العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة التوبة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:34 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وقالت اليهود عزيرٌ ابن اللّه وقالت النّصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الّذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون (30)
الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة، وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص، وقال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم، سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم، وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله» بتنوين عزير، والمعنى أن ابنا على هذا خبر ابتداء عن عزير، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم، وعزيرٌ ونحوه ينصرف عجميا كان أو عربيا، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله» دون تنوين عزير، فقال بعضهم «ابن» خبر عن «عزير» وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين ونحوه قراءة من قرأ أحدٌ اللّه الصّمد [الإخلاص: 1- 2] قال أبو علي وهو كثير في الشعر، وأنشد الطبري في ذلك: [الرجز]
لتجدنّي بالأمير برّا = وبالقناة مدعسا مكرا
إذا عطيف السلمي برا قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن» وقال بعضهم «ابن» صفة لـ«عزير» كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من «ابن» لكنها تثبت في خط المصحف، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في «عزير» أقواها، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيرا كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس، فضلوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله، وظاهر قول النصارى المسيح ابن اللّه أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة، وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما، وهذا أشنع في الكفر، قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة، وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم عزيرٌ ابن اللّه وقولهم نحن أبناء الله، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان: وقد زبنتنا الحرب وزبناها فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حريث بن مخفض:
[الطويل]
بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم = وآباؤهم أبناء صدق فأنجبوا
ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر: [الكامل]
والأرض تحملنا وكانت أمنا
ومنه أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي ملازمه والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى المسيح ابن اللّه كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا، وعزيرٌ نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقوله بأفواههم يتضمن معنيين:
أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال يكتبون الكتاب بأيديهم [البقرة: 79]، وكقوله ولا طائرٍ يطير بجناحيه [الأنعام: 38]، والمعنى الثاني في قوله بأفواههم أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولا مجردا نفس دعوى، ويضاهؤن قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويبارون ويماثلون، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون» بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي: لأن الهمزة في ضاهأ أصلية وفي ضهياء زائدة كحمراء، وإن كان الضمير في يضاهؤن لليهود والنصارى جميعا فالإشارة بقوله الّذين كفروا من قبل هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك: وإما لاسم سالفة قبلهما، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى، ويكون يضاهؤن لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الضمير في يضاهؤن للنصارى فقط كانت الإشارة ب الّذين كفروا من قبل إلى اليهود، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة، وقوله قاتلهم اللّه دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله، وأنّى يؤفكون مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر، قال أبو عبيدة يؤفكون معناه يحدون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيرا، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيرا. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: أنّى يؤفكون ابتداء تقرير، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعد ما تبين لهم، و «قاتل» في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين). [المحرر الوجيز: 4/ 292-297]

تفسير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون (31) يريدون أن يطفؤا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون (32) هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون (33)
واحد «الأحبار» حبر بكسر الحاء، ويقال حبر بفتح الحاء والأول أفصح، ومنه مداد الحبر، والحبر بالفتح: العالم، وقال يونس بن حبيب: لم أسمعه إلا بكسر الحاء، وقال الفراء: سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم، وقال ابن السكيت الحبر: بالكسر المداد والحبر بالفتح العالم، و «الرهبان» جمع راهب وهو الخائف من الرهبة، وسماهم أرباباً وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم،
وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية، وحكى الطبري أن عدي بن حاتم قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك، فسمعته يقرأ اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا قلت نعم. قال فذاك، والمسيح عطف على الأحبار والرهبان،
وسبحانه نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل، والتقدير أنزهه تنزيها، فمعنى سبحانه تنزيها له، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى عمّا يشركون، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار). [المحرر الوجيز: 4/ 297-298]

تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: يريدون أن يطفؤا نور اللّه الآية، نور اللّه في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس فمن حيث سماه نورا سمي محاولة إفساده والصد في وجهه إطفاء، وقالت فرقة: النور القرآن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا معنى لتخصيص شيء مما يدخل تحت المقصود بالنور، وقوله بأفواههم عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم بسعي ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه، ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها فهي لا تجاوز الأفواه إلى فهم سامع، وقوله ويأبى إيجاب يقع بعده أحيانا إلا وذلك لوقوعه هو موقع الفعل المنفي، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقال الفراء: هو إيجاب فيه طرف من النفي، ورد الزجاج على هذه العبارة وبيانه ما قلناه).[المحرر الوجيز: 4/ 298]

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ الآية، رسوله يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله بالهدى يعم القرآن وجميع الشرع، وقوله ودين الحقّ إشارة إلى الإسلام والملة بجمعها وهي الحنيفية، وقوله ليظهره قال أبو هريرة وأبو جعفر محمد بن علي وجابر بن عبد الله ما معناه:
إن الضمير عائد على الدين وإظهاره عند نزول عيسى ابن مريم وكون الأديان كلها راجعة إلى دين الإسلام فذلك إظهاره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأن هذه الفرقة رأت الإظهار على أتم وجوهه أي حتى لا يبقى معه دين آخر، وقالت فرقة ليظهره على الدّين أي ليجعله أعلاها وأظهرها وإن كان معه غيره كان دونه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا لا يحتاج إلى نزول عيسى بل كان هذا في صدر الأمة وهو حتى الآن إن شاء الله وقالت فرقة: الضمير عائد على الرسول، ومعنى ليظهره ليطلعه ويعلمه الشرائع كلها والحلال والحرام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا التأويل وإن كان صحيحا جائزا فالآخر أبرع منه وأليق بنظام الآية وأحرى مع كراهية المشركين، وخص المشركون هنا بالذكر لما كانت كراهية مختصة بظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم فذكره العظم والأول ممن كره ذلك وصد فيه، وذكر الكافرون في الآية قبل لأنها كراهية إتمام نور الله في قديم الدهر وفي باقية فعم الكفر من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها إذ قد وقعت الكراهية والإتمام مرارا كثيرة).[المحرر الوجيز: 4/ 298-299]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:35 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:35 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقالت اليهود عزيرٌ ابن اللّه وقالت النّصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الّذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون (30) اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عمّا يشركون (31)}
وهذا إغراءٌ من اللّه تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفّار من اليهود والنّصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشّنيعة، والفرية على اللّه تعالى، فأمّا اليهود فقالوا في العزير: "إنّه ابن اللّه"، تعالى [اللّه] عن ذلك علوًّا كبيرًا. وذكر السّدّيّ وغيره أنّ الشّبهة الّتي حصلت لهم في ذلك، أنّ العمالقة لمّا غلبت على بني إسرائيل، فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم، حتّى سقطت جفون عينيه، فبينا هو ذات يومٍ إذ مرّ على جبّانةٍ، وإذ امرأةٌ تبكي عند قبرٍ وهي تقول: وامطعماه! واكاسياه! [فقال لها ويحك] من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت: اللّه. قال: فإنّ اللّه حيٌّ لا يموت! قالت: يا عزير فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: اللّه. قالت: فلم تبكي عليهم؟ فعرف أنّه شيءٌ قد وعظ به. ثمّ قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه، وصلّ هناك ركعتين، فإنّك ستلقى هناك شيخًا، فما أطعمك فكله. فذهب ففعل ما أمر به، فإذا شيخٌ فقال له: افتح فمك. ففتح فمه. فألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة، ثلاث مرّاتٍ، فرجع عزير وهو من أعلم النّاس بالتّوراة، فقال: يا بني إسرائيل، قد جئتكم بالتّوراة. فقالوا: يا عزير، ما كنت كذّابا. فعمد فربط على إصبعٍ من أصابعه قلمًا، وكتب التّوراة بإصبعه كلّها، فلمّا تراجع النّاس من عدوّهم ورجع العلماء، وأخبروا بشأن عزيرٍ، فاستخرجوا النّسخ الّتي كانوا أودعوها في الجبال، وقابلوها بها، فوجدوا ما جاء به صحيحًا، فقال بعض جهلتهم: إنّما صنع هذا لأنّه ابن اللّه.
وأمّا ضلال النّصارى في المسيح فظاهرٌ؛ ولهذا كذّب اللّه سبحانه الطّائفتين فقال: {ذلك قولهم بأفواههم} أي: لا مستند لهم فيما ادّعوه سوى افترائهم واختلاقهم، {يضاهئون} أي: يشابهون {قول الّذين كفروا من قبل} أي: من قبلهم من الأمم، ضلّوا كما ضلّ هؤلاء، {قاتلهم اللّه} وقال ابن عبّاسٍ: لعنهم اللّه، {أنّى يؤفكون}؟ أي: كيف يضلّون عن الحقّ، وهو ظاهرٌ، ويعدلون إلى الباطل؟). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 134]

تفسير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ([وقوله] {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه والمسيح ابن مريم} روى الإمام أحمد، والتّرمذيّ، وابن جريرٍ من طرقٍ، عن عديّ بن حاتمٍ، رضي اللّه عنه، أنّه لمّا بلغته دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرّ إلى الشّام، وكان قد تنصّر في الجاهليّة، فأسرت أخته وجماعةٌ من قومه، ثمّ منّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورغّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقدم عديّ المدينة، وكان رئيسًا في قومه طيّئٍ، وأبوه حاتمٌ الطّائيّ المشهور بالكرم، فتحدّث النّاس بقدومه، فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي عنق عديّ صليبٌ من فضّةٍ، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية: {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه} قال: فقلت: إنّهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى، إنّهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إيّاهم". وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا عديّ، ما تقول؟ أيفرّك أن يقال: اللّه أكبر؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من اللّه؟ ما يفرك؟ أيفرّك أن يقال لا إله إلّا اللّه؟ فهل تعلم من إلهٍ إلّا اللّه"؟ ثمّ دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحقّ، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر ثمّ قال: "إنّ اليهود مغضوبٌ عليهم، والنّصارى ضالّون"
وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد اللّه بن عبّاسٍ، وغيرهما في تفسير: {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه} إنّهم اتّبعوهم فيما حلّلوا وحرّموا.
وقال السّدّيّ: استنصحوا الرّجال، وتركوا كتاب اللّه وراء ظهورهم.
ولهذا قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا} أي: الّذي إذا حرّم الشّيء فهو الحرام، وما حلّله حلّ، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفّذ.
{لا إله إلا هو سبحانه عمّا يشركون} أي: تعالى وتقدّس وتنزّه عن الشّركاء والنّظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلّا هو، ولا ربّ سواه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 135]

تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون (32) هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون (33)}
يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفّار من المشركين وأهل الكتاب {أن يطفئوا نور اللّه} أي: ما بعث به رسوله من الهدى ودين الحقّ، بمجرّد جدالهم وافترائهم، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشّمس، أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فكذلك ما أرسل اللّه به رسوله لا بدّ أن يتمّ ويظهر؛ ولهذا قال تعالى مقابلًا لهم فيما راموه وأرادوه: {ويأبى اللّه إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون}
والكافر: هو الّذي يستر الشّيء ويغطّيه، ومنه سمّي اللّيل "كافرًا"؛ لأنّه يستر الأشياء، والزّارع كافرًا؛ لأنّه يغطّي الحبّ في الأرض كما قال: {أعجب الكفّار نباته} [الحديد: 20]). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 135-136]

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ} فالهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصّادقة، والإيمان الصّحيح، والعلم النّافع -ودين الحقّ: هي الأعمال [الصّالحة] الصّحيحة النّافعة في الدّنيا والآخرة.
{ليظهره على الدّين كلّه} أي: على سائر الأديان، كما ثبت في الصّحيح، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "إنّ اللّه زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها"
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن محمّد بن أبي يعقوب: سمعت شقيق بن حيّان يحدّث عن مسعود بن قبيصة -أو: قبيصة بن مسعودٍ -يقول: صلّى هذا الحيّ من "محارب" الصّبح، فلمّا صلّوا قال شابٌّ منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإنّ عمّالها في النّار، إلّا من اتّقى اللّه وأدّى الأمانة"
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا صفوان، حدّثنا سليم بن عامرٍ، عن تميمٍ الدّاريّ، رضي اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنّهار، ولا يترك اللّه بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله هذا الدّين، بعزّ عزيزٍ، أو بذلّ ذليلٍ، عزًّا يعزّ اللّه به الإسلام، وذلًّا يذلّ اللّه به الكفر"، فكان تميمٌ الدّاريّ يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعزّ، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذّلّ والصّغار والجزية
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن عبد ربّه، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثني ابن جابرٍ، سمعت سليم بن عامرٍ قال: سمعت المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر، إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام بعزّ عزيزٍ، أو بذلّ ذليلٍ، إمّا يعزّهم اللّه فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها"
وفي المسند أيضًا: حدّثنا محمّد بن أبي عديّ، عن ابن عونٍ، عن ابن سيرين، عن أبي حذيفة، عن عديّ بن حاتمٍ سمعه يقول: دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "يا عديّ، أسلم تسلم". فقلت: إنّي من أهل دينٍ. قال: "أنا أعلم بدينك منك". فقلت: أنت أعلم بديني منّي؟ قال: "نعم، ألست من الرّكوسيّة، وأنت تأكل مرباع قومك؟ ". قلت: بلى. قال: "فإنّ هذا لا يحلّ لك في دينك". قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: "أما إنّي أعلم ما الّذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنّما اتّبعه ضعفة النّاس ومن لا قوّة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ " قلت: لم أرها، وقد سمعت بها. قال: "فوالّذي نفسي بيده، ليتمّنّ اللّه هذا الأمر حتّى تخرج الظّعينة من الحيرة، حتّى تطوف بالبيت في غير جوار أحدٍ، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كسرى بن هرمز؟. قال: "نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتّى لا يقبله أحدٌ". قال عديّ بن حاتمٍ: فهذه الظّعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحدٍ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والّذي نفسي بيده، لتكوننّ الثّالثة؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد قالها.
وقال مسلمٌ: حدّثنا أبو معنٍ زيد بن يزيد الرّقاشيّ، حدّثنا خالد بن الحارث، حدّثنا عبد الحميد بن جعفرٍ، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "لا يذهب اللّيل والنّهار حتّى تعبد اللات والعزّى". فقلت: يا رسول اللّه، إن كنت لأظنّ حين أنزل اللّه، عزّ وجلّ: {هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ} إلى قوله: {ولو كره المشركون} أنّ ذلك تامٌّ، قال: "إنّه سيكون من ذلك ما شاء اللّه، عزّ وجلّ، ثمّ يبعث اللّه ريحًا طيّبةً [فيتوفّى كلّ من كان في قلبه مثقال حبّة خردلٍ من إيمانٍ] فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم"). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 136-137]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:31 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة