العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة التوبة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:26 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وممّن حولكم من الأعراب الآية، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في بعضها أمته، والإشارة بقوله وممّن حولكم من الأعراب هي إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر الله عن منافقيهم، وتقدير الآية: ومن أهل المدينة قوم أو منافقون هذا أحسن ما حمل اللفظ، ومردوا قال أبو عبيدة: معناه مرنوا عليه ولجوا فيه، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال ابن زيد: أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون.
والظاهر من معنى اللفظ أن التمرد في الشيء أو المردود عليه إنما هو اللجاج والاستهتار به والعتو على الزاجر وركوب الرأس في ذلك، وهو مستعمل في الشر لا في الخير، ومن ذلك قولهم شيطان مارد ومريد،
ومن هذا سميت مراد لأنها تمردت، وقال بعض الناس: يقال تمرد الرجل في أمر كذا إذا تجرد له، وهو من قولهم شجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق، ومنه صرحٌ ممرّدٌ [النمل: 44] ومنه قولهم: تمرد مارد وعز الأبلق ومنه الأمرد الذي لا لحية له، فمعنى مردوا في هذه الآية لجوا فيه واستهتروا به وعتوا على زاجرهم، ثم نفى عز وجل علم نبيه بهم على التعيين، وأسند الطبري عن قتادة في قوله لا تعلمهم نحن نعلمهم قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة فلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري، أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الرسل، قال نبي الله نوح صلى الله عليه وسلم وما علمي بما كانوا يعملون [الشعراء: 112] وقال نبي الله شعيب صلى الله عليه وسلم بقيّت اللّه خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظٍ [هود: 86] وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تعلمهم نحن نعلمهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله تعالى: سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ في مصحف أنس بن مالك «سيعذبهم» بالياء والكلام على القراءتين وعيد، واللفظ يقتضي ثلاثة مواطن من العذاب، ولا خلاف بين المتأولين أن «العذاب العظيم» الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر، واختلف في عذاب المرة الأولى فقال مجاهد وغيره: هو عذابهم بالقتل والجوع، وهذا بعيد لأن منهم من لم يصبه هذا، وقال ابن عباس أيضا: عذابهم هو بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه، وقال ابن إسحاق: عذابهم هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته، وقال ابن عباس وهو الأشهر عنه: عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق، وروي في هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم جمعة فندد بالمنافقين وصرح وقال اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق واخرج أنت يا فلان واخرج أنت يا فلان حتى أخرج جماعة منهم، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا وأن الجمعة فاتته فاختبأ منهم حياء، ثم وصل إلى المسجد فرأى أن الصلاة لم تقض وفهم الأمر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بهم هو على جهة التأديب اجتهادا منه فيهم، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون، ولا عذاب أعظم من هذا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين، فهذا أيضا من العذاب، وقال قتادة وغيره: العذاب الأول هي علل وأدواء أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يصيبهم بها، وأسند الطبري في ذلك عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين وقال «ستة منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تقضي إلى صدره، وستة يموتون موتا»، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منهم نظر إلى حذيفة فإن صلى صلى عمر عليه وإلا ترك.
وذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال لحذيفة أنشدك بالله أمنهم أنا؟ قال لا والله ولا أؤمن منها أحدا بعدك؟ وقال ابن زيد في قوله تعالى: سنعذّبهم مرّتين أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، لكل صنف عذاب، فهو مرتان، وقرأ قول الله تعالى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا [التوبة: 55] وقال ابن زيد أيضا «المرتان» هي في الدنيا، الأولى القتل والجوع والمصائب، والثانية الموت إذ هو للكفار عذاب، وقال الحسن: الأولى هي أخذ الزكاة من أموالهم، و «العذاب العظيم» هو جميع ما بعد الموت، وأظن الزجّاج أشار إليه).[المحرر الوجيز: 4/ 393-395]

تفسير قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً عسى اللّه أن يتوب عليهم إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (102) خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم واللّه سميعٌ عليمٌ (103)
المعنى ومن هذه الطوائف آخرون اعترفوا بذنوبهم، واختلف في تأويل هذه الآية
فقال ابن عباس فيما روي عنه وأبو عثمان: هي في الأعراب وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة، فهي آية ترج على هذا، وأسند الطبري هذا عن حجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم، وقال قتادة بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة، وذلك أنه كلمهم في النزول على حكم الله ورسوله فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه ونزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله، وذكر هذا الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في كتاب السير أوعب وأتقن، وقالت فرقة عظيمة: بل نزلت هذه الآية في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، فكان عملهم السيّء التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة،
واختلفوا في «الصالح» فقال الطبري وغيره الاعتراف والتوبة والندم، وقالت فرقة بل «الصالح» غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف أهل هذه المقالة في عدد القوم الذين عنوا بهذه الآية، فقال ابن عباس: كانوا عشرة رهط ربط منهم أنفسهم سبعة، وبقي الثلاثة الذين خلفوا دون ربط المذكورون بعد هذا، وقال زيد بن أسلم كانوا ثمانية منهم كردم ومرداس وأبو قيس وأبو لبابة،
وقال قتادة: كانوا سبعة، وقال ابن عباس أيضا وفرقة: كانوا خمسة، وكلهم قال كان فيهم أبو لبابة، وذكر قتادة فيهم الجد بن قيس وهو فيما أعلم وهم لأن الجد لم يكن نزوله توبة، وأما قوله وآخر فهو بمعنى بآخر وهما متقاربان، وعسى من الله واجبة.
وروي في خبر الذين ربطوا أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد فرآهم، قال ما بال هؤلاء؟ فقيل له إنهم تابوا وأقسموا أن لا ينحلوا حتى يحلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأنا والله لا أحلهم ولا أعذرهم إلا أن يأمرني الله بذلك، فإنهم تخلفوا عني وتركوا جهاد الكفار مع المؤمنين»). [المحرر الوجيز: 4/ 395-397]

تفسير قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله خذ من أموالهم صدقةً الآية، روي أن أبا لبابة والجماعة التائبة التي ربطت أنفسها وهي المقصودة بقوله خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيّئاً جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تيب عليها فقالت يا رسول الله إنّا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من الله فتركهم حتى نزلت هذه الآية فهم المراد بها، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى: من أموالهم، فهذا هو الذي تظاهرت به أقوال المتأولين، ابن عباس رضي الله عنه وغيره،
وقالت جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الزكاة المفروضة، فقوله على هذا خذ من أموالهم. ضميره لجميع الناس، وهو عموم يراد به الخصوص إذ يخرج من الأموال الأنواع التي لا زكاة فيها كالثياب والرباع ونحوه، والضمير الذي في أموالهم أيضا كذلك عموم يراد به خصوص، إذ يخرج منه العبيد وسواهم، وقوله صدقةً مجمل يحتاج إلى تفسير، وهذا يقتضي أن الإمام يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها، ومن في هذه الآية للتبعيض، هذا أقوى وجوهها، وقوله تطهّرهم وتزكّيهم بها أحسن ما يحتمل أن تكون هذه الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من الضمير في خذ، ويحتمل أن تكون من صفة «الصدقة»، وهذا مترجح بحسب رفع الفعل ويكون قوله بها أي بنفسها أي يقع تطهيرهم من ذنوبهم بها، ويحتمل أن يكون تطهّرهم صفة «للصدقة»، وتزكّيهم مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون حالا من «الصدقة»، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة، وحكى مكي أن يكون تطهّرهم من صفة الصدقة، وقوله وتزكّيهم بها حالا من الضمير في خذ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مردود لمكان واو العطف لأن ذلك يتقدر خذ من أموالهم صدقة مطهرة ومزكيا بها، وهذا فاسد المعنى، ولو لم يكن في الكلام واو العطف جاز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تطهرهم» بسكون الطاء،
وقوله وصلّ عليهم معناه ادع لهم فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم وطمأنينة ووقارا، فهذه عبارة عن صلاح المعتقد، وحكى مكي والنحاس وغيرهما أنه قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبداً [التوبة: 84].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا وهم بعيد، وذلك أن تلك في المنافقين الذين لهم حكم الكافرين، وهذه في التائبين من التخلف الذين لهم حكم المؤمنين فلا تناسخ بين الآيتين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ونافع وابن عامر «إن صلواتك» بالجمع، وكذلك في هود وفي المؤمنين وقرأ حفص عن عاصم وحمزة والكسائي «ان صلاتك» بالإفراد، وكذلك قرأ حمزة والكسائي في هود وفي المؤمنين، وقرأ عاصم في المؤمنين وحدها جمعا، ولم يختلفوا في سورة الأنعام وسأل سائل، وهو مصدر أفردته فرقة وجمعته فرقة، وقوله سميعٌ لدعائك عليمٌ أي بمن يهدي ويتوب عليه وغير ذلك مما تقتضيه هاتان الصفتان، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية فعل ما أمر به من الدعاء والاستغفار لهم، قال ابن عباس سكنٌ لهم رحمه لهم، وقال قتادة سكنٌ لهم أي وقار لهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما معناه أن من يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تطيب نفسه ويقوى رجاؤه، ويروى أنه قد صحت وسيلته إلى الله تعالى وهذا بين). [المحرر الوجيز: 4/ 397-400]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات وأنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم (104) وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون (105)
قرأ جمهور الناس «ألم يعلموا» على ذكر الغائب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا» على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا»، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق، والضمير في يعلموا قال ابن زيد: يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين، وذلك أنهم لما تيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء؟ فنزلت هذه الآية، ويحتمل أن يكون الضمير في يعلموا يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل، ذلك أن يكون قبول رسوله قبولا منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك، وقوله ويأخذ الصّدقات معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه.
وقال الزجّاج: معناه ويقبل الصدقات، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه: «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل»، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة: «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل»، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد، فقد يحتمل أن تخرج لفظة ويأخذ على هذا،
ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعا، وهذه نازلة هذه الآية، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم، واختلف هل تقبل توبة الجميع، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله، وأما إذا فرضنا تائبا غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون- وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه- يقطع على الله بقول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ونحو هذا من القول، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب، وقوله تعالى عن عباده هي بمعنى «من»، وكثيرا ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره، وقوله تعالى ألم يعلموا تقرير، والمعنى حق لهم أن يعلموا). [المحرر الوجيز: 4/ 400-401]

تفسير قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله وقل اعملوا الآية، صيغة أمر مضمنها الوعيد، وقال الطبري: المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذين في ضمير قوله ألم يعلموا إلا على الاحتمال الثاني من أن الآيات كلها في الذين خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيّئاً [التوبة: 84]، ومعنى فسيرى اللّه أي موجودا معوضا للجزاء عليه بخير أو شر، وأما الرسول والمؤمنون فرؤيتهم رؤية حقيقة لا تجوز، وقال ابن المبارك رؤية المؤمنين هي شهادتهم على المرء بعد موته وهي ثناؤهم عند الجنائز، وقال الحسن ما معناه: إنهم حذروا من فراسة المؤمن التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، وقوله تعالى وستردّون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون يريد البعث من القبور، والغيب والشّهادة معناه ما غاب وما شوهد، وهي حالتان تعم كل شيء، وقوله فينبّئكم عبارة عن حضور الأعمال وإظهارها للجزاء عليها وهذا وعيد). [المحرر الوجيز: 4/ 401-402]

تفسير قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وآخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم واللّه عليمٌ حكيمٌ (106) والّذين اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل وليحلفنّ إن أردنا إلاّ الحسنى واللّه يشهد إنّهم لكاذبون (107)
قوله وآخرون عطف على قوله أولا وآخرون [التوبة: 84]، وقرأ نافع والأعرج وابن نصاح وأبو جعفر وطلحة والحسن وأهل الحجاز «مرجون» من أرجى دون همز، وقرأ أبو عمرو وعاصم وأهل البصرة «مرجؤون» من أرجأ يرجئ بالهمز، واختلف عن عاصم، وهما لغتان، ومعناهما التأخير ومنه المرجئة لأنهم أخروا الأعمال أي أخروا حكمها ومرتبتها، وأنكر المبرد ترك الهمز في معنى التأخير وليس كما قال، والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن إسحاق الثلاثة الذين خلفوا وهم هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وكعب بن مالك، ونزلت هذه الآية قبل التوبة عليهم، وقيل إنها نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار، وعلى هذا يكون الذين اتخذوا بإسقاط واو العطف بدلا من آخرون، أو خبر ابتداء تقديره هم الذين، فالآية على هذا فيها ترج لهم واستدعاء إلى الإيمان والتوبة، وعليمٌ معناه بمن يهدي إلى الرشد، وحكيمٌ فيما ينفذه من تنعيم من شاء وتعذيب من شاء لا رب غيره ولا معبود سواه). [المحرر الوجيز: 4/ 402-403]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:26 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:27 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ (101)}
يخبر تعالى رسوله، صلوات اللّه وسلامه عليه، أنّ في أحياء العرب ممّن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضًا منافقون {مردوا على النّفاق} أي: مرنوا واستمرّوا عليه: ومنه يقال: شيطانٌ مريدٌ وماردٌ، ويقال: تمرّد فلانٌ على اللّه، أي: عتا وتجبّر.
وقوله: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} لا ينافي قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول} الآية [محمّدٍ:30]؛ لأنّ هذا من باب التّوسّم فيهم بصفاتٍ يعرفون بها، لا أنّه يعرف جميع من عنده من أهل النّفاق والرّيب على التّعيين. وقد كان يعلم أنّ في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقًا، وإن كان يراه صباحًا ومساءً، وشاهد هذا بالصّحّة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن النّعمان بن سالمٍ، عن رجلٍ، عن جبير بن مطعمٍ، رضي اللّه عنه، قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّهم يزعمون أنّه ليس لنا أجرٌ بمكّة، فقال: لتأتينّكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلبٍ وأصغى إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم برأسه فقال: "إنّ في أصحابي منافقين"
ومعناه: أنّه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحّة له، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الّذي سمعه جبير بن مطعمٍ. وتقدّم في تفسير قوله: {وهمّوا بما لم ينالوا} [التّوبة:74] أنّه عليه السّلام أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقًا، وهذا تخصيصٌ لا يقتضي أنّه اطّلع على أسمائهم وأعيانهم كلّهم، واللّه أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "أبي عمر البيروتيّ" من طريق هشام بن عمّارٍ: حدّثنا صدقة بن خالدٍ، حدّثنا بن جابرٍ، حدّثني شيخ بيروت يكنّى أبا عمر، أظنّه حدّثني عن أبي الدّرداء؛ أنّ رجلًا يقال له "حرملة" أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: الإيمان هاهنا -وأشار بيده إلى لسانه -والنّفاق هاهنا -وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر اللّه إلّا قليلًا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ اجعل له لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وارزقه حبّي، وحبّ من يحبّني، وصيّر أمره إلى خيرٍ". فقال: يا رسول اللّه، إنّه كان لي أصحابٌ من المنافقين وكنت رأسًا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: "من أتانا استغفرنا له، ومن أصرّ على دينه فاللّه أولى به، ولا تخرقنّ على أحدٍ سترًا"
قال: وكذا رواه أبو أحمد الحاكم، عن أبي بكرٍ الباغنديّ، عن هشام بن عمّارٍ، به.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في هذه الآية أنّه قال: ما بال أقوام يتكلفون علم النّاس؟ فلانٌ في الجنّة وفلانٌ في النّار. فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال النّاس، ولقد تكلّفت شيئًا ما تكلّفه الأنبياء قبلك. قال نبيّ اللّه نوحٌ: {قال وما علمي بما كانوا يعملون} [الشّعراء: 112] وقال نبيّ اللّه شعيبٌ: {بقيّة اللّه خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظٍ} [هودٍ: 86] وقال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {لا تعلمهم نحن نعلمهم}.
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية قال: قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطيبًا يوم الجمعة فقال: "اخرج يا فلان، فإنّك منافقٌ، واخرج يا فلان فإنّك منافقٌ". فأخرج من المسجد ناسًا منهم، فضحهم. فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياءً أنّه لم يشهد الجمعة وظنّ أنّ النّاس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر، ظنّوا أنّه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد فإذا النّاس لم يصلّوا، فقال له رجلٌ من المسلمين: أبشر يا عمر، قد فضح اللّه المنافقين اليوم. قال ابن عبّاسٍ: فهذا العذاب الأوّل حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثّاني عذاب القبر
وكذا قال الثّوريّ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ نحو هذا.
وقال مجاهدٌ في قوله: {سنعذّبهم مرّتين} يعني: القتل والسّباء وقال -في روايةٍ -بالجوع، وعذاب القبر، {ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ}
وقال ابن جريجٍ: عذاب الدّنيا، وعذاب القبر، ثمّ يردّون إلى عذاب النّار.
وقال الحسن البصريّ: عذابٌ في الدّنيا، وعذابٌ في القبر
وقال عبد الرّحمن بن زيدٍ: أمّا عذابٌ في الدّنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قول اللّه {فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنّما يريد اللّه أن يعذّبهم بها في الدّنيا} [التّوبة: 85] فهذه المصائب لهم عذابٌ، وهي للمؤمنين أجرٌ، وعذابٌ في الآخرة في النّار {ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ} قال: النّار.
وقال محمّد بن إسحاق: {سنعذّبهم مرّتين} قال: هو -فيما بلغني -ما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبةٍ، ثمّ عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثمّ العذاب العظيم الّذي يردّون إليه، عذاب الآخرة والخلد فيه.
وقال سعيدٌ، عن قتادة في قوله: {سنعذّبهم مرّتين} عذاب الدنيا، وعذاب القبر، {ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ} ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلًا من المنافقين، فقال: "ستّةٌ منهم تكفيكهم الدّبيلة: سراجٌ من نار جهنّم، يأخذ في كتف أحدهم حتّى يفضي إلى صدره، وستّةٌ يموتون موتًا". وذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، كان إذا مات رجلٌ ممّن يرى أنّه منهم، نظر إلى حذيفة، فإن صلّى عليه وإلّا تركه. وذكر لنا أنّ عمر قال لحذيفة: أنشدك باللّه، أمنهم أنا؟ قال: لا. ولا أومن منها أحدًا بعدك. ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 203-206]

تفسير قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيّئًا عسى اللّه أن يتوب عليهم إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (102)}
لمّا بيّن تعالى حال المنافقين المتخلّفين عن الغزاة رغبةً عنها وتكذيبًا وشكًّا، شرع في بيان حال المذنبين الّذين تأخّروا عن الجهاد كسلًا وميلًا إلى الرّاحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحقّ، فقال: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} أي: أقرّوا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربّهم، ولهم أعمالٌ أخر صالحةٌ، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو اللّه وغفرانه.
وهذه الآية -وإن كانت نزلت في أناسٍ معيّنين -إلّا أنّها عامّةٌ في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوّثين.
وقد قال مجاهدٌ: إنّها نزلت في أبي لبابة لمّا قال لبني قريظة: إنّه الذّبح، وأشار بيده إلى حلقه.
وقال ابن عبّاسٍ: {وآخرون} نزلت في أبي لبابة وجماعةٍ من أصحابه، تخلّفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسةٌ معه، وقيل: وسبعةٌ معه، وقيل: وتسعةٌ معه، فلمّا رجع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلّهم إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا أنزل اللّه هذه الآية: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} أطلقهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وعفا عنهم.
وقال البخاريّ: حدّثنا مؤمّل بن هشامٍ، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدّثنا عوفٌ، حدّثنا أبو رجاءٍ، حدّثنا سمرة بن جندب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لنا: "أتاني اللّيلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينةٍ مبنيّةٍ بلبنٍ ذهبٍ ولبن فضّةٍ، فتلقّانا رجالٌ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطرٌ كأقبح ما أنت راءٍ، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النّهر. فوقعوا فيه، ثمّ رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السّوء عنهم، فصاروا في أحسن صورةٍ، قالا لي: هذه جنّة عدنٍ، وهذا منزلك. قالا أمّا القوم الّذين كانوا شطر منهم حسن وشطرٌ منهم قبيحٌ، فإنّهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، فتجاوز اللّه عنهم".
هكذا رواه مختصرًا، في تفسير هذه الآية). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 206]

تفسير قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم واللّه سميعٌ عليمٌ (103) ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات وأنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم (104)}
أمر اللّه تعالى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهّرهم ويزكّيهم بها، وهذا عامٌّ وإن أعاد بعضهم الضّمير في "أموالهم" إلى الّذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا؛ ولهذا اعتقد بعض مانعي الزّكاة من أحياء العرب أنّ دفع الزّكاة إلى الإمام لا يكون، وإنّما كان هذا خاصًّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ ولهذا احتجّوا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم} وقد ردّ عليهم هذا التّأويل والفهم الفاسد الصّديق أبو بكرٍ وسائر الصّحابة، وقاتلوهم حتّى أدّوا الزّكاة إلى الخليفة، كما كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، حتّى قال الصّدّيق: واللّه لو منعوني عقالا -وفي روايةٍ: عناقًا -يؤدّونه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأقاتلنّهم على منعه.
وقوله: {وصلّ عليهم} أي: ادع لهم واستغفر لهم، كما رواه مسلمٌ في صحيحه، عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أتي بصدقة قومٍ صلّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللّهمّ صل على آل أبي أوفى" وفي الحديث الآخر: أنّ امرأةً قالت: يا رسول اللّه، صلّ عليّ وعلى زوجي. فقال: "صلّى اللّه عليك، وعلى زوجك".
وقوله: {إنّ صلاتك}: قرأ بعضهم: "صلواتك" على الجمع، وآخرون قرءوا: {إنّ صلاتك} على الإفراد.
{سكنٌ لهم} قال ابن عبّاسٍ: رحمةٌ لهم. وقال قتادة: وقارٌ.
وقوله: {واللّه سميعٌ} أي: لدعائك {عليمٌ} أي: بمن يستحقّ ذلك منك ومن هو أهلٌ له.
قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا أبو العميس، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابنٍ لحذيفة، عن أبيه؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا دعا لرجلٍ أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده.
ثمّ رواه عن أبي نعيم، عن مسعر، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابنٍ لحذيفة -قال مسعر:وقد ذكره مرّةً عن حذيفة -: إنّ صلاة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لتدرك الرّجل وولده وولد ولده). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 207-208]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات} هذا تهييجٌ إلى التّوبة والصّدقة اللّتين كلّ منها يحطّ الذّنوب ويمحّصها ويمحقها.
وأخبر تعالى أنّ كلّ من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدّق بصدقةٍ من كسب حلالٍ فإنّ اللّه تعالى يتقبّلها بيمينه فيربّيها لصاحبها، حتّى تصير التّمرة مثل أحدٍ. كما جاء بذلك الحديث، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -كما قال الثّوريّ ووكيعٌ، كلاهما عن عبّاد بن منصورٍ، عن القاسم بن محمّدٍ أنّه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه يقبل الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربّيها لأحدكم، كما يربّي أحدكم مهره، حتّى إنّ اللّقمة لتصير مثل أحدٍ"، وتصديق ذلك في كتاب اللّه، عزّ وجلّ: {[ألم يعلموا أنّ اللّه] هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات} و [قوله] {يمحق اللّه الرّبا ويربي الصّدقات} [البقرة: 276].
وقال الثّوريّ والأعمش كلاهما، عن عبد اللّه بن السّائب، عن عبد اللّه بن أبي قتادة قال: قال عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه: إنّ الصّدقة تقع في يد اللّه عزّ وجلّ قبل أن تقع في يد السّائل. ثمّ قرأ هذه الآية: {ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات}.
وقد روى ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة عبد اللّه بن الشّاعر السّكسكي الدّمشقيّ -وأصله حمصيٌّ، وكان أحد الفقهاء، روى عن معاوية وغيره، وحكى عنه حوشب بن سيفٍ السّكسكيّ الحمصيّ -قال: غزا النّاس في زمان معاوية، رضي اللّه عنه، وعليهم عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد، فغلّ رجلٌ من المسلمين مائة دينارٍ روميّةٍ. فلمّا قفل الجيش ندم وأتى الأمير، فأبى أن يقبلها منه، وقال: قد تفرّق النّاس ولن أقبلها منك، حتّى تأتي اللّه بها يوم القيامة فجعل الرّجل يستقرئ الصّحابة، فيقولون له مثل ذلك، فلمّا قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه. فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمرّ بعبد اللّه بن الشّاعر السّكسكيّ، فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال أمطيعني أنت؟ فقال: نعم، فقال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل منّي خمسك، فادفع إليه عشرين دينارًا، وانظر الثّمانين الباقية فتصدّق بها عن ذلك الجيش، فإنّ اللّه يقبل التّوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرّجل، فقال معاوية، رضي اللّه عنه: لأن أكون أفتيته بها أحبّ إليّ من كل شيء أملكه، أحسن الرجل"). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 208]

تفسير قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون (105)}
قال مجاهدٌ: هذا وعيد، يعني من اللّه تعالى للمخالفين أوامره بأنّ أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرّسول، وعلى المؤمنين. وهذا كائنٌ لا محالة يوم القيامة، كما قال: {يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافيةٌ} [الحاقّة: 18]، وقال تعالى: {يوم تبلى السّرائر} [الطّارق: 9]، وقال {وحصّل ما في الصّدور} [العاديات: 10] وقد يظهر ذلك للنّاس في الدّنيا، كما قال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "لو أنّ أحدكم يعمل في صخرةٍ صماء ليس لها بابٌ ولا كوّة، لأخرج اللّه عمله للنّاس كائنًا ما كان"..
وقد ورد: أنّ أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما قال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا الصّلت بن دينارٍ، عن الحسن، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرًا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: "اللّهمّ، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك".
وقال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرّزّاق، عن سفيان، عمّن سمع أنسًا يقول: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيرًا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللّهمّ، لا تمتهم حتّى تهديهم كما هديتنا".
وقال البخاريّ: قالت عائشة، رضي اللّه عنها: إذا أعجبك حسن عمل امرئٍ، فقل: {اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون}.
وقد ورد في الحديث شبيهٌ بهذا، قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، حدّثنا حميد، عن أنسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا عليكم أن تعجبوا بأحدٍ حتّى تنظروا بم يختم له؟ فإنّ العامل يعمل زمانًا من عمره -أو: برهة من دهره -بعملٍ صالحٍ لو مات عليه لدخل الجنّة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملًا سيّئًا، وإنّ العبد ليعمل البرهة من دهره بعملٍ سيّئٍ، لو مات عليه دخل النّار، ثمّ يتحوّل فيعمل عملًا صالحًا، وإذا أراد اللّه بعبدٍ خيرًا استعمله قبل موته". قالوا: يا رسول اللّه وكيف يستعمله: قال: "يوفّقه لعملٍ صالحٍ ثمّ يقبضه عليه" تفرّد به أحمد من هذا الوجه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 209-210]

تفسير قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وآخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم واللّه عليمٌ حكيمٌ (106)}
قال ابن عبّاسٍ ومجاهد وعكرمة، والضّحّاك وغير واحدٍ: هم الثّلاثة الّذين خلّفوا، أي: عن التّوبة، وهم: مرارة بن الرّبيع، وكعب بن مالكٍ، وهلال بن أميّة، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلًا وميلًا إلى الدّعة والحفظ وطيّب الثّمار والظّلال، لا شكًّا ونفاقًا، فكانت منهم طائفةٌ ربطوا أنفسهم بالسّواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفةٌ لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثّلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجى هؤلاء عن التّوبة حتّى نزلت الآية الآتية، وهي قوله: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار} الآية [التّوبة: 117]، {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت [وضاقت عليهم أنفسهم]} الآية [التّوبة: 118]، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالكٍ.
وقوله: {إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم} أي: هم تحت عفو اللّه، إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكنّ رحمته تغلب غضبه، وهو {عليمٌ حكيمٌ} أي: عليمٌ بمن يستحقّ العقوبة ممّن يستحقّ العفو، حكيمٌ في أفعاله وأقواله، لا إله إلّا هو، ولا ربّ سواه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 210]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:56 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة