همز، وهمز الباقون.
قال أبو منصور: الاختيار الهمز، لأن ألف أعنتكم مقطوعة، وهي كالأصلية، فهمزها أكمل وأعرب.
وأما قراءة ابن كثير فهو عندي على اختياره تليين الهمزة، لا أنه حذف الهمزة). [معاني القراءات وعللها: 1/204]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن طاوس عن أبيه أنه قرأ: [وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ أَصْلِحْ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ].
قال أبو الفتح: خير مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أصلح إليهم فذلك خير. وإذا جاز حذف هذه الفاء مع مبتدئها في الشرط الصحيح نحو قوله:
بني ثُعَل لا تنكَعوا العنز شِرْبَها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم
أي: فهو ظالم، كان حذف الفاء هنا، وإنما الكلام بمعنى الشرط لا بصريح لفظه، أجدر وأحرى بالجواز.
وقال: "إليهم" لما دخله معنى الإحسان إليهم، وقد ذكرنا نحو ذلك كثيرًا مما هو محمول على المعنى). [المحتسب: 1/122]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (77- {لَأَعْنَتَكُمْ} [آية/ 220]:-
غير مهموز، قرأها ابن كثير وحده في رواية البزي، ولم يذكر ابن مجاهد هذا الحرف، وابن كثير لم يحذف الهمزة وإنما لينها وخففها فجعلها بين بين، فتوهموا أنها محذوفة، فإن الهمزة من أعنت همزة قطعٍ، فلا تسقط حالة الوصل، كما تسقط همزات الوصل عند الصل، ألا ترى أنها همزة أفعل، وليست همزتها مما يسقط في حال الإدراج.
وقرأ الباقون «لأعْنَتَكُمْ» بالهمز، على الأصل، وهو الأولى). [الموضح: 328]
قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين