العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > توجيه القراءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:12 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (104) إلى الآية (105) ]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}

قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:13 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (106) إلى الآية (110) ]
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }

قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله - عزّ وجلّ -: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها... (106).
بضم النون وكسر السين ابن عامر.
(أو ننسها... (106).
بالفتح والهمز ابن كثير وأبو عمرو). [معاني القراءات وعللها: 1/169]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح النون وضمّها وفتح السين وكسرها من قوله جلّ وعزّ: ما ننسخ من آيةٍ [البقرة/ 106].
فقرأ ابن عامر وحده: (ما ننسخ) بضم النون الأولى وكسر السين.
وقرأ الباقون: (ما (ننسخ) بفتح النون الأولى والسين مفتوحة.
قال أبو علي: النسخ في التنزيل: رفع الآية وتبديلها.
ورفعها على ضروب: منها أن ترفع تلاوتها. وحكمها، كنحو ما روي عن أبي بكر الصديق أنّه قال: كنا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم إنّه كفر» ومنها أن تثبت الآية في الخطّ ويرتفع حكمها كقوله: وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الّذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا [الممتحنة/ 11]. فهذه ثابتة اللفظ في الخطّ مرتفعة الحكم.
ونسخ حكمها يكون على ضربين: بسنّة أو بقرآن، مثل الآية المنسوخة. فممّا نسخ بالسنّة الآية التي تلوناها- ومنه قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/180]
يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ، اللّه أعلم بإيمانهنّ [الممتحنة/ 10].
وأمّا المنسوخ بقرآن مثله؛ فقوله في الأنفال: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً [الأنفال/ 65]. فنسخ بقوله: الآن خفّف اللّه عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين [الأنفال/ 66] وقوله:
والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ [البقرة/ 240] فهذا نسخ بقوله:
والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً [البقرة/ 234]. ومنها ما يرتفع اللفظ من التنزيل ويثبت الحكم، كالحكم برجم الثيّبين، وما روي عن عمر من أنّه قال: لا تهلكوا عن آية الرّجم، فإنّا كنا نقرأ:
(الشيخ والشيخة فارجموهما).
ومما جاء في التنزيل من ذكر النّسخ قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته، فينسخ اللّه ما يلقي الشّيطان ثمّ يحكم اللّه آياته [الحج/ 52].
[الحجة للقراء السبعة: 2/181]
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قرأ سورة النجم فأتى على قوله:
أفرأيتم اللّات والعزّى، ومناة الثّالثة الأخرى [الآية/ 19] وصل به: (تلك الغرانقة الأولى. وإن شفاعتهن لترتجى) فسّر المشركون بذلك وقالوا: قد أثنى على آلهتنا. فهذا حديث مرويّ من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم. وذهب عامة أهل النظر فيما علمت إلى إبطاله وردّه، وأنّ ذلك لا يجوز على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه ما رووا، ولو صحّ الحديث وثبت لم يكن في هذا الكلام ثناء على آلهة المشركين، ولا مدح لها. ولكن يكون التقدير فيه: تلك الغرانقة الأولى. وإنّ شفاعتهنّ لترتجى عندكم، لا أنها في الحقيقة كذلك كما قال: ذق إنّك أنت العزيز الكريم [الدخان/ 49] أي: العزيز الكريم عند نفسك. وكما حكي عن من آمن من السحرة سحرة فرعون: وقالوا يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك [الزخرف/ 49]، ومن آمن من السحرة وصدّق موسى. لا يعتقدون فيه أنه ساحر وإنما التقدير: قالوا يا أيها
[الحجة للقراء السبعة: 2/182]
الساحر فيما يذهب إليه فرعون وقومه أو فيما يظهرون من ذلك، وكما قال: وردّ اللّه الّذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً [الأحزاب/ 25] فسمّي ما كان يناله المشركون من المسلمين- لو نالوا- خيرا على ما كان عندهم، وكما قال وقالوا يا أيّها الّذي نزّل عليه الذّكر إنّك لمجنونٌ [الحجر/ 6] فهذا على: يا أيّها الذي نزّل عليه الذّكر عنده وعند من تبعه، ولو اعترفوا بتنزيل الذّكر عليه لم يقولوا ما قالوه، وقال زهرة اليمن:
أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها... أنّي الأغرّ وأنّي زهرة اليمن
فأجابه جرير:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها... من حان- موعظة يا زهرة اليمن
وهذا النحو في الكلام الذي يطلق، والمراد به التقييد على صفة واسع غير ضيّق. فعلى هذا كان يكون تأويل هذا الكلام لو صحّ [أو سلم] لراويه، وإن لم يصحّ فالمعنى في قوله: (فينسخ اللّه ما يلقي الشّيطان) أي: يرفعه ويبيّن إبطاله
[الحجة للقراء السبعة: 2/183]
بالحجج الظاهرة. وقد يجوز أن يكون: ألقى الشّيطان في أمنيّته أي: في حال تلاوته، ولا دلالة على أنّ إلقاء ذلك في حال التلاوة، إنما هو من التالي. لكن ممّن يريد التلبيس من شياطين الإنس، فيبيّن الله ذلك، ويظهره عند من نظر واعتبر، ثم يحكم الله آياته عن أن يجوز فيها ما لا يجوز في دينه من تمويه المموّهين، وتلبيس الملبسين، ومن ذلك قوله: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ، إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية/ 29] فقوله: (نستنسخ) يجوز أن يكون ننسخ كقوله:
وإذا رأوا آيةً يستسخرون [الصافات/ 14] أي يسخرون، ويجوز أن يكون يستدعي ذلك، واستدعاء ذلك إنّما هو بأمر الملائكة بكتابته وحفظه ليحتجّ عليهم بأعمالهم كقوله: بلى ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف/ 80] وقوله: ما يلفظ من قولٍ إلّا لديه رقيبٌ عتيدٌ [ق/ 18] وإنّ عليكم لحافظين، كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون [الانفطار/ 10] وقوله: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30] وكقوله: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً [الإسراء/ 14] وكقوله تعالى: فأولئك يقرؤن كتابهم [الإسراء/ 71] ونحو ذلك من الآي التي تدلّ على أنّ أعمال العباد مكتوبة محصاة.
فأمّا قراءة ابن عامر ما ننسخ من آيةٍ بضمّ النون، فالقول فيها: أنها لا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون أفعل لغة في هذا الحرف كقولهم: حلّ من إحرامه، وأحلّ.
وقولهم: بدأ الخلق وأبدأهم. أو تكون الهمزة للنقل كقولك: قام
[الحجة للقراء السبعة: 2/184]
وأقمته، وضرب وأضربته، ونسخ الكتاب وأنسخته الكتاب. أو يكون المعنى في أنسخت الآية: وجدتها منسوخة، كقولهم:
أحمدت زيدا وأجبنته وأبخلته، أي: أصبته على بعض هذه الأحوال. فلا يجوز أن يكون لغة على حدّ حلّ وأحلّ، وبدأ وأبدأ لأنّا لم نعلم أحدا حكى ذلك، ولا رواه عن أحد، ولا تكون الهمزة لمعنى النقل، لأنّك لو جعلته كذلك، وقدّرت المفعول محذوفا من اللّفظ مرادا في المعنى كقولك: «ما أعطيت من درهم فلن يضيع عندك» لكان المعنى: ما ننزّل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها. وذلك أن إنساخه إياها إنما هو إنزال في المعنى، ويكون معنى الإنساخ: أنه منسوخ من اللوح المحفوظ أو من الذّكر،
وهو الكتاب الذي نسخت الكتب المنزلة منه. وإذا كان كذلك فالمعنى: ما ننزل من آية، أو: ما ننسخك من آية، أو ننسها، لأنّ ابن عامر يقرأ:
أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها [البقرة/ 106] وليس هذا المراد ولا المعنى، ألا ترى أنه ليس كلّ آية أنزلت أتي بآية أذهب منها في المصلحة. وإنما قوله: نأت بخيرٍ منها تقديره نأت بخير من المنسوخ، أي أصلح لكم أيها المتعبّدون. وأقلّ الآي هي المنسوخة وأكثرها غير منسوخ، فإذا كان تأويلها هذا التأويل يؤدي إلى الفساد في المعنى، والخروج عن الغرض الذي قصد به الخطاب؛ علمت أنّ توجيه التأويل إليه لا يصحّ، وإذا لم يصحّ ذلك، ولا الوجه الذي ذكرناه قبله، ثبت أن وجه قراءته إنما هو على القسم الثالث وهو: أنّ قوله
[الحجة للقراء السبعة: 2/185]
ننسخ: نجده منسوخا، وإنما نجده كذلك لنسخه إياه، فإذا كان كذلك كان قوله: ننسخ بضم النون، كقراءة من قرأ ننسخ بفتح النون، يتفقان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ.
وقول من فتح النون فقرأ: ما ننسخ من آيةٍ أبين وأوضح.
اختلفوا في ضمّ النون الأولى وترك الهمزة وفتح النون مع الهمز في قوله: ننسأها [البقرة/ 106].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننسأها: بفتح النون الأولى مع الهمز، وقرأ الباقون: ننسها بضم النون الأولى وترك الهمز.
قال أبو علي: أما قراءة ابن كثير وأبي عمرو: ننسأها بفتح النون وهمز لام الفعل. ففسّر على التأخير، أي:
نؤخرها.
وقال: بعض من لا [ينبغي أن] يعبأ بقوله: إن التأخير هنا لا معنى له. وقد قرأ بذلك من السّلف فيما ذكر، عمر وابن عباس، ومن التابعين إبراهيم وعطاء، وقرأ به عبيد بن عمير.
وروى ابن جريج عن مجاهد ما ننسخ من آيةٍ قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/186]
«نمحاها أو ننسأها» قال: نثبت خطّها ونبدل حكمها.
وقال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض، فأنا انسؤها نس ءا: إذا أخّرتها عنه. ونسأت الإبل، فأنا أنسؤها نس ءا. إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك، وتقول:
انتسأت عنك انتساء. إذا تباعدت عنه، وأنسأته الدّين إنساء:
إذا أخّرته عنه واسم ذلك النّسيئة.
فأما معنى التأخير في قوله: ننسأها فقال ناس من أهل النظر فيه: إنّ التأخير في الآية يتوجّه على ثلاثة أنحاء منها: أن يؤخّر التنزيل فلا ينزل البتّة، ولا يعلم ولا يعمل به، ولا يتلى. فالمعنى على هذا: ما ننسخ من آية أو ننسأها أي: نؤخّر إنزالها، فلا ننزلها.
والوجه الثاني: أن ينزل القرآن فيعمل به ويتلى ثم يؤخّر بعد ذلك بأن ينسخ فترفع تلاوته البتة، ويمحى فلا يتلى ولا يعمل بتأويله وذلك مثل ما روى يونس عن الحسن أنّ أبا بكر الصديق قال: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم إنه كفر. ومثل ما روي عن زرّ بن حبيش أنّ أبيّا قال له: كم تقرءون الأحزاب؟ قلت: بضعا وسبعين آية. قال: قد قرأتها ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أطول من سورة البقرة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/187]
والوجه الثالث: أن يؤخّر العمل بالتأويل لأنه نسخ ويترك خطّه مثبتا وتلاوته قرآن يتلى، وهو ما حكي عن مجاهد أنّه قال: يثبت خطّها ويبدل حكمها. وهذا نحو قوله: وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم، فآتوا الّذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا [الممتحنة/ 11] فهذا مثبت اللفظ مرفوع الحكم.
وأما من قرأ ننسها من النسيان فإنّ لفظ (نسي) المنقول منه أنسي على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى الترك، والآخر: النسيان الذي هو مقابل الذكر، فمن الترك قوله:
نسوا اللّه فنسيهم [التوبة/ 67] أي: تركوا طاعة الله فترك رحمتهم، أو ترك تخليصهم. وإضافة الترك إلى القديم سبحانه في نحو هذا اتساع. كقوله: وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون [البقرة/ 17] وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعضٍ [الكهف/ 99] أي: خلّيناهم وذاك.
وقال جويبر عن الضحّاك في قوله: اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [الجاثية/ 34] قال: اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري.
فأمّا قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] فقوله نسينا يحتمل الوجهين: يجوز أن يكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر، والخطأ: من الإخطاء الذي
[الحجة للقراء السبعة: 2/188]
ليس التعمّد، ومجاز ذلك على أنهم تعبّدوا بأن يدعوا على أن لا يؤاخذوا بذلك، وإن كانوا قد علموا أن القديم سبحانه لا يؤاخذ بهما.
وقد جاء في الحديث المأثور: «رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان وما أكرهوا عليه»
كما جاء في الدعاء قال ربّ احكم بالحقّ [الأنبياء/ 112] وهو سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ، وكما قال: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [آل عمران/ 194] وما وعدهم الله به على ألسنة الرّسل يؤتيهم الله إياه، وكذلك تعبّد الله الملائكة بالدّعاء بما يفعله الله لا محالة فقال: يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به، ويستغفرون للّذين آمنوا، ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم إلى قوله: وقهم السّيّئات [غافر/ 9]. وعلى هذا يمكن أن يكون قوله: ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به [البقرة/ 286] الاستطاعة ويكون على قوله لا تحمّلنا ما يثقل علينا ويشقّ وإن كنّا مستطيعين له.
ويجوز أن يكون إن نسينا على: إن تركنا شيئا من اللازم لنا.
ومن التّرك قوله: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [طه/ 115] أي ترك ما عهدنا إليه. ومنه قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/189]
ولا تكونوا كالّذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم [الحشر/ 19] أي: كالذين تركوا طاعة الله وأمره، فأنساهم أنفسهم، أي: لم يلطف لهم كما يلطف للمؤمنين في تخليصهم أنفسهم من عقاب الله، والتقدير: ولا تكونوا كالذين نسوا أمر الله أو طاعته، فأنساهم تخليص أنفسهم من عذاب الله وجاز أن ينسب الإنساء إليه. وإن كانوا هم الفاعلون له والمذمومون عليه، كما قال:
وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17]، فأضاف الرمي إلى الله سبحانه لما كان بقوته، وإقداره، فكذلك نسب الإنساء إليه، لمّا لم يلطف لهذا المنسى كما لطف للمؤمن الذي قد هدي، وكذلك قوله: وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [الجاثية/ 34] أي:
نسيناكم كما نسيتم الاستعداد للقاء يومكم هذا، والعمل في التخلص من عقابه. وأما قوله: واذكر ربّك إذا نسيت [الكهف/ 24] فعلى معنى التّرك، لأنه إذا كان المقابل للذكر لم يكن مؤاخذا. ومما هو خلاف الذكر، قوله: في كتابٍ لا يضلّ ربّي ولا ينسى [طه/ 52] فقوله: لا يضلّ ربّي هو في تقدير حذف الضمير العائد إلى الموصوف. وقال: فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي [طه/ 88] ففي قوله: نسي، ضمير السامري، أي: ترك التوحيد باتخاذه العجل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/190]
وقال بعض المفسرين: نسي موسى ربّه عندنا، وذهب يطلبه في مكان آخر. وأما قوله: اذكرني عند ربّك فأنساه الشّيطان ذكر ربّه [يوسف/ 42] فإن إنساء الشيطان هو أن يسوّل له، ويزيّن الأسباب التي ينسى معها. وكذلك قوله:
فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره [الكهف/ 63] يجوز أن يكون الضمير في أنساه ليوسف أي أنسى يوسف ذكر ربه كما قال: وإمّا ينسينّك الشّيطان فلا تقعد بعد الذّكرى [الأنعام/ 68].
ويجوز أن يكون الضمير في أنساه للذي ظنّ أنه ناج، ويكون ربّه ملكه. وفي الوجه الأول يكون ربّه الله سبحانه، كأنه أنساه الشيطان أن يلجأ إلى الله في شدته. وأما قوله:
فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون [الأنعام/ 41] فالتقدير: تنسون دعاء ما تشركون فحذف المضاف، أي: تتركون دعاءه، والفزع إليه، إنما تفزعون إلى الله سبحانه، ويكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر كقوله: وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلّا إيّاه [الإسراء/ 67] أي تذهلون عنه فلا تذكرونه.
وقال: فاتّخذتموهم سخريًّا حتّى أنسوكم ذكري [المؤمنون/ 110]. فهذا يجوز أن يكون منقولا من الذي بمعنى الترك، ويمكن أن يكون من الذي هو خلاف الذكر،
[الحجة للقراء السبعة: 2/191]
واللفظ على أنهم فعلوا بكم النسيان، والمعنى: أنكم أنتم أيها المتخذون عبادي سخريّا نسيتم ذكري باشتغالكم باتخاذكم إياهم سخريا وبالضحك منهم، أي: تركتموه من أجل ذلك، وإن كانوا ذاكرين وغير ناسين، فنسب الإنساء إلى عباده الصالحين وإن كانوا لم يفعلوه لمّا كانوا كالسبب لإنسائهم، فهذا كقوله: ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من النّاس [إبراهيم/ 36] وعلى هذا قوله: فأنساهم أنفسهم [الحشر/ 19] فأسند النسيان إليه، والمعنى على أنهم نسوا ذلك.
فأمّا قوله: ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها [البقرة/ 106] فمنقول من نسيت الشيء: إذا لم تذكره، قال الفراء: والنسيان هنا على وجهين:
أحدهما: على الترك، نتركها ولا ننسخها.
والوجه الآخر: من النسيان كما قال: واذكر ربّك إذا نسيت [الكهف/ 24].
قال أبو علي: قول الفراء نتركها ولا ننسخها، لا يستقيم هنا، وإنما هو من النسيان الذي ينافي الذكر، ألا ترى أنه قد قال:
نأت بخيرٍ منها أو مثلها [البقرة/ 106] وليس كل ما أخّرت من الآي فلم تنسخ ولم يبدل حكمها يؤتى بخير من المنسوخة بآية أو المنسأة، وليس المعنى: ما ننسخ من آية أو نقرّها فلا ننسخها نأت بخير منها، إنما المعنى: أنّا إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/192]
رفعناها من جهة النسخ بآية، أو الإنساء؛ أتينا بخير من التي ترفع وتبدل على أحد هذين الوجهين، ومعنى نأت بخير منها:
أنه أصلح لمن تعبّد بها، وليس المعنى في قوله: نأت بخير منها، أن الناسخة خير من المنسوخة أو المنساة، أي: أفضل منها، ولكن أصلح لمن تعبّد بها وأدعى لهم.
وقال أبو إسحاق: قال أهل اللغة في معنى: أو ننسها قولين: قال بعضهم: أو ننسها من النسيان، قال: وقالوا:
ودليلنا على ذلك قوله: سنقرئك فلا تنسى، إلّا ما شاء اللّه [الأعلى/ 6] فقد أعلم أنّه شاء أن ينسى، قال: وهذا القول عندي ليس بجائز، لأن الله قد أنبأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال أبو علي: هذا الذي احتجّ به على من ذهب إلى أنّ ننسها من النسيان، لا يدل على فساد ما ذهبوا إليه من أن ذلك من النسيان، وذلك أن قوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] إنما هو على ما لا يجوز عليه النسخ والتبديل من الأخبار وأقاصيص الأمم، ونحو ذلك مما لا يجوز عليه التبديل. والذي ينساه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو ما يجوز أن ينسخ من الأوامر والنواهي الموقوفة على المصلحة في الأوقات التي يكون ذلك فيها أصلح.
[الحجة للقراء السبعة: 2/193]
ويدلك على أن ننسها من النسيان الذي هو خلاف الذكر من قولك: نسيت الشيء وأنسانيه غيري، قراءة من قرأ: ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها. وقراءة من قرأ: أو ننسكها.
فأمّا قوله: تنسها فقراءة سعد بن أبي وقاص. روى هشيم قال: أخبرني يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة بن قائف الثقفي قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرؤها: ما ننسخ من آية أو تنسها. قال: فقلت له: إنّ سعيد بن المسيب يقرأ: أو تنسها أو: ننساها قال: إنّ القرآن لم ينزل على آل المسيّب، قال الله لنبيه: سنقرئك فلا تنسى [الأعلى/ 6] واذكر ربّك إذا نسيت [الكهف/ 24]. وقرأ أيضاً تنسها أوّلها تاء مفتوحة من النسيان: سعد بن مالك، حكاها أبو حاتم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/194]
وأما ننسكها فإنّ الكسائيّ قال: رأيت في مصاحف على قراءة سالم مولى أبي حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها النون الأولى مضمومة والثانية ساكنة.
قال أبو علي: فالمفعول المراد المحذوف في قراءة من قرأ أو ننسها مظهر في قراءة من قرأ: ننسكها ويؤكد ذلك ويبيّنه قراءة من قرأ: أو تنسها.
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن الحسن عن قرة بن خالد، عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها: تنسها. ألا ترى أن الفعل يتعدّى إلى مفعولين، فلما بني الفعل للمفعول قام أحدهما مقام الفاعل، فبقي الفعل متعديا إلى مفعول واحد. ويؤكد ذلك أيضا، ما روي من قراءة ابن مسعود: ما ننسك من آية أو ننسخها. وبقراءة ابن مسعود، قرأ الأعمش، وروى عبد الله بن كثير عن مجاهد، قال: قراءة أبيّ: ما ننسخ من آية أو ننسك.
فهذا كله يثبت قول من جعل ننسها على أنه من النسيان، وليس ذلك مما أريد بقوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] لأن ذلك إنما هو فيما لا يجوز عليه النسخ. فأما ما يجوز عليه النسخ والرفع فقد يجوز أن يرفع بالنسيان كما يرفع بالنسخ، وذلك أنه يرفع من التلاوة والخط فينسى، وليس ذلك على وجه سلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، شيئاً
[الحجة للقراء السبعة: 2/195]
أوتيه من الحكمة، كما أنّ نسخ ما نسخ بآية أو بسنّة لا يكون سلبا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً أوتيه من الحكمة.
ومما يؤكد ذلك أن سعيداً روى عن قتادة أنه قال:
كانت الآية تنسخ بالآية وينسي الله نبيّه من ذلك ما يشاء. وقد قدمنا أن ننسها لا يجوز أن يكون منقولًا من نسي الذي معناه ترك.
وقول أبي إسحاق وفي قوله: فلا تنسى إلّا ما شاء اللّه [الأعلى/ 6، 7] قولان يبطلان هذا القول الذي حكيناه عن بعض أهل اللغة، أحدهما: فلا تنسى، أي: فلست تترك، إلا ما شاء الله أن تترك. ويجوز أن يكون إلّا ما شاء اللّه أن يلحق بالبشريّة ثم يذكر بعد.
قال أبو علي: فالقول فيه أن قوله: سنقرئك فلا تنسى إن حمل فيه لا تنسى على النسيان الذي يقابل الذكر أشبه من أن يحمل على ما يراد به الترك، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا نزل عليه القرآن أسرع القراءة وأكثرها، مخافة النسيان فقال:
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، لرفعه ذلك بالنسيان، كرفعه إياه بالنسخ بآية أو سنّة. ويؤكد ذلك قوله:
لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه [القيامة/ 16 - 17] وقوله: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [طه/ 114] فحمل قوله: فلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/196]
تنسى على الترك، إذا كان يسلك به هذا المسلك- ليس بالوجه. فإن قال: أحمله على الترك دون النسيان. قيل: فإن للذي أنكرت قوله- في أنه من النسيان، وقلت إن قوله: لا يجوز، لقوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] وأنه لا يجوز أن يذهب بما أوحي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- أن يقول: ولا يجوز له أن يترك شيئا مما أوحى إليه، كما قلت أنت: لا يجوز أن ينسى شيئاً مما يوحى إليه.
فإن جاز أن يترك منه شيئاً؛ جاز أن ينسى منه شيئاً. ولا يكون نسيانه له على وجه الرّفع منكراً، كما لم يكن تركه إذا شاء الله تركه منكراً. فإذا كان الأمر على هذا، فقد صار هو أيضاً إلى مثل ما أنكره من قول من أنكر قوله.
فأمّا قوله: ويجوز أن يكون ما شاء الله مما يلحق بالبشريّة ثم يذكر بعد، فإنّ هذا الضرب من النسيان، وإن كان جائزاً على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- لما
روي من أنه قام في الثانية، فسبّح به فلم يرجع، وسجد للسهو.
ونحو ما روي من حديث ذي اليدين ونحو ما
روي من أنه صلى فنسي آية، فلما فرغ من صلاته، قال: «أفي القوم أبيّ؟ قيل: نعم يا رسول الله، أنسخت آية كذا أم نسيتها؟ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/197]
نسيتها».
من حديث عبد الرحمن بن أبزى -.
فليس المراد في هذا الموضع، لأنه في حكم الذكر من حيث كان المأثم فيه موضوعا، وإنما المراد به النسيان الذي هو رفع من التلاوة والخط، وعلى هذا استدلّ به سعد بن أبي وقاص، وعليه حمل ناس من أهل النظر فهذا أولى، وإن كان ما ذهب إليه أبو إسحاق غير ممتنع في غير هذا الموضع.
قال أبو إسحاق: وقالوا في: ننسها قولًا آخر، وهو خطأ. قالوا: أو نتركها، وهذا إنما يقال فيه: نسيت إذا تركت، ولا يقال: أنسيت تركت، وإنما معنى أو ننسها أي:
أو نتركها. أي: نأمركم بتركها.
والقول في ذلك: أنّ من فسر أنسيت بتركت، لا يكون مخطئاً، وذلك أنك إذا قلت: أنساني الشيطان ذكر كذا، فإنه إذا أنساك نسيت، وإذا قال: أضربت زيداً عمراً، فكأن المعنى: جعلت زيداً يضرب عمراً، فزيد يضرب إذا أضربته، كما ينسى إذا أنسيته، فإذا عبّر عن ذلك بما يوجبه فعله لم يكن خطأ، وإن كان إذا عبر عن تنسي بيترك، كان أشدّ موافقة له في اللفظ، ومطابقة فيما تريد من المعنى. ويدلّك على أن ذلك ليس بخطإ، أن المفعول الأول من الفعل المتعدي إلى
[الحجة للقراء السبعة: 2/198]
مفعول واحد، إذا نقل بالهمزة فاعل المفعول الثاني، فإذا عبّرت عنه بنسيت، فقد جئت بشيء دلّ كلامك عليه، كما أنك إذا عبّرت عنه على التحقيق فقد أتيت بما دلّ كلامك عليه.
فإذا اتفقا في دلالة الكلام على كل واحد منهما لم يكن خطأ. وهذا النحو يستعمله المتقدمون من السلف المفسرون وغيرهم كثيراً على أنّ أتركت وإن كان يوجبه القياس فإنّا لم نعلم الاستعمال جاء به، وإذا لم يأت به الاستعمال لم يمتنع أن يكون مثل أشياء من هذا الباب يوجبه القياس، ولم يأت به الاستعمال، فرفض لذلك. ألا ترى أنهم قالوا: دفعت زيداً بعمرو ولم يقولوا: أدفعت.
وذهب سيبويه إلى أن ذلك مرفوض وكذلك صككته بكذا، ورفضوا استعمال الهمزة، وكذلك لقيت زيداً، لم يستعملوا نقله بالهمزة، وليس ألقيت منقولًا من لقيت، ألا ترى أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وكذلك ميّزت ليس بمنقول من مزت، فإذا رفض النقل بالهمزة في هذه الأشياء ونحوها، أمكن أن يكون تركت أيضاً مثلها فلم تنقل بالهمزة، ويقوي ذلك أنّا لم نعلمه ثبت في سمع كما لم تثبت هذه الأشياء.
فإذا لم يرد به سمع دل ذلك على الرفض له. ففسر الذي فسر ذلك على ما جاء السمع به دون ما أوجبه القياس الذي لعله رآه المفسّر مرفوضاً غير مأخوذ به.
وقوله: وإنما معنى أو ننسها أو: نتركها، أي: نأمركم
[الحجة للقراء السبعة: 2/199]
بتركها؛ فالقول في ذلك: لا يخلو من أن يكون المراد بنتركها الذي يراد به تقرير الشيء، كما تقول: اترك هذا في موضعه، أي: قرره فيه ولا ترفعه منه، أو يكون المراد بنتركها أي: نرفعها ونبدلها. فإن كان المراد الوجه الأول الذي هو التقرير في موضعه، وأن لا يرفع؛ فهذا لا يقع الأمر به، لأنه ليس إلى النبي ولا إلى المسلمين تقرير الآي في مواضعها، إنّما ذلك إلى الله إذا أنزل آية كانت مقرّرة حتى يرفعها بنسخ أو إنساء، فالأمر لنا بتقرير ذلك لا يصحّ إلا أن يراد الاعتقاد، لأن ذلك ثابت غير منسوخ، وهذا الأمر ليس بالكثير الفائدة، لأن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمسلمين إذا أنزل الله تعالى آية قرروها في موضعها، واعتقدوا أنه قرآن منزل وكلام لرب العالمين قد ثبت، حتى يرفع بنسخ أو نسيان إن كان ذلك يجوز فيها. وإن كان المراد بقوله: نأمركم بتركها، نأمركم بأن ترفعوا ذلك وتتركوه؛ فذلك ليس إلى النبي ولا إلى المسلمين، وإنما تبديلها ونسخها إلى الله، يدل على ذلك قوله: قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ [يونس/ 15] فإن قال قائل: ما معنى تركها غير النسخ، وما الفصل بين الترك والنسخ؟ فالجواب في ذلك: أن النسخ أن يأتي في الكتاب نسخ آية بآية فتبطل الثانية العمل بالأولى، ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تنزل ناسخة التي قبلها، نحو قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/200]
إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ [الممتحنة/ 10] ثم أمر المسلمون بعد بترك المحنة، فهذا يدل على معنى الترك ومعنى النسخ، وقد بيناه فهذا هو الحق.
قال أبو علي: القول في ذلك أن ما ذكره من أن النسخ: أن يأتي في الكتاب نسخ الآية بالآية فتبطل الثانية العمل بالأولى؛ ليس بحقيقة النسخ، لكن هذا ضرب من النسخ. وقد يكون النسخ للآية والتبديل لها على ضروب أخر، وما أعلم فيه رواية ولا قياسا يدلّ على ما ذكره. وقد ينسخ القرآن عند عامّة الفقهاء بسنّة غير آية، ولا يمتنعون من أن يسموا ذلك نسخا، ولا يمتنع أن يسمى الضرب الذي سماه أبو إسحاق تركا نسخا.
ومما يدل على ذلك أن الزهري روى عن عروة عن عائشة قالت: نزل في أصحاب بئر معونة قرآن منه: «بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنا وأرضانا» ثمّ نسخ، فسمّت عائشة ذلك نسخا، ولم تسمّه تركا، وسمته نسخا وإن لم ينسخ بآية فهذا يفسد القسمين اللذين قسمهما. ألا ترى أنها سمت ذلك نسخا، وإن لم ينسخ ذلك بآية ولم تسمه تركا. كما زعم أنه يسمّى نحو قوله: إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ [الممتحنة/ 10] تركا من حيث أمر المسلمون بترك الامتحان لهنّ من غير آية نزلت. ويفسد ذلك أيضا ما روي عن
[الحجة للقراء السبعة: 2/201]
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من
حديث حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوما قاعد في أصحابه إذ ذكر حديثا، فقال: ذاك وأن ينسخ القرآن، فقال رجل كالأعرابي:
يا رسول الله ما ينسخ القرآن؟ وكيف ينسخ؟ قال: «يذهب أهله الذين هم أهله، ويبقى رجال كأنهم النعام. يعني في خفة الطير».
فقد سمّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا نسخا، وإن لم ينسخ بآية فإذا لم يثبت بتسميته النسخ سماع ولا قياس، وجاءت اللغة بخلاف ما ذكره، علمت أنه قول لا وجه له). [الحجة للقراء السبعة: 2/202]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي رجاء: [مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا] مشددة السين.
وقرأ سعد بن أبي وقاص والحسن ويحيى بن يعمر: [أو تَنْسَها] بتاء مفتوحة.
وقراءة سعيد بن المسيب والضحاك [تُنْسَها] مضمومة التاء مفتوحة السين.
وفي حرف ابن مسعود: [ما نُنْسِكَ من آية أو نَنسخْها].
قال أبو الفتح: أما [نُنَسِّها] فنُفَعِّلها من النسيان، فيكون فَعَّلْت في هذا كأفعلت في قراءة أكثر القراء: {نُنْسِها}، وهو في الموضعين على حذف المفعول الأول؛ أي: أو ننس أحدًا إياها؛ كقولك: ما نَهبُ من قرية أو نُقْطِعُها؛ أي: أو نُقطع أحدًا إياها.
ومن قرأ: [تَنْسَها] أراد: أو تَنْسها أنت يا محمد.
[المحتسب: 1/103]
ومن قرأ [تُنْسَها] مر أيضًا على تنسها أنت، إلا أن الفاعل في المعنى هنا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون الْمُنْسِي لها هو الله تعالى.
والآخر: أن يكون الْمُنْسِي لها ما يعتاد بني آدم من أعراض الدنيا غمًّا أو همًّا، أو عدواة من إنسان، أو وسوسة من شيطان.
فأما قوله عز اسمه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فقد يمكن أن يكون ما يحدثه من النسيان أعراض الدنيا مما شاء الله زيادة في التكليف، وتعرضًا بمقاساته ومقاومته للثواب.
ويدل على جواز كون المنسي هو الله تعالى -وإن كانت التلاوة [أو تُنْسَها]- قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} مع قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ}، وقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
ويؤكد هذا قراءة ابن مسعود: [ما نُنْسِك من آية]، وفيه بيان، وقد يقول الإنسان: ضُرب زيد، وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا: أن يُعلم أنه مضروب، وليس الغرض أن يعلم مَن ضربه؛ ولذلك بُني هذا الفعل للمفعول، وأُلغي معه حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورُفع رفعه، فهذه طريق ما لم يُسم فاعله). [المحتسب: 1/104]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}
قرأ ابن عامر {ما ننسخ من آية} بضم النّون وكسر السّين بمعنى ما ننسخك يا محمّد ثمّ حذف المفعول من النّسخ ومعناه ما آمرك بنسخها أي بتركها تقول نسخت الكتاب وأنسخت غيري أي حملته على النّسخ
وقرأ الباقون ما ننسخ بفتح النّون والسّين من نسخ إذا غير الحكم وبدل يقول نسخ الله الكتاب ينسخه نسخا وهو أن يرفع حكم آية بحكم آخرى قال ابن عبّاس {ما ننسخ من آية} أي ما نبدل من حكم آية بحكم آخر
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (أو ننسأها) أي نؤخر حكمها وحجتهما أن ذلك من التّأخير فتأويله ما ننسخ من آية فنبدل حكمها أو نؤخر تبديل حكمها فلا نبطله نأت بخير منها ويكون المعنى ما نرفع من آية أو نؤخرها فلا نرفعها
[حجة القراءات: 109]
وقرأ الباقون {أو ننسها} بضم النّون وحجتهم في ذلك قراءة أبي وسعد بن أبي وقاص وقرأ أبي بن كعب {أو ننسها} معناه ننسك نحن يا محمّد وقرأ سعد أو تنسها المعنى أو تنسها أنت يا محمّد وقراءتهما تدل على النسيان وإن كان بعضهم أضافه إلى النّبي صلى الله عليه وبعضهم أخبر أن الله فعل ذلك به وليس بين القولين اختلاف لأنّه ليس يفعل النّبي صلى الله عليه إلّا ما وفقه الله له إذا أنساه نسي قال أبو عبيد أو ننسها من النسيان ومعناه أن الله إذا شاء أنسى من القرآن من يشاء أن ينسيه وقال آخرون منهم ابن عبّاس أو ننسها أو نتركها فلا نبدلها
قال علماؤنا يلزم قائله أن يقرأها أو ننسها بفتح النّون ليصح معنى نتركها فأما إذا ضمت النّون فإنّما معناه ننسك يا محمّد وهذا لا يكون بمعنى التّرك
الجواب عنه يقال نسيت الشّيء أي تركته وأنسيته أي أمرت بتركه فتأويل الآية {ما ننسخ من آية} أي نرفعها بآية أخرى ننزلها {أو ننسها} أي نأمرك بتركها). [حجة القراءات: 110]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (61- قوله: {ما ننسخ} قرأه ابن عامر بضم النون الأولى، وكسر السين، جعله رباعيًا من «أنسخت الكتاب» على معنى: وجدته منسوخًا، مثل: أحمدت الرجل، وجدته محمودًا، وأبخلت الرجل، وجدته بخيلًا، ولا يجوز أن يكون «أنسخت» بمعنى «نسخت» إذ لم يُسمع ذلك، ولا يحسن أن تكون الهمزة للتعدي، لأن المعنى يتغير، ويصير المعنى: ما نسختك يا محمد من آية وإنساخه إياها إنزالها عليه، فيصير المعنى: ما ننزل عليك من آية أو ننسخها نأت بخير منها، يؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها، فيصير القرآن كله منسوخًا، وهذا لا يمكن؛ لأنه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن، فلما امتنع أن يكون «أفعل» و«فعل» فيه بمعنى؛ إذ لم يُسمع، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي، لفساد المعنى، لم يبق إلا أن يكون من باب «أحمدته وأبخلته»، وجدته محمودًا وبخيلًا، فأما من قرأه بفتح النون فهو المعنى الظاهر المستعمل، على معنى ما نرفع من حكم آية، ونبقي تلاوتها، نأت بخير منها لكم أو مثلها،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/257]
ويحتمل أن يكون المعنى: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها أو ننسكها يا محمد، فلا تحفظ تلاوتها، نأت بخير منها، أو مثلها، أي: نأتي بأصلح منها لكم، وأصلح في التعبد، أو نأت بمثلها في التعبد، وقد بينا هذا في الكتاب «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» بأقسامه ومعانيه، والاختيار فتح النون في «ننسخ» لأنه الأصل، ولأنه ظاهر التلاوة، ولأنه قد أجمع عليه القراء، وهو اختيار أبي عبيد وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/258]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (62- قوله: {أو ننسها} قرأه أبو عمرو وابن كثير بفتح النون الأولى، وفتح السين والهمز، جعلاه من التأخير على معنى: أو نؤخر نسخ لفظها نأت بخير منها، فهو من: نسأ الله في أجلك، أي: أخَّر فيه، وتأخير النسخ على وجهين: أحدهما أن يؤخر التنزيل للآية، فلا ينزل من اللوح المحفوظ، والثاني: أن ينزل القرآن، فيُتلى، ويُعمل به، ثم يؤخر، فينسخ العمل به دون اللفظ أو ينسخ العمل به واللفظ، أو ينسخ اللفظ ويبقى العمل. وكل هذا قد فُسر ومُثل وبُين في كتاب «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه»، وبه قرأ عمر وابن عباس ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/258]
والنخعي وعطاء بن أبي رباح وابن محيصن، وقرأ الباقون بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز، جعلوه من النسيان الذي هو ضد الذكر، على معنى: أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها، فهو من النسيان الذي هو ضد الذكر، نقل بالهمزة فتعدى الفعل إلى مفعولين، وهما «النبي» والهاء، الذي هو ضد الذكر، فيكون المعنى إذا رفعنا «آية» بـ «نسخ» أو بـ «نسيان» نقدره عليك يا محمد، أتينا بخير منها في الصلاح لكم، وأو بمثلها باللفظين عما في اللوح المحفوظ، فإن كان الإخبار عمّا قد نزل وتلي من القرآن، فلا يصلح لقوله: {نأت بخير منها}، والأقوى البين أن يكون من النسيان الذي هو ضد الذكر، فيكون المعنى إذا رفعنا «آية» بـ «نسخ» أو بـ «نسيان» نقدره عليك يا محمد، أتينا بخير منها في الصلاح لكم، أو بمثلها في التعبد، ويدل على أنه من النسيان قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} «الأعلى 6، 7» فقد أعلمه الله أنه لا ينسى شيئًا، مما نزل عليه، إلا ما شاء الله أن ينساه، مما قدر أن يبدله بأصلح منه للعباد، أو بمثله، ويدل على أنه من النسيان أن الضحاك قرأ: «أو تنسها» بتاء مضمومة، وفتح السين، فهو من النسيان لا يجوز غيره، وقد قرأ ابن مسعود: «ما ننسك من آية أو ننسخها» فهذا أيضًا من النسيان لا غير، وأيضًا فإن «تنسى» الذي بمعنى الترك، لم يستعمل «أفعل» إنما استعمل فيه «فعل» فكان يجب أن تكون القراءة بفتح النون الأولى والسين، ولم يأت ذلك والاختيار «ننسها» من النسيان، لصحة المعنى، ولأن جماعة القراء عليه، وبه قرأ ابن المسيب وأبو عبد الرحمن وقتادة والأعرج وأبو جعفر يزيد
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/259]
وشيبة والضحاك وابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/260]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (39- {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ} [آية/ 106]:-
بضم النون وكسر السين، قرأها ابن عامر وحده.
ووجه ذلك أن معناه ننسخك إياها، أي نأمرك بإزالة حكمها بإنزال آيةٍ ناسخةٍ، وهو من باب الحمل على الشيء، فمعنى {نُنْسِخْ} أي نحملك على النسخ.
والنسخ في اللغة: الإزالة، وقيل معناه نجده منسوخًا كقولك: أحمدت الرجل، إذا وجدته محمودًا، وإنما يجده منسوخًا لنسخه إياه، فهو يرجع في المعنى إلى قراءة الباقين.
[الموضح: 294]
وقرأ الباقون {نَنْسَخْ} بفتح النون والسين.
ومعناه ظاهر؛ لأن الله تعالى ينسخ الآيات، فهو الناسخ). [الموضح: 295]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (40- {أَوْ نَنْسَأْهَا} [آية/ 106]:-
بفتح النون الأولى وبالهمزة، قرأها ابن كثير وأبو عمرو، ومعناه: نؤخرها، من قولهم: نسأت الإبل عن الحوض أي أخرتها.
وقرأ الباقون {نُنْسِها} بضم النون الأولى وكسر السين غير مهموز.
ومعناه: ننسكم إياها، وهو منقول من نسي الذي هو خلاف ذكر، وقيل بل من نسي إذا ترك أي نأمركم بتركها، وهو أيضًا من باب الحمل على الشيء كننسخ، قال:
11- لست بناسيها ولا منسيها
أي آمر بتركها). [الموضح: 295]

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}

قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (كما سئل موسى من قبل... (108).
اتفق القراء على التثقيل والهمز، إلا ما روي عن ابن عامر أنه قرأ: (سئل) مهموزا بغير إشباعٍ.
[معاني القراءات وعللها: 1/171]
والقراءة بالهمز.
ومن قرأ (سئل) فإنه كان يجعلها بين بين، يكون بين الهمز والياء، فتلفظ (سئل)، وهنا إنما تحكمه المشافهة -، لأن الكتاب فيه غير فاصل بين المحقق والمليّن). [معاني القراءات وعللها: 1/172]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال أحمد بن موسى: كما سئل [البقرة/ 108] مضمومة السين، مكسورة الهمزة في قراءتهم جميعاً.
قال: وروى هشام بن عمّار بإسناده عن ابن عامر:
سئل مهموزة بغير إشباع.
[الحجة للقراء السبعة: 2/217]
قال أبو علي: القول في سئل: أنّ في سألت لغتين:
سألت أسأل، العين همزة، وهي الفاشية الكثيرة وسلت أسال لغة، وعليها جاء قول الشاعر:
سألت هذيل رسول الله فاحشة... ضلّت هذيل بما قالت ولم تصب
فحمل سيبويه سالت على قلب الهمزة ألفا للضرورة.
كما قال الآخر:
راحت بمسلمة البغال عشيّة... فارعي فزارة لا هناك المرتع
قال سيبويه: لأن الذي قال: سالت هذيل، ليست لغته سلت أسال. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد: هما يتساولان، في هذه اللغة، فدل أن العين منها واو، وليست المهموزة. ومن قرأ: قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه/ 36] لا ينبغي أن يحمله على هذه اللغة لقلّتها، ولكن على تخفيف الهمز، والتحقيق سؤلك.
والقول في قراءتهم: كما سئل مثل سعل، أنه على تحقيق الهمزة، وقياس من خفف الهمزة أن يجعل هذه بين
[الحجة للقراء السبعة: 2/218]
بين، فيقول، سئيل، ومعنى بين بين، أن يجعلها بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فإن قلت: فهلّا كان تخفيف الهمزة في سئل أن يقلبها واواً إذا انضم ما قبلها وانكسرت، كما أنها إذا كانت على عكس هذا قلبتها واواً في قولك: جون والتودة، وفي المنفصل: هذا غلام وبيك.
فالقول: إن الهمزة في سئل لم يلزم قلبها واواً، كما لزم في جون ونحوه، لأن جون إنما لزم قلبها واواً، لأنك في التخفيف لا تخلو من أن تقلبها واواً، أو تجعلها بين بين، فلم يصحّ أن تجعلها في جون بين بين، لأنك لو جعلتها كذلك نحوت بها نحو الألف، فلا يكون ما قبل الألف ضمة، كما لم يكن قبلها كسرة؛ فلما لم تكن قبلها ضمة، كذلك لم يكن قبل ما قرّبته منها. فلما لم يكن ذلك، أخلصتها واواً إذا انضم ما قبلها، كما أخلصتها ياء إذا انكسر ما قبلها في نحو: مير وذيبة وذيب، وفي المنفصل: من غلام يبيك، ولم يلزم ذلك في سئل، ولم يمتنع أن يجعلها بين بين، لأنّ في الكلام ياء مكسورة قبلها ضمّة نحو: صيد في هذا المكان، وعيي بالأمر، وحيي في هذا المكان. كما لم يلزم أن تبدل منها الياء في عكس ذئب، ومئر، وهو نحو: سئم، وجئز، ومن المنفصل نحو: وإذ قال إبراهيم [البقرة/ 126] لأن في الكلام
[الحجة للقراء السبعة: 2/219]
مثل: صيد، وعيي. فلذلك جعلت التي في سئل بين بين ولم تقلبها). [الحجة للقراء السبعة: 2/220]

قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}

قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:15 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (111) إلى الآية (113) ]

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) }


قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}

قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}

قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:18 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (114) إلى الآية (119) ]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}


قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}

قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): ( (قالوا اتّخذ اللّه ولدًا... (116).
بغير واوٍ ابن عامر.
والباقون بالواو.
قال أبو منصور: المعنى واحد في إثبات الواو ها هنا. وحذفها، غير أن القراءة بالواو أعجب إليّ لأنه زيادة حرف يستوجب به القارئ عشر حسناتٍ.
والواو تعطف بها جملة على جملة). [معاني القراءات وعللها: 1/170]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قرأ ابن عامر وحده قالوا اتّخذ اللّه ولداً سبحانه [البقرة/ 116] بغير واوٍ. وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، وقرأ الباقون بواو.
قال أبو علي: حذف الواو في ذلك يجوز من وجهين:
أحدهما أن الجملة التي هي قالوا اتّخذ اللّه ولداً ملابسة بما قبلها، من قوله: ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها [البقرة/ 114] ومن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه: جميع المتظاهرين على الإسلام من صنوف الكفار، لأنهم بقتالهم المسلمين وإرادتهم غلبتهم والظهور عليهم مانعون لهم من مواضع متعبداتهم، والمساجد
[الحجة للقراء السبعة: 2/202]
هي جميع المواضع التي يتعبد فيها.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
وإذا كان التأويل على هذا، فالذين قالوا: اتخذ الله، من جملة هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، فيستغنى عن الواو لالتباس الجملة بما قبلها كما استغني عنها في نحو قوله: والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون [البقرة/ 39] ولو كان وهم فيها خالدون، كان حسنا إلا أن التباس إحداهما بالأخرى وارتباطها بها أغنى عن الواو. ومثل ذلك قوله: سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم [الكهف/ 22] ولم يقل: ورابعهم، كما جاء: ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم [الكهف/ 22] ولو حذفت الواو منها كما
حذفت من التي قبلها واستغني عن الواو بالملابسة التي بينها كان حسنا.
والوجه الآخر أن تستأنف الجملة فلا تعطفها على ما تقدم). [الحجة للقراء السبعة: 2/203]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ( {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} 116
وقرأ ابن عامر {قالوا اتخذ الله} بغير واو كذا مكتوب
[حجة القراءات: 110]
مصاحف أهل الشّام وحجته أن ذلك قصّة مستانفة غير متعلقة بما قبلها كما قال {وإذ قال موسى لقومه} ثمّ قال {قالوا أتتخذنا هزوا} وقرأ الباقون {وقالوا} بالواو لأنّه مثبتة في مصاحفهم وهي عطف جملة على جملة). [حجة القراءات: 111]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (63- قوله: {وقالوا اتخذ الله ولدا} قرأه ابن عامر بغير واو، جعله مستأنفًا غير معطوف على ما قبله، وقد علم أن المخبر عنه بهذا القول هو المخبر عنه، بمنع ذكر الله في المساجد، والسعي في خرابها، وكذلك هي في مصاحب أهل الشام بغير واو، وقرأ الباقون: «وقالوا» بالواو على العطف على ما قبله؛ لأن الذين أخبر الله عنهم بمنع ذلك في المساجد، والسعي في خرابها هم الذين قالوا: اتخذا الله ولدا، فوجب عطف آخر الكلام على أوله، لأنه كله إخبار عن النصارى، وكذلك هي في جميع المصاحف بالواو إلا في مصحف أهل الشام، وإثبات الواو هو الاختيار، لثباتها في أكثر المصاحف، ولأن الكلام عليه كله قصة واحدة، ولإجماع القراء عليه سوى ابن عامر). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/260]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (41- {وَقَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا} [آية/ 116]:-
بغير واو عطف، قرأها ابن عامر وحده.
ووجه ذلك أنه استأنف الجملة، ولم يجعلها معطوفة على ما قبلها.
ويجوز أن يكون لما وجد بين الجملتين هي والتي قبلها ملابسة، وتلك أن الذين قالوا اتخذ الله ولدًا هم الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، استغني بهذه الملابسة عن الواو، كما في قوله تعالى {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} للملابسة، ولو ألحقها بهذه لكان حسنًا، كما لو حذفها من تلك لكان حسنًا.
وقرأ الباقون {وَقَالُوا} بالواو.
ووجهه واضح، وذلك أنه عطف جملة على جملة بالواو، فهو الأظهر جوازًا، مع أن المعنى في القراءتين لا يتغير). [الموضح: 296]

قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (كن فيكون (117)
اتفق القراء على رفع النون عن قوله: (فيكون) في جميع القرآن، إلا ابن عامر فإنه قرأ: (فيكون) بالنصب في جميع القرآن إلا في ثلاثة مواضع: موضعين في آل عمران، قوله: (فيكون طيرًا) بالرفع،
وقوله: (فيكون (59) الحقّ من ربّك)، والثالث في الأنعام، قوله: (ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ) بالرفع.
[معاني القراءات وعللها: 1/172]
وتابع الكسائي ابن عامر على نصب النون في موضعين؛ رأس أربعين من النحل (فيكون)، وآخر يس: (يكون).
قال أبو منصور: من قرأ: (فيكون) بالرفع فمعناه: فهو يكون، أو: فإنه يكون.
وقال الزجاج: من قرأ: (فيكون) فإن شئت عطفته على (يقول)، وإن شئت فعلى الإيناف، المعنى: فهو يكون.
قال: ومعنى قوله: (إنما يقول له كن فيكون): إنما يريد فيحدث كما أراد.
وقيل معناه: إنما يقول له (كن فيكون) يقول هل وإن لم يكن حاضرا: (كن) لأن ما هو معلوم عند الله كونه بمنزلة الحاضر.
وقال بعض النحويين: (إنّما يقول له): من أجله.
فكأنه إنما يقول من أجل إرادته إياه: (كن)، أي: احدث فيحدث.
ومن قرأ: (فيكون) بالنصب فهو على جواب الأمر بالفاء، كما تقول: زرني فأزورك.
وهذا عند القراء ضعيف، والقراءة بالرفع هو المختار). [معاني القراءات وعللها: 1/173]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله عز وجل: كن فيكون [البقرة/ 117] في فتح النون وضمّها، فقرأ ابن عامر وحده: كن فيكون بنصب النون.
وقرأ الباقون: فيكون رفعا.
قال أبو علي: لا يخلو قوله: يقول [البقرة/ 117] من أن يكون المراد به القول الذي هو كلام ونطق، أو يكون
[الحجة للقراء السبعة: 2/203]
الذي يتّسع فيه فلا يراد به النطق ولا الكلام، ولا الظنّ ولا الرأي ولا الاعتقاد، ولكن نحو قول الشاعر:
قد قالت الانساع للبطن الحق ونحو قول العجاج في صفة ثور:
فكّر ثمّ قال في التفكير إنّ الحياة اليوم في الكرور وقول الآخر:
امتلأ الحوض وقال قطني فلا يكون على القول الذي هو خطاب ونطق، لأن المنتفي الذي ليس بكائن لا يخاطب كما لا يؤمر، فإذا لم يجز ذلك حملته على نحو ما جاء في الأبيات التي قدمت ونحوها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/204]
وأما قوله: كن فإنه وإن كان على لفظ الأمر فليس بأمر، ولكن المراد به الخبر، كأن التقدير يكوّن فيكون وقد قالوا: أكرم بزيد، فاللفظ لفظ الأمر، والمعنى والمراد: الخبر، ألا ترى أنه بمنزلة: ما أكرم زيدا، فالجار والمجرور في موضع رفع بالفعل. وفي التنزيل: قل من كان في الضّلالة فليمدد له الرّحمن مدًّا [مريم/ 75] فالتقدير: مدّه الرحمن. وإذا لم يكن قوله: كن أمرا في المعنى، وإن كان على لفظه؛ لم يجز أن تنصب الفعل بعد الفاء بأنه جوابه، كما لم يجز النصب في الفعل الذي تدخله الفاء بعد الإيجاب نحو: آتيك فأحدّثك، إلّا أن يكون في شعر نحو قوله:
ويأوي إليه المستجير فيعصما ومما يدل على امتناع النصب في قوله: فيكون أن الجواب بالفاء مضارع للجزاء. يدلّ على ذلك أنه يؤول في المعنى إليه. ألا ترى أن: اذهب فأعطيك معناه: إن تذهب أعطيتك [والأجود إن ذهبت أعطيتك] فلا يجوز: اذهب فتذهب. لأن المعنى يصير: إن ذهبت ذهبت، وهذا كلام لا يفيد، كما يفيد إذا اختلف الفاعلان والفعلان، نحو: قم فأعطيك، لأن المعنى: إن قمت
[الحجة للقراء السبعة: 2/205]
أعطيتك، ولو جعلت الفاعل في الفعل الثاني فاعل الفعل الأول، فقلت: قم فتقوم، أو: أعطني فتعطيني، على قياس قراءة ابن عامر لكان المعنى: إن قمت تقم، وإن تعطني تعطني، وهذا كلام في قلة الفائدة على ما تراه، وإذا كان الأمر على هذا لم يكن ما روي عنه من نصبه فيكون متجها.
وقد يمكن أن تقول في قول ابن عامر: إنّ اللفظ لما كان على لفظ الأمر وإن لم يكن المعنى عليه حملته على صورة اللفظ، فقد حمل أبو الحسن نحو قوله: قل لعبادي الّذين آمنوا يقيموا الصّلاة [إبراهيم/ 31] ونحو ذلك من الآي، على أنه أجري مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابا له في الحقيقة. فكذلك على قول ابن عامر: يكون قوله: فيكون بمنزلة جواب الأمر نحو: ايتني فأحدّثك، لما كان على لفظه، وقد يكون اللفظ على شيء والمعنى على غيره، ألا ترى أنهم قد قالوا: ما أنت وزيدا؟ والمعنى: لم تؤذيه؟ وليس ذلك في اللفظ.
ومثل قوله: كن فيكون في أن المعطوف ليس محمولا على لفظ الأمر وإن كان قد وليه، قوله: فلا تكفر فيتعلّمون [البقرة/ 102] ليس قوله: فيتعلّمون بجواب لقوله: فلا تكفر ولكنه محمول على قوله: يعلمون فيتعلمون، أو يعلّمان فيتعلمون منهما، إلا أن قوله: فلا تكفر في هذه الآية نهي عن الكفر، وليس قوله: كن من قوله: كن فيكون أمرا.
ومن ثمّ أجمع الناس على رفع يكون، ورفضوا فيه النصب،
[الحجة للقراء السبعة: 2/206]
إلا ما روي عن ابن عامر وهو من الضعف بحيث رأيت، فالوجه في يكون الرفع. فإن قلت: فهلا قلت: إن العطف في قوله:
فيكون على يقول دون ما قلت من أنه معطوف على كن، ألا ترى أنه عطف على الفعل الذي قبل كن في قوله: إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل/ 40] حمل النصب في فيكون على الفعل المنتصب ب (أن). فكما جاز عطفه على الفعل المنتصب بأن الذي قبل قوله: كن فكذلك يجوز أن يحمل المرتفع عليه، كأنه قال: فإنما يقول فيكون.
قيل: ما ذكرناه أسوغ مما قلت، وأشدّ اطّرادا، ألا ترى أن قوله: إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون [آل عمران/ 60] لا يستقيم هذا المذهب فيه، لأن قال ماض، وفيكون مضارع فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما. فإن قلت: فلم لا يجوز عطف المضارع على الماضي، كما جاز عطف الماضي على المضارع في قوله:
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني... فمضيت ..........
[الحجة للقراء السبعة: 2/207]
ألا ترى أنه مضارع ومضيت ماض، فكما جاز عطف الماضي على المضارع كذلك يجوز عطف فيكون على خلقه. قيل: لا يكون هذا بمنزلة البيت، لأن المضارع فيه في معنى المضي، والمراد به: ولقد مررت فمضيت، فجاز عطف الماضي على المضارع، من حيث أريد بالمضارع المضيّ وليس المراد بقوله: فيكون في الآية المضيّ، فيعطف فيها على الماضي. فإذا كان كذلك تبينت بامتناع العطف في قوله: ثمّ قال له كن فيكون. على أن العطف في قوله:
فإنّما يقول له كن فيكون إنما هو على كن، الذي يراد به يكوّن، فيكون خبر مبتدأ محذوف كأنه: فهو يكون.
فإن قلت؛ فهلا قلت: إن العطف على كن إذا كان المراد به يكوّنه غير سهل، لأنّ قوله فيكون حينئذ قليل الفائدة، ألا ترى أن يكوّنه يدل على أنه يكون. قيل له: ليس بقليل الفائدة، لأن المعنى: فيكون بتكوينه، أي بإحداثه، لا يكون حدوثه ووجوده على خلاف هذا الوجه، فإذا كان كذلك كان مفيدا، كما أن قولهم: لأضربنّه كائن ما كان، بالرفع في كائن كلام قد استعملوه وحسن عندهم، وإن كان قد علم أنّ ما يكون فهو كائن، ولكن لما دخله من المعنى أي لا أبالي بذلك، حسن، فاستعمل، ولم يكن عندهم بمنزلة ما لا يفيد
[الحجة للقراء السبعة: 2/208]
فيطرح فكذلك لمّا كان المعنى في الآية يكون بإحداثه جاز وحسن، ولم يكن بمنزلة ما لا يفيد.
...). [الحجة للقراء السبعة: 2/209]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون}
قرأ ابن عامر {فيكون} نصب كأنّه ذهب إلى أنه الأمر تقول أكرم زيدا فيكرمك
وقرأ الباقون بالرّفع قال الزّجاج رفعه من جهتين إن شئت على العطف على يقول وإن شئت على الاستئناف المعنى فهو يكون). [حجة القراءات: 111]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (64- قوله: {كن فيكون} قرأه ابن عامر بالنصب ومثله في آل عمران {فيكون، ويعلمه}«47، 48» وفي النحل: {فيكون. والذين هاجروا} «40، 41»، وفي مريم: {فيكون. وإن الله} «35، 36» وف ياسين: {فيكون. فسبحان} «82، 83» وفي المؤمن: {فيكون. ألم تر} «68، 69» ووافقه الكسائي على النصب في النحل وياسين، وقرأ ذلك الباقون بالرفع.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/260]
65- فوجه النصب مشكل ضعيف، وذلك أنه جعله جوابًا بالفاء للفظ «كن» إذا كان لفظه لفظ الأمر، وإن كان معناه غير الأمر فهو ضعيف، لأن «كن» ليس بأمر، إنما معناه الخبر، إذ ليس ثم مأمور، يكون «كن» أمرًا له، والمعنى: فإنما يقول له: كن فيكون فهو يكون، ويدل على أن «فيكون» ليس بجواب لـ «كن» أن الجواب بالفاء، مضارع به الشرط، وإلى معناه يؤول في التقدير، فإذا قلت: اذهب فأكرمك، فمعناه: إن تهذب فأكرمك، ولا يجوز أن تقول: اذهب فتذهب؛ لأن المعنى يصير: إن تذهب تذهب، وهذا لا معنى له، وكذلك «كن فيكون» يؤول معناه، إذا جعلت «فيكون» جوابًا أن تقول له: أن يكون فيكون، ولا معنى لهذا؛ لأنه قد اتفق فيه الفاعلان؛ لأن الضمير الذي في «كن» وفي «يكون» الشيء ولو اختلفا لجاز كقولك: اخرج فأحسن إليك، أي: إن تخرج أحسنت إليك، ولو قلت: قم فتقوم، لم يحسن، إذ لا فائدة فيه؛ لأن الفاعلين واحد، ويصير التقدير: إن تقم تقم، فالنصب في هذا على الجواب بعيد في المعنى.
66- ووجه قراءة من رفع «فيكون» في ذلك أنه جعل «فيكون» منقطعًا مما قبله مستأنفًا؛ لما امتنع أن يكون جوابًا في المعنى، رفعه على الابتداء، فتقديره: فهو يكون، وهو وجه الكلام، والاختيار، وعليه جماعة القراء وبه يتم المعنى، فأما اختصاص الكسائي للنصب في النحل وياسين فهو حسن قوي، لأن فيه «أن يقول» فعطف «فيكون» على «يقول»، وكذلك آخر «يس» فيه «أن يقول» فعطف على «يقول» وهو حسن، لكن الرفع عليه
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/261]
الجماعة، وهو على الاستئناف والقطع والابتداء كالأول). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/262]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (42- {كُنْ فَيَكُون} [آية/ 117]:-
بالنصب، قرأها ابن عامر وحده، وكذلك في جميع القرآن إذا كان قبله {كُنْ}، إلا في موضعين في آل عمرن {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} بالرفع،
[الموضح: 296]
وفي الأنعام {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} بالرفع.
ووجه النصب ههنا أنه لما وقع قبله لفظ أمر أجراه مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابًا للأمر؛ لأنه ليس المعنى في هذا الموضع على الجواب، ألا ترى أنك إذا قلت: إئتني فأحدثك، كان جوابًا؛ لأن الحديث سببه الإتيان، والمعنى: إن تأتني أحدثك، ولا يستقيم ذلك ههنا، فبطل أن يكون جوابًا، إلا أنه شبهه بالجواب لفظًا فنصبه.
وقرأ الباقون {فَيَكُونُ} بالرفع.
عطفًا على قوله {يَقُولُ}.
ويجوز أن يحمل على جملة مستأنفة، والتقدير: فهو يكون). [الموضح: 297]

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}

قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119).
حدثنا السعدي قال: حدثنا على بن خشرم عن عيسى عن يونس عن موسى عن عبيدة عن محمد بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليت شعري: ما فعل أبواي.
فأنزل الله: (إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119).
قرأ نافع ويعقوب: (ولا تسأل) بفتح التاء وجزم اللام.
وقرأ الباقون: (ولا تسأل) بضم التاء واللام.
[معاني القراءات وعللها: 1/170]
قال أبو منصور: من قرأ: (ولا تسأل) - بالجزم - جزمه بـ (لا) النهي، وله معنيان: أحدهما: أن الله أمره بترك المسألة عنهم.
والآخر: أن في النهي تفخيما مما أعدّ الله لهم من العقاب، كما يقول لك القائل الذي يعلم أنك تحب أن يكون من تسأله عنه في حالٍ جميلة أو قبيحة فيقول: لا تسأل عن فلان، أي: قد صار إلى أكثر مما تريد، والله أعلم بما أراد.
وفيه وجهٌ آخر: أن يكون الله أمره بترك المسألة عنه.
ومن قرأ: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)
فإنه بمعني: ولست تسأل عن أصحاب الجحيم). [معاني القراءات وعللها: 1/171]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضم التاء ورفع اللام، وفتحها وجزم اللام من قوله جل وعز: ولا تسئل عن أصحاب الجحيم [البقرة/ 119] فقرأ نافع وحده: ولا تسئل مفتوحة التاء مجزومة اللام.
وقرأ الباقون ولا تسئل مضمومة التاء، مرفوعة اللام.
قال أبو علي: القول في سألت إنه فعل يتعدى إلى مفعولين مثل أعطيت قال:
سالتاني الطّلاق أن رأتاني... قلّ مالي قد جئتماني بنكر
وقال:
سألناها الشفاء فما شفتنا... ومنّتنا المواعد والخلابا
[الحجة للقراء السبعة: 2/209]
وأنشد أحمد بن يحيى:
سألت عمرا بعد بكر خفّا والدلو قد تسمع كي تخفّا ويجوز أن يقتصر فيه على مفعول واحد، فإذا اقتصرته في التعدي على مفعول واحد كان على ضربين:
أحدهما: أن يتعدى بغير حرف، والآخر: أن يتعدى بحرفٍ.
فأما تعديه بغير حرف فقوله: وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا [الممتحنة/ 10]. وقال: فسئلوا أهل الذّكر [النحل/ 43].
وأما تعديه بحرف؛ فالحرف الذي يتعدي به حرفان:
أحدهما الباء كقوله: سأل سائلٌ بعذابٍ [المعارج/ 1].
وقال:
وسائلة بثعلبة بن سير... وقد أودت بثعلبة العلوق
[الحجة للقراء السبعة: 2/210]
والآخر: عن كقولك: سل عن زيد.
فإذا تعدى إلى مفعولين كان على ثلاثة أضرب: أحدها:
أن يكون بمنزلة أعطيت، وذلك كقوله:
سألت زيداً بعد بكر خفّا فمعنى هذا: استعطيته، أي: سألته أن يفعل ذلك.
والآخر: أن يكون بمنزلة: اخترت الرجال زيداً، وذلك قوله:
ولا يسئل حميمٌ حميماً [المعارج/ 10] فالمعنى هنا: ولا يسأل حميم عن حميمه، لذهوله عنه واشتغاله بنفسه، كما قال:
لكلّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه [عبس/ 37]. فهذا على هذه القراءة كقوله: وسئلهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر [الأعراف/ 162].
والثالث: أن يتعدّى إلى مفعولين، فيقع موقع المفعول الثاني منهما استفهام، وذلك كقوله: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيةٍ بيّنةٍ [البقرة/ 211] وقوله: وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرّحمن آلهةً يعبدون [الزخرف/ 45].
فأما قول الأخطل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/211]
واسأل بمصقلة البكريّ ما فعلا فما: استفهام، وموضعه نصب بفعل، ولا يكون جراً على البدل من مصقلة على تقدير: سل بفعل مصقلة، ولكن تجعله مثل الآيتين اللتين تلوناهما، وإن شئت جعلته بدلًا، فكان بمنزلة قوله: فسئلوا أهل الذّكر [النحل/ 43] ولو جعلت المفعول مراداً محذوفاً من قوله: واسأل بمصقلة، فأردت:
واسأل الناس بمصقلة ما فعل؟ لم يسهل أن يكون ما استفهاماً، لأنه لا يتصل بالفعل، ألا ترى أنه قد استوفى مفعوليه فلا تقع الجملة التي هي استفهام موقع أحدهما كما تقع موقعه في قوله: سل بني إسرائيل كم آتيناهم [البقرة/ 211]. فإن جعلت ما موصولة، وقدرت فيها البدل من مصقلة لم يمتنع.
وإن قلت: أجعل قوله: ما فعل، استفهاماً وأضمر يقول، لأني إذا قلت: اسأل الناس بمصقلة، فإنه يدل على قل، لأن السؤال قول، فأحمله على هذا الفعل، لا على أنه في موضع المفعول، لاستغناء الفعل بمفعولين؛ فهو قول.
يدل على ذلك قوله: يسئلونك عن السّاعة أيّان مرساها [النازعات/ 42] ألا ترى أنه قد استوفى مفعوليه أحدهما:
الكاف، والآخر: قد تعدى إليه الفعل بعن؛ فلا يتعلق به أيّان إلا على الحدّ الذي ذكرنا.
ومن ذلك قول سيبويه: «اذهب فاسأل: زيد أبو من
[الحجة للقراء السبعة: 2/212]
هو؟» فزيد داخل في حيز الاستفهام، وليس المعنى: سل زيداً، ولكن التقدير: سل الناس: أأبو بشر زيد أم أبو عمرو؟
ولو قلت: سل زيداً على هذا الحد، لم يجز؛ لأن زيداً ليس بمسئول، إنما هو مسئول عنه، وإنما يأمر المخاطب أن يسأل غيره عنه، فلهذا قال: لو قلت: سل زيداً على هذا الحد لم يجز، وذلك لما ذكرناه من انقلاب المعنى. وهذا مما يقوي قول يونس: قد علمت زيداً أبو من هو. ألا ترى أن هذا من المواضع التي ليس يجوز فيها أن يعمل الفعل في الاسم الداخل في حيز الاستفهام، فإذا أتت مواضع ليس يجوز فيها ذلك، جاز أن لا يعمل الفعل في المفعول الذي يجوز أن يعمل فيه نحو: علمت زيداً أبو من هو.
فالمفعول في هذا الموضع محذوف، لأن المعنى: اسأل إنساناً زيد أبو من هو؟ وكذلك قوله: سأل سائلٌ بعذابٍ...
[المعارج/ 1] كأن المعنى: سأل سائل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو المسلمين بعذاب واقع، فلم يذكر المفعول الأول. وسؤالهم عن العذاب، إنما هو استعجالهم له لاستبعادهم لوقوعه، ولردهم ما يوعدون به منه، وعلى هذا قال: ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اللّه وعده [الحج/ 47] يستعجلونك بالعذاب وإنّ جهنّم لمحيطةٌ بالكافرين [العنكبوت/ 54] ويستعجلونك بالسّيّئة قبل الحسنة، وقد خلت من قبلهم المثلات [الرعد/ 6]
[الحجة للقراء السبعة: 2/213]
ويدلك على ذلك قوله: فاصبر صبراً جميلًا، إنّهم يرونه بعيداً، ونراه قريباً [المعارج/ 5] وقال: قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون
[يونس/ 50]. وقال: أتى أمر اللّه فلا تستعجلوه [النحل/ 1].
فأما قوله: وسئلوا اللّه من فضله [النساء/ 32] فيجوز أن يكون من فيه في موضع المفعول الثاني على قياس قول أبي الحسن، ويكون المفعول محذوفاً في قياس قول سيبويه، والصفة قائمة مقامه.
وأما قوله: كأنّك حفيٌّ عنها [الأعراف/ 187] فإنه يحتمل أمرين، أحدهما: أن تجعل عنها متعلقاً بالسؤال، كأنه: يسألونك عنها، كأنك حفي بها، فحذف الجارّ والمجرور. وحسن ذلك لطول الكلام بعنها التي من صلة السؤال. ويجوز أن يكون عنها بمنزلة بها وتصل الحفاوة مرّة بالباء ومرة بعن. كما أن السؤال يعمل مرة بالباء ومرة بعن فيما ذكرنا. ويدلك على أنه يصل بالباء قوله: إنّه كان بي حفيًّا [مريم/ 47]. وقال: ثمّ استوى على العرش الرّحمن فسئل به خبيراً [الفرقان/ 59] فقوله: فسئل به مثل: اسأل عنه خبيراً.
فأما خبيراً فلا يخلو انتصابه من أن يكون على أنه حال، أو مفعول به، فإن كان حالًا لم يخل أن يكون حالًا من
[الحجة للقراء السبعة: 2/214]
الفاعل أو من المفعول، فلو جعلته حالا من الفاعل السائل لم يسهل لأن الخبير لا يكاد يسأل إنما يسأل، ولا يسهل الحال من المفعول أيضاً لأن المسئول عنه خبير أبداً فليس للحال كبير فائدة. فإن قلت: يكون حالًا مؤكدة فغير هذا الوجه إذا احتمل أولى، فيكون خبيراً إذا مفعولًا به كأنه: قال فاسأل عنه خبيراً أي مسئولًا خبيراً. وكأن معنى سل: تبيّن بسؤالك وبحثك من تستخبره ليتقرر عندك ما اقتصّ عليك من خلقه ما خلق وقدرته على ذلك، وتعلمه بالفحص عنه والتبيّن له. ومما يقوي أن السؤال إنما أريد به ما وصفنا قول أمية:
واسأل ولا بأس إن كنت امرأ عمها... إنّ السؤال شفا من كان حيرانا
فيشبه أن يكون أراد باسأل: اسأل حتى تتبيّن بسؤالك، ألا ترى أنه قال:
إن السؤال شفا من كان حيرانا والسؤال إذا خلا من العلم لم يكن شفاء لمن كان حيران، إنما يكون شفاء إذا اقترن به العلم والتبيّن، فكذلك المراد في قوله: فسئل به خبيراً [الفرقان/ 59]: اسأل سؤالًا تبحث به لتتبين.
[الحجة للقراء السبعة: 2/215]
فالحجة لمن قرأ: ولا تسئل بالرفع أن الرفع يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون حالًا فيكون مثل ما عطف عليه من قوله: بشيراً ونذيراً [البقرة/ 119] وغير مسئول. ويكون ذكر تسئل- وهو فعل بعد المفرد الذي هو قوله: بشيراً- كذكر الفعل في قوله: ويكلّم النّاس في المهد [آل عمران/ 46] بعد ما تقدم من المفرد. وكذلك قوله: ومن المقرّبين [آل عمران/ 45] وهو قد يجري مجرى الجمل.
والآخر: أن يكون منقطعاً من الأول مستأنفاً به، ويقوي هذا الوجه ما روي من أن عبد الله أو أبيّا قرأ أحدهما: وما تسأل، والآخر: ولن تسأل، فكل واحدة من هاتين القراءتين يؤكد حمله على الاستئناف. ويؤكّد وجهي الرفع قوله: ليس عليك هداهم ولكنّ اللّه يهدي من يشاء [البقرة/ 171] وقوله: ما على الرّسول إلّا البلاغ [المائدة/ 99].
ومما يجعل للفظ الخبر مزية على النهي أن الكلام الذي قبله وبعده خبر فإذا كان أشكل بما قبله وما بعده كان أولى.
ووجه قراءة نافع بالجزم للنهي: ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
[الحجة للقراء السبعة: 2/216]
سأل: أيّ أبويه كان أحدث موتاً، وأراد أن يستغفر له، فأنزل الله: ولا تسئل عن أصحاب الجحيم [البقرة/ 119] وهذا إذا ثبت معنى صحيح. ويذكر أن في إسناد
الحديث شيئاً.
فأما قوله من قال: إنه لو كان نهياً لكانت الفاء في قوله:
فلا تسأل أسهل من الواو. فالقول فيه: إن هذا النحو إنما يكون بالفاء، إذا كانت الرسالة بالبشارة والنّذارة علّة لأن لا يسأل عن أصحاب الجحيم، كما يقول الرجل: قد حملتك على فرس فلا تسألني غيره. فيكون حمله على الفرس علة لأن لا يسأل غيره. وليس البشارة والنذارة علة لأن لا يسأل.
وقد جوز أبو الحسن في قراءة من جزم أن يكون على تعظيم الأمر كما تقول: لا تسلني عن كذا، إذا أردت تعظيم الأمر فيه. فالمعنى أنهم في أمر عظيم، وإن كان اللفظ لفظ الأمر). [الحجة للقراء السبعة: 2/217]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}
قرأ نافع {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} بفتح التّاء والجزم على النّهي وحجته ما روي في التّفسير أن النّبي صلى الله عليه قال ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} فنهاه الله عن المسألة قيل إنّه ما ذكرهما حتّى توفاه الله
وقرأ الباقون {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} برفع التّاء
[حجة القراءات: 111]
واللّام وحجتهم أن في قراءة ابن مسعود (ولن تسأل) ورفعه من وجهين أحدهما أن يكون {ولا تسأل} استئنافا كأنّه قيل ولست تسأل عن أصحاب الجحيم كما قال {فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب} والوجه الثّاني على الحال فيكون المعنى وأرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم). [حجة القراءات: 112]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (67- قوله: {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم} قرأه نافع بفتح التاء والجزم، على النهي من السؤال عن ذلك، وفي النهي معنى التعظيم لما هم فيه من العذاب، أي: لا تسأل يا محمد عنهم، فقد بلغوا غاية العذاب التي ليس بعدها مستزاد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: أي أبويه أحدث موتًا ليستغفر له، فنزلت الآية على النهي، عن السؤال، عن أصحاب الجحيم، وروي أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزل النهي عن السؤال عنهما، فدل النهي على الصحة الجزم، وبذلك قرأ ابن عباس، وقرأه الباقون بضم التاء، والرفع على النفي والعطف على {بشيرًا ونذيرًا} فهو في موضع الحال تقديره: إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا، وغير سائل عن أصحاب الجحيم، ويجوز أن يرفع على الاستئناف، والرفع هو الاختيار، لأن عليه جماعة القراء، ولأن ابن مسعود قرأه: «وما تسأل» فهذا يُبين معنى الرفع ويقويه، وأيضًا فإن في قراءة أبي: {وإن تسأل}، فهذا أيضًا يبين معنى الرفع والاستئناف، ويقوي الرفع أن قبله خبرًا، وبعده خبر، فيجب أن يكون هذا خبرًا ليطابق ما قبله وما بعده ويدل على قوة الرفع قوله: {ليس عليك هداهم} «البقرة 272» وقوله: {ما على الرسول إلا البلاغ} «المائدة 99» ويقوي الرفع أيضًا أنه لو كان نهيًا لكان بالفاء، كما تقول: أعطيتك مالا فلا تسألني غيره، وبالرفع قرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وابن أبي إسحاق والجحدري وعيسى بن عمر وغيرهم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/262]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (43- {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [آية/ 119]:-
مفتوحة التاء، مجزومة اللام، قرأها نافع ويعقوب.
ووجه ذلك أنه وإن خرج مخرج النهي، فإنه إخبار عن تعظيم العقوبة لأهل النار، كما تقول: لا تسل عن فلانٍ، إذا أردت تعظيم ما هو فيه، وقيل:
[الموضح: 297]
إنه صلى الله عليه وسلم سأل أي أبويه كان أحدث موتًا، وأراد الاستغفار لهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى عن المسألة عنهما.
وقرأ الباقون {وَلا تُسْأَلُ} مضمومة التاء واللام.
والرفع فيه إما أن يكون لكونه في موضع حالٍ، عطفًا على ما قبله، كأنه قال: إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا وغير مسؤولٍ.
وإما أن يكون منقطعًا عن الأول على سبيل الاستئناف، والمعنى في هذه القراءة: انك لا تسأل عن ذنوبهم، وإنما هم يسألون عنها). [الموضح: 298]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:20 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (120) إلى الآية (123) ]


{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}


قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}

قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (نعمتي الّتي (122).
اتفق القراء على تريك الياء من قوله (نعمتي الّتي)، إلا ما روى المفضل عن عاصم). [معاني القراءات وعللها: 1/176]

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:21 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (124) إلى الآية (126) ]
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}

قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله - عزّ وجلّ -: (إبراهيم... (124)
[معاني القراءات وعللها: 1/174]
قرأ ابن عامر وحده: (إبراهام) بالألف في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران بالياء، وفي سورة النساء بألف إلا قوله: (فقد آتينا آل إبراهيم)، وفي الأنعام بالياء، إلا قوله: (ملّة إبراهام) وفي سورة التوبة بالألف إلا موضعا واحدا قوله: (وقوم إبراهيم)، وفي سورة هود بالياء، وفي سورة يوسف بالياء، وفي سورة إبراهيم بالياء إلا موضعا: (إذ قال إبراهام)، وليس في كلام العرب (إفعالال).
وقرأ الباقون بالياء في جميع القرآن.
[معاني القراءات وعللها: 1/175]
قال أبو منصور: القراءة بالياء لتتابع القراءة عليه، ومن قرأ: (إبراهام) فهي لغة عبرانية تركت على حالها ولم تعرب). [معاني القراءات وعللها: 1/176]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لا ينال عهدي الظّالمون (124).
قرأ حمزة وحفص عن عاصم: (عهدي الظّالمين) بإرسال الياء). [معاني القراءات وعللها: 1/176]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله عز وجل: إبراهيم [124] في الألف والياء.
فقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة بغير ياء وطلب الألف إبراهام.
وقراءة القرّاء في كل مصر غير ابن عامر إبراهيم بالياء.
وقراءة ابن عامر: إبراهام بألف بعد الهاء وقال الأخفش الدمشقي عن ابن ذكوان عن ابن عامر: إبراهام بألف بعد الهاء.
قال أبو عليّ: مما يثبت قراءة ابن عامر قول أمية:
مع إبراهم التّقيّ وموسى... وابن يعقوب عصمة في الهزال
[الحجة للقراء السبعة: 2/226]
فهذا كأنه إبراهام، إلّا أنه حذف الألف، كما يقصر الممدود في الشعر. وأنشدوا:
عذت بما عاذ به إبراهم وقيل: إنهم كتبوا ما في البقرة بغير ياء، فهذا يدل على أنه إبراهام، وحذفت الألف من الخطّ، كما حذفت من دراهم، ونحو ذلك، فيشبه أنّه قرأ إبراهام وما ثبت فيه مما يدلك على ذلك. وقد روي أنّه سمع ابن الزبير يقرأ: صحف إبراهام [الأعلى/ 19] بألف). [الحجة للقراء السبعة: 2/227]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال لا ينال عهدي الظّالمين}
قرأ حمزة وحفص {لا ينال عهدي الظّالمين} بإرسال الياء وقرأ الباقون بفتح الياء وحجتهم في ذلك أن لو لم تتحرك الياء ذهبت في الوصل فلم يكن لها أثر على اللّسان فحركوهها ليعلم أن في الحرف ياء فإذا ظهر على اللّسان أرسلوها فقالوا {وطهر بيتي للطائفين} ). [حجة القراءات: 112]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (45- {إبْراهام} بالألف {آية/ 124]:-
قرأها ابن عامر في جميع سورة البقرة، وكذلك في سورة النساء إلا قوله
[الموضح: 299]
{فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ}، وفي الأنعام {مِلّة إبراهام} والباقي بالياء، وفي التوبة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} بالياء، والباقي بالألف، وفي إبراهيم واحد بالألف، وفي النحل ما فيها جميعًا بالألف، وفي مريم كله بالألف، وفي العنكبوت واحد بالألف {ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إبراهام} والباقي بالياء، وفي عسق واحد بالألف، وفي المفصل كله إبراهام بالألف إلا حرفين فإنهما بالياء، أحدهما في الممتحنة {إلا قَوْل إبراهيم} والآخر في الأعلى {صُحُفِ إبراهيم}، وباقي القرآن {إبراهيم} بالياء.
والوجه أن إبراهيم اسم عجمي فيه لغات للعرب؛ لأن العرب إذا تكلمت
[الموضح: 300]
بالأعجمية تلاعبت بها، فيجوز فيه إبراهام وإبراهيم وإبراهم وإبرهم، ولا يمتنع أن يجوز فيه أكثر من ذلك لما ذكرنا من اضطراب العرب في التكلم بالأعجمي والتفنن فيه.
وقيل إن معنى إبراهيم بالسريانية: أب رحيم). [الموضح: 301]

قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى... (125).
قرأ نافع وابن عامر: (واتّخذوا) على الخبر، بفتح الخاء.
وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر.
وكل ذلك جائز.
وروي عن عمر أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم – وقد وقفا على مقام إبراهيم: أليس هذا مقام خليل الله؟ أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله: (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى) فكان الأمر على هذا الخبر أبين وأحسن.
وليس يمتنع قراءة من قرأ: (واتّخذوا)؛ لأن الناس اتخذوه، وقال الله جل وعزّ: (وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس) ثم قال: (واتّخذوا) فعطف بجملة على جملة). [معاني القراءات وعللها: 1/174]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله - عزّ وجلّ -: (بيتي للطّائفين... (125).
[معاني القراءات وعللها: 1/176]
حرك الياء من (بيتي) نافع وحفص، وأسكنها الباقون.
وقال الزجاج: أجود اللغتين في قوله: (نعمتي التي) فتح الياء؛ لأن الذي بعدها ساكن وهو لام المعرفة، واستعمالها كثير في الكلام، فاختير فتح الياء معهما لالتقاء الساكنين ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كان فتحها أصوب في اللغة.
قال: ويجوز أن تحذف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين فيقرأ: (نعمت الّتي) بغير إثبات الياء.
قال: والاختيار إثبات: الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية، وأجزل في اللفظ، وأتم للثواب). [معاني القراءات وعللها: 1/177]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح الخاء وكسرها من قوله عز وجل: واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى [البقرة/ 125].
فقرأ نافع وابن عامر: واتّخذوا مفتوحة الخاء على الخبر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
واتّخذوا مكسورة الخاء.
قال أبو علي: وجه قراءة من قرأ: واتّخذوا أنه معطوف على ما أضيف إليه، إذ كأنه: «وإذ اتّخذوا»، ومما يؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل [البقرة/ 125].
ومن قرأ: واتّخذوا بالكسر، فلأنهم ذهبوا إلى أثر جاء فيه،
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ بيد عمر، [رحمه الله]، فلما أتى على المقام قال عمر: أهذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم.
قال عمر: أفلا نتّخذه مصلّى؟ فأنزل الله عز وجل: واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى.
فهذا تقديره: افعلوا. والأمر- إذا ثبت هذا الخبر- آكد، لأنه يتحقق به اللزوم، وإذا أخبر ولم يقع الأمر به فقد يجوز أن لا يلزم المخاطبين بذلك الفرض، لأنه
[الحجة للقراء السبعة: 2/220]
قد يجوز أن يكون ناس اتخذوه فلا يلزم غيرهم). [الحجة للقراء السبعة: 2/221]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى}
[حجة القراءات: 112]
قرأ ابن عامر ونافع {واتّخذوا من مقام إبراهيم} بفتح الخاء وحجتهما أن هذا إخبار عن ولد إبراهيم صلى الله عليهم أنهم أتخذوا مقام إبراهيم مصلى وهو مردود إلى قوله {وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى}
وقرأ الباقون {واتّخذوا} بكسر الخاء وحجتهم في ذلك ما روي في التّفسير أن النّبي صلى الله عليه أخذ بيد عمر فلمّا أتى على المقام قال له عمر هذا مقام أبينا إبراهيم صلى الله عليه قال
نعم قال أفلا نتخذه مصلى فأنزل الله جلّ وعز {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى} يقول وافعلوا
قرأ ابن عامر (إبراهام) بألف كل ما في سورة البقرة وفي النّساء بعد المئة وفي الأنعام حرفا واحدًا (ملّة إبراهام) وفي التّوبة بعد المئة (إبراهام) وفي سورة إبراهيم (إبراهام) وفي النّحل ومريم كلها (إبراهام) وفي العنكبوت الثّاني (إبراهام) وعسق (إبراهام) وفي سور المفصل كلها (إبراهام) إلّا في سورة المودّة {إلّا قول إبراهيم} بالياء وفي سبح {صحف إبراهيم}
[حجة القراءات: 113]
وما بقي في جميع القرآن بالياء وحجته في ذلك أن كل ما وجده بألف قرأ بألف وما وجده بالياء قرأ بالياء اتّباع المصاحف
واعلم أن إبراهيم اسم أعجمي دخل في كلام العرب والعرب إذا أعربت اسما أعجميا تكلّمت فيه بلغات فمنهم من يقول إبراهام ومنهم من يقول أبرهم قال الشّاعر
نحن آل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم). [حجة القراءات: 114]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (68- قوله: {إبراهيم} قرأه هشام بألف في موضع الياء في ثلاثة وثلاثين موضعًا في البقرة خمسة عشر موضعًا، وقد ذكرنا مواضع الباقي منها في الكتاب الأول، وروي عن ابن ذكوان أنه قرأ في البقرة خاصة بألف، وبالوجهين قرأت، وقرأ باقي القراء، في ذلك كله، بالياء، وهو الاختيار، اتباعًا للمصحف، ولأن عليه لغة العامة، وعليه الجماعة، والألف لغة شامية قليلة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/263]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (69- {واتخذوا من} قرأه نافع وابن عامر بفتح الخاء، على الخبر، عمن كان قبلنا من المؤمنين، أنهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهو مردود على ما قبله من الخبر وما بعده، والتقدير: واذكر يا محمد إذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، واذكر إذ اتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى، واذكر إذ عهدنا إلى إبراهيم فكله خبر، فيه معنى التنبيه والتذكير لما كان، فحمل على ما قبله وما بعده، ليتفق الكلام ويتطابق، فـ «إذ» محذوفة مع كل خبر؛ لدلالة «إذ» الأولى الظاهرة على ذلك، وقرأ باقي القراء بكسر الخاء على الأمر، بأن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، وبذلك أتت الروايات على النبي عليه السلام وروي أن النبي عليه السلام أخذ بيد عمر رضي الله عنه فلما أتيا المقام قال عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ فقال النبي: نعم. فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله جل ذكره: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} على الأمر بذلك، أي افعلوه وروي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/263]
مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي عليه السلام أتى مقام إبراهيم، فسبقه إليه عمر، فقال عمر: يا رسول الله، هذا مقام أبيك إبراهيم الذي قال الله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}؟ قال النبي: نعم هذا مقام أبينا إبراهيم الذي قال الله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، فسُئل مالك أهكذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: واتخذوا، قال: نعم، يعني بكسر الخاء، على الأمر، وروى أبو عبيد عن جابر بن عبد الله أن النبي عليه السلام استلم الحجر، ورمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقال أبو عبيد: فلا أعلمه قرأها في حديثه، إلا بكسر الخاء، وكسر الخاء على الأمر هو الاختيار، لما ذكرنا عن النبي عليه السلام في ذلك، ولأن عليه جماعة القراء، وهو اختيار أبي عبيد وابي حاتم وغيرهما، وهي قراءة العامة في أكثر الأمصار، وأسند القراءة بها أبو حاتم إلى النبي عليه السلام وإلى عمر، وبذلك قرأ أبو جعفر يزيد وعطاء وابن محيصن وشبل والأعرج وطلحة والأعمش والجحدري وابن وثاب وأصحاب ابن مسعود). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/264]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (44- {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [آية/ 125]:-
بفتح الخاء، قرأها نافع وابن عامر.
ووجه ذلك أنه معطوف على قوله تعالى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}، وهو خبر، ويقويه أن ما بعده أيضًا خبر، وهو قوله تعالى
[الموضح: 298]
{وَعَهِدْنا}، فلما وقع بين خبرين كان الأحسن عندهما فيه أن يكون خبرًا.
وقرأ الباقون {وَاتّخِذُوا} بكسر الخاء على الأمر؛ لما جاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر، فلما أتيا على المقام، قال عمر: أهذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، قال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}). [الموضح: 299]

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأمتّعه قليلًا... (126).
قرأ ابن عامر وحده: (فأمتعه) بالتخفيف، من (أمتعت).
وقرأ الباقون: (فأمتّعه) مشددًا، من (متّعت).
وهما لغتان جيدتان: أمتعت، ومتّعت بمعنى واحدٍ. ومعنى: فأمتعه
[معاني القراءات وعللها: 1/177]
قليلًا: أملي به المدة إملاءً قليلا.
وعلة الرفع في قوله (فأمتعة) أن الفاء جواب للمجازاة في قوله: (ومن كفر)، وإذا كانت الفاء هي الجواب رفع ما بعدها). [معاني القراءات وعللها: 1/178]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تسكين الميم وكسر التاء وتحريك الميم وتشديد التاء في قوله تعالى: فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126].
فقرأ ابن عامر وحده: فأمتّعه قليلًا خفيفة من أمتعت.
وقرأ الباقون فأمتّعه مشددة التاء من متّعت.
قال أبو علي: التشديد أولى لأن التنزيل عليه، قال تعالى: فقال تمتّعوا في داركم [هود/ 65] فتمتّع مطاوع متّع، وعامّة ما في التنزيل على التثقيل.
قال جلّ اسمه: يمتّعكم متاعاً حسناً [هود/ 3].
كمن متّعناه متاع الحياة الدّنيا [القصص/ 61]. ومتّعناهم إلى حينٍ [يونس/ 98].
فكما أن هذه الألفاظ على متّع دون أمتع، فكذلك الأولى بالمختلف فيه أن يكون على متّع دون أمتع.
ووجه قراءة ابن عامر: أنّ أمتع لغة، وأن فعّل قد يجري في هذا النحو مجرى أفعل، نحو: فرّحته وأفرحته، ونزّلته وأنزلته. وزعموا أنّ في حرف عبد الله: ونزّل الملائكة تنزيلًا [الفرقان/ 25] وأنشدوا للراعي:
خليلين من شعبين شتّى تجاورا... قديماً وكانا بالتفرّق أمتعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/221]
قال الأصمعي: ليس من أحد يفارق صاحبه إلا أمتعه بشيء يذكره به. قال: فكان ما أمتع كل واحد من هذين صاحبه أن فارقه.
وقال أبو زيد: أمتعا أراد تمتّعاً. ويقال: متع النهار إذا ارتفع.
فأمّا قليلًا من قوله سبحانه: فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126] فيحتمل ضربين: يجوز أن يكون قليلًا صفة للمصدر، ويجوز أن يكون صفة للزمان.
فالدّلالة على جواز كونه صفة للمصدر قوله تعالى: يمتّعكم متاعاً حسناً [هود/ 3] فوصف المصدر به. قال سيبويه: ترى الرجل يعالج شيئاً فتقول: رويداً، أي: علاجاً رويداً. فإن قلت: فكيف يحسن أن يكون صفة للمصدر، وفعّل يدل على التكثير، فكيف يستقيم وصف الكثير بالقليل في قوله: فأمتّعه قليلًا، وهلّا كان قول ابن عامر أرجح، لأن هذا السؤال لا يعترض عليه فيه. فالقول: إن ما ذكرت لا يدل على ترجيح قراءته، وإنما وصفه الله تعالى بالقليل من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناه، ألا ترى قوله جل وعز: قل متاع الدّنيا قليلٌ [النساء/ 76] فعلى هذا النحو وصف المتاع في قوله: فأمتّعه قليلًا.
[الحجة للقراء السبعة: 2/222]
وأمّا جواز كون قليل صفة للزمان فيدل عليه قوله تعالى: قال عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين [المؤمنون/ 40]؛ فتقدير هذا: ليصبحنّ نادمين بعد زمان قليل، كما قال: عرق عن الحمّى، وأطعمه عن الجوع، أي: بعد جوع، وبعد الحمّى). [الحجة للقراء السبعة: 2/223]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن عباس فيما رواه سليمان بن أرقم عن أبي يزيد المدني عن ابن عباس: [فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ]، على الدعاء من إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الفتح: أما على قراءة الجماعة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} فإن الفاعل في "قال" هو اسم الله تعالى؛ أي: لما قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} .
وأما على قراءة ابن عباس: [فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ] فيحتمل أمرين:
[المحتسب: 1/104]
أحدهما: وهو الظاهر، أن يكون الفاعل في "قال" ضمير إبراهيم عليه السلام؛ أي: قال إبراهيم أيضًا: ومن كفر فأَمْتِعه يارب ثم اضطرَّه يا رب.
وحَسُنَ على هذا إعادة "قال" لأمرين:
أحدهما: طول الكلام، فلما تباعد آخره من أوله أُعيدت "قال" لبُعْدِها، كما قد يجوز مع طول الكلام ما لا يحوز مع قصره.
والآخر: أنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين، فكأن ذلك أَخْذٌ في كلام آخر، فاستؤنف معه لفظ القول، فجرى ذلك مجرى استئناف التصريع في القصيدة إذا خرج من معنى إلى معنى؛ ولهذا ما يقول الشاعر في نحو ذلك:
فدع ذا ولكن هل ترى ضوء بارق
ويقول:
دع ذا وبهج حَسَبا مُبهَّجا
فإذا جاز أن يصُرِّع وهو في أثناء المعنى الواحد نحو قوله:
ألا نادِ في آثارهن الغوانيا ... سُقين سِمَامًا ما لهن وما ليا
كان التصريع مع الانتقال من حال إلى حال أحرى بالجواز، فهذا أحد الوجهين.
وأما الآخر: فهو أن يكون الفاعل في "قال" ضمير اسم الله تعالى؛ أي: فأَمْتِعه يا خالق، أو فأمتعه يا قادر أو يا مالك أويا إله، يخاطب بذلك نفسه -عز وجل- فجرى هذا على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه؛ كقراءة من قرأ: [قَالَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] أي: اعلم يا إنسان، وكقول الأعشى:
وهل تُطيق وداعًا أيها الرجل
[المحتسب: 1/105]
وهذا يتصل بباب من العربية غريب لطيف وهو باب التجريد؛ كأنه يجرد نفسه منه ثم يخاطبها، وقد ذكرنا هذا الباب في كتابنا الخصائص.
وهذا وإن كان مما لا ينبغي أن يُجرى في الحقيقة مثله على الله -سبحانه- لأنه لا تجزؤ هناك؛ فإنه يُجرى على عادة القوم ومذهب خطابهم، وقد نطقوا بهذا نفسه معه -تقدست أسماؤه- أنشدنا أبو علي:
أفاءت بنو مروان ظلمًا دماءنا ... وفي الله إن لم يَعدلوا حَكَمٌ عدل
فجرى اللفظ على أنه جُرد منه شيء يسمى حكَمًا عدلًا، وهو مع التحصيل على حذف المضاف؛ أي: وفي عدل الله حَكَمٌ عدل. فتفهَّم هذه المواضع، فإن قدر الإعراب يضيع إلى معناها، وإن كان هو أول الطريق ونهجه إليها.
ويجوز في العربية: [ثم اضطَرِّهِي] بكسر الراء لالتقاء الساكنين، ثم تُبَيَّن الهاء بياء بعدها.
ويجوز أيضًا: [ثم اضطَرِّهِ] تكسر الهاء ولا تتم الياء.
ويجوز: [اضطَرِّهْ] بكسر الراء وفتحها والهاء الساكنة.
ويجوز: [ثم اضطَرُّهُو] بضم الراء كما روينا عن قطرب أن بعضهم يقول: شَمُّ يا رجل.
ويجوز الضم بلا واو.
ويجوز مع ضم الراء وفتحها تسكين الهاء. وقد ذكرت ذلك كله في أماكنه). [المحتسب: 1/106]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن محصين: ثم [أَطَّرُّه] يدغم الضاد في الطاء.
قال أبو الفتح: هذه لغة مرذولة؛ أعني: إدغام الضاد في الطاء؛ وذلك لما فيها من الامتداد والفشو؛ فإنها من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها.
وهي: الشين والضاد والراء والفاء والميم، ويجمعها في اللفظ قولهم: ضُمَّ شَفْر، وقد أخرج بعضهم الضاد من ذلك وجمعها في قولهم: مِشفر.
قال: لأنه قد حُكي إدغام الضاد في الطاء في قولهم في "اضطجع": اطَّجع.
[المحتسب: 1/106]
وأنشدوا قوله:
يا رُبَّ أبَّاز من العُفْر صدع ... تقبَّض الظلُّ إليه واجتمع
لما رأى أن لا دعه ولا شِبع ... مال إلى أرطاة حِقْف فاطجع
ويُروى: "فاضطجع" وهو الأكثر والأقيس.
ويُروى أيضًا: "فالْطَجع" يبدل أيضًا اللام من الضاد.
فإن قيل: فقد أحطنا علمًا بأن أصل هذا الحرف اضتجع افتعل من الضجعة، فلما جاءت الضاء قبل تاء افتعل أُبدلت لها التاء طاء، فهلا لما زالت الضاد فصارت بإبدالها إلى اللام رُدت التاء فقيل: التجع، كما تقول: التجم والتجأ؟
قيل: هذا إبدال عَرَضَ للضاد في بعض اللغات، فلما كان أمرًا عارضًا، وظِلًّا في أكثر اللغات خالصًا؛ أقروا الطاء بحالها إيذانًا بقلة الحفل بما عرَض من البدل، ودلالة على الأصل المنحو المتعمد، وله غير نظير.
ألا ترى إلى قوله:
وكَحَل العينين بالعَوَاوِر
وكيف صحح الواو الثانية وإن كان قبلها الواو الأولى بينهما ألف وقد جاوزت الثانية
[المحتسب: 1/107]
الطرف، ولم يقلبها كما قلبها في أوائل، وأصلها أواول لما ذكرنا؛ إذ كان الأصل هاهنا العواوير، وإنما حذفت الياء تخفيفًا وهي مرادة، فجعل تصحيح الواو في العواور دليلًا على إرادة الياء في عواوير، وكما جعل حذف النون من قوله:
إرهن بنيك عنهم أراهن بني
أراد: بني، فحذف الياء الثانية لتخفيف القافية، وترك أن يرد النون من "بنين"؛ لأنه لم يَبْنِ الأمر على حذف الياء الثانية ألبتة؛ وإنما حذفها للوقف على الحرف المشدد في الروي المقيد، وكما أنشدنا أبو علي للفرزدق من قوله:
تنظرت نصرًا والسِّماكين أيهما ... علَيَّ من الغيث استهَلَّت مواطرُهُ
أراد: أيهما، فاضطر إلى تخفيف الحروف فحذف الياء الثانية، وكانت ينبغي أن يرد الياء الأولى إلى الواو؛ لأن أصلها الواو، وأن يكون قياسًا واشتقاقًا جميعًا أولى، ولم يقل: أوهما، فيرد الواو الأصلية؛ لأنه لم يَبْنِ الكلمة على حذف الياء ألبتة، فيرد الواو، فيقول: أوهما؛ لأنه إنما اضطر إلى التخفيف هناك وهو ينوي الحرف المحذوف كما ينوي الملفوظ به، ويأتي نظيره في سورة القصص، وقد ذكرنا أخوات لهذا أكثر من عشر في كتاب الخصائص؛ فلذلك قال: فالطجع، فترك الطاء بحالها كما قدمنا ذكره). [المحتسب: 1/108]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال ومن كفر فأمتعه قليلا}
قرأ ابن عامر {فأمتعه قليلا} بالتّخفيف وقرأ الباقون بالتّشديد وهما لغتان يقال متع الله به وأمتع به والتّشديد هو الاختيار لأن القرآن يشهد بذلك في قوله {ومتعناهم إلى حين} ولم يقل أمتعناهم). [حجة القراءات: 114]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (70- قوله: «فأمتعه» قرأه ابن عامر مخففا، وشدده الباقون.
71- ووجه التخفيف أنه جعله من «أمتع»، و«أمتع» لغة في «متع» وكلاهما بمعنى، غير أن التشديد فيه معنى تكرير الفعل، وبالتخفيف قرأ ابن عباس وابن محيصن وشبل.
72- فأما من شدده فإنه حمله على إجماعهم على التشديد في قوله: {تمتعوا في داركم} «هود 56» و{تمتع بكفرك} «الزمر 8» و{يمتعكم متاعًا} «هود 3» وهو كثير في القرآن من «متع» فحمل هذا عليه، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التكرير، ولإجماع القراء عليه، وليُلحق بنظائره، مما لم يختلف في تشديده مما ذكرنا، وبالتشديد قرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة، وبه قرأ أبي والحسن ومجاهد وأبو رجاء والجحدري وعيسى بن عمر والأعمش والأعرج، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وعليه قراءة العامة في الأمصار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/265]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (46- {فَأُمْتِعُهُ} [آية/ 126]:-
بسكون الميم وتخفيف التاء، قرأها ابن عامر وحده، لأنه جعله من أمتع، فإن أمتعه ومتعه واحد، كأفرحه وفرحه، والإمتاع كثير في كلام العرب. وقرأ الباقون {فَأُمَتِّعُهُ} بفتح الميم وتشديد التاء، على أنه من متع دون أمتع؛ لأن كل ما في القرآن من هذا النظم فهو على لفظ التمتيع دون الإمتاع نحو: {يُمَتِّعْكُمْ} و{مَتَّعْنَاهُ} و{مَتّعْنَاهُمْ}، فهذه القراءة أولى؛ لأن عامة ما في القرآن عليها). [الموضح: 301]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:23 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (127) إلى الآية (129) ]

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}

قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن ابن عباس في مصحف ابن مسعود: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا]، وفيه: [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ]، وفيه: [وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ يَقُولُونَ أَخْرِجُوا].
قال أبو الفتح: في هذا دليل على صحة ما يذهب إليه أصحابنا من أن القول مراد مقدَّر
[المحتسب: 1/108]
في نحول هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه، دون أن يكون القول مقدرًا معه؛ وذلك كقول الشاعر:
رَجْلانِ من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلا عريانا
فهو عندنا نحن على: قالا: إنا رأينا، وعلى قولهم لا إضمار قول هناك؛ لكنه لما كان أخبرانا في معنى قالا لنا؛ صار كأنه: قالا لنا، فأما على إضمار قالا في الحقيقة فلا.
وقد رأيت إلى قراءة ابن مسعود كيف ظهر فيها ما نقدره من القول؛ فصار قاطعًا على أنه مراد فيما يجري مجراه.
وكذلك قوله:
يدعون عنترُ والرماح كأنها
فيمن ضم الراء من عنتر؛ أي: يقولون: يا عنتر، وكذلك من فتح الراء، وهو يريد: يا عنترة.
وكذلك {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: يقولون، وقد كثر حذف القول من الكلام جدًّا). [المحتسب: 1/109]

قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأرنا مناسكنا... (128).
قرأ ابن كثير ويعقوب: (وأرنا) و(ربّ أرني) و(أرنا اللّذين أضلّانا)، ونحو ذلك، بتسكين الراء.
وروى شبل عن ابن كثير: (وأرنا) بين الإسكان والكسر.
وقرأ أبو عمرو في رواية اليزيدي، وعبد الوارث، وهارون، وعبيد، وعلي بن نصر: (وأرنا) و(أرني) بين الإسكان والكسر، وهو مذهب أبي عمرو في هذا الباب، لا يجزم ولا يثقل.
[معاني القراءات وعللها: 1/178]
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم مثل قراءة ابن كثير ويعقوب في (حم السجدة) فقط.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتثقيل في جميع القرآن.
قال أبو منصور: القراءة (أرنا) بالكسرة لأن الأصل فيه (أرئنا)، فالكسرة إنما هي كسرة الهمزة التي ألقيت وطرحت حركتها على الراء، وإذا كانت الكسرة دليل الهمزة قبح حذفها. وقراءة أبي عمرو بالكسرة المختلسة جيدة، مأخوذة عن العرب الذين يكرهون التثقيل). [معاني القراءات وعللها: 1/179]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر الراء وإسكانها واشمامها الكسر في قوله تعالى: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128].
فقرأ ابن كثير: وأرنا مناسكنا، وربّ أرني [الأعراف/ 142]، وأرنا الّذين [حم السجدة/ 29] ساكنة الراء.
وقال خلف عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: وأرنا بين الكسر والإسكان.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: أرنا بكسر الراء في كل ذلك.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر بكسر الراء:
أرنا مناسكنا، وربّ أرني، وأرنا اللّه جهرةً [النساء/ 152] [بكسر الراء]، وأسكنا الراء في قوله:
أرنا اللذين في هذه وحدها. وروى حفص عنه: أرنا مكسورة الراء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/223]
واختلف عن أبي عمرو في ذلك، فقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو، فقرأ [وأرنا] مدغمة، كذا قال.
وسألته عن: وأرنا مثقّلة، فقال: لا. فقلت أرني فقال: لا.
كل شيء في القرآن بينهما ليست أرنا ولا أرنا.
وقال عبد الوارث اليزيديّ وهارون الأعور، وعبيد بن عقيل وعلي بن نصر: أرني وأرنا بين الكسر والإسكان.
وقال أبو زيد والخفّاف عن أبي عمرو وأرنا بإسكان الراء.
قال أبو علي: قوله عز وجل: أرنا مناسكنا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون منقولًا من رأيت الذي يراد به إدراك البصر، نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير حذف المضاف، كأنه: أرنا مواضع مناسكنا.
والمناسك: جمع منسك، وهو مصدر جمع لاختلاف ضروبه، والمعنى: عرّفنا هذه المواضع التي يتعلق النسك بها لنفعله، ونقضي نسكنا فيها على حدّ ما يقتضيه توقيفنا عليها، وذلك نحو: المواقيت التي يحرم منها، ونحو الموضع الذي يوقف به من عرفات، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار، فهذا من: رأيت الموضع، وأريته زيداً.
والآخر: أن يكون أرنا منقولًا من رأيت التي لا يراد بها رؤية العين، ولكن التوقيف على الأمر، وضرب من العلم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/224]
وأنت تقول فلان يرى رأي الخوارج، فتقصر على مفعول واحد، وليس هناك شيء يبصر. وإلى هذا ذهب أبو عبيدة في تأويل الآية فقال: وأرنا مناسكنا أي: علّمنا. وأنشد لحطائط بن يعفر:
أريني جواداً مات هزلا لأنني * أرى ما ترين أو بخيلًا مخلّداً قال: أراد: دلّيني، ولم يرد رؤية العين. وأما قوله تعالى: ربّ أرني أنظر إليك [الأعراف/ 142] فهو من رأيت الذي يتعدى إلى مفعول واحد، يراد به إدراك البصر، والمفعول الثاني حذف من اللفظ، لأن ما يتعلق بالفعل الثاني يدل عليه، ومعنى الكلام يقتضيه.
وقوله تعالى: أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس [السجدة/ 29] فهو من رأيت المتعدية إلى مفعول واحد، فلما نقل بالهمزة تعدى إلى اثنين.
وجاء في الحديث: أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس قال: هما ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس.
[الحجة للقراء السبعة: 2/225]
وقد ذكرنا وجه الإسكان فيما تقدم. فأما من اعتلّ بأن الوجه الإشباع أو الإخفاء دون الإسكان لأن الحرف قد حذف منه؛ فليس اعتلاله بذاك، لأن الحذف إذا وجب بقياس، وعلى باب مطّرد، كان هو والإثبات سواء في المساغ. ألا ترى أنهم قالوا:
ر رأيك، وش ثوبك، وف بوعدك. فبقي في ذلك كلّه الكلمة على حرف واحد. فكذلك إذا أوجب ضرب من القياس فيه الإسكان فهو بمنزلة ما يوجب حذف الهمزة من التخفيف، وأوجب حذف اللام للأمر، ويقوي ذلك اتفاقهم، أو اتفاق أكثرهم، في قوله: لكنّا هو اللّه ربّي [الكهف/ 38] فلزم فيه حذف بعد حذف). [الحجة للقراء السبعة: 2/226]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وأرنا مناسكنا وتب علينا}
قرأ أبو عمرو {وأرنا} مختلسا وقرأ ابن كثير {وأرنا} ساكنة في جميع القرآن وحجته أن الرّاء في الأصل ساكنة وأصلها أرئينا على وزن أكرمنا فحذفت الياء للجزم ثمّ تركت الهمزة كما تركت في يرى وترى وبقيت الياء محذوفة كما كانت والأجود أن تقول نقلنا حركة الهمزة إلى الرّاء ثمّ حذفنا لكثرة الحركات
وقرأ الباقون {أرنا} بكسر الرّاء وحجتهم في ذلك أن الكسرة
[حجة القراءات: 114]
إنّما هي كسرة همزة ألغيت وطرحت حركتها على الرّاء فالكسرة دليل الهمزة فحذفها قبيح). [حجة القراءات: 115]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (47- {وَأَرْنا} [آية/ 128]:-
بسكون الراءِ، قرأها ابن كثير ويعقوبُ، وكذلك {أَرْنا} و{أَرْنِي} في كل القرآن، ووافقهما ابن عامر و- ياش- عن عاصم في {أَرْنا} فقط.
[الموضح: 301]
وأبو عمرو يختلس في الجميع.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي و- ص- عن عاصم بكسر الراء في الجميع.
القراءة بالسكون ههنا حسنة، وليست تقبح قبح الإسكان في {يَأْمُرْكُمْ} و{يَنْصُرْكُمْ} و{بَارِئكُم} وأمثالها؛ لأن الحركات في هذه الكلم حركات الإعراب فيقبح الإسكان فيها كراهة زوال علم الإعراب، وليست حركة {أرْنا} و{أَرْنِي} بحركة الإعراب، فالإسكان ههنا حسن، إلا أنه على تشبيه المنفصل بالمتصل، وذلك أن {أَرْنِي} بمنزلة: فخذ، فلهذا جاز الإسكان.
وأما اختلاس أبي عمرو فقد مضى الكلام فيه.
وأما كسر الباقين فعلى الأصل). [الموضح: 302]

قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن مجاهد: قال عباس: سألت أبا عمرو عن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} فقال: أهل الحجاز يقولون: [يعلِّمُهم ويلْعَنُهم] مثقلة، ولغة تميم: [يُعْلِمْهم ويلْعَنْهم].
قال أبو الفتح: أما التثقيل فلا سؤال عنه ولا فيه؛ لأنه استيفاء واجب الإعراب؛ لكن من حذف فعنه السؤال، وعلته توالي الحركات مع الضمات، فيثقل ذلك عليهم فيخففون بإسكان حركة الإعراب، وعليه قراءة أبي عمرو: [فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ] فيمن رواه بسكون الهمزة. وحكى أبو زيد: [بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ] بسكون اللام.
وأنشدنا أبو علي لجرير:
[المحتسب: 1/109]
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفْكم العرب
يريد: تعرفُكم. ومن أبيات الكتاب:
فاليوم أشربْ غير مُستَحقِبٍ ... إثمًا من الله ولا واغِلِ
أي: أشربُ.
وأما اعتراض أبي العباس هنا على الكتاب، فإنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب؛ لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضًا غيره.
وقول أبي العباس: إنما الرواية: "فاليوم فاشرب"، فكأنه قال لسيبويه: كذبتَ على العرب، ولم تَسمع ما حكيته عنهم. وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرَف فقد سقطت كلفة القول معه.
وكذلك إنكاره عليه أيضًا قول الشاعر:
"وقد بدا هَنْكِ من المئزر
[المحتسب: 1/110]
فقال: إنما الرواية:
وقد بدا ذاك من المئزر
وما أطيب العرس لولا النفقة!
وكذلك الاعتراض عليه في إنشاده قوله:
لا بارك الله في الغواني هل ... يُصبحن إلا لهن مُطَّلَبُ
وقول الأصمعي: "في الغواني ما" يريد: في الغواني أَما، ويخفف الهمزة. وقول غيره: "في الغوان أَما"، ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع والتسبب إليه لكان الرجل أقوم من الجماعة به، وأوصل إلى المراد منه، وأنفى لشغب الزيغ والاضطراب عنه.
فأما قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حِمامُها
فحملوه على هذا؛ أي: أو يرتبط بعض النفوس حمامها؛ معناه: إلا أن يرتبط، فأسكن المفتوح لإقامة الوزن واتصال الحركات.
وقد يمكن عندي أن يكون يرتبط عطفًا على أرضها؛ أي: أنا تراك أمكنة إذا لم أرضها ولم يرتبط نفسي حمامها؛ أي: ما دمت حيًّا فأنا متقلقل في الأرض من هذه إلى هذه، ألا ترى إلى قوله:
قَوَّال مُحكَمَة جوَّاب آفاق
وهو كثير في الشعر، فكذلك قول بني تميم: [يُعلِّمْهم ويلْعَنْهم] على ما ذكرنا). [المحتسب: 1/111] (م)

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:24 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (130) إلى الآية (134) ]

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}


قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}

قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ووصّى بها إبراهيم... (132).
قرأ نافع وابن عامرٍ: (وأوصى بها) بالألف.
وقرأ الباقون بغير ألف.
[معاني القراءات وعللها: 1/179]
قال أبو منصور: هما لغتان: أوصي، ووصى، فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/180]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في زيادة الألف ونقصانها من قوله تعالى: ووصّى بها [البقرة/ 132].
فقرأ نافع وابن عامر وأوصى بها على أفعل.
وقرأ الباقون: ووصّى بغير ألف على فعّل.
قال أبو عليّ: حجة من قرأ: وصّى بغير ألف قوله عز وجل: فلا يستطيعون توصيةً [يس/ 50] فتوصية مصدر وصّى، مثل: قطّع تقطعة، ولا يكون فيه تفعيل نحو: التقطيع، لأنك لو جئت به على تفعيل للزم في حيّيت، ونحوه، إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/227]
أتيت به على فعّل، أن يكون المصدر على تفعيل أيضاً، فتجتمع ثلاث ياءات، وإذا كانوا قد رفضوا في نحو: عطاء، التحقير على الإتمام، لأنه كان يجتمع ثلاث ياءات، الوسطى منهنّ متحركة بالكسر، فكذلك رفض هذا في تفعيل، لأنه على تلك العدّة وفيهن الكسرة، وإن كانت الكسرة في تفعيل أوّلا، وفي عطاء إذا حقّرت ثانية.
وحجة من قرأ: وأوصى قوله تعالى: يوصيكم اللّه في أولادكم [النساء/ 11] ومن بعد وصيّةٍ توصون بها [النساء/ 11]. وقد قالوا: وصى النّبت: إذا اتصل بعضه ببعض. فالوصيّة كأنّ الموصي بالوصيّة وصل جلّ أمره إلى الموصى إليه). [الحجة للقراء السبعة: 2/228]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب}
قرأ نافع وابن عامر (وأوصى بها) بالألف وحجتهما أن أوصى يكون للقليل والكثير ووصى لا يكون إلّا للكثير
وقرأ الباقون {ووصى} التّشديد وحجتهم أن وصّى أبلغ من أوصى لأن أوصى جائز أن يكون مرّة ووصى لا يكون إلّا مرّات كثيرة وقال الكسائي هما لغتان معروفتان تقول وصيتك وأوصيتك كما تقول كرمتك وأكرمتك والقرآن ينطق بالوجهين قال الله {ولقد وصينا الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} {ما وصّى به نوحًا} {ذلكم وصّاكم به} وقال {يوصيكم الله} و{من بعد وصيّة توصون} والتّشديد أكثر). [حجة القراءات: 115]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (73- قوله: {ووصى} قرأه نافع وابن عامر بهمزة مخففًا، وشدد الباقون من غير همز، وهما لغتان: وصى وأوصى بمعنى واحد، وقوله: {توصية} «يس 50» يدلى على «وصى» مشددًا، وكذلك قوله: {وصاكم} «الأنعام 144» وقوله: {يوصيكم} «النساء 11» و{يوصي بها} «النساء 11» و{توصون} «النساء 12» يدل على «أوصى» مخففًا، فالقراءتان متوافقتان، غير أن التشديد، فيه معنى تكرير الفعل، فكأنه أبلغ في المعنى، وهو الاختيار، لإجماع أكثر القراء عليه، ولزيادة الفائدة التي فيه، وبالتشديد قرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وشبل، وفي حرف ابن مسعود «فوصى»
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/265]
بالفاء مشددًا، والتشديد اختيار أبي حاتم، والمصاحف تختلف فيه، فمصاحف أهل المدينة والشام فيها ألف بين الواوين، وسائر مصاحف الأمصار لا ألف فيها بين الواوين). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/266]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (48- {وَأَوْصَى} [آية/ 132]:-
بالألف، قرأها نافع وابن عامر.
وذلك لأن أوصى ووصى لغتان، وقال الله تعالى {يُوصِيكُمُ الله} و{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ} و{تُوصُونَ}، فهذا من أوصى.
وقرأ الباقون {وَوَصّى} بالتشديد، فقد جاء في قول الله تعالى أيضًا
[الموضح: 302]
نحو: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}، فهذا من وصى، لأن التفعلة إنما تجيء مصدرًا لفعل بالتشديد، كالتفعيل، إلا أنه يأتي من هذا الضرب أعني معتل اللام التفعلة دون التفعيل، لئلا يجتمع في باب حييت ثلاث ياءات). [الموضح: 303]

قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وأبي رجاء بخلاف: [وإلَه أَبِيكَ] بالتوحيد.
قال أبو الفتح: قول ابن مجاهد بالتوحيد لا وجه له؛ وذلك أن أكثر القراءة: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} جمعًا كما ترى، فإذا كان أبيك واحدًا كان مخالفًا لقراءة الجماعة؛ فتحتاج حينئذ إلى أن يكون أبيك هنا واحدًا في معنى الجماعة، فإذا أمكن أن يكون جمعًا كان كقراءة الجماعة، ولم يحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة، وطريق ذلك أن يكون "أبيك" جمع أب على الصحة، على قولك للجماعة: هولاء أبون أحرار؛ أي: آباء أحرار، وقد اتسع ذلك عنهم. ومن أبيات الكتاب:
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفدَّيْنَنَا بالأبينا
وقال أبو طالب:
ألم ترَ أني بعد همٍّ هممته ... لفرقة حرمن أبين كرام
وقال الآخر:
فهو يُفَدَّى بالأبين والخالْ
[المحتسب: 1/112]
وقد أشبعنا هذا الموضع في شرح ديوان المتنبي.
ويؤكد أن المراد به الجماعة ما جاء بعده من قوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} فأبدل الجماعة من أبيك، فهو جماعة لا محالة؛ لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل؛ فيصير قوله تعالى: [وإله أبيك] كقوله: وإله ذويك، هذا هو الوجه، وعليه فليكن العمل). [المحتسب: 1/113]

قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:26 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (135) إلى الآية (138) ]

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}

قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}

قوله تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}

قوله تعالى: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما حكاه ابن مجاهد عن ابن عباس: أنه قال: لا تقرأ {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}؛ فإن الله ليس له مثل؛ ولكن اقرأ: [بما آمنتم به].
قال: وروى عنه أيضًا أنه كان يقرأ: [بالذي آمنتم به].
قال: وقال عباس في مصحف أنس وأبي صالح وابن مسعود: [فإن آمنوا بما آمنتم به].
قال أبو الفتح: هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن؛ لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة. وصحة ذلك أنه إنما يراد: فإن آمنوا بما آمنتم به، كما أرداه ابن عباس وغيره، غير أن العرب قد تأتي بمثل في نحو هذا توكيدًا وتسديدًا، يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: مثلي لا يفعل هذا؛ أي: أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى؛ أي: أنت كذاك، قال:
مثلي لا يُحسن قولًا فَعْ فَعْ
أي: أنا لا أحسنه. وفي حديث سيف بن ذي يزن: "أيها الملك، مثل من سَرَّ وبَر" أي: أنت كذاك. وهو كثير في الشعر القديم والمولد جميعًا.
[المحتسب: 1/113]
وسبب توكيد هذه المواضع "بمثل" أنه يراد أن يُجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتًا للأمر وتمكينًا له، ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم تَرْسُ فيه قدمه، ولم يؤمن عليه انتقاله إلى ضده.
ومثل ذلك أيضًا قولهم في مدح الإنسان: أنت من القوم الكرام، ومنْزِعُك إلى السادة؛ أي: لك في هذا الفعل سابقة وأول، فأنت مقيم عليه ومحقوق به، ولست دخيلًا فيه عن غير أول ولا أصل، فيخشى عليك نُبوك عنه.
ولما أريد مثل هذا في الثناء على الله -تعالى- ولم يجز أن يكون تابعًا لسلف، ولا موجودًا له فيه نظير؛ عدلوا به إلى وجه ثالث غير الاثنين المذكورين؛ وهو أن جُعل قديمًا فيه، راسخًا عليه، فكان أثبت له من أن يكون -عز وجهه- مبتدئه أو مرتجله، وذلك قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ونحو ذلك من الآى، فاعرف ذلك أولًا ومبتكرًا. فكذلك قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} أي: كانوا ممن يؤمن بالحق هذا الجنس على سَعته وانتشار جهاته فقد اهتدوا.
ورحم الله ابن عباس! فإن هذا القول وإن كان اعتراضًا عليه، فعنه أيضًا أُخذ وإليه رُد، وغير ملوم مَن نصر الجماعة، وبالله الحول والاستطاعة). [المحتسب: 1/114]

قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:21 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة