العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > توجيه القراءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:32 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة

[من الآية (75) إلى الآية (77) ]

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}


قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [يَسْمَعُونَ كَلِمَ اللَّهِ].
الكلام كل ما استقل برأسه؛ أعني: الجمل المركبة، نحو: قام محمد، وأبوك منطلق. وقد فَصَلْنَا في أول باب من الخصائص بين الكلام والقول، وأن كل كلام قول، وليس كل قول كلامًا.
فأما الكلم فلا يكون أقل من ثلاث، وذلك أنه جمع كلمة كثَفِنَة وثَفِن، ونَبِقَة ونَبِق، وسَلِمَة وسَلِم؛ ولذلك ما اختاره صاحب الكتاب على الكلام، فقال: هذا باب علم ما الكلم من العربية، ولم يقلك: ما الكلام؛ وذلك لأن الكلام كما قد يكون فوق الاثنين فكذلك أيضًا قد يكون اثنين، وسيبويه إنما أراد هنا ثلاثة أشياء:
[المحتسب: 1/93]
الاسم والفعل والحرف، فترك اللفظ الذي قد يكون أقل من الجماعة إلى اللفظ الذي لا يكون إلا جماعة). [المحتسب: 1/94]

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}

قوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:34 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (78) إلى الآية (82) ]

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (إلّا أمانيّ)
روى هارون عن أبي عمرو (إلّا أماني) مخففة الياء، وسائر القراء قرأوا بتشديد الياء، لأن الواحدة منها أمنية.
قال أبو منصور: سمعت المنذري عن أبي العباس، أحمد بن يحيى أنه قال: من شدد الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقير، ومن خفف الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقر، غير أن القراءة بالتشديد لاجتماع القراء عليه.
ومعنى الأماني: الأكاذيب، يقال: أنت تمنيت هذا القول، أي: اختلقته.
[معاني القراءات وعللها: 1/158]
وقال غيره: تكون الأماني أيضًا جمع الأمنية، وهي التلاوة، ومنه قول الله جلّ وعزّ (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته) أي: في تلاوته). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف والحكم بن الأعرج: [إِلَّا أَمَانِيْ وَإِنْ هُمْ]، و[لَيْسَ بِأَمَانِيْكُمْ وَلا أَمَانِيْ أَهْلِ الْكِتَابِ] الياء فيه كله خفيفة ساكنة.
قال أبو الفتح: أصل هذا كله التثقيل -أَمَانِيُّ جمع أُمْنِيَّة- والتخفيف في هذا النحو كثير وفاشٍ عندهم.
قال أبو الحسن في قولهم أثاف: لم يسمع من العرب بالتثقيل ألبتة.
وقال الكسائي: قد سمع فيها التثقيل، وأنشد:
أثافي سُفعًا في مُعَرَّسِ مِرجل
والمحذوف من نحو هذا هو الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام، نحو ياء قراطيس، وجراميق، وأراجيح، وأعاجيب، جمع أرجوحة وأعجوبة، ألا تراها قد حذفت في قوله:
والبكراتِ الفُسَّجَ العطامسا
[المحتسب: 1/94]
وقوله:
وغير سُفْع مثل يحامِم
يريد: يحاميم وعطاميس.
وروينا لعبيد الله بن الحر قوله:
وبُدِّلْتُ بعد الزَّعْفَران وطيبه ... صَدا الدِّرع من مستحكِماتِ الْمَسامِر
وعلى أن حذف الياء مع الإدغام أسهل شيئًا من حذفه ولا إدغام معه؛ وذلك أن هذه الياء لما أُدغمت خفيت وكادت تستهلك، فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئًا هو في حال وجوده في حكم المحذوف. نعم، وقد يحذف هذا الحرف ويؤتى بالعوض منه حرفًا في حال وجوده في حكم ما ليس موجودًا، وهو تاء التأنيث في نحو قولهم: فرازنة وزنادقة وجحاجحة، فالتاء عوض من ياء فرازين وجحاجيح وزناديق، وكذلك قالوا مع الإدغام، وذلك قولهم في أثاني وأناسي: أثانية وأناسية، رواها أبو زيد. وإذا كانوا قد رضوا بالكسرة قبلها دليلًا عليها، وعوضًا منها فهم بأن يقنعوا بالتاء عوضًا منها أجدر). [المحتسب: 1/95]

قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}

قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}

قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأحاطت به خطيئته)
قرأ نافع وحده: (وأحاطت به خطيئاته).
وقرأ سائر القراء: (خطيئته).
قال أبو منصور: والخطيئة تنوب عن الخطيئات، وقد تجمع الخطيئة خطايا وخطيئات). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81]، فقرأ نافع وحده: خطيئاته، وقرأ الباقون:
خطيئته واحدة.
قال أبو علي: قوله: وأحاطت به خطيئته لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون المعنى أحاطت بحسنته خطيئته أي:
أحيطتها من حيث كان المحيط أكبر من المحاط به فيكون بمنزلة قوله: وإنّ جهنّم لمحيطةٌ بالكافرين [العنكبوت/ 54]، وقوله أحاط بهم سرادقها [الكهف/ 29]، أو يكون المعنى في: أحاطت به خطيئته:
أهلكته، من قوله: لتأتنّني به إلّا أن يحاط بكم [يوسف/ 66] وقوله: وظنّوا أنّهم أحيط بهم [يونس/ 22] وأحيط بثمره [الكهف/ 42] فهذا كلّه في معنى البوار والهلكة.
ويكون للإحاطة معنى ثالث وهو: العلم. كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/114]
كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً [الكهف/ 91] و: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم [الجن/ 28].
وقال: واللّه بما يعملون محيطٌ [الأنفال/ 47] أي: عالم.
وأما الخطيئة: فقال أبو زيد: خطئت، من الخطيئة.
أخطأ خطئا والاسم الخطء، وأخطأت إخطاء، والاسم الخطاء.
وقال أبو الحسن: الخطء: الإثم، وهو ما أصابه متعمّدا والخطأ: غير التعمّد. ويقال من هذا: أخطأ يخطئ وقال:
وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم [الأحزاب/ 5] واسم الفاعل من هذا مخطئ.
فأمّا خطئت: فاسم الفاعل فيه: خاطئ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل: لا يأكله إلّا الخاطؤن [الحاقة/ 37] وقد قالوا: خطئ في معنى أخطأ، قال:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا المعنى: أخطأتهم، ويدلّك على هذا قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/115]
فأصبن ذا كرم ومن أخطأنه... جزأ المقيظة خشية أمثالها
يصف أيضا خيلا.
ومما جاء فيه: خطئ في معنى أخطأ قول الشاعر:
والناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد
فأما الخطيئة فتقع على الصغير وعلى الكبير، فمن وقوعها على الصغير قوله: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] ومن وقوعها على الكبير قوله: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81].
فأمّا قولهم: خطيئة يوم لا أصيد فيه، فالمعنى فيه:
قلّ يوم لا أصيد فيه.
وأما قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] فالمعنى أن يكون أخطأنا في معنى: خطئنا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/116]
ونسينا في معنى تركنا. لأن الخطأ والنسيان موضوعان عن الإنسان وغير مؤاخذ بهما. فيكون أخطأنا بمنزلة خطئنا كما جاء خطئنا في معنى أخطأنا.
ويجوز أن تكون أخطأنا في قوله: أو أخطأنا على غير التعمّد. والنّسيان: خلاف الذّكر، وليس التّرك، ولكن تعبّدنا بأن ندعو لذلك، كما جاء في الدعاء: قال ربّ احكم بالحقّ [الأنبياء/ 112] والله سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ.
وكما قال: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [آل عمران/ 194] وما وعدوا به على ألسنة الرّسل يؤتونه. وكذلك قول الملائكة في دعائهم للمسلمين: ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم [غافر/ 7] وكذلك قوله: ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به [البقرة/ 286] يكون على ما يكرثهم ويثقل على طباعهم، وتكون الطاقة: الاستطاعة.
وقد يكون: أخطأنا: أتينا بخطإ. كقولك: أبدعت: أتيت ببدعة. ونحو هذا مما يراد به هذا النّحو.
وتقول: خطّأته فأخطأ. فيكون هذا كقولهم: فطّرته فأفطر.
فأمّا ما روي عن ابن عباس من قوله: خطّ الله نوءها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/117]
فقال أبو عبد الله اليزيديّ وغيره. ليس ذلك من الخطأ، وإنّما هو خطّ مثل ردّ، من الخطيطة قال: وهي أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين.
السيئة في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81] يجوز أن يكون. الكفر. ويجوز أن يكون: كبيرا يوتغ ويهلك، ويجوز أن يكون: من للجزاء الجازم، ويجوز أن يكون للجزاء غير الجازم، فتكون: السيّئة. وإن كانت مفردة، تراد بها الكثرة فكذلك تكون خطيئة مفردة... وإنما حسن أن تفرد لأنه مضاف إلى ضمير مفرد، وإن كان يراد به الكثرة كما قال: من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112] فأفرد الوجه والأجر، وإن كان في المعنى جمعا في الموضعين. فكذلك المضاف إليه: الخطيئة، لما لم يكن جمعا لم تجمع كما جمعت في قوله: نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58]
[الحجة للقراء السبعة: 2/118]
لأنه مضاف إلى جماعة لكل واحد منهم خطيئة. وكذلك قوله: إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا [الشعراء/ 51] وقوله: إنّا آمنّا بربّنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السّحر [طه/ 73] وكذلك قوله: وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58] لأن كل لفظة من ذلك مضافة إلى جمع. فجمعت كجمع ما أضيف إليه.
فأمّا قوله: وأحاطت به خطيئته. فمضاف إلى مفرد.
فكما أفردت السيئة ولم تجمع، وإن كانت في المعنى جمعا، فكذلك ينبغي أن تفرد الخطيئة، وأنت إذا أفردته لم يمتنع وقوعه على الكثرة وإن كان مضافا. ألا ترى أنّ في التنزيل:
وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها [إبراهيم/ 34] فالإحصاء إنما يقع على الجموع والكثرة، وكذلك ما أثر في الحديث من قوله: «منعت العراق درهمها وقفيزها. ومصر إردبّها» فهذه أسماء مفردة مضافة، والمراد بها الكثرة فكذلك الخطيئة. ومما يرجّح به قول من أفرد ولم يجمع لأنه مضاف إلى مفرد، فأفرد لذلك وكان الوجه: قوله: بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112]
[الحجة للقراء السبعة: 2/119]
فأفرد الأجر لما كان مضافا إلى مفرد، ولم يجمع كما جمع قوله: وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف [النساء/ 25] فكما لم يجمع الأجر في الإضافة إلى الضمير المفرد، كما جمع لمّا أضيف إلى الضمير المجموع، كذلك ينبغي أن تكون الخطيئة مفردة إذا أضيفت إلى الضمير المفرد، وإن كان المراد به الجميع. ومن قال «خطيئاته» فجمع، حمله على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة. فكما جمع ما كان مضافا إلى جمع كذلك جمع ما كان مضافا إلى مفرد، يراد به الجمع من حيث اجتمعا في أنهما كثرة، ويدلّك على أنّ المراد به الكثرة. فيجوز من أجل ذلك أن تجمع خطيئة على المعنى لأن الضمير المضاف إليه جمع في المعنى.
قوله: فأولئك أصحاب النّار [البقرة/ 81] فأولئك خبر المبتدأ الذي هو: من في قول من جعله جزاء غير مجزوم كقوله: وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] أو مبتدأ في قول من جعله جزاء مجزوما. وفي كلا الوجهين يراد به: من في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81].
ومما يدلّ على أن من يراد به الكثرة فيجوز لذلك أن تجمع خطيئة لأنها مضافة إلى جمع في المعنى. قوله بعد هذه: والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون [البقرة/ 82]، ألا ترى أن الّذين جمع، وهو معادل به من. فكذلك المعادل به يكون جمعا مثل ما عودل به.
[الحجة للقراء السبعة: 2/120]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته}
قرأ نافع وأحاطت به خطيئاته بالألف وحجته أن الإحاطة لا تكون للشّيء المنفرد إنّما تكون لأشياء كقولك أحاط به الرّجال وأحاط النّاس بفلان إذا داروا به ولا يقال أحاط زيد بعمرو وحجّة أخرى جاء في التّفسير قوله بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئاته أي الكبائر أي أحاطت به كبائر ذنوبه
وقرأ الباقون خطيئته على التّوحيد وحجتهم أن الخطيئة ليست بشخص فإذا لم تكن شخصا واشتملت على الإنسان جاز أن يقال أحاطت به خطيئته وحجّة أخرى جاء في التّفسير من كسب سيّئة أي الشّرك وأحاطت به خطيئته أي الشّرك الّذي هو سيّئة). [حجة القراءات: 102]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (43- قوله: «خطيئته» قرأه نافع بالجمع، حمله على معنى الإحاطة، والإحاطة إنما تكون بكثرة المحيط، فحمله على معنى الكبائر، والسيئة الشرك، فالمعنى: بلى من كسب شركًا وأحاطت بن كبائره فأحبطت أعماله، فأولئك أصحاب النار، والهاء في «خطيآته» بمعنى الجمع، تعود على «من»، و«من» للجماعة، يدل على ذلك قوله: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، وقرأ الباقون بالتوحيد على أن تأويل الخطيئة الشرك، فوحَّدوه على هذا المعنى، وتكون السيئة الذنوب، وهي بمعنى السيئات، ويجوز أن تكون الخطيئة في معنى الجمع، لكن وُحِّدت، كما وُحِّدت السيئة، وهي بمعنى الجمع، فتكون كالقراءة بالجمع في المعنى، وحسن انفراد لفظ الخطيئة، وهي بمعنى الجمع؛ لإضافتها إلى مفرد في اللفظ بمعنى الجمع، وقد يجوز أن يكون لفظ الخطيئة مفردًا، يُراد به الكثرة، كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} «إبراهيم 34» أي: نعم الله؛ لأن المعدود لا يكون إلا كثيرًا، فتكون «الخطيئة» الكبائر و«السيئة» الذنوب). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (27- {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [آية/ 81]:-
بالجمع، قرأها نافع وحده.
وذلك لأنه حمله على المعنى، ومعناه على الكثرة؛ لأن المخبر عنهم جماعة وإن عبر عنهم بلفظ المفرد، ألا ترى أن قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ليس يريد به واحدًا، وإنما يدخل تحته كل كاسب للسيئة محيط به خطاياه لما يتضمنه من معنى الشرط، فالمعنى على الكثرة والعموم، والدليل على أن المراد به الكثرة قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}؛ لأن هؤلاء هم كاسبو السيئة الذين تقدم ذكرهم، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا} وهم جماعة عودل بهم من تقدمهم، والمعادل ينبغي أن يكون مثل من عودل به.
ويقوي هذه القراءة أنه وصف الخطيئة بالإحاطة، والإحاطة بالشيء شمول
[الموضح: 284]
له فهي تقتضي الكثرة في حقيقة الأصل؛ لأن الجسم لا يحيط بالجسم حتى يكون كثير الأجزاء.
وقرأ الباقون {خَطِيئتُهُ} على الإفراد.
ووجه ذلك أنها لما كانت مضافة إلى مفردٍ في اللفظ كان الإفراد فيها أولى، لا سيما وقد أفردت السيئة في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} لما كان مسندًا إلى لفظ {مَنْ}، ولفظه واحد وإن كان المراد به الجمع والكثرة ولا يمتنع في المفرد أن يقع للكثرة والجمع نحو قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا} فإن الإحصاء يقتضي الكثرة، فإن لم يمتنع نحو هذا لا يمتنع أيضًا أن يراد بالخطيئة وإن كانت واحدةً معنى الجمع، وكذلك السيئة). [الموضح: 285]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:35 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (83) إلى الآية (86) ]

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (لا تعبدون إلّا اللّه)
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون إلّا اللّه) - بالياء - وقرأ الباقون (لا تعبدون) بالتاء.
من قرأ: (لا يعبدون) فعلى أنهم غيّب، وعلامة الغائب الياء.
[معاني القراءات وعللها: 1/159]
وكان في الأصل (أن لا يعبدوا)، فلما حذف (أن) رفعه، مثل قول طرفة:
ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد: أن أحضر، فلما حذف (أن) رفعه.
ومن قرأ بالتاء فهو خطاب، ومثله في الكلام: تقدمت إلى فلان لا تشرب الخمر ولا يشرب الخمر.
قوله جلّ وعزّ: (وقولوا للنّاس حسنًا).
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حسنًا) بفتح الحاء والسين.
وقرأ الباقون: (حسنًا).
[معاني القراءات وعللها: 1/160]
قال أبو منصور: (حسنًا) فالمعنى: قولوا للناس قولاً ذا حسن.
والخطاب لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن قرأ (حسنًا) فالمعنى: قولوا لهم قولاً حسنًا.
واتفق القراء على قوله في العنكبوت: (حسنًا)
وافترقوا في الأحقاف.
فقرأ حمزة وعاصم والكسائي (إحسانًا) بالألف، وقرأ الباقون (حسنًا) بغير ألف، مضمومة الحاء، ومعنى إحسانا، أي: أحسنوا بالوالدين إحسانًا، فإحسانًا بدل من اللفظ بـ (أحسنوا).
[معاني القراءات وعللها: 1/161]
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: قال بعض أصحابنا: اخترنا (حسنًا) لأنه يريد: قولا حسنًا.
قال: ومن قرأ (حسنًا) فهو مصدر حسن يحسن حسنًا، قال: وهو جائز، ونحن نذهب إلى أن الحسن شيء من الحسن، وبجوز هذا وهذا). [معاني القراءات وعللها: 1/162]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والياء من قوله تعالى: لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ: لا يعبدون بالياء.
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر لا تعبدون بالتاء.
قال أبو علي: الألفاظ التي جرت في كلامهم مجرى القسم، حتى أجيبت بجوابه. تستعمل على ضربين: أحدهما:
أن يكون كسائر الأخبار التي ليست بقسم، فلا يجاب كما لا يجاب.
والآخر: أن يجري مجرى القسم فيجاب كما يجاب القسم. فممّا لم يجب بأجوبة القسم قوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8].
ومنه قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] وقال: فيحلفون له كما يحلفون لكم، ويحسبون.
فما جاء بعد من ذلك فيه ذكر الأوّل ممّا يجوز أن يكون حالا احتمل ضربين: أحدهما: أن يكون حالا، والآخر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/121]
أن يكون قسما، وإنما جاز أن تحمله على الحال دون جواب القسم، لأنه قد جاز أن يكون معرّى من الجواب، وإذا جعلت ما يجوز أن يكون حالا، فقد عرّيتها من الجواب. فمما يجوز أن يكون حالا قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا... [البقرة/ 63] فقوله: ورفعنا يجوز أن يكون حالا وتريد فيه قد. وإن شئت لم تقدّر فيه الحال.
ومما يجوز أن يكون ما بعده فيه حالا غير جواب، قوله:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فهذا يكون حالا كأنه أخذ ميثاقهم موحّدين، وكذلك: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] أي: غير سافكين، فيكون حالا من المخاطبين المضاف إليهم. وإنما جاز كونهما لما ذكرنا من أجل أن هذا النحو قد تعرّى من أن يجاب بجواب القسم. ألا ترى أن قوله (خذوا) في الآية ليس بجواب قسم، ولا يجوز أن يكون جوابا له؛ وكذلك من قرأ:
«لا تعبدوا» فجعل لا للنهي كما كان: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه [آل عمران/ 187] قسما- وكذلك:
وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه [النحل/ 38] فكما أن لتبيّننّه لا يكون إلا جوابا، كذلك يكون قوله: لا تعبدون ولا تسفكون. يجوز أن يكون جوابا للقسم. ويجوز أن يكون «لا تسفكون» ونحوه في تقدير: أن لا تسفكوا كأنّ تقديره: أخذنا ميثاقهم بأن لا يسفكوا. ولا يكون ذلك جواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/122]
قسم كما كان فيمن قدّره حالا غير جواب قسم. إلا أنه لما حذف (أن) ارتفع الفعل.
واعلم أن ما يتصل بهذه الأشياء الجارية مجرى القسم في أنّها أجيبت بما يجاب به القسم. لا يخلو من أن يكون لمخاطب أو لمتكلم، أو لغائب جاز أن يكون على لفظ الغيبة من حيث كان اللفظ لها. وجاز أن يكون على لفظ المخاطب.
وإنما جاز كونه على لفظه، لأنّك تحكي حال الخطاب، وقت ما يخاطب به، ألا ترى أنهم قد قرءوا: قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون إلى جهنم [آل عمران/ 12] على لفظ الغيبة، وبالتاء على لفظ الخطاب على حكاية حال الخطاب في وقت الخطاب، فإذا كان هذا النحو جائزا، جاز أن تجيء القراءة بالوجهين جميعا، وجاز أن تجيء بأحدهما، كما جاء قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] بالوجهين كما جاء سيغلبون، ويحشرون بالوجهين، ويجوز في قياس العربية في قوله: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] على الوجهين اللذين قرئ بهما في «سيغلبون، وستغلبون».
وإن كان الكلام على الخطاب لم يجز فيما يكون في تقدير ما يتلقّى به القسم إلا الخطاب، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/123]
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] فهذا لا يجوز أن يكون إلا على الخطاب، لأن المأخوذ ميثاقهم مخاطبون ولأنّك إن حكيت الحال التي يكون الخطاب فيها فيما يأتي لم يجز أن تجعل المخاطبين كالغيب، كما جاز في الغيب الخطاب من حيث قدّرت الحال التي يكون فيها الخطاب فيما تستقبل، ألا ترى أنّه لا يجوز أن تجعل المخاطبين غيبا، فتقول:" أخذنا ميثاقكم لا يسفكون" لأنك إذا قدّرت الحكاية، كان التقدير:
أخذنا ميثاقكم فقلنا لكم: لا تسفكون، كان بالتاء ولم يجز الياء، كما لا يجوز أن تقول للمخاطبين: هم يفعلون، وأنت تخاطبهم. وإن لم تقدّر الحكاية فهو بالتاء، فلا مذهب إذن في ذلك غير الخطاب.
فقوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] لا يخلو قوله: تعبدون من أن يكون حالا، أو يكون تلقّي قسم، أو يكون على لفظ الخبر. والمعنى معنى الأمر، أو تقدّر الجارّ في (أن) فتحذفه ثم تحذف أن فإن جعلته حالا جعلته على قول من قرأ بالياء فقال: لا يعبدون ليكون في الحال ذكر من ذي الحال.
فإن قلت: وإذا قرئ بالياء فالمراد به هو بنو إسرائيل، والحال مثل الصفة، وقد حملت الصفة في هذا النحو على المعنى. فإن هذا قول، والأول البيّن.
وإن جعلته تلقّي قسم، فإنّ هذا اللفظ الذي هو: أخذنا ميثاقكم
[الحجة للقراء السبعة: 2/124]
مجاز ما يقع بعده على ثلاثة أضرب: أحدها: أن لا يتبع شيئا مما يجري مجرى الجواب كقوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8] والآخر: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم. نحو: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس [آل عمران/ 187] والثالث: أن يكون أمرا نحو: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا. ولم يجيء شيء من هذا النحو فيما علمنا تلقّي بجواب قسم، ووقع بعده أمر فإن جعلت: لا تعبدون جواب قسم وعطفت عليه الأمر جمعت بين أمرين لم يجمع بينهما.
فإن قلت: لا أحمل الأمر على القسم، ولكن أضمر القول كأنّه: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا يعبدون إلّا الله... وقلنا لهم: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
فالقول: إن إضمار القول في هذا النحو لا يضيق، وقلنا على هذا معطوف على: أخذنا، وأخذ الميثاق قول، وكأنّه: قلنا لهم كذا، وقلنا لهم كذا.
فإن جعلته على أنّ اللفظ في: لا تعبدون لفظ خبر.
والمعنى معنى الأمر، فإن ذلك يقويه ما زعموا من أنّ في إحدى القراءتين: ولا تعبدوا ومثل ذلك قوله: تؤمنون باللّه ورسوله [الصف/ 11] يدلّك على ذلك قوله يغفر
لكم
[الصف/ 12] وزعموا أن في بعض المصاحف آمنوا، ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر، وهو قوله: وبالوالدين إحساناً، [البقرة/ 83]
[الحجة للقراء السبعة: 2/125]
وأقيموا الصّلاة [البقرة/ 43] وإن حملته على أن المعنى:
أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا، فإن هذا قول، إن حملته عليه كان فيه حذف بعد حذف. وزعم سيبويه أن حذف (أن) من هذا النحو قليل.
وحجة من قرأ: «لا تعبدون» بالخطاب، قوله: وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ. ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم [آل عمران/ 81].
فجاء على الخطاب وقولوا. قال: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه [آل عمران/ 187].
ومما يقوّيه قوله: ثمّ تولّيتم إلّا قليلًا منكم وأنتم معرضون [البقرة/ 83] فإذا كان خطابا لا يحتمل غيره، وهو عطف على ما تقدّم، وجب أن يكون المعطوف عليه في حكمه.
ومن قرأ: لا يعبدون بالياء فإنه يدل عليه قوله: قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] فحمله على لفظ الغيبة فكلّ واحد من المذهبين قد جاء التنزيل به.
اختلفوا في ضم الحاء والتخفيف وفتحها والتثقيل من قوله: وقولوا للنّاس حسناً [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر، حسناً بضم الحاء والتخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ حسناً بفتح الحاء والتثقيل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/126]
وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائيّ في سورة الأحقاف إحساناً [الآية/ 15] بألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر حسناً خفيفة بغير ألف.
قال أبو علي: من قرأ حسناً احتمل قوله وجهين: يجوز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبخل والبخل والرّشد والرّشد، والثّكل والثّكل، وجاء ذلك في الصفة، كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العرب والعرب، وهو صفة يدلّك على ذلك: مررت بقوم عرب أجمعون. فيكون الحسن على هذا صفة، كالحسن ويكون: كالحلو والمرّ، ويجوز أن يكون الحسن مصدرا كالكفر والشّكر والشّغل، وحذف المضاف معه كأنّه: قولا ذا حسن.
ويجوز أن تجعل القول نفسه الحسن في الاتّساع، وعلى هذا: زورة وعدلة، فأنّثوا كما يؤنّثون الصفة التي تكون إياها، نحو: ظريفة وشريفة وحسنة، والدّليل على أن زورا مصدر، وليس كراكب وركب ما أنشده أحمد بن يحيى:
ومشيهنّ بالخبيب مور... كأنهنّ الفتيات الزور
[الحجة للقراء السبعة: 2/127]
يسألن عن غور وأين الغور والغور منهنّ بعيد جور ومن قال: حسنا جعله صفة، وكان التقدير عنده: وقولوا للنّاس قولا حسنا. فحذف الموصوف وحسن ذلك في حسن لأنها ضارعت الصفات التي تقوم مقام الأسماء.
نحو الأبرق، والأبطح، وعبد، ألا تراهم يقولون: هذا حسن، ومررت بحسن، ولا يكادون يذكرون معه الموصوف.
ومثل ذلك في حذف الموصوف قوله: قال ومن كفر فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126] أي متاعا قليلا. يدلك على ذلك قوله:
قل متاع الدّنيا قليلٌ [النساء/ 77] وقوله: لا يغرّنّك تقلّب الّذين كفروا في البلاد. متاعٌ قليلٌ [آل عمران/ 197] فحسن هذا وإن كان قد جرى على الموصوف في قوله: إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون [الشعراء/ 54] فكذلك يحسن في قوله:
وقولوا للنّاس حسناً. فأمّا قوله: ثمّ بدّل حسناً بعد سوءٍ [النمل/ 11] فينبغي أن يكون اسما، لأنه قد عودل به ما لا يكون إلا اسما وهو «السّوء».
وأمّا قوله: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] فيمكن أن يكون أمرا ذا حسن، ويمكن أن يكون الحسن مثل الحلو.
وأما قراءة الكوفيين في الأحقاف إحساناً وهو قوله: ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً [الآية/ 15] فيدل عليه قوله: وبالوالدين إحساناً [البقرة/ 83] والتقدير:
[الحجة للقراء السبعة: 2/128]
وأحسنوا بالوالدين إحسانا. كأنّه لما قال: أخذنا ميثاقهم قال:
وقلنا لهم أحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قال: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] فالجارّ متعلق بالفعل المضمر، ولا يجوز أن يتعلّق بالمصدر، لأن ما يتعلّق بالمصدر لا يتقدّم عليه، وأحسن: يصل بالباء كما يصل بإلى، يدلّك على ذلك قوله:
وقد أحسن بي إذ أخرجني من السّجن [يوسف/ 100] كما تعدّى بإلى في قوله: وأحسن كما أحسن اللّه إليك [القصص/ 77] والتقدير أنه لمّا قال: ووصّينا الإنسان، فكان هذا الكلام قولا صار كأنّه قال: وقلنا أحسن أيّها الإنسان بالوالدين إحسانا. وممّا يؤكّد ذلك ويحسّنه قوله في الأخرى:
واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً...
[النساء/ 36].
ووجه من قرأ في الأحقاف: بوالديه حسناً [الآية/ 15] أن يكون أراد بالحسن الإحسان، فحذف المصدر وردّه إلى الأصل كما قال الشاعر:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه... وإن يهلك فذلك كان قدري
أي: تقديري.
[الحجة للقراء السبعة: 2/129]
ويجوز أن يكون وضع الاسم موضع المصدر كما قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا والباء في هذين الوجهين متعلق بالفعل المضمر كما تعلّقت به في قول الكوفيين في قراءتهم إحسانا، ويدلّك على ذلك قولهم: عمرك الله. فنصب المصدر محذوفا كما ينصبه غير محذوف.
ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب وصّينا ويكون حسناً محمولا على فعل كأنه «وصيناه» فقلنا: اتّخذ فيهم حسنا، واصطنع حسنا. كما قال: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] وحكى أبو الحسن: حسنى ولا أدري أهي قراءة أم لغة غير قراءة. إلا أنّه يحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون فعلى الأفعل، إلا أنّه استعمل استعمال الأسماء، فأخرج منها لام المعرفة حيث صارت بمنزلة الأسماء نحو قوله:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت والآخر: أن يكون بمنزلة: الرّجعى والشّورى والبشرى). [الحجة للقراء السبعة: 2/130]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا}
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ {وما يعبدون إلّا الله} بالياء
وقرأ الباقون بالتّاء وحجتهم قوله {وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة} {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} فحكى ما خاطبهم به فجرى الكلام على لفظ المواجهة
واحتج من قرأ بالياء أن قال أول الآية إخبار عن غيب يعنون
[حجة القراءات: 102]
بذلك قوله {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} قالوا فإجراء الكلام على ما ابتدئ به أول الآية وافتتح به الكلام أولى وأشبه من الإنصراف عنه إلى الخطاب
قرأ حمزة والكسائيّ {وقولوا للنّاس حسنا} بفتح الحاء والسّين وحجتهم أن حسنا وصف للقول الّذي كف عن ذكره لدلالة وصفه عليه كأن تأويله وقولوا للنّاس قولا حسنا فترك القول واقتصر على نعته وقد نزل القرآن بنظير ذلك فقال جلّ وعز وجعل فيها رواسي ولم يذكر الجبال وقال {أن اعمل سابغات} ولم يذكر الدروع إذ دلّ وصفها على موصوفها
وقرأ الباقون حسنا بضم الحاء وحجتهم أن الحسن يجمع والحسن يتبعّض أي قولا للنّاس الحسن في الأشياء كلها فما يجمع أولى ممّا يتبعّض قال الزّجاج وفي قوله {حسنا} قولان المعنى قولا للنّاس قولا ذا حسن وزعم الأخفش أنه يجوز أن يكون حسنا في معنى حسن كما قيل البخل والبخل والسقم والسقم وفي التّنزيل {إلّا من ظلم ثمّ بدل حسنا} {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} ). [حجة القراءات: 103]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (44- قوله: {لا تعبدون إلا الله} قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء، وردوه إلى لفظ الغيبة الذي قبله، في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون}، وقرأه الباقون بالتاء حملوه على الخطاب، وعلى ما بعده من الخطاب في قوله: {ثم توليتم}، وقوله: {وأنتم معرضون}، وقوله: {ومن يفعل ذلك منكم} «85» ووقوع الأمر بعده يدل على قوة الخطاب، وذلك قوله: {وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فجرى صدر الكلام في ذلك على حكم آخره، وأيضًا فإن نظائر هذا المعنى أتى على لفظ المخاطبة في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
القرآن، قال الله جل ذكره: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم} «آل عمران 81»، وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} «آل عمران 187» والقراءة بالتاء أحب إلي لما ذكرنا، وقد ذكرنا وجه رفع هذا الفعل في كتاب «مشكل الإعراب»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (45- قوله: {حُسنا} قرأه حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين، جعلاه صفة لمصدر محذوف تقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، وقرأه الباقون بضم الحاء وإسكان السين على أنها لغة في «الحسن»، يقال: الحُسن والحَسن، والبُخل والبَخل، والرُشد والرَشد، فهو كالأول، وتقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، ويجوز أن يكون «الحسن» مصدرًا كالكفر والشكر، فيلزم تقدير حذف مضاف، تقديره: وقولوا للناس قولًا ذا حسن، ويؤول في المعنى إلى حسن). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (28- {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله} [آية/ 83]:-
بالتاء، قرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب.
ووجه ذلك أن أخذ أن أخذ الميثاق لما يتضمنه من معنى القول يحسن بعده وقوع الخطاب كالأمر، تقول: أخذت على فلانٍ العهد لا يضرب زيدًا ولا تضرب زيدًا، وأمرته لا يشرب الخمر ولا تشرب الخمر، وأكد حسن الخطاب في هذا الموضع قوله في آخر الآية {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على الخطاب، وهو معطوف على الأول فوجب كون الأول أيضًا خطابًا.
[الموضح: 285]
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {لا يَعْبُدُونَ} بالياء.
لأن مبنى الكلام على الغيبة، وهو قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وقد جاء على الغيبة ما وقع بعد القول في نحو قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فلأن يجيء سواه على الغيبة أولى). [الموضح: 286]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (29- {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [آية/ 83]:-
بفتح (الحاء) والسين، قرأها حمزة والكسائي ويعقوب.
ووجه ذلك أنه صفة حذف موصوفها، وتقدير الكلام: قولوا للناس قولاً حسنًا فحذف الموصوف، وهذه الصفة أعني {حَسَنًا} يكثر حذف موصوفها نحو قولهم: هذا حسن ومررت بحسن ورأيت حسنًا، وقلما يذكر معه الموصوف.
وقرأ الباقون {حُسْنًا} بضم الحاء وإسكان السين.
وفي علته وجهان:
أحدهما: أن الحسن مصدر كالشكر والكفر، فيكون على حذف المضاف، والتقدير: قولوا للناس قولاً ذا حسن، أو يكون على أن القول جعل الحسن نفسه على الاتساع، كما قالت الخنساء:
10- فإنما هي إقبال وإدبار
[الموضح: 286]
جعلها إقبالاً وإدبارًا لكثرة وقوعهما منها.
والثاني: أن الحسن صفة كالحسن، وذلك نحو: الحلو والمر، وقد جاء الحسن والحسن بمعنى، كقولك عرب وعرب، وكثيرًا ما يقع ف عل وفعل بمعنى واحد كالبخل والبخل والرشد والرشد). [الموضح: 287]

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (تظاهرون عليهم)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب: (تظّاهرون) مشددة، وقرأ الكوفيون: (تظاهرون) بتخفيف الظاء.
من قرأ (تظّاهرون) بالتشديد فالأصل فيه تتظاهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب المخرجين، وشددت الظاء، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل فيه (تتظاهرون) بتاءين أيضًا، فحذفت التاء الثانية لاجتماعهما.
وتفسير تظاهرون: تتعاونون، يقال: ظاهر فلان فلانا: إذا عاونه.
وقال الله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) معناه: وإن تعاونا.
والظهير: المعين، وقال الله تعالى: (وكان الكافر على ربه ظهير)، أي: معينا.
[معاني القراءات وعللها: 1/162]
قوله جلّ وعزّ: (أسارى تفادوهم)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أسارى) بألف "تفدوهم، بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم والكسائي ويعقوب (أسارى تفادوهم)، بألفين فيهما. وقرأ حمزة "أسرى تقدوهم" بغير ألف فيهما.
ولم يقرأ أحد (أسارى) بفتح الألف.
فمن قرأ (أسارى) جمع الأسير على أسارى، على (فعالى).
ومن قرأ (أسرى) جمعه على (فعلى).
وقال نصير الرازي: أسارى جمع أسرى، والأصل: أسارى، فضمت الألف، كما قالوا: سكارى وسكارى، وكسالى وكسالى.
قال: ومثل أسير وأسرى: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى.
وأما قوله: (تفدوهم) و(تفادوهم) فمن قرأ (تفادوهم) فإن العرب تقول: فاديت الأسير، وكان أخي أسيراً ففاديته بأسير
وقال نصيب:
ولكنّني فاديت أمّي بعدما... علا الرأس كبرةٌ ومشيب
بعبدين مرضيّين لم يك فيهما... لئن عرضا للناظرين معيب
ومن قرأ (تفدوهم) فهو على وجهين:
أحدهما: تفدوهم بالمال، كقوله: (وفديناه بذبحٍ عظيمٍ).
والوجه الثاني: أن يكون معنى فديته: خلصته مما
[معاني القراءات وعللها: 1/163]
كان فيه.
وقال أبو معاذ النحوي: من قرأ (تفدوهم) فمعناه: تشترونهم من العدو وتنقذونهم، ومن قرأ (تفادوهم) فمعناه تماكسون من هم في أيديهم بالثمن ويماكسونكم). [معاني القراءات وعللها: 1/164]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الظّاء وتخفيفها من قوله تعالى: تظاهرون عليهم [البقرة/ 85]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر تظاهرون عليهم مشددة الظاء بألف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/130]
وكذلك في سورة الأحزاب والتحريم.
وروى عليّ بن نصر عن أبي عمرو تظاهرون بفتح التاء والظاء خفيفة.
[وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ تظاهرون خفيفا].
وفي التحريم تظاهرا عليه [الآية/ 4] خفيفة أيضا. وفارقهما عاصم في التي في سورة الأحزاب فقرأ: تظاهرون منهنّ [الآية/ 4] بضم التاء مع التخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ تظاهرون بفتح التاء مع التخفيف مثل سورة البقرة.
قال أبو علي: تظّاهرون: تعاونون. وإن تظّاهرا عليه:
إن تتعاونا عليه.
وقال الأصمعي: اتخذ معك بعيرا، أو بعيرين ظهريّين.
يقول: عدّة وقال: والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ [التحريم/ 4] أي معين، فالتقدير فيه الجمع، واللفظ على الإفراد من التنزيل: وحسن أولئك رفيقاً [النساء/ 69].
وقال رؤبة:
دعها فما النّحويّ من صديقها
[الحجة للقراء السبعة: 2/131]
أي: من أصدقائها. وقال: قالوا ساحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاونا على سحرهما، وسحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاون أصحابهما، لأنه إنما يتعاون السّاحران لا السّحران.
وأما قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55]. فإنه يحتمل تأويلين:
أحدهما: وكان الكافر على أولياء ربه معينا. أي يعادونهم ولا يوالونهم. كما قال: تعرف في وجوه الّذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالّذين يتلون عليهم آياتنا [الحج/ 72] وقال: وإن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر [القلم/ 51].
والآخر: أن يكون هينا عليه لا وزن له ولا منزلة.
وكأنه من قولهم: ظهرت بحاجتي: إذا لم تعن بها قال الشاعر:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي... بظهر ولا يعيا عليّ جوابها
المعنى: لا يعيا عليّ جواب ردّها، فحذف المضاف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/132]
ويمكن أن يكون من هذا قوله:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: تلك شكاة هي عنك بظهر فلا يعبأ بها.
والكافر في قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55] كقولهم: كثر الشاه والبعير، في أنه يراد به الكثرة، وقد جاء ذلك في اسم الفاعل، كما جاء في سائر أسماء الأجناس. أنشد أبو زيد:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي... أو تصبحي في الظاعن المولّي
وقال: فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين [الصف/ 14] أي غالبين لهم. قاهرين. ومنه ظهر المسلمون على دور الحرب.
فأما قول الشاعر:
مظاهرة نيّا عتيقا وعوططا... فقد أحكما خلقا لها متباينا
[الحجة للقراء السبعة: 2/133]
فمن قولهم: ظاهر بين درعين. إذا لبس إحداهما فوق الأخرى. وكذلك مظاهرة نيّا. أي: كأنّها قد لبست الجديد على العتيق، وقال:
هل هاجك الليل كليل على... أسماء من ذي صبر مخيل
ظاهر نجدا فترامى به... منه توالي ليلة مطفل
ظاهر نجدا، أي: علا نجدا، وتوالي السحاب: أواخره، ومطفل، أي: مطر لنتاج ليلته، أي: نشأ الغيم فيها ومطر.
فقراءة الفريقين من ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، ومن عاصم وحمزة والكسائي، في البقرة وفي التحريم في المعنى سواء. ألا ترى أن الكلمة: تتفاعلون في المعنى، فأما في اللفظ، فمن قال: تظاهرون أدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها، ومن قال: تظاهرون حذف التاء التي أدغمها الآخرون من اللفظ فكلّ واحد من الفريقين كره اجتماع الأمثال والمقاربة. فمن قال: تظاهرون خفّف بالإدغام. ومن قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/134]
تظاهرون خفّف بالحذف. فالتاء التي أدغمها ابن كثير، ومن قرأ كقراءته، حذفها عاصم وصاحباه، والدليل على أنها هي المحذوفة: أنها كما اعتلّت بالإدغام اعتلّت بالحذف. قال سيبويه: الثانية أولى بالحذف لأنها هي التي تسكن وتدغم في نحو: فادّارأتم [البقرة/ 72]، وازّيّنت [يونس/ 24] وممّا يقوّي ذلك أن الأولى لمعنى، فإذا حذفت لم يبق شيء يدلّ على المعنى. والثانية من جملة كلمة إذا حذفت دلّ ما بقي من الكلمة عليها.
وتفاعل مطاوع فاعل، كما أنّ تفعّل مطاوع فعّل. فتفاعل نحو: تضارب، وتمادى. وفعّل نحو: قطّعته فتقطّع، وملّأته فتملّأ.
وقد جاء (ظاهر) متعديا. قال: وأنزل الّذين ظاهروهم [الأحزاب/ 26] والتي في البقرة والتحريم في المعنى واحد، وإنّما هما من المعاونة. فأما التي في الأحزاب فليس من المعاونة لكنّها من الظّهار.
قال أبو الحسن: قالوا: ظاهر من امرأته. ومعنى الظّهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. أو يشبهها بعضو منها غير الظّهر مما يحرم على الرجل من أمّه.
وخالف عاصم الفريقين في ما معناه الظّهار. فقرأ الذي معناه: الظّهار على فاعل. وزعموا أنه قراءة الحسن، وكذلك قرأ هذا المعنى في المجادلة على فاعل فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/135]
الّذين يظاهرون بضم الياء وبالألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو في المجادلة: الذين يظهرون [الآية/ 2] بغير ألف.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظاهرون بفتح الياء بألف مشدّدة الظّاء.
فمن قرأ يظهرون جعله مطاوع ظهّر.
ومن قال يظاهرون جعله مطاوع ظاهر.
فإن قلت: فإن (ظهّر) لم يتعدّ، فكيف يكون له مطاوع؟. فإنّه قد يجيء على لفظ المطاوع ما لا يكون منه فعل متعد نحو: انطلق وفعّل وفاعل قد يستعملان بمعنى كقولهم:
ضاعف وضعّف. فكذلك ظاهر وظهّر.
فأمّا من ذهب من المتأخّرين إلى أنّ الظهار لا يقع في أول مرّة حتى يعيد لفظ الظّهار مرة أخرى، فيقول: «أنت عليّ كظهر أمّي»، لأن ذلك عنده هو الظاهر لقوله: والّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ [المجادلة/ 3] فليس في ذلك ظاهر كما ادّعاه، وذلك أنّ قوله: يعودون العود على ضربين: أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل- فتركه ثم صار إليه، والآخر: أن يصير إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل. وكأن هذا الوجه غمض على هذا القائل. وهذا عند من خوطب بالقرآن مثل الوجه
[الحجة للقراء السبعة: 2/136]
الأول في الظّهور، وفي أنّهم يعرفونه كما يعرفون ذاك. فمن ذلك ما أنشده أبو عثمان أو الرّياشيّ:
إذا التّسعون أقصدني سراها... وسارت في المفاصل والعظام
وصرت كأنني أقتاد عيرا... وعاد الرأس مني كالثّغام
ومنه قول الهذلي:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل... سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل
المعنى: وصار لون الرأس كلون الثّغام، ولم يكن ثمّ لون ثغام عاد إليه. وإنما المعنى صار لون الرأس كلون الثّغام. فكذلك قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] أي: يصيرون إليه، ومن ذلك قول العجّاج:
[الحجة للقراء السبعة: 2/137]
وقصب حنّي حتى كادا يعود بعد أعظم أعوادا وسمّيت الآخرة المعاد، ولم يكن فيها ثمّ صار إليها.
فالمعاد كقوله: وإليك المصير [البقرة/ 285] في المعنى.
وقال ساعدة أو غيره:
فقام ترعد كفّاه بمحجنه... قد عاد رهبا رذيّا طائش العدم
وقال امرؤ القيس:
وماء كلون البول قد عاد آجنا... قليل بها الأصوات ذي كلأ مخلي
وقال آخر:
فإن تكن الأيام أحسنّ مرّة... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
وهذا إذا تتبّع وجد كثيرا. وفي بعض ما ذكر منه كفاية تدلّ على غلط من ذهب إلى: أنّ العود لا يكون إلا أن يفارق
[الحجة للقراء السبعة: 2/138]
شيئا كان عليه ثم يصير إليه بعد.
وقد قيل في الآية قولان: يجوز أن يكون في كلّ واحد منهما على غير ما قاله هذا القائل.
قال أبو الحسن: تقديرها: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم. وقال عبيد الله بن الحسين. تأويلها: الّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا المعنى: ثم يعودون إلى المقول فيه. والمقول فيه هو النساء. فتحرير رقبةٍ أي: فتحرير رقبة لكفّارة التحريم الواقع من الزوج.
فتقدير قول أبي الحسن الأخفش: والذين يظّاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما قالوا أي: لما نطقوا به من لفظ التحريم الموجب الامتناع من الوطء إلّا بعد التكفير، فيكون قوله: لما قالوا الجارّ فيه متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ- والجارّ قد يتعلق بالمعنى. وإن تقدم عليه لكونه بذلك مثل الظرف في نحو: أكلّ يوم لك ثوب. ومعنى: يعودون إلى نسائهم، أي: إلى وطئهنّ الذي كانوا حرّموه على أنفسهم بالظّهار منهنّ.
فأمّا التقديم والتأخير الذي قدّره في الآية فهو كثير جدا.
فمثل الآية قوله: اذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون [النمل/ 28]
[الحجة للقراء السبعة: 2/139]
فالمعنى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم فكما قدم قوله: ثمّ تولّ عنهم والتقدير به التأخير، كذلك في آية الظّهار، التقدير بثمّ وما تعلّق به التأخير.
وقال أبو الحسن عبيد الله بن الحسين: التأويل: والذين يظّاهرون ثمّ يعودون [لما قالوا] أي: يعودون إلى المقول فيه، والمقول فيه: هو القول. فما قالوا والمقالة والقول بمعنى، والمراد بقوله: لما قالوا هو المقول فيه. كما أنّ قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، يراد به مضروبه. وهذا الثوب نسج اليمن. يراد به منسوج اليمن. وهذا النحو كثير في كلامهم، كأنّهم وصفوا المفعول في هذا النحو بالمصدر كما وصفوا الفاعل به في قولهم: «رجل عدل» يراد به عادل. وماء غور أي غائر، فسوّوا بين الفاعل والمفعول في هذا كما سوّوا بينهما في إضافة المصدر إليهما. وفي بناء الفعل لكل واحد منهما.
ومما جاء فيه- المقالة يراد به القول قول كثير:
وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة... ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها
فالمقالة هنا يراد بها: المقول فيه. ألا ترى أنّ المعنى ولو سرت في طلبها، كنت ممن ينيله إيّاها. فإنما يسأل ويطلب
[الحجة للقراء السبعة: 2/140]
ما تعد به الملوك من صلاتها وجوائزها لا ما تلفظ به. وكان أبو الحسن يقول: إنّ ذلك بمنزلة قوله: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» أي: العائد في موهوبه. قال: ألا ترى أن العود لا يكون إلى الهبة التي هي نطق بلفظ يوجب التمليك مع القبض. فإذا لم يجز ذلك، كان المراد الموهوب.
قال: ومن ثمّ لم يوجب أبو حنيفة الكفّارة على من حلف بعلم الله ثم حنث، لأن العلم صار في تعارف الناس:
المعلوم، ألا تراهم يقولون: غفر الله لك علمه فيك، وإنما يراد معلومه. فكذلك قوله: لما قالوا يراد به المقول فيه. ومن ذلك قوله: وهو الّذي يبدؤا الخلق ثمّ يعيده
[الروم/ 27] والخلق هنا المخلوق، فهذا في المعنى كقوله: كما بدأكم تعودون [الأعراف/ 29] ألا ترى أن الذي يعاد هو الأجسام المنشرة.
فاللّام في قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] على قول أبي الحسن عبيد الله بن الحسين بمعنى إلى. وإلى واللام يتعاقبان في هذا النحو. ويقع كلّ واحد منها موقع الآخر. قال: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43] وقال فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23] وقال:
قل اللّه يهدي للحقّ، أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع
[الحجة للقراء السبعة: 2/141]
[يونس/ 35] فوصل الفعل مرة باللام ومرة بإلى كما قال:
بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: وأوحي إلى نوحٍ [هود/ 26].
فأمّا قوله: يعودون في الآية، فهو في القولين يجوز على كلّ واحد من المذهبين اللّذين ذكرناهما في العود، من أنّه يكون للحال التي يكون عليها الشيء، ثم ينتقل عنها، ثم يصير إليها.
ويكون للمصير إلى الشيء، وإن لم يكن فيه قبا.
فقول أبي الحسن الأخفش تقديره: فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوه من لفظ الظهار الموجب للتحريم، ثم يعودون إلى نسائهم على ما كانوا عليه من قبل من وطئهنّ، ويجوز أن يكون: فتحرير رقبة لما قالوا، ثمّ يصيرون إلى استباحة وطئهنّ الذي كان قد حرم عليهم. وكذلك قول أبي الحسن: أي يصيرون إلى الحالة التي كانوا عليها من فعل الوطء. كما كانوا من قبل أن يحدثوا التحريم بالظّهار.
ويجوز أن يكون المعنى: ثمّ يصيرون إلى استباحة الوطء برفع الكفّارة التحريم الحادث ويخرجون عنه.
فإذا أمكن في الآية كلّ واحد من التأويلين اللذين تحتملهما الكلمة، لم يجز أن يدّعى: أنّ أحدهما هو الظاهر دون الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/142]
اختلفوا في: أسارى تفدوهم [البقرة/ 85] في إثبات الألف في الحرفين وإسقاطها وفي فتح الراء وإمالتها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: أسارى تفدوهم.
وقرأ نافع وعاصم والكسائيّ: أسارى تفادوهم بألف فيهما.
وقرأ حمزة: أسرى تفدوهم بغير ألف فيهما. وكان أبو عمرو وحمزة والكسائيّ يكسرون الراء، وكان ابن كثير وعاصم يفتحان الراء. وكان نافع يقرأ بين الفتح والكسر.
قال أبو علي: أسير، فعيل، بمعنى مفعول. ألا ترى أنّك تقول: أسرته، كما تقول: قتلته، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول، لم يجمع بالواو والنون كما لم يجمع فعول بهما، ولكن يكسّر على فعلى، نحو لديغ ولدغى. وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وعقير وعقرى. فإذا كان كذلك، فالأقيس:
الأسرى وهو أقيس من أسارى، كما كان أقيس من قولهم:
أسراء، ألا ترى أنّهم قد قالوا: أسراء، فشبّهوه بظرفاء، كما قالوا في جمع قتيل: قتلاء، فكما أن أسراء وقتلا في جمع قتيل، وأسير، ليس بالقياس، كذلك أسارى ليس بالقياس.
ووجه قول من قال: أسارى أنّه شبّهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرّفه للأسر، كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيّئة شبّه به، فقيل في جمعه:
أسارى كما قيل: كسالى، وأجري عليه هذا الجمع للحمل
[الحجة للقراء السبعة: 2/143]
على المعنى، كما قيل: مرضى وموتى وهلكى ووجيا. لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء ومدخلين فيها مكرهين عليها مصابين بها، فأشبه في المعنى فعيلا الذي بمعنى مفعول. فلما أشبهه في المعنى أجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول، كما قالوا: امرأة حميدة فألحقوها الهاء، وإن كان بمعنى مفعول لمّا كان بمعنى رشيدة ورشيد- فهذه الأشياء مما تحمل على المعنى. وإن لم يكن حملها على المعنى الأصل. عند سيبويه، قال: ولو كان أصلا قبح: هالكون وزمنون، وكذلك أسارى ليس بالأصل في هذا الباب، ولكنه قد استعمل كثيرا في هذا النحو، وإن لم يكن مستمرا كاستمرار فعلى في جمع فعيل الذي بمعنى مفعول. قال سيبويه: وقالوا كسلى، فشبّهوه بأسرى، كما قالوا: أسارى، فشبّهوه بكسالى.
فهذا يعلم منه أنّ الأصل في فعيل الذي يراد به مفعول أن يجمع على فعلى، وأنّ فعلان نحو: سكران، وكسلان، يجمع على فعالى أو فعالى. وقالوا: كسالى. وكسالى، فكأنّهم جمعوه على فعالى، وإن كانت من أبنية الآحاد نحو: حبارى ورخامى، لما كان فعال قد جاء في بعض أبنية الجموع نحو:
رخال وظؤار وثناء، وقد لحقته تاء التأنيث فقالوا في جمع نقوة نقاوة، كما قالوا: الحجارة والذّكارة، فكما لحق التاء في هذا النحو الّذي يراد به الجمع، كذلك لحق علامة التأنيث في
[الحجة للقراء السبعة: 2/144]
سكارى وكسالى. فجعلت الألف بمنزلة التاء. كما جعلت بمنزلتها في نحو قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ فصار بمنزلة: حاوية وحوايا، وجابية وجوابي، كما صارت، الدّني والقصا بمنزلة الظّلم والثّقب، وقلّ مغالى في الجمع كما قلّ فعالة فيه.
الرّبيع عن أبي العالية في قوله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم الآية [البقرة/ 85] قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم وقد أخذ عليهم الميثاق. أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض: آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم. ومرّ عبد الله بن سلّام على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب فقال ابن سلام:
أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلّهنّ.
قتادة: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ [البقرة/ 85] كان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.
غيره: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم الآية [البقرة/ 85] كانت قريظة والنضير
[الحجة للقراء السبعة: 2/145]
أخوين، وكانوا من اليهود، وكان الكتاب بأيديهم، وكان الأوس والخزرج أخوين، فافترقا وافترقت قريظة والنّضير، فكانت النّضير مع الخزرج، وكانت قريظة. مع الأوس فاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضا. قال الله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم [البقرة/ 85] قال أبو علي: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم: أي:
يقتل بعضكم بعضا. كقوله: فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم [النور/ 61] أي ليسلّم [بعضكم على بعض].
فديت: فعل يتعدّى إلى مفعولين، ويتعدّى إلى الثاني بالجارّ كقوله: وفديناه بذبحٍ عظيمٍ [الصافات/ 107] وكقوله:
يودّون لو يفدونني بنفوسهم... ومثنى الأواقي والقيان النواهد
فإذا ثقّلت العين زدت على المفعولين ثالثا، كقوله:
لو يستطعن إذا نابتك مجحفة... فدّينك الموت بالأبناء والولد
وقالوا: فادى الأسير: إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا.
قال الأعشى:
عند ذي تاج إذا قيل له... فاد بالمال تراخى ومزح
[الحجة للقراء السبعة: 2/146]
المفعول الأول محذوف. التقدير: فاد الأسرى بالمال.
ومما يؤكّد فاعل في هذا الباب ويثبته أنّه، قد جاء تفادى، وتفاعل إنما هو مطاوع فاعل، كما أن تفعّل مطاوع فعّل. قال:
تفادى إذا استذكى عليها وتتّقي... كما يتّقي الفحل المخاض الجوامز
فأمّا الفداء: فيجوز أن يكون مثل الكتاب، ويجوز أن يكون مصدر فاعل، وقد قالوا: فديته، وافتديته، وأنشد أبو زيد:
ولو أنّ ميتا يفتدى لفديته... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
فافتدى يجوز أن يكون بمعنى تفاعل، مثل: ازدوجوا وتزاوجوا، واعتونوا وتعاونوا، ودلّ على ذلك تصحيح العين في افتعلوا، ويجوز أن يكون: فدى وافتدى، مثل: حفر واحتفر، وقلع واقتلع، والأخلق في البيت أن يكون بمنزلة فعلت، على تقدير: ولو أنّ ميتا يفدى لفديته. فمن قرأ: تفادوهم فلأنّ من كلّ واحد من الفريقين فعلا، فمن الآسر دفع الأسير، ومن
[الحجة للقراء السبعة: 2/147]
المأسور منهم دفع لفدائه، فإذا كان كذلك فوجه. تفادوهم ظاهر.
والمفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف، كما كان المفعول الأوّل الذي يصل إليه الفعل بلا حرف محذوفا في قوله: فاد بالمال.
ومن قرأ تفدوهم فالمعنى فيه مثل معنى من قرأ:
تفادوهم إلا أنّه جاء بالفعل على يفعل، ألا ترى أنّ في هذا الوجه أيضا دفعا من كلّ واحد من الآسرين والمأسور منهم على وجه الفدية للأسير، والاستنقاذ له من الأسر.
فأمّا الإمالة في الرّاء من أسارى، والتفخيم، فكلاهما حسن، فالإمالة لأن هذه الألف إذا كانت الكلمة على هذه العدّة، لم تكن الألف إلا مثل الألف المنقلبة عن الياء). [الحجة للقراء السبعة: 2/148]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم
[حجة القراءات: 103]
إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون} 85
- قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {تظاهرون عليهم} بالتّخفيف وقرأ الباقون {تظاهرون} بالتّشديد الأصل فيه تتظاهرون فمن قرأ بالتّشديد أدغم التّاء في الظّاء لقرب المخرجين وأتى بالكلمة على أصلها من غير حذف ومن قرأ {تظاهرون} بالتّخفيف والأصل أيضا فيه تتظاهرون حرف التّاء الثّانية لاجتماع تاءين إحداهما تاء الاستقبال والثّانية تاء تزاد في الفعل فأسقط الثّانية وحجته قوله {ولقد كنتم تمنون الموت} فطرح الثّانية منها
قرأ حمزة {وإن يأتوكم أسارى} بغير ألف جمع أسير وحجته أن كل فعيل من نعوت ذوي العاهات إذا جمع فإنّما يجمع على فعلى وذلك كجمعهم المريض مرضى والجريح جرحى والقتيل قتلى والصريع صرعى وكذلك اسير وأسرى لأنّه قد ناله المكروه والأذى
وقرأ الباقون {أسارى} قال بعض علمائنا هما لغتان كما يقال سكران وسكارى وقال أبو عمرو إذا أخذوا فهم عند الأخذ أسارى وما لم يؤسر بعد منهم أسرى كقوله {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى}
قرأ نافع وعاصم والكسائيّ {تفادوهم} بالألف وحجتهم
[حجة القراءات: 104]
أن هذا فعل من فريقين أي يفدي هؤلاء أساراهم من هؤلاء وهؤلاء أساراهم من هؤلاء وكان أبو عمرو يقول تعطوهم ويعطوكم وتفدوهم تعطوهم فقط
وقرأ الباقون (تفدوهم) أي تشتروهم من العدو وحجتهم في ذلك أن في دين اليهود ألا يكون أسير من أهل ملتهم في إسار غيرهم وأن عليهم أن يفدوهم بكل حال وإن لم يفدهم القوم الآخرون كا قال ابن عبّاس
قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالياء وحجتهم قوله {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} فيكون قوله {عمّا يعملون} إخبارًا عنهم
وقرأ الباقون {عمّا تعملون} بالتّاء وحجتهم قوله {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ). [حجة القراءات: 105]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (46- قوله: {تظاهرون} قرأه الكوفيون مخففًا، ومثله في التحريم: {وإن تظاهرا عليه} «التحريم 4»، وشددهما الباقون.
47- وعلة ذلك لمن خفف أن الأصل «تتظاهرون» بتاءين، فاستثقل التكرير في فعل، والفعل ثقيل في الجمع، والجمع ثقيل، فحذف إحدى التاءين استخفافًا، وكأنه استثقل الإدغام، لأن الحرف باق بدله مع الإدغام، والمحذوف هي التاء الثانية عند سيبويه، لأن بها يقع التكرير والاستثقال؛ لأن التاء الأولى تدل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
على الاستثقال، ولو حذفت لذهبت الدلالة، والتاء الأولى هي المحذوفة عند الكوفيين لزيادتها.
48- وعلة من شدد أنه كره الحذف، فأدغم التاء الثانية في الظاء، فزال لفظ التكرير، وحسن الإدغام؛ لأنك تبدل من التاء في الإدغام حرفًا أقوى من التاء، وهو الظاء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
85
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (49- قوله: {أسارى تفادوهم} قرأ حمزة «أسرى» على وزن «فعلى» وقرأ الباقون «أسارى» على وزن «فعالى» وقرأ نافع وعاصم والكسائي «تفادوهم» بضم التاء وبالألف، وقرأ الباقون «تفدوهم» بفتح التاء وإسكان الفاء من غير ألف.
50- وعلة من قرأ «أسرى» على «فعلى» أنه جمع أسير كـ «جريح، وقتيل» بمعنى مأسور ومجروح ومقتول، فلما كان «جريح وقتيل» يُجمعان على «فعلى»، ولا يجمعان على «فعالى» فعل بـ «أسير» ذلك فهو أصله، وبه قرأ الحسن وابن وثاب وابن أبي إسحاق والنخعي وطلحة وعيسى والأعمش.
51- وحجة من قرأ «أسارى» على وزن «فعالى» أنه شبهه بـ «كسالى» وذلك أن الأسير لما كان محبوسًا عن كثير من تصرفاته، صار كالكسلان، الذي حبسه الكسل عن كثير من تصرفه، فلما اشتبها في هذا المعنى حملا في الجمع على بناء واحد، فجمع «كسلان» على «كسلى» وهو باب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
أسير، وجمع «أسير» على «أسارى» وهو باب «كسلان»، فكل واحد محمول على الآخر.
52- وعلة من قرأ «تفادوهم» بألف وضمه التاء أنه ناه على أصل المفاعلة من اثنين لأن كل واحد من الفريقين يدفع من عنده من الأسارى ويأخذ من عند من الآخرين من الأسرى فكل واحد مفادٍ فاعل، والفاعلان بابهما المفاعلة، وأيضًا فإن المفاعلة قد تكون من واحد، فيكون معناه معنى قراءة من قرأ بغير ألف، فيتفق معنى القراءتين، فأما من قرأه بفتح التاء من غير ألف فإنه بناه على أن أحد الفريقين يفدي أصحابه من الفريق الآخر، بمال أو غيره، من عرض، وكذلك العادة في المغلوب، هو يفدي ما أخذ له الغالب، فالفعل من واحد؛ إذ لا يكون كل واحد من الفريقين غالبًا، وإنما تحمل المفاعلة على القراءة بالألف أن لكل واحد من الفريقين أسيرًا فيفادي كل واحد منهما ويدفع ما عنده من الأسرى بما عند الفريق الآخر من الأسرى، ويجوز أن يكون تقاتلا فغلب أحدهما الآخر، وأسرى الغالب، ثم تقاتلا فغلب المغلوب وأسر، ثم تفادوا، وإنما أسروا أسرى هؤلاء وأسرى هؤلاء، والاختيار «أسارى» على «فعالى» وتفدوهم بغير ألف لما ذكرنا من العلة، ولأن القراءتين قد ترجعان إلى معنى، ولأن أكثر القراء على ذلك، وبذلك قرأ مجاهد وابن محيصن والأعرج وشبل، وبه قرأ قتادة وأبو عبد الرحمن وغيرهم، وكان أبو عمرو يقول: الأسرى الذين جاؤوا مستأمنين، والأسارى الذين في الوثاق والسجون أُخذوا قسرا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (53- قوله: {تعملون أولئك} قرأه الحرميان وأبو بكر بالياء،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
ردوه على قوله: {يردون} وعلى قوله: {أولئك الذين}، وقوله: {عنهم}، {ولاهم} فلما أتى كله بلفظ الغائب، حمل صدر الكلام عليه، وقرأ الباقون بالتاء، حملوه على ما تقدم من الخطاب في قوله: {يأتوكم أسارى}، و{محرم عليكم}، وقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، وقوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم}، فلما تكرر الخطاب حُمل عليه، وهو الاختيار لكثرة ما قبله من الخطاب؛ ولأن أكثر القراء عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (30- {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} [آية/ 85]:-
بتخفيف الظاء، قرأها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي، وكذلك {تَظَاهَرَا} في المتحرم.
ووجه ذلك أن الأصل تتظاهرون، فاستثقلوا اجتماع التاءين سيما مع حرف مقارب لهما في المخرج وهو الظاء، فحذفوا التاء الثانية كراهة اجتماع المثلين مع المقارب. وإنما حذفوا الثانية دون الأولى؛ لأن هذه الثانية هي التي يلحقها الإعلال بالإسكان والإدغام في الماضي نحو: {ادّارَأْتُمْ}
[الموضح: 287]
و {ازَّيَّنَتْ} في تدارأتم وتزينت، ثم إن الأولى جاءت لمعنى المضارعة، فلو حذفت لزال ذاك المعنى.
وقرأ الباقون (تَظَّاهَرُون) بتشديد الظاء، والأصل: تتظاهرون كما سبق، فأدغموا التاء الثانية في الظاء للمقاربة التي بينهما كراهة ما كرهه الآخرون من اجتماع المثلين والمقارب، فخفف هؤلاء بالإدغام ما خفف أولئك بالحذف). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (31- (أسْرى) [آية/ 85]:
قرأ حمزة وحده (أسْرى) بغير ألف.
وذلك لأن أسرى أقيس من الأسارى؛ لأن فعيلاً إنما جاء جمعه على فعلى نحو: قتيل وقتلى وجريح وجرحى، وأصل ذلك إنما يكون لما كان بمعنى مفعول، وقد حمل عليه أشياء وقعت مقاربة له في المعنى نحو مرضى وموتى وهلكى، لما كان هؤلاء مبتلين بهذه الأشياء التي وقعت على غير اختيارهم شبهوا بالجرحى والقتلى إذ كانوا أيضًا كذلك.
وقرأ الباقون {أُسارى} بالألف وضم الهمزة.
ووجه ذلك أن أسيرًا جمع ههنا على أُسارى تشبيهًا بكُسالى، لما كان الأسير ممنوعًا عن الكثير من تصرفه شبه بالكسلان الذي يمتنع عن ذلك بما فيه من العادة المذمومة التي هي الكسل، فلما أشبهه في المعنى شاركه في الجمع على فعالى). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (32- (تفدُوهُمْ) [آية/ 85]:-
بغير ألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر.
وذلك لأنه يقال: فديت الأسير بالمال، قال الله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ}، وجاء في ذلك أيضًا: فاديته، وقد قيل: إن فديت يكون بالمال، وفاديت بالأسير يقال فاديت أسيري بأسيرٍ آخر، وقيل فديته اشتريته من العدو وفاديته ما كسبت به العدو في الثمن.
وقرأ الباقون، تُفَادوُهُمْ} بالألف.
ووجهه عند من لم يفرق في المعنى بينهما، أن هذا من باب المفاعلة؛ لأنه يكون من كل واحدٍ من الآسر والمستنقذ فعل، فأحدهما يدفع الفداء والآخر يدفع الأسير، فلفظ المفاعلة به أليق). [الموضح: 289]

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:37 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (87) إلى الآية (88) ]


{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ (بروح القدس)
قرأ ابن كثير وحده، (بروح القدس) ساكنة الدال في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: (القدس) مثقلا حيث وقع.
قال أبو منصور: والقدس: الطهارة، وقيل: البركة.
وفيه لغتان:
قدس وقدس، والتخفيف والتثقيل جائزان، وأنشدني أعرابي:
لا نوم حتى تهبطي أرض القدس
وتشربي من خير ماءٍ بقدس
فثقّل كما ترى). [معاني القراءات وعللها: 1/164]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تحريك الدّال وتسكينها من قوله: بروح القدس.
فقرأ ابن كثير وحده: وأيّدناه بروح القدس [البقرة/ 87، 253] مسكّنة الدّال وكذلك في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: القدس مضمومة القاف والدّال.
[قال أبو عليّ]: قوله: وأيّدناه بروح القدس أيّدناه: فعّلناه، من الأيد والآد، وهو القوة، ومثل الأيد والآد في
[الحجة للقراء السبعة: 2/148]
بنائهما على فعل وفعل: العيب والعاب، والذّيم والذام، وجاء في أكثر الاستعمال على فعّلناه لتصحّ العين الثانية لسكون الأولى، وعلى هذا قوله: إذ أيّدتك بروح القدس [المائدة/ 110] ومن قال آيدناه صحّح العين، لأنه إذا صحّت في مثل: أجود، وأطيب، لزم تصحيحها في آيدناه لما كان يلزم من توالي الإعلالين. فمن التصحيح قوله:
ناو كرأس الفدن المؤيد ونظير هذا في كراهتهم توالي الإعلالين، ورفضهم ما يؤدي إليه قولهم: يودّ وتودّون أنّ غير ذات الشّوكة [الأنفال/ 7] فبنوا الماضي على فعل، ليلزمه في المضارعة يفعل. ولو كان الماضي فعل لكان المضارع مثل: يعد. فيلزم اجتماع إعلالين.
فأمّا روح القدس، فقال قتادة والسّدّيّ، والرّبيع والضّحّاك في روح القدس أنّه جبريل- وقال بعض المفسرين:
روح القدس: الإنجيل، أيّد الله عيسى به روحا، كما جعل القرآن روحا في قوله: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا
[الحجة للقراء السبعة: 2/149]
[الشورى/ 52] والقدس والقدس التخفيف والتّثقيل فيه حسنان... وكذلك ما كان مثله نحو: العنق والعنق والطنب والطنب. والحلم والحلم.
وحكى أبو الحسن عن عيسى اطّراد الأمرين فيهما. ومما يدلّ على حسن التثقيل جمعهم ما كان على فعلة على فعلات.
نحو غرفة وغرفات- وركبة وركبات وهذا الأكثر في الاستعمال.
ومنهم من كره الضمّتين- فأسكن العين أو أبدل منها الفتحة نحو: ركبات. وكذلك من أسكن العين منه، والضمّ أكثر كما كان ظلمات أكثر. وأسكن أبو عمرو خطوات وحرّك القدس لأن الحركات في الجمع أكثر منها في الفعل، فأسكن لتوالي الحركات واجتماع الأمثال، ولا يلزمه على هذا الإسكان في الظلمات.
وأما القدس في اللغة فإن أبا عبيدة وغيره قالوا في قوله: ونقدّس لك [البقرة/ 30] التّقديس: التطهير. وقال غيره: إن ابن عباس كان يقول: المقدس: الطاهر، وقال الرّاجز:
الحمد لله العليّ القادس قال: وقالوا: قدّس عليه الأنبياء، أي: برّكوا.
وقال رؤبة:
دعوت ربّ القوّة القدّوسا
[الحجة للقراء السبعة: 2/150]
قال: والمقدّس: المعظّم. وقال: قدّس عليه، أي:
برّك.
قال أبو عليّ: فكأنّ معنى نقدّس لك. ننزّهك عن السوء. فلا ننسبه إليك. ولا ما لا يليق بالعدل. وهذا الوصف في المعنى كقول أمية:
سلامك ربّنا في كلّ فجر... بريئا ما تغنّثك الذّموم
قال أبو عمر: سألت أبا مالك عن قوله: ما تغنّثك.
قال لا تعلّق بك. فاللام فيها على حدها في قوله:
ردف لكم [النمل/ 72] ألا ترى أن المعنى تعظيمه وتنزيهه.
وليس المعنى أنه ينزّه شيء من أجله. ومثل ذلك في المعنى قولهم: سبحان الله، إنما هو براءة الله من السوء وتطهيره منه، ثم صار علما لهذا المعنى، فلم يصرف في قوله:
سبحان من علقمة الفاخر
[الحجة للقراء السبعة: 2/151]
وروح القدس: جبريل كأنّه منسوب إلى الطّهارة، وذلك أنّه ممّن لا يقترف ذنبا، ولا يأتي مأثما، كما قد يكون ذلك من غيره.
وقولنا في صفة الله تعالى: القدّوس: أي: الطاهر المنزّه عن أن يكون له ولد، أو يكون في حكمه وفعله ما ليس بعدل.
فأمّا قولهم: بيت المقدس وقول الراجز:
الحمد لله العليّ القادس فيدلّ على أنّ الفعل قد استعمل من التقديس بحذف الزيادة، أو قدّر ذلك التقدير. فإذا كان كذلك لم يخل المقدس من أن يكون مصدرا أو مكانا. فإن كان مصدرا كان كقوله:
إليّ مرجعكم [لقمان/ 15] ونحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال. وإن كان مكانا فالمعنى فيه: بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة، وأضيف إلى الطهارة لأنه منسك كما جاء: أن طهّرا بيتي للطّائفين [البقرة/ 125] وتطهيره على إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، وكما جاء: فاجتنبوا الرّجس من الأوثان [الحج/ 30] كذلك وصف بخلاف الرّجس إذا أخلي منها، ومما لا يليق بمواضع النّسك، وإن قدّرت «المقدس» المكان لا المصدر كان المعنى: بيت مكان الطّهارة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/152]
فأمّا ما حكاه قطرب: من أنّهم يقولون قدّس عليه الأنبياء. أي: برّكوا عليه فليس يخلو هذا المقدّس عليه من أن يكون موضع منسك، أو يكون إنسانا. فإن كان موضع نسك، فهو كدعاء إبراهيم عليه السلام للحرم ربّ اجعل هذا البلد آمناً [إبراهيم/ 35]، فكذلك يجوز أن يكون تبريك الأنبياء دعاء منهم له بالتّطهير. وإن كان إنسيّا فهو كقوله:
واجعله ربّ رضيًّا [مريم/ 6] وكما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من دعائه للحسن والحسين، وهذا يؤول إلى ذلك المعنى، وكذلك من قال: المقدّس: المعظّم، إنما هو تفسير على المعنى، وكثيرا ما يفعل المفسّرون من غير أهل اللغة، ذلك لمّا رأوا ذلك لا يفعلون إلا بشيء يراد تعظيمه وتبرئته من غير الطّهارة. فسّروه بالمعظّم على هذا المعنى. والأصل: كأنّه التطهير الذي فسّره أبو عبيدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/153] (م)
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي عمرو [وَآيَدْنَاه].
قال ابن مجاهد -على ما علمناه: ممدوة الألف خفيفة الياء. وقد رُوى عن مجاهد في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُك} آيدتك، قال ابن مجاهد: على فاعلتك.
قال أبو الفتح: هذا الذي توهمه ابن مجاهد، وأن آيدتك فاعلتك لا وجه له، وإنما آيدتك أفعلتك من الأَيْد؛ وهو القوة.
وقال أبو علي: إنما كثر فيه أيَّدتك فعَّلتك؛ لما يعرض في آيدتُك من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين في آيدتك. وأنشدنا قوله:
يُنْبي تجاليدي وأَقتادَها ... ناوٍ كرأس الفدَنِ الْمُويَد
[المحتسب: 1/95]
فهذا من آيدته؛ أي: قويته؛ لأنه مُفعَل كمُكْرَم ومُقتَل ومُؤدَم، ولو كان آيدتك -كما ظن ابن مجاهد فاعلتك- لكان اسم المفعول منه مُؤايَد كمقاتَل ومضارَب؛ ولكن قراءة من قرأ: [آتَيْنَا بِهَا] فاعلنا، ولو كان أفعلنا لما احتاج إلى حرف الجر؛ لأنه إنما يقال: أتيت زيدًا بكذا وآتيته؛ كقولك: أعطيته كذا، فكذاك لو كان آتينا أفعلنا لكان آتيناها كقولك: أعطيناها، أنت لا تقول: آتيته بكذا، كما لا تقول: أعطيته بكذا، فقوله في تلك القراءة: [آتيناها] كقولك: حاضرنا بها، وشاهدنا بها، وهذا واضح.
ومعنى قول أبي علي: لو جاء آيدتك على ما يجب في مثله من إعلال عين أفعلت إذا كانت حرف علة فأقمت زيدًا وأشرته وأبعته -أي: عرضته للبيع- لتتابع فيه إعلالان؛ لأن أصل آيدت: أَأْيدت، كما أن أصل آمن: أَأْمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفًا لاجتماع الهمزتين في كلمة واحدة، والأولى منهما مفتوحة والثانية ساكنة، فهي كآمن وآلف، وفي الأسماء نحو: آدم وآدر.
فكان يجب أيضًا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوًا؛ لأنها قد تحركت وانفتح ما قبلها، ولَا بُدَّ من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها، كما قلبت في تكسير آدم أوادم، فكان يلزم على هذا أن تقول: أَوَدتُه كأَقَمْتُه وأدرته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوًا فتعتل الفاء والعين جميعًا، وإذا أدى القياس إلى هذا رُفض، وكثر فيه فعَّلْتُ أيدت ليؤمن ذانك الاعتلالان، فلما استُعمل شيء منه جاء قليلا شاذًّا؛ أعني: آيدت.
وإذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت، وهي حرف علة على الصحة نحو قوله:
صددت فأَطولتِ الصدود
وقولهم: أغيلت المرأة، وأغيمت السماء، وأَخْوصَ الرِّمثُ، وأعوز القوم،
[المحتسب: 1/96]
وأليث الشجر، وأسوأَ الرجل. ولو خرج على منهج إعلال مثله لم يُخَفْ فيه توالي إعلالين كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب إعلال عينه من اجتماع إعلالها مع إعلال الفاء قبلها أولى وأجدر؛ فقد ثبت أن قراءة مجاهد: [إذ آيدتك] إنما هو أفعلتك لا فاعلتك، كما ظن ابن مجاهد). [المحتسب: 1/97]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس}
قرأ ابن كثير {وأيدناه بروح القدس} بإسكان الدّال في جميع القرآن كأنّه استثقل الضمتين وحجته قول الشّاعر
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
[حجة القراءات: 105]
وقرأ الباقون بضم الدّال وهو الأصل). [حجة القراءات: 106]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (54- قوله: {القدس} هذا الكلام وقع بعد قصة «يعملون» قرأه ابن كثير بالإسكان حيث وقع على الاستخفاف لتوالي ضمتين، وهي لغة، تقول العرب، الحُلْم والحُلُم، والطُنْب والطُنُب، والقُدْس والقُدُس، وقرأه الباقون بالضم على الأصل، وهو الاختيار؛ لإجماع القراء عليه، ولقلة حروف الكلمة وخفتها، وبذلك قرأ الحسن ومجاهد وابن أبي إسحاق ويحيى وطلحة والأعمش، وهو اختيار أبي حاتم وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (33- (الْقُدْسِ) [آية/ 87]:-
ساكنة الدال، قرأها ابن كثير وحده في جميع القرآن.
[الموضح: 289]
ووجهه أن القدس والقدس لغتان، وهو الطهارة، والقدس بإسكان الدال مخففة من القدس بضم الدال.
وقرأ الباقون {القُدُسِ} مضمومة الدال، وقد ذكرنا أن التخفيف والتثقيل في هذه الكلمة لغتان، والتثقيل هو الأصل، فأجراها هؤلاء على الأصل). [الموضح: 290]

قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ (قلوبنا غلفٌ)
قرأ أبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه (غلفٌ) بضم اللام.
وأسكنها الباقون.
قال أبو منصور: من قرأ (غلفٌ) فهو جمع غلاف، المعنى: قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك (قالها اليهود).
ومن قرأ (غلفٌ) بسكون اللام فهو جمع أغلف وغلفا، المعنى: قلوبنا في أوعية، كما قال آخرون: (قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه)، وهذا أعجب إليّ أن يقرأ به الشاهد الذي ذكرت من الكتاب، مع أن غلف إذا كان جمع غلاف جاز تسكين اللام معه، كما يقال: مثالٌ ومثلٌ). [معاني القراءات وعللها: 1/165]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال أحمد: وكلّهم قرأ (غلف) مخففة [البقرة/ 88].
وروى أحمد بن موسى اللؤلؤيّ، عن أبي عمرو أنه
[الحجة للقراء السبعة: 2/153]
قرأ: غلفٌ بضم اللام والمعروف عنه التخفيف.
قال أبو علي: ما يدرك به المعلومات من الحواسّ وغيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنّه لا يعلم به، وصف بأنّ عليه مانعا من ذلك، ودونه حائلا. فمن ذلك قوله: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها [محمد/ 24] كأنّ القفل لما كان حاجزا من المقفل عليه، وحائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا، جعل مثلا للقلوب في أنّها لا تعي ولا تفقه. وكذلك قوله: لقالوا إنّما سكّرت أبصارنا [الحجر/ 15] أي: قد حارت وحسرت، فلا تدرك ما تدركه على حقيقة. فكأنّ شدة عنادهم يحملهم على الشكّ في المشاهدات. وكذلك قوله:
الّذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذكري [الكهف/ 101] فهذا كقوله: بل هم منها عمون [النمل/ 66] وكقوله: صمٌّ بكمٌ عميٌ [البقرة/ 18] لأن العين إذا كانت في غطاء لم ينفذ شعاعها، فلم يقع بها إدراك، كما أن الثّقل إذا كان في الأذن لم يسمع بها. فقوله: وفي آذاننا وقرٌ [فصلت/ 5] المعنى فيه: أنها لا تسمع للوقر فيها، كما لا تبصر العين في الغطاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/154]
فقوله: وقالوا قلوبنا غلفٌ [البقرة/ 88] فيمن أسكن اللام التي هي عين جمع أغلف، كما أن حمرا جمع أحمر.
فإذا كان جمع أفعل لم يجز تثقيله إلا في الشّعر.
قال أبو عبيدة: كلّ شيء في غلاف فهو أغلف. قالوا:
سيف أغلف وقوس غلفاء ورجل أغلف: لم يختن.
فقوله: (أغلف): إذا كان في غلاف في المعنى، كقوله:
وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ [فصلت/ 5] كأنها إذا كانت في أكنّة لم ينتفع بها فيما [ينتفع فيه] بالقلب. كما أن العين إذا كانت عليها غشاوة أو كانت في غطاء، لم تبصر. فإذا كان كذلك، كان الوجه الإسكان في اللام التي هي عين، كما اتفقوا عليه، إلا ما رواه اللّؤلؤيّ عن أبي عمرو من تحريك العين.
ومجازه على وجهين: أحدهما أن يكون قوله: قلوبنا غلفٌ أي ذوات غلف فيكون في المعنى كقوله: غلفٌ، وأنت تريد به جمع أغلف. لأنها إذا كانت ذوات غلفٌ فهي في المعنى غلفٌ فتكون كلتا القراءتين تؤول إلى معنى واحد، إلا أن الإسكان أولى، لأن الكلام يحمل على ظاهره من غير حذف مضاف إليه فيه.
والوجه الآخر ما روي عن ابن عباس: من أنّهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم ما أتيت به ممّا تدعونا إليه» أو نحو ذلك- فغلف في المعنى مثل الأوعية،
[الحجة للقراء السبعة: 2/155]
ألا ترى أنّ وعاء الشيء غلاف له). [الحجة للقراء السبعة: 2/156]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:38 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (89) إلى الآية (91) ]


{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}

قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أن ينزّل اللّه من فضله)
قرأ ابن كثير:، ينزل، و(منزلها) و، منزلٌ من ربّك) و(منزلين) و(نزل به) ونحو هذا من الفعل الذي أوله ياء أو نون
[معاني القراءات وعللها: 1/165]
أو ميم كالتخفيف في كل القرآن، إلا في ثلاثة مواضع فإنه يشددهن، قوله في الحجر: (وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ)، وقوله في بني إسرائيل: (وننزل من القرآن) وقوله: (حتّى ينزل علينا كتابًا نقرأه).
وقرأ أبو عمرو بالتخفيف أيضًا إلا حرفين قوله في الأنعام: (قادرٌ على أن ينزّل آيةً) وفي الحجر: (وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ).
وقرأ نافع وعاصم بتشديد كل ما في أوله ياء وتاء أو نون، إلا قوله: (نزل به الروح الأمين) و(وما نزل من الحقّ) فإن نافعا وحفصا خففاهما، وقد شددهما أبو بكر.
وخفف نافع ما أوله ميم، إلا قول: (إنّي منزّلها عليكم) فإنهما شددا.
وزاد حفصٌ على أبي بكر: (أنّه منزّلٌ من ربّك بالحقّ)، في الأنعام فشدد.
وقرأ ابن عامر بتشديد ذلك كله.
[معاني القراءات وعللها: 1/166]
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد ما أوله تاء أو نون أو ياء في جميع القرآن إلا في حرفين:
أحدهما في لقمان: (وينزل الغيث)، والآخر في: عسق: (وهو الّذي ينزل الغيث) خففا هذين الحرفين، وخففا ما في أوله ميم حيث وقع في القرآن.
قال أبو منصور: العرب تقول: نزّلت القوم منازلهم، وأنزلتهم منازلهم بمعنى واحد.
ومنهم من يستعمل التشديد فيما يتكرر ويكثر العمل فيه، ويخفف فيما لا يكثر ولا يتكرر). [معاني القراءات وعللها: 1/167]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الزاي من ينزّل [البقرة/ 90] وتخفيفها.
فقرأ نافع ينزّل مشدّدة الزاي إذا كان فعلا في أوله ياء أو تاء أو نون. فإذا كان في أول الفعل ميم لم يستمرّ فيه على وجه واحد، فكان يشدّد حرفا واحدا في «المائدة»: إنّي منزّلها عليكم [الآية/ 115] ويخفّف ما سواه، فإذا كان ماضيا ليس في أوّله ألف، وكان فعل ذكر خفّف الزاي مثل قوله: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] ومثل قوله: وما نزل من الحقّ [الحديد/ 16] ويشدّد سائر القرآن.
وكان ابن كثير يخفّف الفعل الذي في أوله ياء أو تاء أو نون في كلّ القرآن، إلا في ثلاثة مواضع: في الحجر: وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ [الآية/ 21] وفي بني إسرائيل: وننزّل من القرآن ما هو شفاءٌ [الآية/ 82] وفيها أيضا: حتّى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه [الآية/ 93] ولا يخفف: وما نزل من الحقّ [الحديد/ 16] ويخفّف منزّلها [المائدة/ 115] وينزّل [البقرة/ 90] ومنزلون [العنكبوت/ 34] ومنزلين [آل عمران/ 124]. ويخفّف: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193].
[الحجة للقراء السبعة: 2/156]
وقرأ أبو عمرو: ينزّل [البقرة/ 90] وما أشبهه بالتخفيف في جميع القرآن إلا حرفين: أحدهما في سورة الأنعام: قل إنّ اللّه قادرٌ على أن ينزّل آيةً [الآية/ 37] وفي الحجر: وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ [الآية/ 21]. ويخفف منزّلٌ، ومنزّلها، ومنزلون، ويشدّد: نزّل، في كل القرآن إلّا في قوله: نزل به الرّوح الأمين، فإنه يخفّفه.
وكان عاصم في رواية أبي بكر يشدّد: ينزّل وننزّل ومنزّلها في المائدة. ونزل من الحقّ [الحديد/ 16] ونزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] في كلّ القرآن.
وقال حفص عن عاصم: نزل به الرّوح الأمين خفيفة، وكذلك: وما نزل من الحقّ أيضا خفيفة.
وقال أبو بكر بن عياش: هما مشدّدان. وروى حفص عن عاصم أنه يشدّد أنّه منزّلٌ من ربّك بالحقّ في سورة الأنعام [الآية/ 114] ولا يشدّد منزّلها.
وقرأ ابن عامر بتشديد ذلك كلّه في جميع القرآن من منزّل وينزّل وينزّلون ومنزّلين. وفي الأنعام: أنّه منزّلٌ من ربّك بالحقّ. وفي سورة الشّعراء: نزل به الرّوح الأمين
[الحجة للقراء السبعة: 2/157]
[الآية/ 193] وما نزل من الحقّ في سورة الحديد [الآية/ 16] يشدّد ذلك كلّه.
وقرأ حمزة والكسائيّ: وننزّل وينزّل، ونزل به الرّوح الأمين وما نزل من الحقّ مشدّدا في كل القرآن، إلا حرفين في سورة لقمان: وينزّل الغيث [لقمان/ 34] وفي سورة (عسق): وهو الّذي ينزّل الغيث [الشورى/ 28] ويخفّفان منزّلٌ ومنزلون ومنزلين حيث وقع.
قال أبو علي: نزل فعل غير متعدّ إلى مفعول به. فإذا أردت تعديته إليه عدّيته بالأضرب الثلاثة التي يتعدّى بها الفعل وهي النّقل بالهمزة، وبحرف الجرّ، وبتضعيف
العين. يدلّك على أنّه غير متعدّ قولهم في مصدره: النزول. فالنّزول كالصّعود والخروج والقفول، ونحو ذلك من المصادر التي لا تتعدى أفعالها في أكثر الأمر. فممّا نقل بالهمزة قوله: وأنزل الّذين ظاهروهم من أهل الكتاب. [الأحزاب/ 26] وممّا عدّي بالجارّ قولهم: نزلت به، ويكون منه: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] فيمن رفع الروح. وقال: الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب [الكهف/ 1] وقال وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم [النحل/ 44] وقال: نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً.... وأنزل التّوراة.... وأنزل الفرقان وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكثٍ ونزّلناه تنزيلًا [الإسراء/ 106]
[الحجة للقراء السبعة: 2/158]
فقد رأيت مرّة يجيء التنزيل على أنزل ومرّة على نزّل.
ومما يبيّن ذلك أنه قد جاء في بعض القراءة: وأنزل الملائكة تنزيلا [الفرقان/ 25] كأنّه لما كان نزّل وأنزل بمعنى، حمل مصدر أحدهما على الآخر، وقد كثر مجيء التنزيل في القرآن، فهذا يقوي (نزّل) ولم نعلم فيه الإنزال.
وقد جاء فيه أنزل كثيرا.
فأمّا قوله: نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً [آل عمران/ 3] فالكتاب مفعول به.
وقوله: بالحقّ في موضع نصب بالحال وهو متعلّق بمحذوف، ومصدّقاً حال من الضمير الذي في قولك:
بالحقّ والعامل فيه المعنى، ولا يجوز أن تجعله بدلا لأنّ الاسم إنّما يبدل من الاسم. وقال: وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل [الإسراء/ 105] فقوله: بالحقّ أنزلناه حال من الضمير. فأمّا قوله: وبالحقّ نزل. فيحتمل الجارّ فيه ضربين: أحدهما: أن يكون التقدير نزل بالحقّ، كما تقول:
نزلت بزيد، ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في نزل، يدلّك على جواز ذلك قوله: وبالحقّ نزل، وقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/159]
أنزل عليك الكتاب بالحق [آل عمران/ 3] وهذا اتفاق في مذهب الفريقين، ومثل ذلك في احتماله الوجهين قوله: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] في من رفع الرّوح. يكون الجارّ مثل الذي في مررت بزيد، ويكون حالا، كما تقول: نزل زيد بعدّته، وخرج بسلاحه وفي التنزيل: وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به [المائدة/ 61].
ومما لا يكون إلا حالا قوله: والّذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّلٌ من ربّك [الأنعام/ 114] ألا ترى: أنّ أنزلت يتعدّى إلى مفعول واحد؟ فإذا بنيته للمفعول لم يبق له متعدّى إلى مفعول به، وقوله: من ربّك على حدّ ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه وبالحقّ حال من الذّكر الذي في منزّلٌ، والعامل فيه منزل.
ومما جاء الجارّ فيه حالا، كما جاء في الآي الأخر:
أنزله بعلمه [النساء/ 166] المعنى: أنزله وفيه علمه، كما أنّ: خرج بعدّته، تقديره: خرج وعليه عدّته. والعلم:
المعلوم، أي: أنزله وفيه معلومه. ومثل ذلك الصيد يراد به:
المصطاد. يدلّك على إرادتهم به المصطاد قوله: ليبلونّكم اللّه بشيءٍ من الصّيد تناله أيديكم ورماحكم [المائدة/ 94] فالأيدي والرّماح إنما تلحق الأعيان ولا تلحق الأحداث.
وأما قوله: وما نزل من الحقّ [الحديد/ 16] فمن
[الحجة للقراء السبعة: 2/160]
خفّف نزل كان (ما) بمنزلة الذي، وفيه ذكر مرفوع يعود إلى ما، ولا يجوز فيمن خفّف أن يجعل (ما) بمنزلة المصدر مع الفعل كأن، لأنّ الفعل يبقى بلا فاعل ولا يجوز فيمن جوّز زيادة (من) في الإيجاب أن يكون: الحقّ مع الجارّ في موضع الفاعل.
وقد جعلت (ما) بمنزلة الذي، لأنه لا يعود إلى الموصول شيء. ومن شدّد كان الضمير الذي في نزل لاسم الله، والعائد محذوف من الصّلة.
فأمّا دخول الجارّ فلأن (ما) لما كان على لفظ الجزاء حسن دخول (من) معه، كما دخلت في نحو فما يك من خير أتوه...
فإذا كان كلّ واحد من نزل وأنزل يستعمل كما يستعمل الآخر، ويعنى به ما يعنى بالآخر، لم ينكر أن يوقع كل واحد منهما موضع الآخر، وكذلك ما تصرّف من ذلك. كأسماء الفاعلين، فتقرأ: (منزلون ومنزلون) لأن كل واحد منهما بمنزلة الآخر، كما أنّ الفعل الذي جريا عليه كذلك. وهذا مما يعلم منه أنّ (فعّل) بمنزلة (أفعل)، وأن تضعيف العين للتعدّي وليس يراد به الكثرة كما أريد في نحو: وغلّقت الأبواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/161]
[يوسف/ 23] ولكن فعّل بمنزلة أفعل.
وقد قال سيبويه: قد يجيء فعّلت، وأفعلت بمعنى واحد مشتركين وذلك نحو: وعزت إليه، وأوعزت، وخبّرت وأخبرت، وسمّيت وأسميت.
فأمّا تخفيف حمزة والكسائي في لقمان: وينزّل الغيث [الآية/ 34] وفي (عسق) وهو الّذي ينزّل الغيث [الشورى/ 28] فلو شدّدا ذلك كما شدّدا غيره كان حسنا، ولو خفّفا بعض ما شدّدا كان كذلك. ويشبه أن يكونا اعتبرا في تخفيف ذلك كثرة ما جاء في التنزيل في ذكر الغيث فحملا اسم الفاعل على ذلك. فمن ذلك قوله: وأنزلنا من السّماء ماءً بقدرٍ فأسكنّاه في الأرض [المؤمنون/ 18]، ألم تر أنّ اللّه أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضرّةً [الحج/ 63] أنزل من السّماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض [الزمر/ 21] يشبه أن يكونا لمّا رأياه بهذه الكثرة، حملا اسم الفاعل عليه.
فأمّا قوله: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ [الزمر/ 6] وقوله: وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ [الحديد/ 25] فكأنّ المعنى فيه: خلق، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى ثمانية أزواج وذلك محمول على أنشأ، كأنه: وأنشأ ثمانية أزواج). [الحجة للقراء السبعة: 2/162]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {أن ينزل الله} بالتّخفيف في جميع القرآن وحجتهما في الآية {أن يكفروا بما أنزل الله} ولم يقل نزل الله وأبو عمرو قرأ في الأنعام بالتّشديد {قل إن الله قادر على أن ينزل آية} بالتّشديد لأن قبلها {لولا نزل عليه} وما ننزله إلّا بقدر معلوم لأنّه شيء بعد شيء فكأنّه لما تردد وطال نزوله شدده لتردده وابن كثير خالف مذهبه في سورة سبحان فقرأ بالتّشديد كأنّه أراد أن يجمع بين اللغتين
وقرأ الباقون جميع ذلك بالتّشديد وحجتهم أن نزل وأنزل لغتان مثل نبأته وأنبأته وأعظمت وعظمت وفي التّنزيل {ويقول الّذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة} فجاء باللغتين وقرأ حمزة والكسائيّ في لقمان وعسق بالتّخفيف وحجتهما قوله {وأنزلنا من السّماء ماء}). [حجة القراءات: 106]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (55- قوله: {ينزل}، {وتنزل} قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف حيث وقع، إذا كان رباعيًا جعلاه مستقبلًا من «أنزل»، وذلك في القرآن كثير بإجماع نحو: {وأنزل الفرقان} «آل عمران 4» و{أنزل التوراة} «آل عمران 3»، و{الحمد لله الذي أنزل} «الكهف 1»، و{بالحق أنزلناه} «الإسراء 105» وخالف ابن كثير في موضعين في سبحان فشددهما، وجعلهما من «نزل» وهما قوله تعالى: {وننزل من القرآن} «الإسراء 82»، {حتى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
تنزل علينا} «الإسراء 93» وكذلك المشدد المشدد في الحجر في قوله: {وما ننزله إلا بقدر} «21» وإنما خص هذين الموضعين، ليبين بالتشديد معنى التكرير في النزول؛ لأن التشديد يدل على التكرير، فلما كان القرآن ينزل شيئًا بعد شيء شدد، ليدل على هذا المعنى، إذ لو خفف لجاز أن ينزل مرة واحدة على النبي عليه السلام، ولم يكن كذلك، وشدد {وما ننزله إلا بقدر} ليدل على نزول المطر شيئًا بعد شيء، إذ لو خفف لجاز أن ينزل المطر مرة واحدة، وليس الأمر كذلك، والتشديد للتكرير في الفعل، فهو يدل على هذه المعاني، وخالف أيضًا أبو عمرو في موضعين، فشدد قوله في الأنعام: {قادر على أن ينزل} «37» فشدده حملًا على صدر الكلام لأن قبله: {وقالوا لولا نزل عليه}، ومستقبل «نزّل» «ينزّل» فحمله على ما قبله، وأجراه عليه، وعلى لفظه، والموضع الثاني في الحجر: {وما ننزله إلا بقدر} «21» وقد مضت علته، وقرأ الباقون بالتشديد في ذلك كله، حملوه على «نزّل» والتشديد أبلغ؛ لأنه يدل على تكرير الفعل غير أن حمزة والكسائي خففا موضعين في لقمان: {وينزل الغيث} «24» وفي الشورى: {يُنزِّل الغيث} «28» جعلاه من «أنزل»، وحمله على قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت} «الرعد 17» وكله في نزول القطر). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/254]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (34- {أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِهِ} [آية/ 90]:-
بالتشديد، قرأها نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون {يُنْزِلاَ} بالتخفيف، وهما لغتان في متعدي نزل، أعني نزلته وأنزلته، وبعضهم يجعل المشدد لما يتكرر إنزاله، والمخفف فيما لا يتكرر، وقد ضعفه المحققون). [الموضح: 290]

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:05 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة

[من الآية (92) إلى الآية (96) ]

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}

قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}

قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}

قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أن يعمّر واللّه بصيرٌ بما يعملون (96).
اتفق القراء على (بما يعملون) بالياء إلا الحضرمي فإنه قرأ بالتاء). [معاني القراءات وعللها: 1/167]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (35- {وَالله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آية/ 96]:-
بالتاء في عشر المائة، قرأها يعقوب وحده؛ لأنه جعل ذلك من جملة القول، وجعله متصلاً بقوله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وجعل ما بينهما
[الموضح: 290]
اعتراضًا، فلهذا صيره خطابًا.
وقرأ الباقون بالياء، على الغيبة، حملاً له على ما يليه وهو قوله تعالى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} إلى آخر الآية). [الموضح: 291]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:06 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (97) إلى الآية (100) ]


{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}


قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (من كان عدوًّا لجبريل.. (97).
قرأ ابن كثير: (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء بغير همز، و(ميكائيل) مهموزا ممدودا.
وروى شبل: (ميكائل) مقصورا مهموزا.
[معاني القراءات وعللها: 1/167]
مثل نافع، وقرأ نافع: (جبريل) بكسر الجيم والراء.
وقرأ حمزة والكسائي (جبرئيل) مثل (جبرعيل).
وقرأ أبو بكر: (وجبرئل، مثل (جبرعل).
وقرأ الباقون (جبريل)، بغير همز، إلا أن ابن كثير فتح الجيم، وكسرها الباقون.
قرأ أبو عمرو وحفص (ميكال) بغير ياء، وقرأ نافع بالهمز (ميكائل)، الباقون (ميكائيل) بياء بعد همزة). [معاني القراءات وعللها: 1/168]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن يعمر: [جَبرَئِلّ] مشددة اللام، بوزن جبرَعِل، وعنه أيضًا وعن فياض بن غزوان: [جَبْرَائيل] بوزن جَبْرَاعيل، بهمزة بعد الألف، وبهذا الوزن من غير همز بياءين عن الأعمش، و[مِيكاييل] من غير همز أيضًا ممدود، وقرأ [مِيكَئِلَ] بوزن ميكعل ابن هرمز الأعرج وابن محيصن.
قال أبو الفتح: أما على الجملة فقد ذكرنا في كتابنا هذا وفي غيره من كتبنا: أن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، وأنشدنا في ذلك ما أنشدَناه أبو علي من قول الراجز:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْت اليومَ كالمزَرَّج
يريد: الذي شرب الزَّرجون وهي الخمر، وأنه كان قياسه المزرجن؛ من حيث كانت النون في الزرجون أصلية. نعم، وذكرنا أنهم قد يحرفون ما هو من كلامهم، فكيف ما هو من كلام غيرهم؟ إلا أن جبرَئِل قد قيل فيه: إن معناه عبد الله؛ وذلك أن الجبر بمنزلة الرجل، والرجل عبد الله، ولم يسمع الجبر بمعنى الرجل إلا في شعر ابن أحمر، وهو قوله:
اشرب براووق حُبيت به ... وانْعم صباحًا أيها الجبر
قالوا: وإلٌّ بالنبطية: اسم الله تعالى، ومن ألفاظهم في ذلك أن يقولوا: كورِيال، الكاف بين القاف والكاف، فغالب هذا أن تكون هذه اللغات كلها في هذا الاسم إنما يراد بها جبريال الذي هو كوريال، ثم لحقها من التحريف على طول الاستعمال ما أصارها إلى هذا التفاوت، وإن كانت على كل أحوالها متجاذبة يتشبث بعضها ببعض.
[المحتسب: 1/97]
واستدل أبو الحسن على زيادة الهمزة في [جَبْرَئيل] بقراءة مَن قرأ {جبْريل} ونحوه، وهذا كالتعسف من أبي لحسن لما قدمناه من التخليط في الأعجمي، ويلزم فيه زيادة النون في زرجون؛ لقوله: كالمزرج، والقول ما قدمناه.
وأما [جَبْرايِيل ومِيكاييل] بباءين بعد الألف والمد فيقْوَى في نفسي أنها همزة مخففة وهي مكسورة، فخفيت وقربت من الياء فعبر القراء عنها بالياء، كما ترى في قوله عز وجل: [آلاء] عند تخفيف الهمز "آلاي" بالياء؛ وسبب ذلك ما ذكرناه من خفاء الهمزة المكسورة وقربها بذلك من لفظ الياء، كما قالوا في "شهر رمضان" في إدغام أبي عمرو: إن الراء من شهر مدغمة في راء رمضان، وهيهات ذلك مذهبًا، وعز مطلبًا، حتى كأنا لم نعلم أن الهاء في شهر ساكنة، وإذا أُدغمت الراء في راء رمضان التقى ساكنان ليس الأول منهما حرف مد كشبابَّة ودابَّة، ولا يكون ذلك إلا أن تنقل حركة الراء الأولى إلى الهاء قبلها، ولو فُعل ذلك لوجب أن يقال: شَهُرّ رمضان بضم الهاء، وليس أحد من القراء يدَّعي هذا فيه: مَن أدغم ومَن لم يدغم.
وأيضًا، فإنه إذا كان هذا النقل فإنما يكون في المتصل، نحو: يستعدّ ويردّ ويفرّ، فأما في المنفصل فإن ذلك لن يجيء في شيء منه إلا في حرف واحد شاذ اجتمع فيه شيئان، كل واحد منهما يحتمل التغيير له:
أحدهما: كونه علمًا، والأعلام فيما يكثر فيه ما لا يكون في غيره، نحو: معديكرب ومَوْهَب وتَهْلَل وحَيْوَة.
والآخر: كثرة استعماله، وهم لما كثر استعماله أشد تغييرًا، وذلك الحرف قولهم في عبد شمس: هذه عَبُشَمسَ بفتح السين، وأنت لا تقول في نحو هذا قوم موسى: هذا قَوْمُّوسى؛ لما ذكرناه من أن المنفصل في هذا النحو لم تنقله العرب كما نقلت المتصل.
فعلى هذا ينبغي أن نوجه قولهم في [جَبْرايِيل وميكاييل] ببياءين والمد؛ وذلك لأن المد إنما كان فيه لبقاء نية الهمزة المخففة ولفظه فيه، هذا هو القول؛ كقولهم بالمد، وإن كانت الألف والياء بعدها أتَمَّ صوتًا وأبعد ندى منها وبعدها غيرها من الحروف الصحاح، نحو: غرابيل وسرابيل وسراحين وميادين، وقد يجوز من بعد هذا أن تكون ياء صريحة من حيث كان الأعجمي يُتلَعَّبُ فيه بالحروف تَلَعُّبًا، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/98] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (56- قوله: {جبريل} قرأه ابن كثير بفتح الجيم، وبياء بعد الراء، مع كسرها من غير همز، ومثله أبو بكر، غير أنه همز همزة مكسورة بعد الراء، وفتح الراء، ومثله حمزة والكسائي، غير أنهما زادا ياء بعد الهمزة، وقرأ الباقون
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/254]
«جبريل» بكسر الجيم والراء، وبياء بعد الراء من غير همز، وهذه كلها لغات فيه، و«جبريل» اسم أعجمي، فمن كسر الجيم أتى به على مثال كلام العرب، فهو كـ «قنديل ومنديل» ومن فتح أتى به على خلاف كلام العرب، ليعلم أنه ليس من كلام العرب، وأنه أعجمي، وكذلك فعل من همز، ومن أثبت ياء بعد الهمزة أتى به على خلاف كلام العرب، ليُعلم أنه أعجمي، ليس من أبنية كلام العرب، وفيه لغات غير هذا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/255]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (36- {جِبْرِيلَ} [آية/ 97 و98]:-
بكسر الجيم والراء غير مهموز، قرأها نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب و- ص- عن عاصم.
اعلم أن الأحسن عندهم في بناء الاسم الأعجمي ما وافق أبنيتهم؛ لأنه يكون حينئذٍ أذهب في باب التعريب، فجبريل بوزن قنديل وشمليل.
وروى ياش- عن عاصم (جَبْرَئِلَ) بفتح الجيم والراء وبالهمز على وزن: جبرعل، وهذا أيضًا موافق لبناء قهبلس وجحمرش.
وقرأ حمزة والكسائي (جَبْرَئِيل) بفتح الجيم والراء وبهمزةٍ بعدها ياء على
[الموضح: 291]
وزن: جبرعيل، وهذا قد وافق قولهم: دردبيس وقمطرير، وهذه لغة مشهورة في هذا الاسم.
وقرأ ابن كثير (جَبريل) بفتح الجيم وكسر الراء غير مهموز، وهو مثال خارجٌ عن أبنية العرب وأمثلتهم، فهو يجري مجرى الابريسم والفرند والآجر ونحو ذلك مما تمحض في وزن الأعجمي ولم يوافق شيئًا من أبنيتهم، وقد تكلموا على ما نقل إليهم ولم يتصرفوا فيه). [الموضح: 292]

قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: جبريل وميكال [البقرة/ 98] في كسر الجيم وفتحها، والهمز وتركه. والهمز في ميكائيل، والياء بعد الهمز من (جبرئيل وميكائيل).
فقرأ ابن كثير (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، و (ميكائيل) مهموز في وزن ميكاعيل بعد الألف همزة، وياء بعد الهمزة. وروى محمد بن صالح البزّي عن شبل بن عباد عن عبد الله بن كثير: (جبريل) بلا همز و (ميكائل) مهموز مقصور. وكذلك روى محمد بن سعدان عن عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن عبد الله بن كثير (ميكائل) مهموز مقصور بزنة ميكاعل مثل نافع.
وحدّثني الحسين بن بشر الصوفيّ عن روح بن عبد المؤمن عن محمّد بن صالح عن شبل عن ابن كثير قال:
رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقرأ: جبريل وميكال فلا أقرأهما أبدا إلا هكذا.
وقرأ نافع: (جبريل) بكسر الجيم والراء من غير همز (وميكائل) بهمزة بعد ألف وقبل اللام، ليس بعدها ياء، في وزن ميكاعل.
وقرأ أبو عمرو: (جبريل وميكال) بغير همز. وكذلك روى حفص عن عاصم. وقرأ ابن عامر: (جبريل) مثل أبي عمرو (وميكائيل) بهمز بين الألف والياء ممدودة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/163]
وقرأ عاصم في رواية يحيى عن أبي بكر وحماد بن سلمة عن عاصم (جبرئل) بفتح الجيم والراء، وهمزة بين اللام والراء غير ممدودة في وزن: جبرعل، خفيفة اللام و (ميكائيل) في رواية يحيى بهمزة بعدها ياء.
وقال الكسائيّ وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عنه. وأبان عن عاصم: (جبرئيل وميكائيل) مثل حمزة، وكذلك روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم، وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم.
وروى (ميكائل) مهموزة مقصورة في وزن ميكاعل مثل نافع.
وروى محمّد بن سعدان عن محمّد بن المنذر عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عنه مثل حمزة.
وقرأ حمزة والكسائيّ (جبرئيل) و (ميكائيل) ممدودتين مهموزتين.
قال أبو علي: روينا عن أبي الحسن من طريق أبي عبد الله اليزيدي عن عمّه عنه أنه قال: في (جبريل) ستّ لغات: (جبرائيل، وجبرئيل، وجبرال، وجبريل، وجبرال، وجبريل) وهذه أسماء معرّبة، فإذا أتي بها على ما في أبنية العرب مثله، كان أذهب في باب التعريب.
يقوّي ذلك تغييرهم للحروف المفردة التي ليست من
[الحجة للقراء السبعة: 2/164]
حروفهم، كتغييرهم الحرف الذي بين الفاء والباء في قلبهم إياه إلى الباء المحضة، أو الفاء المحضة، كقولهم: البرند والفرند، وكذلك تغييرهم الحركة التي ليست في كلامهم كالحركة التي في قول العجم: «زور وآشوب» يخلّصونها ضمّة، فكما غيّروا الحروف والحركات إلى ما في كلامهم، فكذلك القياس في أبنية هذه الكلم، إلا أنّهم قد تركوا أشياء من العجمية على أبنية العجم التي ليست من أبنية العرب.
كالآجرّ، والإبريسم، والفرند، وليس في كلام العرب على هذه الأبنية، فكذلك قول من قال: (جبريل) إذا كسر الجيم كان على لفظ (قنديل، وبرطيل) وإذا فتحها فليس لهذا البناء مثل في كلام العرب، فيكون هذا من باب الآجرّ، والفرند، ونحو ذلك من المعرّب الذي لم يجيء له مثل في كلامهم. فكلا المذهبين حسن لاستعمال العرب لهما جميعا، وإن كان الموافق لأبنيتهم أذهب في باب التعريب. وكذلك القول في (ميكال وميكائيل) وميكال: بزنة قنطار وسرداح و (ميكائيل) خارج عن أبنية كلام العرب.
فأمّا القول في زنة (ميكال) فلا يخلو من أن يكون فيعالا أو مفعالا أو فعلالا. فلا يجوز أن يكون فيعالا، لأن هذا بناء يختصّ به المصدر كالقيتال، والحيقال، وليس هذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/165]
الاسم بمصدر، ولا يجوز أن يكون مفعالا، فيكون من أكل أو وكل، لأنّ الهمزة المحذوفة من ميكائيل محتسب بها في البناء، فإذا ثبت ذلك صارت الكلمة من الأربعة، وبنات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أوائلها، إلا الأسماء الجارية على أفعالها، وليس هذا على ذلك الحدّ. فإذا لم يكن كذلك، ثبت أن الميم أصل كما كانت الهمزة في إبراهيم ونحوه أصلا ليست بزيادة.
ولا يجوز أيضا أن يكون فعلالا، لأنّ الهمزة المحذوفة من البناء مقدرة فيه. ونظير ذلك في حذف الهمزة منه والاعتداد بها، مع الحذف [في البناء] قولهم: سواية، إنما هي سوائية: كالكراهية، وكذلك الهمزة المحذوفة من أشياء- على قول أبي الحسن- مقدّرة في البناء فكذلك الهمزة في ميكائيل.
فإن قلت: فلم لا تجعلها بمنزلة التي في حطائط وجرائض ؟
فإن ذلك لا يجوز، لأن الدّلالة لم تقم على زيادتها كما قامت في قولهم: جرواض. فهو إذن بمنزلة التي في برائل، وكذلك (جبريل) الهمزة التي تحذف منها ينبغي أن
[الحجة للقراء السبعة: 2/166]
يقدّر حذفها للتخفيف وحذفها للتخفيف لا يوجب إسقاطها من أصل البناء، كما لم يجز إسقاطها في سواية من أصل البناء، وإذا كان كذلك كانت الكلمة من بنات الخمسة.
وهذا التقدير يقوّي قول من قرأ: (جبريل وميكائيل) بالهمز لأنّه يقول: إن الذي قرأ: (جبريل) وإن كان في اللفظ مثل: برطيل، فتلك الهمزة عنده مقدرة. وإذا كانت مقدرة في المعنى، فهي مثل ما ثبت في اللفظ.
فأمّا (إسرافيل) فالهمزة فيه أصل، لأن الكلمة من بنات الأربعة، كما كانت الميم من ميكائيل كذلك.
فإسرافيل من الخمسة كما كان جبرئيل كذلك. والقول في همزة إسرافيل وإسماعيل وإبراهيم مثل القول في همزة إسرافيل في أنها من نفس الكلمة، والكلمة بها من بنات الخمسة. وقد جاء في أشعارهم الأمران: ما هو على لفظ التعريب، وما هو خارج عن ذلك قال:
عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد... وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا
وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/167]
وجبريل رسول الله منّا... وروح القدس ليس له كفاء
وقال:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة... يد الدّهر إلا جبرئيل أمامها
وقال كعب بن مالك:
ويوم بدر لقيناهم لنا مدد... فيه لدى النّصر ميكال وجبريل
وأما ما روي عن أبي عمرو من أنّه كان يخفف (جبريل) أو (ميكال) ويهمز (إسرائيل)، فما أراه إلا لقلّة مجيء (إسرال) بلا همز وكثرة مجيء (جبريل وميكال) في كلامهم والقياس فيهما واحد، وقد جاء في شعر أميّة (إسرال) قال:
لا أرى من يعيشني في حياتي... غير نفسي إلا بني إسرال
[الحجة للقراء السبعة: 2/168]
وليس قول من قال: إنّ (إيل، وإل) اسم الله، وأضيف ما قبلهما إليهما، كما يقال: عبد الله- بمستقيم من وجهين: أحدهما: أنّ (إيل، وإل) لا يعرفان في أسماء الله سبحانه في اللغة العربية، والآخر أنّه لو كان كذلك لم يتصرّف آخر الاسم في وجوه العربيّة، ولكان الآخر مجرورا، كما أنّ آخر عبد الله كذلك، ولو كان مضافا لوقع التعريب عليه على حدّ ما وقع في غيره من الأسماء المضاف إليها). [الحجة للقراء السبعة: 2/169]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن يعمر: [جَبرَئِلّ] مشددة اللام، بوزن جبرَعِل، وعنه أيضًا وعن فياض بن غزوان: [جَبْرَائيل] بوزن جَبْرَاعيل، بهمزة بعد الألف، وبهذا الوزن من غير همز بياءين عن الأعمش، و[مِيكاييل] من غير همز أيضًا ممدود، وقرأ [مِيكَئِلَ] بوزن ميكعل ابن هرمز الأعرج وابن محيصن.
قال أبو الفتح: أما على الجملة فقد ذكرنا في كتابنا هذا وفي غيره من كتبنا: أن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، وأنشدنا في ذلك ما أنشدَناه أبو علي من قول الراجز:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْت اليومَ كالمزَرَّج
يريد: الذي شرب الزَّرجون وهي الخمر، وأنه كان قياسه المزرجن؛ من حيث كانت النون في الزرجون أصلية. نعم، وذكرنا أنهم قد يحرفون ما هو من كلامهم، فكيف ما هو من كلام غيرهم؟ إلا أن جبرَئِل قد قيل فيه: إن معناه عبد الله؛ وذلك أن الجبر بمنزلة الرجل، والرجل عبد الله، ولم يسمع الجبر بمعنى الرجل إلا في شعر ابن أحمر، وهو قوله:
اشرب براووق حُبيت به ... وانْعم صباحًا أيها الجبر
قالوا: وإلٌّ بالنبطية: اسم الله تعالى، ومن ألفاظهم في ذلك أن يقولوا: كورِيال، الكاف بين القاف والكاف، فغالب هذا أن تكون هذه اللغات كلها في هذا الاسم إنما يراد بها جبريال الذي هو كوريال، ثم لحقها من التحريف على طول الاستعمال ما أصارها إلى هذا التفاوت، وإن كانت على كل أحوالها متجاذبة يتشبث بعضها ببعض.
[المحتسب: 1/97]
واستدل أبو الحسن على زيادة الهمزة في [جَبْرَئيل] بقراءة مَن قرأ {جبْريل} ونحوه، وهذا كالتعسف من أبي لحسن لما قدمناه من التخليط في الأعجمي، ويلزم فيه زيادة النون في زرجون؛ لقوله: كالمزرج، والقول ما قدمناه.
وأما [جَبْرايِيل ومِيكاييل] بباءين بعد الألف والمد فيقْوَى في نفسي أنها همزة مخففة وهي مكسورة، فخفيت وقربت من الياء فعبر القراء عنها بالياء، كما ترى في قوله عز وجل: [آلاء] عند تخفيف الهمز "آلاي" بالياء؛ وسبب ذلك ما ذكرناه من خفاء الهمزة المكسورة وقربها بذلك من لفظ الياء، كما قالوا في "شهر رمضان" في إدغام أبي عمرو: إن الراء من شهر مدغمة في راء رمضان، وهيهات ذلك مذهبًا، وعز مطلبًا، حتى كأنا لم نعلم أن الهاء في شهر ساكنة، وإذا أُدغمت الراء في راء رمضان التقى ساكنان ليس الأول منهما حرف مد كشبابَّة ودابَّة، ولا يكون ذلك إلا أن تنقل حركة الراء الأولى إلى الهاء قبلها، ولو فُعل ذلك لوجب أن يقال: شَهُرّ رمضان بضم الهاء، وليس أحد من القراء يدَّعي هذا فيه: مَن أدغم ومَن لم يدغم.
وأيضًا، فإنه إذا كان هذا النقل فإنما يكون في المتصل، نحو: يستعدّ ويردّ ويفرّ، فأما في المنفصل فإن ذلك لن يجيء في شيء منه إلا في حرف واحد شاذ اجتمع فيه شيئان، كل واحد منهما يحتمل التغيير له:
أحدهما: كونه علمًا، والأعلام فيما يكثر فيه ما لا يكون في غيره، نحو: معديكرب ومَوْهَب وتَهْلَل وحَيْوَة.
والآخر: كثرة استعماله، وهم لما كثر استعماله أشد تغييرًا، وذلك الحرف قولهم في عبد شمس: هذه عَبُشَمسَ بفتح السين، وأنت لا تقول في نحو هذا قوم موسى: هذا قَوْمُّوسى؛ لما ذكرناه من أن المنفصل في هذا النحو لم تنقله العرب كما نقلت المتصل.
فعلى هذا ينبغي أن نوجه قولهم في [جَبْرايِيل وميكاييل] ببياءين والمد؛ وذلك لأن المد إنما كان فيه لبقاء نية الهمزة المخففة ولفظه فيه، هذا هو القول؛ كقولهم بالمد، وإن كانت الألف والياء بعدها أتَمَّ صوتًا وأبعد ندى منها وبعدها غيرها من الحروف الصحاح، نحو: غرابيل وسرابيل وسراحين وميادين، وقد يجوز من بعد هذا أن تكون ياء صريحة من حيث كان الأعجمي يُتلَعَّبُ فيه بالحروف تَلَعُّبًا، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/98] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}
[حجة القراءات: 106]
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفض {وجبريل} بكسر الجيم والرّاء جعلوا جبريل اسما واحدًا على وزن قطمير وحجتهم قول الشّاعر
وجبريل رسول الله فينا ... ورورح القدس ليس له كفاء
وقرأ حمزة والكسائيّ (جبرئيل) بفتح الجيم والرّاء مهموزا قال الشّاعر
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة ... مدى الدّهر إلّا جبرئيل أمامها
وحجتهم ما روي عن النّبي صلى الله عليه أنه قال: إنّما جبرئيل وميكائيل كقولك عبد الله وعبد الرّحمن جبر هو العبد وإيل هو الله فأضيف جبر إليه وبني فقيل جبرئيل
وقرأ ابن كثير (جبريل) بفتح الجيم وكسر الرّاء مثل سمويل وهو اسم طائر قال عبد الله بن كثير رأيت رسول الله صلى الله عليه في المنام فأقرأني جبريل فأنا لا أقرأ إلّا كذلك
وقرأ يحيى عن أبي بكر (جبرئل) على وزن جبرعل وهذه لغة تميم وقيس
[حجة القراءات: 107]
وقرأ أبوعمرو وحفص {وميكال} بغير همز على وزن سربال وحجتهما قول من مدح النّبي صلى الله عليه
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النّصر ميكال وجبريل
وقرأ نافع (ميكائل) بهمزة مختلسة ليس بعدها ياء كأنّه كسرة الإشباع
وقرأ الباقون (ميكائيل) ممدودا وحجتهم ما روي عن النّبي صلى الله عليه أنه قال في صاحب الصّور
جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره قال الكسائي قوله جبرئيل وميكائيل وإبراهيم فإنّها أسماء أعجميّة لم تكن العرب تعرفها فلمّا جاءتها أعربتها فلفظت بها بألفاظ مختلفة). [حجة القراءات: 108]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (57- قوله: {ميكال} قرأه أبو عمرو وحفص «ميكال» على وزن «مفعال» ومثلهما نافع، غير أنه زاد همزة مكسورة بين الألف واللام، ومثله قرأ الباقون، غير أنهم زادوا ياء بعد الهمزة، وهذه القراءات لغات في هذا الاسم، وهو اسم أعجمي، غير أن من قرأه، على وزن «مفعال» أتى به على وزن أبنية العرب، فهو مثل «مفتاح»، ومن قرأه بغير ذلك أتى به على غير أبنية العرب، ليُعلم أنه أعجمي، خارج عن أبنية العرب، وقولنا في قراءة أبي عمرو وحفص أنه «مفعال» تمثيل؛ لأنه ليس بقوي، وإلا فلا يجوز أن يكون «مفعالًا»؛ لأنه رباعي إذ الهمزة المحذوفة يعتد بها، وبنات الأربعة لا يلحقها الزيادة في أولها، إلا في الأشياء الجارية على أفعالها، نحو: «مكرم، ومحسن» وليس «ميكال» من هذا الصنف، ولا يجوز أن يكون «فيعالا» لأن هذا الوزن قد اختصت به المصادر نحو: «القيتال، والحيقال»، وليس «ميكال» بمصدر،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/255]
ولا يجوز أن يكون «فعلالا» لأن الهمزة مقدرة فيه، فإنما هو اسم أعجمي كـ «إبراهيم، وإسماعيل»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/256]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (36- {جِبْرِيلَ} [آية/ 97 و98]:-
بكسر الجيم والراء غير مهموز، قرأها نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب و- ص- عن عاصم.
اعلم أن الأحسن عندهم في بناء الاسم الأعجمي ما وافق أبنيتهم؛ لأنه يكون حينئذٍ أذهب في باب التعريب، فجبريل بوزن قنديل وشمليل.
وروى ياش- عن عاصم (جَبْرَئِلَ) بفتح الجيم والراء وبالهمز على وزن: جبرعل، وهذا أيضًا موافق لبناء قهبلس وجحمرش.
وقرأ حمزة والكسائي (جَبْرَئِيل) بفتح الجيم والراء وبهمزةٍ بعدها ياء على
[الموضح: 291]
وزن: جبرعيل، وهذا قد وافق قولهم: دردبيس وقمطرير، وهذه لغة مشهورة في هذا الاسم.
وقرأ ابن كثير (جَبريل) بفتح الجيم وكسر الراء غير مهموز، وهو مثال خارجٌ عن أبنية العرب وأمثلتهم، فهو يجري مجرى الابريسم والفرند والآجر ونحو ذلك مما تمحض في وزن الأعجمي ولم يوافق شيئًا من أبنيتهم، وقد تكلموا على ما نقل إليهم ولم يتصرفوا فيه). [الموضح: 292] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (37- {وَمِيكّالَ} [آية/ 98]:-
غير مهموز، قرأها أبو عمرو ويعقوب و- ص- عن عاصم، وهو أكثر ارتضاءً عندهم؛ لأنه على وزن: فعلال من أبنيتهم كسرداح وقنطار وشملال.
وقرأ نافع (مِيكَائِل) ممدود بهمزة ليست بعدها ياء بوزن: ميكاعل.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي و- ياش- عن عاصم {ميكائيل}
[الموضح: 292]
بياء بعد الهمزة بوزن: ميكاعيل.
وهذان المثالان لا نظير لهما في أمثلة العرب، فهما أقعد في العجمة، والاسم الأعجمي إذا تكلمت به العرب أجرت عليه أحكام الأعراب، فصار مثل العربي في كثير من الأشياء وإن لم يوافق أمثلتهم فميكائيل، كميكاعيل أكثر في كلامهم وأشهر). [الموضح: 293]

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}

قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن رَوْح عن أبي السمال أنه قرأ: [أَوْ كُلَّمَا عَهِدُوا] ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: لا يجوز أن يكون سكون الواو في "أو" هذه على أنه في الأصل حرف عطف كقراءة الكافة: {أوَكلما}؛ من قِبَل أن واو العطف لم تُسكن في موضع علمناه، وإنما يسكن بعدها مما يُخلَط معها فيكونان كالحرف الواحد، نحو قول الله تعالى: [وَهْوَ اللَّه]، وقوله سبحانه: [وَهْوَ وَلِيُّهُم] بسكون الهاء، فأما واو العطف فلا تسكن من موضعين:
أحدهما: أنها في أول الكلمة، والساكن لا يبتدأ به.
والآخر: أنها هنا وإن اعتمدت على همزة الاستفهام قبلها فإنها مفتوحة، والمفتوح لا يسكن استخفافًا إنما ذلك في المضموم والمكسور نحو: كرْم زيد وعلْم الله، وقد مضى ذكر ذلك، فإذا كان كذلك كانت "أو" هذه حرفًا واحدًا، إلا أن معناها معنى بل للترك والتحول بمنزلة أم المنقطعة، نحو قول العرب: إنها لأبل أم شاء؛ فكأنه قال: بل أهي شاء؟ فكذلك معنى "أو" هاهنا، حتى كأنه قال: "وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ بل كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ"، يؤكد ذلك قوله تعالى من بعده: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُون}، فكأنه قال: "بل كلما عاهدوا عهدًا.... بل أكثرهم لا يؤمنون".
و"أو" هذه التي بمعنى أم المنقطعة -وكلتاهما بمعنى بل- موجودة في الكلام كثيرًا، يقول الرجل لمن يتهدده: والله لأفعلن بك كذا، فيقول له صاحبه: أَوْ يُحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك؛ معناه: بل يحسن الله رأيك، بل يغير الله ما في نفسك، وإلى نحو هذا ذهب الفراء في قول ذي الرمة:
بدت مثلَ فرنِ الشمس في رَونَقِ الضُّحى ... وصورتِها أو أنت في العين أملحُ
[المحتسب: 1/99]
قال: معناه بل أنت في العين أملح، وكذلك قال في قوله الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال: معناه بل يزيدون، وإن كان مذهبنا نحن في هذا غير هذا؛ فإن هذا طريق مذهوب فيه على هذا الوجه.
وقراءته هنا: [عَهِدُوا عَهْدًا] كأنه أشبه بجريان المصدر على فعله؛ لأن عهِدت عهدًا أشبه في العادة من عاهدت عهدًا، ومن ذلك الحديث المأثور: "مَن وعد وعدًا فكأنما عَهِدَ عهدًا"، وقراءة الكافة: {عاهَدُ واعَهْدا} على معنى أعطَوا عهدًا، فعهدًا على مذهب الجماعة كأنه مفعول به.
وعلى قراءة أبي السمال هو منصوب نصب المصدر، وقد يجوز أن ينتصب على قراءة الكافة على المصدر؛ إلا أنه مصدر محذوف الزيادة؛ أي: معاهدة أو عِهاداً؛ كقاتلت مقاتلة وقتالًا، إلا أنه جاء على حذف الزيادة كقوله:
عمرَكِ الله ساعةً حدِّثِينَا ... ودَعِينَا من قولِ مَن يؤذينا
إنما هو: عمَّرتُكِ الله تعميرًا -دعاء لها- فحذفت زيادة التاء والياء، وعليه: جاء زيد وحده؛ أي: أُوحِدَ بهذه الحال إيحادًا، ومررت به وحده؛ أي: أَوحدته بمروري إيحادًا.
وقد يمكن أن يكون وحده مصدر هو يَحِد وحدًا فهو واحد، والمصدر على حذف زيادته كثير جدًّا، إلا أنه ليس منه قولهم: سلمت عليه سلامًا وإن كان في معنى تسليمًا؛ من قِبَل أنه لو أريد مجيئه على حذف الزيادة لما أُقِرَّ عليه شيء من الزيادة، وفيه ألف سلام زائدة، ومثله: كملته كلامًا، والسلام والكلام ليسا على حذف الزيادة؛ لكنهما اسمان على فَعال بمعنى المصدر، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/100]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:09 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (101) إلى الآية (103) ]

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}

قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله - عزّ وجلّ -: (ولكنّ.. (102)
بكسر النون وتخفيفها.
(الشّياطين.. (102)
بالرفع ابن عامر وحمزة والكسائي). [معاني القراءات وعللها: 1/169]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر النّون مع التخفيف والتشديد من قوله: ولكنّ الشّياطين كفروا [البقرة/ 102]، ولكنّ اللّه قتلهم [الأنفال/ 17]، ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17]، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون [يونس/ 44].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: ولكنّ الشّياطين كفروا، ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون مشدّدات في ذلك كلّه.
وقرأ نافع وابن عامر ولكنّ البرّ من آمن باللّه [البقرة/ 177] ولكنّ البرّ من اتّقى [البقرة/ 189] خفيفتي النون، ويرفعان (البرّ). وشدّد النون في هذين الموضعين
[الحجة للقراء السبعة: 2/169]
ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ. وقرأ حمزة والكسائيّ: ولكنّ الشّياطين كفروا، ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون خفيفات كلهنّ. وقرأ ابن عامر وحده: ولكنّ الشّياطين بالتخفيف.
وشدّد النون من: ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون، ولم يختلفوا إلّا في هذه الستة الأحرف.
قال أبو علي: اعلم أن لكن حرف لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء والأفعال، فلو كانت اسما لم يخل من أن يكون فاعلا أو فعلا، ولا نعلم أحدا ممن يؤخذ بقوله يذهب إلى أنّ الألفاظ في الحروف زائدة، فكذلك ينبغي أن تكون الألف في هذا الحرف، وهو مثل إنّ في أنّها مثقّلة ثم يخفّف إلا أنّ «إنّ وأنّ» إذا خفّفتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقّلتين وإن كان غير الإعمال أكثر. ولم نعلم أحدا حكى النصب في «لكن» إذا خففت فيشبه أن النصب لم يجيء في هذا الحرف مخففا، ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خفّفت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف، وأنّ من خفّف ذلك، فالوجه أن لا يعمله.
ومثل ذلك في أنّه لم يجيء فيه الجزاء؛ وإن كان القياس لا
[الحجة للقراء السبعة: 2/170]
يمنع منه: «كيف»؛ ألا ترى أنّ الخليل وأصحابه لم يحكوا فيه الجزاء؟ وإن كان المعنى لا يمنع ذاك، ليعلم أنّ الجزاء ليس حكمه أن يكون بالأسماء، فكذلك لم يجيء النصب مع التخفيف في هذا الحرف كما جاء في «إنّ، وأنّ، ولعلّ، وليت» وقد لحقتها «ما» كافة كما لحقت «إنّ وأنّ ولعلّ وليت» وذلك في نحو قوله: قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45]، وكأنّما يساقون إلى الموت [الأنفال/ 6] وقول الشاعر:
.... لعلما... أضاءت لك النار الحمار المقيّدا
فممّا جاءت فيه (ما) كافة قول الشاعر:
ولكنّما أهلي بواد أنيسه... ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد
ومما جاءت فيه لكن مخفّفة غير معملة ما أنشده أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 2/171]
وما دهري بشتمك فاعلمنه... ولكن أنت مخذول كبير
ومثله قول زهير.
لقد باليت مظعن أمّ أوفى... ولكن أمّ أوفى لا تبالي
وقول الآخر:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
ولا يدلّ نحو ما أنشده أبو زيد من قول عمران:
ولكنّا الغداة بنو سبيل... على شرف نيسّر لانحدار
وكذلك الحذف في إنّ في نحو قوله: قالوا إنّا معكم [البقرة/ 14] وقوله: إنّي أنا ربّك [طه/ 12] لولا أنّ الحرف المحذوف مراد لم يوصل بضمير المنصوب، ألا ترى أنّ (إنّ) إذا خفّفت، دخلت الأفعال، وفي دخولها على
[الحجة للقراء السبعة: 2/172]
الأفعال، دلالة على إخراجها من الإعمال، وعلى ذلك جاء التنزيل في نحو: إن كاد ليضلّنا [الفرقان/ 42] وإن كنّا عن عبادتكم لغافلين [يونس/ 29] ونحو هذا مما كثر مجيئه في التنزيل. فأمّا إنشاد من أنشد:
فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني... فراقك لم أبخل وأنت صديق
فهو قليل، وقياسه قياس من أعملها مخففة في المظهر، وإن كان ذلك في المضمر أقبح لأنّ المضمر كثيرا ما يردّ معه الشيء إلى أصله نحو قوله: أنشده أبو زيد:
فلا بك ما أسال ولا أغاما والأصل في هذه الحروف إذا خفّفت أن لا تعمل لزوال المعنى الذي به كان يعمل، ولذلك لم تعمل (لكن) مخففة.
فإن قلت: إنّ لكنّ لا تشبه الأفعال، ألا ترى أنه ليس شيء على مثاله في الأسماء ولا في غيره؟.
فإنّ فيه ما يشبه الفعل إذا نزّلته منفصلا كقولهم: «أراك منتفخا».
وقد جاء حذف ضمير القصة والحديث معها في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 2/173]
قول أميّة:
ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه... بعدّته ينزل به وهو أعزل
كما جاء في قوله:
فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة فلولا أنّ الضمير معه مراد لما دخل على الجزاء، كما أنّه لو لم يكن مرادا مع ليت، لم تدخل على الفعل، في نحو ما أنشده أبو زيد:
فليت دفعت الهمّ عني ساعة... فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال
[الحجة للقراء السبعة: 2/174]
فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
ندمت على لسان كان منّي... فليت بأنّه في جوف عكم
فيحتمل أمرين: أحدهما أن تكون الباء زائدة، ويكون (أنّ) مع الجارّ في موضع نصب، ويكون ما جرى من صلة (أنّ) قد سدّ مسدّ خبر ليت. كما أنّها في ظننت أنّ زيدا منطلق، كذلك.
ويحتمل أن تكون الهاء مرادة ودخلت الباء على المبتدأ، كما دخلت في قولهم: بحسبك أن تفعل ذلك، ولا يمتنع هذا من حيث امتنع الابتداء بأنّ لمكان الباء، ألا ترى أنّ (أنّ) قد وقعت بعد لولا في نحو: لولا أنّك منطلق، ولم يجر، ذلك [في الامتناع]. مجرى: أنّك منطلق بلغني.
لأن المعنى الذي له لم يبتدأ بالمفتوحة مع لولا معدوم.
فأمّا ما أنشده من قول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/175]
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة... لعلّ أبي المغوار منك قريب
ولعلّ أبي المغوار منك قريب. فينبغي أن يكون على إضمار القصة والحديث كأنه خفّف لعلّ. وأعملها كما يخفف أنّ ويعمل، فمن فتح اللّام وجرّ الاسم فقال: لعلّ أبي المغوار، فاللّام لام الجرّ إلّا أنّه فتحها مع المظهر كما يفتح مع المضمر.
وزعم أبو الحسن أنه سمع فتح اللام مع المظهر من يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر.
وزعم أنه سمع ذلك أيضا من العرب، فيكون الجرّ في أبي المغوار على هذه اللغة. ومن قال:
لعلّ أبي المغوار منك قريب حذف لام لعلّ وأضمر القصة أو الحديث. وكسر اللام مع المظهر على اللغة التي هي أشيع، والتقدير: لعلّ لأبي المغوار منك جواب قريب، أي لعلّ نصره لا يبعد عليك، ولا يتأخّر عنك.
فإن قلت: إنه حذف اللام لاجتماع اللامين، كما حذف من (إنّا معكم) ونحو ذلك، كان قولا.
[الحجة للقراء السبعة: 2/176]
وحكى أبو عمر أنّ يونس لم يكن يرى (لكن) الخفيفة من حروف العطف. ويقوّي هذا القول أنّ أخوات لكن ممّا حذف منهنّ لم يخرج بالتخفيف عن ما كان عليه قبل التخفيف. ألا ترى أنّ: (إنّ) و (أنّ) و (كأنّ) كذلك؛ ومثلها (لعلّ).
فالقياس في (لكن) أن يكون في التخفيف على ما عليه أخواتها، ولا تخرج بالتخفيف عما كانت عليه، كما لم تخرج أخواتها عنه.
ويقوي ذلك أن معناها مخففة كمعناها مشدّدة، فإذا وافق حال التخفيف حال التشديد في اللفظ والمعنى، وجب أن تكون في التخفيف مثلها في التشديد.
فإن قلت: لم لا تكون مثل حتّى التي تكون لمعان مختلفة مع أنّ اللفظ واحد.
قيل: إنّ (حتّى) وإن كانت على لفظة واحدة، فإن المعاني التي تدلّ عليها مختلفة. ألا ترى أن العطف فيها غير الجرّ ووقوع الابتداء كما يقع الابتداء بعد إذا نحو: خرجت فإذا زيد، غير الجرّ والعطف. وكذلك الواو إذا كانت عاطفة معناها غير الجارّة. وكذلك إذا كانت في نحو: جاء البرد والطيالسة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/177]
وكذلك (ما) إذا كانت زائدة أو نافية أو كافّة، أو عوضا من الفعل في نحو: إمّا لا. وكذلك اللّام في: (لتفعلنّ)، وفي (لعمرو منطلق) وليس كذلك (لكن) لأنها إذا كانت مشددة كان معناها كمعناها إذا كانت مخففة؛ فإذا كان كذلك وجب أن لا تخرج بعد التخفيف عما كانت عليه قبل. كما أنّ سائر أخواتها كذلك.
فإن قلت: أليس قوم قد ذهبوا إلى أنّ (ليس) من حروف العطف، ويحملون قوله:
إنّما يجزي الفتى ليس الجمل فيمن أنشده بليس، فمعناها عاطفة كمعناها غير عاطفة في النفي.
قيل: إنها في هذا البيت يستقيم أن تكون نافية ويكون خبرها مضمرا. فكأنّ التقدير: إنّما يجزي الفتى ليس الجمل الذي يجزي. فحذف الخبر.
فليس لا تثبت حرف عطف من هذا البيت الذي استدلّوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/178]
به على ذلك، وكذلك يجوز أن يقول يونس في نحو: ما مررت برجل صالح لكن طالح. إنّه يجرّه بباء يضمرها دلّت المتقدّمة لها عليها. كما حكى سيبويه عنه نحو هذا. ويضمر القصة في (لكن) وإن كانت مخففة. كما أضمروا في أن وإن في نحو: أما إن يغفر الله لك، وإذا قال: ما مررت برجل صالح لكن طالح، كان على قوله: ولكن هو طالح، فإنّه يقول:
لمّا خفّفته صارت من حروف الابتداء، كما صارت (إنّ) كذلك، ولذلك وقع بعدها الفعل، فكذلك صار (لكن) من حروف الابتداء، كما كان قوله:
ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقوله:
ولكن أمّ أوفى لا تبالي على ذلك.
فأمّا تشديد لكنّ إذا دخلت عليها الواو- وتخفيفها معها، فالقياس لا يوجب دخول التثقيل فيها- كما أنّ انتفاء دخولها لا يوجب التخفيف. ومن شدّد مع دخول الواو كان كمن خفّف مع دخولها. ألا ترى أنّ الواو لا توجب تغييرا فيما بعدها في المعنى، وإذا كان كلّ واحد منهما لا ينافي الآخر في المساغ
[الحجة للقراء السبعة: 2/179]
والجواز كانوا كلّهم قد أحسن فيما أخذ به لتساوي الأمرين في ذلك كله في القياس. ولم يكن في دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد. كما لم يكن في انتفاء دخولها عليها معنى يوجب التخفيف). [الحجة للقراء السبعة: 2/180]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وابن عباس والضحاك بن مزاحم وعبد الرحمن بن أَبزَى: [وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ] بكسر اللام.
قيل: أراد [بالملِكين] داود وسليمان عليهما السلام.
قال أبو الفتح: إن قيل: كيف أطلق الله سبحانه على داود وسليمان اسم الملِك؛ وإنما هما عبدان له تعالى كسائر عبيده من الأنبياء وغيرهم؟
[المحتسب: 1/100]
قيل: جاز ذلك لأنه أَطلق عليهما اللفظ الذي يُعتاد حينئذ فيهما، ويطلقه الناس عليهما، فخوطب الإنسان على ذلك باللفظ الذي يعتاده أهل الوقت إذ ذاك، ونظيره قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}؛ وإنما هو في النار الذليل المهان؛ لكنه خوطب بما يخاطب به في الدنيا، وفيه مع هذا ضرب من التبكيت له، والإذكار بسوء أفعاله، وقد مضى نحو هذا). [المحتسب: 1/101]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وقتادة: [بَيْنَ الْمَرِ وَزَوْجِهِ] بفتح الميم وكسر الراء خفيفة من غير همز.
وقراءة الزهري: [الْمَرِّ] بفتح الميم وتشديد الراء.
وقراءة ابن أبي إسحاق: [الْمُرْء] بضم الميم وسكون الراء والهمز.
وقراءة الأشهب: [الْمِرْء] بكسر الميم والهمز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن وقتادة: [بينَ الْمَرِ] بفتح الميم وخفة الراء من غير همز فواضح الطريق؛ وذلك أنه على التخفيف القياسي؛ كقولك في الخبء: هذا الْخَبُ، ورأيت الْخَبَ، ومررت بالْخَبِ، تخذف الهمزة وتلقى حركتها على الباء قبلها. وتقول في الجزء: هذا الْجُزُ، ورأيت الْجُزَ، ومررت بالْجُزِ، وعليه القراءة: [الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ].
وأما قراءة الزهري: [الْمَرِّ] بتشديد الراء فقياسه: أن يكون أراد تخفيف المرء على قراءة الحسن وقتادة، إلا أنه نوى الوقف بعد التخفيف؛ فصار [الْمَر] ثم ثقل للوقوف على قول من قال: هذه خالدّ، وهو يجعلّ، ومررت بفرجّ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فأقر التثقيل بحاله، كما جاء عنهم قوله:
[المحتسب: 1/101]
بِبازلٍ وجناء أو عَيْهَلِّ ... كأن مهواها على الكَلْكَلِّ
يريد: العيهل والكلكل، وكبيت الكتاب:
ضخما يحب الخُلق الأضخمَّا
فيمن فتح الهمزة، يريد: الأضخم، فثقل ثم أطلق.
وفي هذا شذوذان؛ أحدهما: التثقيل في الوقف، والآخر: إجراء الوصل مجرى الوقف؛ لأنه من باب ضرورة الشعر.
وأما قراءة ابن أبي إسحاق: الْمُرْء بضم الميم والهمز فلغة فيه، وكذلك من قرأ: الْمِرء بكسر الميم، ومنهم من يضم الميم في الرفع ويفتحها في النصب ويكسرها في الجر فيقول: هذا الْمُرء، ورأيت الْمَرء، ومررت بالْمِرء؛ وسبب صنعة هذه اللغة: أنه قد أُلِف الإتباع في هذا الاسم في نحو قولك: هذا امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئٍ، فيتُبع حركة الراء حركة الهمزة، فلما أن تحركت الميم وسكنت الراء لم يمكن الإتباع في الساكن فنُقل الإتباع من الراء إلى الميم؛ لأنها متحركة، فجرى على الميم لمجاورتها الراء ما كان يجري على الراء، كما يقول ناس في الوقف: هذا بكُر، ومررت ببكِر؛ لما جفا عليهم اجتماع الساكنين في الوقف وشحوا على حركة الإعراب أن يستهلكها الوقوف عليها نقلوها إلى الكاف، وكما قال من قال في صُوَّم: صُيَّم، وفي قُوَّم:
[المحتسب: 1/102]
قُيَّم، لما جاورت العين اللام أجراها في الاعتلال مجرى عات وعُتي وجاث وجُثي، وقد ذكرنا في تفسير ديوان المتنبي ما في هذا الحرف؛ أعني: المرء والمرأة من اللغات). [المحتسب: 1/103]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [وَمَا هُمْ بِضَارِّي بِهِ مِنْ أَحَدٍ].
قال أبو الفتح: هذا من أبعد الشاذ؛ أعني: حذف النون هاهنا، وأمثل ما يقال فيه: أن يكون أراد: وما هم بضارِّي أحدٍ، ثم فصَل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر.
وفيه شيء آخر وهو أن هناك أيضًا "مِن" في من أحد، غير أنه أجرى الجار مجرى جزء من المجرور؛ فكأنه قال: وما هم بضاري به أحد، وفيه ما ذكرنا). [المحتسب: 1/103]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما كفر سليمان ولكن الشّياطين كفروا}
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ {ولكن} خفيفة {الشّياطين} رفع وكذلك {ولكن الله قتلهم} {ولكن الله رمى} وحجتهم أن العرب تجعل إعراب ما بعد لكن كإعراب ما قبلها في الجحد فتقول ما قام عمرو ولكن أخوك وتصير لكن نسقا إذا كان ما قبلها جحد
وقرأ الباقون {ولكن} بالتّشديد {الشّياطين} نصب وحجتهم في ذلك أن دخول الواو في {ولكن} يؤذن باستئناف الخبر بعدها وأن العرب تؤثر تشديدها ونصب الأسماء بعدها وفي التّنزيل {ولكن الظّالمين بآيات الله يجحدون}
[حجة القراءات: 108]
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} {ولكن أكثركم للحق كارهون} أنّها بالتّشديد للواو الّتي في أولها ثمّ أجمعوا على تخفيف لكن الراسخون و{لكن الله يشهد} لما لم يكن في أولها واو
أعلم أن لكن كله تحقيق ولكن بالتّخفيف كلمة استدراك بعد نفي تقول ما جاء عمرو ولكن زيد خرج). [حجة القراءات: 109]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (58- قوله: {ولكن الشياطين} ونظائره، قرأ نافع وابن عامر: {ولكن البر} في الموضعين في هذه السورة بكسر النون، ورفع «البر» مخففًا، وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب «البر» وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: {ولكن الشياطين}، و{لكن الله قتلهم}، و{لكن الله رمى} في الأنفال «17» بتخفيف النون وكسرها ورفع ما بعدها، وقرأ حمزة والكسائي: {ولكن الناس} في يونس «44» بتخفيف النون وكسرها، ورفع «الناس» وقرأ الباقون بتشديد النون في الأربعة وفتحها، ونصب ما بعدها.
59- وحجة من خفف النون، ورفع ما بعد «لكن»، أن «لكن» حرف إذا شددت نونه كانت من أخوات «إن» تنصب الاسم وترفع الخبر، إذا كان «هو» الاسم وإذا خففت نونه كان حرف عطف، لا عمل له، وربما أتى خفيفًا كأن يرتفع ما بعده بالابتداء والخبر، ويجوز أن تعمل «أن» مخففة، كما يعمل الفعل محذوفًا نحو: لم يك زيد قائمًا، ولا يحسن أن تعمل «لكن» مخففة لاختلاف مواقعها، إذ لم تلزم موضعا واحدًا، بل تكون عاطفة، وتكون للاستدراك، مخففة ومشددة، وتعمل عمل «إن» إذا شددت، فلما لم تلزم ولم تعمل مخففة رجع الكلام بعدها إلى أصله، وهو الابتداء والخبر، لأن «إن» وأخواتها إنما يدخلن على الابتداء والخبر، وأيضًا فإنها لما غيرت بالتخفيف، وكانت تُحدث في الكلام معنى الاستدراك فارقت «أن» الخفيفة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/256]
لأنها لا تحدث في الكلام معنى غير التأكيد، فلم تعمل عمل «أن» الخفيفة.
60- وحجة من شدد النون ونصب بها ما بعد «لكن» أنه أجرى الكلام على أصله، فأعمل «لكن» لأنها من أخوات «إن» فشددها على أصلها، وحاول في ذلك معنى التأكيد، الذي فيه معنى الاستدراك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/257]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (38- {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [آية/ 102]:-
بتشديد {لكِنّ} ونصب ما بعده، وكذلك {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ} {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} {وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ} {وَلَكِنَّ الله رَمَى} جميعًا في الأنفال {وَلَكِنَّ النَّاسَ} في يونس، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب في الستة جميعًا، ونافع أيضًا إلا في حرفين بالتخفيف والرفع فيما بعده «البر» و«البر» وحمزة والكسائي بتشديد هذين الحرفين وتخفيف البواقي بخلاف نافع، وابن عامر بتشديد ما في يونس وتخفيف البواقي.
ووجه قراءة هؤلاء في تشديد {لكِنَّ} ونصب الاسم الذي بعده، هو أن {لكِنَّ} من أخوات إن، فهي تنصب الاسم وترفع الخبر لشبهها بالفعل بانفتاح آخرها كما ينفتح آخر الفعل الماضي، فلذلك عملت إن وأخواتها في المبتدأ والخبر، فنصبت المبتدأ على أنه اسمها ورفعت الخبر على أنه خبرها
[الموضح: 293]
على العكس من باب كان، فقوله {الشَيَاطين} نصب؛ لأنه اسم {لكِنّ}، وقوله {كَفَرُوا} في موضع رفعٍ، لأنه خبرها.
وأما قراءة من قرأ بتخفيف {لكِنْ} ورفع الاسم بعده، فوجهها أن {لكِنْ} مخففة من {لكِنّ} المشددة، ولما خففت زال شبه الفعل عنها بسكون آخرها فبطل عملها الذي استحقته بمشابهة الفعل وصار ما بعدها مرفوعًا بالابتداء، وقد يجوز في إن الذي هو الأصل في الباب الإعمال بعد التخفيف، ولا يجوز ذلك في {لكِنْ} تنبيهًا على أن الأصل في هذه الحروف ترك الإعمال بعد التخفيف، وإنما خفف من خفف البعض، وشدد البعض أخذًا باللغتين). [الموضح: 294]

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة قتادة وابن بُريدة وأبي السمال: [لَمثْوَبَةٌ].
قال أبو الفتح: قد ذكرنا شذوذ صحتها عن القياس فيما مضى). [المحتسب: 1/103]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:12 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (104) إلى الآية (105) ]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}

قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:30 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة