العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة المائدة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18 ربيع الثاني 1434هـ/28-02-2013م, 06:32 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير سورة المائدة [ الآية (3) ]

تفسير سورة المائدة
[ الآية (3) ]

بسم الله الرحمن الرحيم
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 11:14 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (قال أبو صخرٍ: وحدّثني [محمّد بن كعبٍ القرظيّ .. .. ] من اليهود مرّ على عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين، بارك اللّه عليك، ما الآية من القرآن أنزلت في كتابكم لا أراكم ترفعون باليوم الّذي نزلت فيه رأسًا، والّذي نفسي بيده، لو أنزلت في التوراة أو إنجيلٍ جعلنا اليوم الّذي نزلت فيه لنا عيدًا ما بقينا؛ فقال عمر: أيّ آيةٍ هي، ويحك، قال: قول اللّه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، قال: فتبسّم عمر، ثمّ قال: ويحك، وتدري متى نزلت، قال: لا أدري، قال: نزلت على رسول اللّه وهو واقفٌ بعرفة يوم حجّة الوداع، وهل تزال لنا عرفة عيدًا ما كان الإسلام). [الجامع في علوم القرآن: 2/68-69]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} قال يعني أنصاب أهل الجاهلية). [تفسير عبد الرزاق: 1/182]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (معمر عن قتادة قال المنخنقة التي تموت في خناقها والموقوذة التي توقذ فتموت والمتردية التي تردى فتموت والنطيحة التي تنطح فتموت وقال وما أكل السبع إلا ما ذكيتم من هذا كله فإذا وجدها تطرف عينها أو تحرك أذنها من هذا كله منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو ما أكل السبع فهي لك حلال). [تفسير عبد الرزاق: 1/183]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر قال سمعت رجلا من أهل المدينة يزعم أن رجلا سأل أبا هريرة عنها فقال إذا طرفت بعينيها أو تحرك أذناها فلا بأس بها
قال وسئل زيد بن ثابت فقال إن الميتة تتحرك). [تفسير عبد الرزاق: 1/183]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (معمر عن قتادة في قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلم قال كان الرجل إذا أراد الخروج في سفر كتب في قدح هذا يأمر بالمكوث وكتب في آخر هذا يأمر بالخروج وجعل معهما منيحا لم يكتب فيه شيئا ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج فإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج وقال لا يصيبني في سفري هذا إلا خير وإن خرج الذي يأمر بالمكوث مكث وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين). [تفسير عبد الرزاق: 1/183]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} قال أخلص الله لهم دينهم ونفى الله المشركين عن البيت وبلغنا أنها نزلت يوم عرفة ووافق يوم الجمعة). [تفسير عبد الرزاق: 1/184]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {في مخمصة غير متجانف لإثم} قال مخمصة مجاعة غير متجانف لإثم غير متعرض لإثم). [تفسير عبد الرزاق: 1/184]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن بيانٍ عن الشّعبيّ قال: لم ينسخ من المائدة غير آية واحدة {يا أيها الّذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام} نسختها {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [الآية: 3]). [تفسير الثوري: 99]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} قال: نزل يوم عرفة في يوم جمعةٍ [الآية: 3]). [تفسير الثوري: 99]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا إسماعيل بن إبراهيم، قال: نا داود، عن الشّعبي - في قوله عزّ وجلّ: {اليوم أكملت لكم دينكم} - قال: نزلت ورسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم واقفٌ بعرفة، حين اضمحلّ الشّرك، وهدّمت منار الجاهليّة، ولم يطف بالبيت عريان). [سنن سعيد بن منصور: 4/1438]

قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا محمّد بن فضيلٍ، عن هارون بن أبي وكيعٍ، عن أبيه، قال: لمّا نزلت هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: يوم الحجّ الأكبر، قال: فبكى عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك، قال: يا رسول الله، أبكاني أنّا كنّا في زيادةٍ من ديننا، فأمّا إذ كمل فإنّه لم يكمل قطّ شيءٌ إلاّ نقص، قال: صدقت). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 118-119]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (وقال ابن عبّاسٍ: {مخمصةٍ} [المائدة: 3]: «مجاعةٍ»). [صحيح البخاري: 6/50] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله وقال ابن عبّاسٍ مخمصةٍ مجاعةٍ كذا ثبت لغير أبي ذرٍّ هنا وتقدّم قريبًا). [فتح الباري: 8/270]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
قال سفيان ما في القرآن آية أشد علّي من {لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} 68 المائدة
وقال ابن عبّاس مخمصة مجاعة من أحياها يعني من حرم قتلها إلّا بحق حييّ النّاس منه جميعًا شرعة ومنهاجا سنة وسبيلا فبما نقضهم بنقضهم الّتي كتب الله حرم واحدها حرام تبوء تحمل دائرة دولة المهيمن الأمين القرآن أمين على كل كتاب قبله
قلت وأكثر هذه التفاسير وقع غير منسوب لأحد عند الأكثر
أما قول سفيان
وأما تفاسير ابن عبّاس فقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا أبو صالح ثنا معاوية عن علّي عن ابن عبّاس في قوله 3 المائدة {مخمصة} يعني مجاعة). [تغليق التعليق: 4/200-201]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({مخمصة}) قال ابن عباس (مجاعة) ). [إرشاد الساري: 7/100] (م)
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (باب قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]
- حدّثني محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان، عن قيسٍ، عن طارق بن شهابٍ، قالت اليهود لعمر: إنّكم تقرءون آيةً لو نزلت فينا لاتّخذناها عيدًا، فقال عمر: " إنّي لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم حين أنزلت: يوم عرفة وإنّا واللّه بعرفة - قال سفيان: وأشكّ - كان يوم الجمعة أم لا " {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]). [صحيح البخاري: 6/50]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله اليوم أكملت لكم دينكم)
سقط باب لغير أبي ذرٍّ قوله وقال ابن عبّاسٍ مخمصةٍ مجاعةٍ كذا ثبت لغير أبي ذرٍّ هنا وتقدّم قريبًا
[4606] قوله حدّثنا عبد الرّحمن هو بن مهدي قوله عن قيس هو بن مسلمٍ قوله قالت اليهود في رواية أبي العميس عن قيسٍ في كتاب الإيمان أنّ رجلًا من اليهود وقد تقدّمت تسميته هناك وأنّه كعب الأحبار واحتمل أن يكون الرّاوي حيث أفرد السّائل أراد تعيينه وحيث جمع أراد باعتبار من كان معه على رأيه وأطلق على كعبٍ هذه الصّفة إشارةً إلى أنّ سؤاله عن ذلك وقع قبل إسلامه لأنّ إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى قوله إنّي لأعلم وقع في هذه الرّواية اختصارٌ وقد تقدّم في الإيمان من وجهٍ آخر عن قيس بن مسلمٍ فقال عمر أيّ آيةٍ إلخ قوله حيث أنزلت وأين أنزلت في رواية أحمد عن عبد الرّحمن بن مهديٍّ حيث أنزلت وأيّ يومٍ أنزلت وبها يظهر أن لا تكرار في قوله حيث وأين بل أراد بإحداهما المكان وبالأخرى الزّمان قوله وأين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أنزلت يوم عرفة كذا لأبي ذرٍّ ولغيره حين بدل حيث وفي رواية أحمد وأين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزلت أنزلت يوم عرفة بتكرار أنزلت وهي أوضح وكذا لمسلمٍ عن محمّد بن المثنّى عن عبد الرّحمن في الموضعين قوله وإنّا واللّه بعرفة كذا للجميع وعند أحمد ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واقفٌ بعرفة وكذا لمسلمٍ وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق محمّد بن بشّارٍ وبندارٌ شيخ البخاريّ فيه قوله قال سفيان وأشكّ كان يوم الجمعة أم لا قد تقدّم في الإيمان من وجهٍ آخر عن قيس بن مسلمٍ الجزم بأنّ ذلك كان يوم الجمعة وسيأتي الجزم بذلك من رواية مسعرٍ عن قيسٍ في كتاب الاعتصام وقد تقدّم في كتاب الإيمان بيان مطابقة جواب عمر للسّؤال لأنّه سأله عن اتّخاذه عيدًا فأجاب بنزولها بعرفة يوم الجمعة ومحصّله أنّ في بعض الرّوايات وكلاهما بحمد اللّه لنا عيدٌ قال الكرمانيّ أجاب بأنّ النّزول كان يوم عرفة ومن المشهور أنّ اليوم الّذي بعد عرفة هو عيدٌ للمسلمين فكأنّه قال جعلناه عيدًا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتّعبّد فيه قال وإنّما لم يجعله يوم النّزول لأنّه ثبت أنّ النّزول كان بعد العصر ولا يتحقّق العيد إلّا من أوّل النّهار ولهذا قال الفقهاء إنّ رؤية الهلال نهارًا تكون للّيلة المستقبلة انتهى والتّنصيص على أنّ تسمية يوم عرفة يوم عيدٍ يغني عن هذا التّكلّف فإنّ العيد مشتقٌّ من العود وقيل له ذلك لأنّه يعود في كلّ عامٍ وقد نقل الكرمانيّ عن الزّمخشريّ أنّ العيد هو السّرور العائد وأقرّ ذلك فالمعنى أنّ كلّ يومٍ شرع تعظيمه يسمّى عيدًا انتهى ويمكن أن يقال هو عيدٌ لبعض النّاس دون بعضٍ وهو للحجّاج خاصّةً ولهذا يكره لهم صومه بخلاف غيرهم فيستحبّ ويوم العيد لا يصام وقد تقدّم في شرح هذا الحديث في كتاب الإيمان بيان من روى في حديث الباب أنّ الآية نزلت يوم عيدٍ وأنّه عند التّرمذيّ من حديث بن عبّاسٍ وأمّا تعليله لترك جعله عيدًا بأنّ نزول الآية كان بعد العصر فلا يمنع أن يتّخذ عيدًا ويعظّم ذلك اليوم من أوّله لوقوع موجب التّعظيم في أثنائه والتّنظير الّذي نظّر به ليس بمستقيمٍ لأنّ مرجع ذلك من جهة سير الهلال وإنّي لا تعجب من خفاء ذلك عليه وفي الحديث بيان ضعف ما أخرجه الطّبريّ بسند فيه بن لهيعة عن بن عبّاسٍ أنّ هذه الآية نزلت يوم الاثنين وضعّف ما أخرجه من طريق العوفيّ عن بن عبّاسٍ أنّ اليوم المذكور ليس بمعلومٍ وعلى ما أخرجه البيهقيّ بسندٍ منقطعٍ أنّها نزلت يوم التّروية ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بفناء الكعبة فأمر النّاس أن يروحوا إلى منًى وصلّى الظّهر بها قال البيهقيّ حديث عمر أولى وهو كما قال واستدلّ بهذا الحديث على مزيّة الوقوف بعرفة يوم الجمعة على غيره من الأيّام لأنّ اللّه تعالى إنّما يختار لرسوله الأفضل وأنّ الأعمال تشرف بشرف الأزمنة كالأمكنة ويوم الجمعة أفضل أيّام الأسبوع وقد ثبت في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة مرفوعًا خير يومٍ طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة الحديث ولأنّ في يوم الجمعة السّاعة المستجاب فيها الدّعاء ولا سيّما على قول من قال إنّها بعد العصر وأمّا ما ذكره رزينٌ في جامعه مرفوعًا خير يومٍ طلعت فيه الشّمس يوم عرفة وافق يوم الجمعة وهو أفضل من سبعين حجّةٍ في غيرها فهو حديثٌ لا أعرف حاله لأنّه لم يذكر صحابيّه ولا من أخرجه بل أدرجه في حديث الموطّأ الّذي ذكره مرسلًا عن طلحة بن عبد اللّه بن كريزٍ وليست الزّيادة المذكورة في شيءٍ من الموطّآت فإن كان له أصلٌ احتمل أن يراد بالسّبعين التّحديد أو المبالغة وعلى كلٍّ منهما فثبتت المزية بذلك والله أعلم). [فتح الباري: 8/270-271]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
وقال ابن عبّاس الأزلام القداح يقتسمون بها في الأمور والنّصب أنصاب يذبحون عليها
قال ابن أبي حاتم ثنا الحسن بن محمّد بن الصّباح ثنا حجاج بن محمّد أخبرني ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عبّاس قال الأزلام القداح كانوا يستقسمون بها في الأمور وبه في قوله النصب قال أنصاب يذبحون عليها). [تغليق التعليق: 4/204]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3)
لم يذكر لفظ باب إلّا في رواية أبي ذر وقال المفسّرون: هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة حيث أكمل لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيّهم، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجنّ، فلا حلال إلاّ ما أحله الله، ولا حرام إلاّ ما حرمه الله، ولا دين إلاّ ما شرعه وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف. قال عليّ بن أبي طلحة. عن ابن عبّاس {كملت لكم دينكم} (المائدة: 3) وهو الإسلام، والمراد باليوم: يوم عرفة. قال أسباط عن السّديّ: نزلت هذه الآية يوم عرفة فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات. وقال ابن جريج وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يومًا.
وقال ابن عبّاسٍ مخمصةٌ مجاعةٌ
هذا لم يثبت إلّا لغير أبي ذر، وقد ذكرنا عند قوله: (وقال غيره) الإغراء التسليط، أن المناسبة كانت تقتضي أن يذكر هذه اللّفظة قبل قوله: وقال ابن عبّاس: فليرجع إليه هناك يظهر لك ما فيه الكفاية. وأشار به إلى قوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} وهذا التّعليق رواه ابن أبي حاتم عن أبيه حدثنا أبو صالح حدثني معاوية عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس.
- حدّثني محمّد بن بشّارٍ حدّثنا عبد الرّحمان حدّثنا سفيان عن قيسٍ عن طارق بن شهابٍ قالت اليهود لعمر إنكم تقرؤون آيةً لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمر إنّي لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت يوم عرفة وإنّا والله بعرفة. قال سفيان وأشكّ كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم} .
مطابقته للتّرجمة ظاهرة وعبد الرّحمن هو ابن مهدي، وسفيان هو الثّوريّ، وقيس هو ابن مسلم، وطارق هو ابن شهاب بن عبد شمس البجليّ الأحمسي الكوفي، رأى النّبي صلى الله عليه وسلم وغزا في خلافة أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما ثلاثًا وثلاثين أو ثلاثًا وأربعين غزوة، ومات سنة ثلاث وثمانين.
والحديث مر في كتاب الإيمان من طريق آخر عن الحسن بن الصّباح عن حفص بن عون عن أبي العميس عن قيس بن مسلم عن طارق إلى آخره.
قوله: (قالت اليهود)، وفي كتاب الإيمان أن رجلا من اليهود، وإنّما جمع هنا باعتبار السّائل ومن كان معه، وكان هذا الرجل كعب الأحبار، وكان سؤاله قبل إسلامه، وأنه أسلم في خلافة عمر، على المشهور، أو أطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. قوله: (حيث أنزلت وأين أنزلت) أعلم أن حيث للمكان اتّفاقًا وقال الأخفش، وقد ترد للزمان، وهنا للمكان خاصّة، وأين، للزمان فلا تكرار وحينئذٍ، والغالب كون، حيث في محل نصب على الظّرفيّة، أو خفض: بمن، ويلزمها الإضافة إلى الجملة إسمية كانت أو فعلية، وإلى الفعلية أكثر، وفي رواية عبد الرّحمن بن مهدي: (حيث أنزلت، وأي يوم أنزلت) وقال الكرماني: ويروى: (حين أنزلت وأين أنزلت) قلت: فحينئذٍ يلزم التّكرار. قوله: (وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت) . كذا في رواية الأكثرين وفي رواية أبي ذر: (حيث أنزلت) . قوله: (يوم عرفة) بالرّفع أي: يوم النّزول يوم عرفة ويروى بالنّصب أي أنزلت في يوم عرفة. قوله: (وأنا والله بعرفة) إشارة إلى المكان إذ عرفة تطلق على عرفات، وكذا هو في وراية الجميع، وعند أحمد: (ورسول الله واقف بعرفة)، وكذا في رواية مسلم. قوله: (قال سفيان: وأنا أشك) وقد تقدم في كتاب الإيمان عن قيس بن مسلم الجزم بأن ذلك كان يوم الجمعة، وسيجيء الجزم أيضا في كتاب الاعتصام من رواية مسعر عن قيس). [عمدة القاري: 18/198-199]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] وقال ابن عبّاسٍ مخمصةٌ: مجاعةٌ
(باب قوله) تعالى: ({اليوم أكملت لكم دينكم}) [المائدة: 3] وزاد غير أبي ذر هنا (وقال ابن عباس مخمصة مجاعة) وقد سبق فلا فائدة في ذكره وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
- حدّثني محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان، عن قيسٍ، عن طارق بن شهابٍ، قالت اليهود: لعمر إنّكم تقرءون آيةً لو نزلت فينا لاتّخذناها عيدًا فقال عمر: إنّي لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين أنزلت يوم عرفة وإنّا واللّه بعرفة، قال سفيان: وأشكّ كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم}.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشدّدة العبدي البصري أبو بكر بندار قال: (حدّثنا عبد الرحمن) هو ابن مهدي قال: (حدّثنا سفيان) هو الثوري (عن قيس)
هو ابن مسلم (عن طارق بن شهاب) البجلي الأحمسي الكوفي له رؤية أنه قال: (قالت اليهود) كعب الأحبار قبل أن يسلم ومن معه من اليهود وكان إسلام كعب في خلافة عمر على المشهور (لعمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (إنكم) معشر المسلمين (تقرؤون آية لو نزلت فينا) معشر اليهود (لاتخذناها عيدًا) نسر فيه لكمال الدين وزاد في الإيمان. قال: أيّ؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3] (فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت) قال في المغني وحيث للمكان اتفاقًا، وقال الأخفش قد ترد للزمان وأين قال في الصحاح هذا قلت أين يزيد فإنما تسأل عن مكانه فتكون حيث هنا للزمان وأين للمكان فلا تكرار، وعند أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي حيث أنزلت وأيّ يوم أنزلت (وأين رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين) ولأبي ذر حيث (أنزلت) زاد أحمد أنزلت (يوم عرفة وإنا) بكسر الهمزة وتشديد النون (والله بعرفة) إشارة إلى المكان، ولمسلم: ورسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- واقف بعرفة.
(قال سفيان) الثوري بالسند السابق: (وأشك كان يوم الجمعة أم لا) سبق في الإيمان من وجه آخر عن قيس بن مسلم الجزم بأنه كان يوم الجمعة ({اليوم أكملت لكم دينكم}).
وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الإيمان). [إرشاد الساري: 7/101]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا ابن أبي عمر، قال: حدّثنا سفيان، عن مسعرٍ وغيره، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ، قال: قال رجلٌ من اليهود لعمر بن الخطّاب: يا أمير المؤمنين، لو علينا أنزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} لاتّخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال له عمر بن الخطّاب: أنّي لأعلم أيّ يومٍ أنزلت هذه الآية، أنزلت يوم عرفة في يوم جمعةٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ). [سنن الترمذي: 5/100]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا عبد بن حميدٍ، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حمّاد بن سلمة، عن عمّار بن أبي عمّارٍ، قال: قرأ ابن عبّاسٍ: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} وعنده يهوديٌّ فقال: لو أنزلت هذه علينا لاتّخذنا يومها عيدًا، قال ابن عبّاسٍ: فإنّها نزلت في يوم عيدين في يوم جمعةٍ، ويوم عرفة.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديث ابن عبّاسٍ). [سنن الترمذي: 5/100]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ، قال: قال يهوديٌّ لعمر: لو علينا نزلت معشر اليهود هذه الآية اتّخذناه عيدًا {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] الآية قال عمر: «قد علمت اليوم الّذي أنزلت فيه، واللّيلة الّتي أنزلت ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعرفاتٍ»
- أخبرنا إسحاق بن منصورٍ، أخبرنا عبد الرّحمن، عن معاوية بن صالحٍ، عن أبي الزّاهريّة، عن جبير بن نفيرٍ، قال: دخلت على عائشة فقالت لي: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: «أما إنّها» آخر سورةٍ نزلت، فما وجدتم فيها من حلالٍ فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرامٍ فحرّموه، وسألتها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت: القرآن). [السنن الكبرى للنسائي: 10/79]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: حرّم اللّه عليكم أيّها المؤمنون الميتة، والميتة: كلّ ما له نفسٌ سائلةٌ من دوابّ البرّ وطيره، ممّا أباح اللّه أكلها، وأهليها ووحشيها، فارقتها روحها بغير تذكيةٍ.
وقد قال بعضهم: الميتة: هو كلّ ما فارقته الحياة من دوابّ البرّ وطيره بغير تذكيةٍ ممّا أحلّ اللّه أكله.
وقد بيّنّا العلّة الموجبة صحّة القول بما قلنا في ذلك في كتابنا: كتابٌ لطيف القول في الأحكام
وأمّا الدّم: فإنّه الدّم المسفوح دون ما كان منه غير مسفوحٍ، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه قال: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّمًا على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزيرٍ} فأمّا ما كان قد صار في معنى اللّحم كالكبد والطّحال، وما كان في اللّحم غير منسفحٍ، فإنّ ذلك غير حرامٍ، لإجماع الجميع على ذلك
وأمّا قوله: {ولحم الخنزير} فإنّه يعني: وحرّم عليكم لحم الخنزير، أهليّه وبرّيّه.
فالميتة والدّم مخرجهما في الظّاهر مخرج عمومٍ، والمراد منهما الخصوص وأمّا لحم الخنزير، فإنّ ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره، حرامٌ جميعه لم يخصّص منه شيءٌ
وأمّا قوله: {وما أهلّ لغير اللّه به} فإنّه يعني: وما ذكر عليه غير اسم اللّه. وأصله من استهلال الصّبيّ وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمّه، ومنه إهلال المحرم بالحجّ إذا لبّى به، ومنه قول ابن أحمر:.
يهلّ بالفرقد ركبانها = كما يهلّ الرّاكب المعتمر
وإنّما عنى بقوله: {وما أهلّ لغير اللّه به} وما ذبح للآلهة وللأوثان يسمّى عليه غير اسم اللّه.
وبالّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل، وقد ذكرنا الرّواية عمّن قال ذلك فيما مضى فكرهنا إعادته). [جامع البيان: 8/53-55]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والمنخنقة}
اختلفت أهل التّأويل في صفة الانخناق الّذي عنى اللّه جلّ ثناؤه بقوله {والمنخنقة} فقال بعضهم بما:.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {والمنخنقة} قال: الّتي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرةٍ، فتختنق فتموت.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، في: المنخنقة، قال: الّتي تختنق فتموت.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: حدّثنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {والمنخنقة} الّتي تموت في خناقها.
وقال آخرون: هي الّتي توثق فيقتلها بالخناق وثاقها.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {والمنخنقة} قال: الشّاة توثق، فيقتلها خناقها، فهي حرامٌ
وقال آخرون: بل هي البهيمة من النّعم، كان المشركون يخنقونها حتّى تموت، فحرّم اللّه أكلها.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {والمنخنقة} الّتي تخنق فتموت.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {والمنخنقة} كان أهل الجاهليّة يخنقون الشّاة، حتّى إذا ماتت أكلوها.
وأولى هذه الأقوال بالصّواب، قول من قال: هي الّتي تختنق، إمّا في وثاقها، وإمّا بإدخال رأسها في الموضع الّذي لا تقدر على التّخلّص منه فتختنق حتّى تموت
وإنّما قلنا ذلك أولى بالصّواب في تأويل ذلك من غيره، لأنّ المنخنقة: هي الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيًّا بذلك أنّها مفعولٌ بها لقيل: والمخنوقة، حتّى يكون معنى الكلام ما قالوا). [جامع البيان: 8/55-56]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والموقوذة}
يعني جلّ ثناؤه بقوله {والموقوذة} والميّتة وقيذًا، يقال منه: وقذه يقذه وقذًا: إذا ضربه حتّى أشفى على الهلاك، ومنه قول الفرزدق:.
شغّارةً تقذ الفصيل برجلها = فطّارةً لقوادم الأبكار
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {والموقوذة} قال: الموقوذة الّتي تضرب بالخشب حتّى يقذها فتموت.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {والموقوذة} كان أهل الجاهليّة يضربونها بالعصا، حتّى إذا ماتت أكلوها.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة في قوله: {والموقوذة} قال: كانوا يضربونها حتّى يقذوها، ثمّ يأكلوها.
- حدّثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله: {والموقوذة} الّتي توقذ فتموت.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قال: {الموقوذة} الّتي تضرب حتّى تموت.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {والموقوذة} قال: هي الّتي تضرب فتموت.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {والموقوذة} كانت الشّاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم حتّى يقتلوها فيأكلوها.
- حدّثنا العبّاس بن الوليد، قال: أخبرني عقبة بن علقمة، حدّثني إبراهيم بن أبي عبلة، قال: حدّثني نعيم بن سلامة، عن أبي عبد اللّه الصّنابحيّ، قال: ليست الموقوذة إلاّ في مالك، وليس في الصّيد وقيذٌ). [جامع البيان: 8/56-58]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والمتردّية}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: وحرّمت عليكم الميتة تردّيًا من جبلٍ، أو في بئرٍ، أو غير ذلك. وتردّيها: رميها بنفسها من مكانٍ عالٍ مشرفٍ إلى سفله
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {والمتردّية} قال: الّتي تتردّى من الجبل.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {والمتردّية} كانت تتردّى في البئر فتموت فيأكلونها.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {والمتردّية} قال: الّتي تردّت في البئر.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في قوله: {والمتردّية} قال: هي الّتي تردّى من الجبل أو في البئر، فتموت.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {والمتردّية} الّتي تردّى من الجبل فتموت.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: حدّثنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {والمتردّية} قال: الّتي تخرّ في ركيٍّ أو من رأس جبلٍ فتموت). [جامع البيان: 8/58-59]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والنّطيحة}
يعني بقوله {النّطيحة} الشّاة الّتي تنطحها أخرى فتموت من النّطاح بغير تذكيةٍ، فحرّم اللّه جلّ ثناؤه ذلك على المؤمنين إن لم يدركوا ذكاته قبل موته.
وأصل النّطيحة: المنطوحة، صرفت من مفعولةٍ إلى فعيلةٍ
فإن قال قائلٌ: وكيف أثبتت الهاء هاء التّأنيث فيها، وأنت تعلم أنّ العرب لا تكاد تثبت الهاء في نظائرها إذا صرفوها صرف النّطيحة من مفعولٍ إلى فعيلٌ، إنّما تقول: لحيةٌ دهينٌ، وعينٌ كحيلٌ، وكفٌّ خضيبٌ، ولا يقولون كفٌّ خضيبةٌ ولا عينٌ كحيلةٌ؟
قيل: قد اختلفت أهل العربيّة في ذلك، فقال بعض نحويّي البصرة: أثبتت فيها الهاء، أعني في النّطيحة، لأنّها جعلت كالاسم مثل الطّويلة والطّريقة فكأنّ قائل هذا القول وجّه النّطيحة إلى معنى النّاطحة.
فتأويل الكلام على مذهبه: وحرّمت عليكم الميّتة نطاحًا، كأنّه عنى: وحرّمت عليكم النّاطحة الّتي تموت من نطاحها.
وقال بعض نحويّي الكوفة: إنّما تحذف العرب الهاء من الفعيلة المصروفة عن المفعول إذا جعلتها صفةً لاسمٍ، قد تقدّمها، فتقول: رأينا كفًّا خضيبًا وعينًا كحيلاً. فأمّا إذا حذفت الكفّ والعين والاسم الّذي يكون فعيلٌ نعتًا لها واجتزءوا بفعيلٍ منها، أثبتوا فيه هاء التّأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنّها صفةٌ للمؤنّث دون المذكّر، فتقول: رأينا كحيلةً وخضيبةً وأكيلة السّبع، قالوا: ولذلك أدخلت الهاء في النّطيحة، لأنّها صفة المؤنّث، ولو أسقطت منها لم يدر أهي صفة مؤنّثٍ أو مذكّرٍ.
وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصّواب لتتائع من أقوال أهل التّأويل، بأنّ معنى النّطيحة: المنطوحة.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {والنّطيحة} قال: الشّاة تنطح الشّاة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، عن قيسٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: كان يقرأ: والمنطوحة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {والنّطيحة} الشّاتان تنتطحان فتموتان.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {والنّطيحة} هي الّتي تنطحها الغنم والبقر فتموت. يقول: هذا حرامٌ، لأنّ ناسًا من العرب كانوا يأكلونه.
- حدّثنا بشرٌ، قال حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {والنّطيحة} كان الكبشان ينتطحان، فيموت أحدهما، فيأكلونه.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {والنّطيحة} الكبشان ينتطحان فيقتل أحدهما الآخر، فيأكلونه.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك يقول في قوله: {والنّطيحة} قال: الشّاة تنطح الشّاة فتموت). [جامع البيان: 8/59-62]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما أكل السّبع}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وما أكل السّبع} وحرّم عليكم ما أكل السّبع غير المعلّم من الصّوائد.
وكذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {وما أكل السّبع} يقول: ما أخذ السّبع.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {وما أكل السّبع} يقول: ما أخذ السّبع.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وما أكل السّبع} قال: كان أهل الجاهليّة إذا قتل السّبع شيئًا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، عن قيسٍ، عن عطاء بن السّائب، عن أبي الرّبيع، عن ابن عبّاسٍ، أنّه قرأ: وأكيل السّبع). [جامع البيان: 8/62-63]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إلاّ ما ذكّيتم}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {إلاّ ما ذكّيتم} إلاّ ما طهّرتموه بالذّبح الّذي جعله اللّه له طهورًا.
ثمّ اختلف أهل التّأويل فيما استثنى اللّه بقوله: {إلاّ ما ذكّيتم} فقال بعضهم: استثنى من جميع ما سمّى اللّه تحريمه، من قوله {وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع}.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {إلاّ ما ذكّيتم} يقول: ما أدركت ذكاته من هذا كلّه، يتحرّك له ذنبٌ أو تطرف له عينٌ، فاذبح واذكر اسم اللّه عليه فهو حلالٌ.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن فضيلٍ، عن أشعث، عن الحسن: {حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم} قال الحسن: أيّ هذا أدركت ذكاته فذكّه وكل. فقلت: يا أبا سعيدٍ كيف أعرف؟ قال: إذا طرفت بعينها أو ضربت بذنبها.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال وحدثنا ابن بشار قال أخبرنا روح قالا: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {إلاّ ما ذكّيتم} قال: فكلّ هذا الّذي سمّاه اللّه عزّ وجلّ ههنا ما خلا لحم الخنزير إذا أدركت منه عينًا تطرف أو ذنبًا يتحرّك أو قائمةً تركض، فذكّيته، فقد أحلّ اللّه لك ذلك.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {إلاّ ما ذكّيتم} من هذا كلّه، فإذا وجدتها تطرف عينها، أو تحرّك أذنها من هذا كلّه، فهي لك حلالٌ.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني هشيمٌ وعبّادٌ، قالا: أخبرنا حجّاجٌ، عن حصينٍ، عن الشّعبيّ، عن الحارث، عن عليٍّ، قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردّية والنّطيحة وهي تحرّك يدًا أو رجلاً فكلها.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا مغميرٌة، عن إبراهيم، قال: إذا أكل السّبع من الصّيد أو الوقيذة، أو النّطيحة أو المتردّية فأدركت ذكاته، فكل.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا مصعب بن سلاّم التّميميّ، قال: حدّثنا جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن عليّ بن أبي طالبٍ، قال: إذا ركضت برجلها أو طرفت بعينها أو حرّكت ذنبها، فقد أجزأ.
- حدّثنا ابن المثنّى، وابن بشّارٍ قالا: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: أخبرني ابن طاووسٍ، عن أبيه، قال: إذا ذبحت فمصعت بذنبها أو تحرّكت فقد حلّت لك. او قال: فحسبه.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن حميدٍ، عن الحسن، قال: إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصع بذنبها، فاذبح وكل.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا الحجّاجٌ، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن قتادة، بمثله.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريجٍ، عن أبي الزّبير، أنّه سمع عبيد بن عميرٍ، يقول: إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذنبها، أو تحرّكت، فقد حلّت لك.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول: كان أهل الجاهليّة يأكلون هذا، فحرّم اللّه في الإسلام إلا ما ذكّي منه، فما أدركت يتحرّك منه رجلٌ أو ذنبٌ أو طرفٌ فذكّي، فهو حلالٌ.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير} وقوله: {والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة} الآية {وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم} هذا كلّه محرّمٌ، إلاّ ما ذكّي من هذا
فتأويل الآية على قول هؤلاء: حرّمت الموقوذة والمتردّية إن ماتت من التّردّي والوقذ والنّطح وفرس السّبع، إلاّ أن تدركوا ذكاتها، فتدركوها قبل موتها، فتكون لكم حينئذٍ حلالاً أكلها
وقال آخرون: هو استثناءٌ من التّحريم، وليس باستثناءٍ من المحرّمات الّتي ذكرها اللّه تعالى في قوله: {حرّمت عليكم الميتة} لأنّ الميتة لا ذكاة لها ولا للخنزير. قالوا: وإنّما معنى الآية: حرّمت عليكم الميتة والدّم، وسائر ما سمّينا مع ذلك، إلاّ ما ذكّيتم ممّا أحلّه اللّه لكم بالتّذكية، فإنّه لكم حلالٌ.
وممّن قال ذلك جماعةٌ من أهل المدينة.
ذكر بعض من قال ذلك:.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال مالكٌ: وسئل عن الشّاة الّتي يخرق جوفها السّبع حتّى تخرج أمعاؤها، فقال مالكٌ: لا أرى أن تذكّى ولا يؤكل أيّ شيءٍ يذكّى منها.
- حدّثني يونس، عن أشهب، قال: سئل مالكٌ، عن السّبع، يعدو على الكبش، فيدقّ ظهره، أترى أن يذكّى قبل أن يموت فيؤكل؟ قال: إن كان بلغ السّحر، فلا أرى أن يؤكل، وإن كان إنّما أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدقّ ظهره؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذّئب يعدو على الشّاة فيشقّ بطنها ولا يشقّ الأمعاء؟ قال: إذا شقّ بطنها فلا أرى أن تؤكل
وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله: {إلاّ ما ذكّيتم} استثناءً منقطعًا.
فيكون تأويل الآية: حرّمت عليكم الميتة والدّم، وسائر ما ذكرنا، ولكن ما ذكّيتم من الحيوانات الّتي أحللتها لكم بالتّذكية حلالٌ.
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصّواب القول الأوّل، وهو أنّ قوله: {إلاّ ما ذكّيتم} استثناءٌ من قوله: {وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع} لأنّ كلّ ذلك مستحقٌّ الصّفة الّتي هو بها قبل حال موته، فيقال: لما قرّب المشركون لآلهتهم فسمّوه لهم: هو {ما أهلّ لغير اللّه به} بمعنى: سمّي قربانًا لغير اللّه. وكذلك المنخنقة: إذا انخنقت، وإن لم تمت فهي منخنقةٌ، وكذلك سائر ما حرّمه اللّه جلّ وعزّ بعد قوله: {وما أهلّ لغير اللّه به} إلاّ بالتّذكية فإنّه يوصف بالصّفة الّتي هو بها قبل موته، فحرّمه اللّه على عباده إلاّ بالتّذكية المحلّلة دون الموت بالسّبب الّذي كان به موصوفًا.
فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وحرّم عليكم ما أهلّ لغير اللّه به، والمنخنقة، وكذا وكذا وكذا، إلاّ ما ذكّيتم من ذلك
فما إذ كان ذلك تأويله في موضع نصبٍ بالاستثناء ممّا قبلها، وقد يجوز فيه الرّفع. وإذ كان الأمر على ما وصفنا، فكلّ ما أدركت ذكاته من طائرٍ أو بهيمةٍ قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده، فحلالٌ أكله إذا كان ممّا أحلّه اللّه لعباده.
فإن قال لنا قائلٌ: فإذ كان ذلك معناه عندك، فما وجه تكريره ما كرّر بقوله: {وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمترديّة} وسائر ما عدّد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله: {حرّمت عليكم الميتة} وقد علمت أنّ قوله: {حرّمت عليكم الميتة} شاملٌ كلّ ميتةٍ كان موته حتف أنفه، من علّةٍ به من غير جناية أحدٍ عليه، أو كان موته من ضرب ضاربٍ إيّاه، أو انخناقٍ منه كان موته أو انتطاحٍ أو فرس سبعٍ؟ وهلا كان قوله إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك من أنّه معنيٌّ بالتّحريم في كلّ ذلك الميتة بالانخناق والنّطاح والوقذ وأكل السّبع أو غير ذلك، دون أن يكون معنيًّا به تحريمه إذا تردّى أو انخنق، أو فرسه السّبع، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنّه لا يعيش ممّا أصابه منه إلا باليسير من الحياة {حرّمت عليكم الميتة} مغنيًا من تكرير ما كرّر بقوله {وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة} وسائر ما ذكر مع ذلك وتعداده ما عدّد؟
قيل: وجه تكراره ذلك وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب الّتي هو بها موصوفٌ، وقد تقدّم بقوله: {حرّمت عليكم الميتة} أنّ الّذين خوطبوا بهذه الآية لا يعدّون الميتة من الحيوان، إلاّ ما مات من علّةٍ عارضةٍ به، غير الانخناق والتّردّي والانتطاح، وفرس السّبع، فأعلمهم اللّه أنّ حكم ذلك حكم ما مات من العلل العارضة، وأنّ العلّة الموجبة تحريم الميتة ليست موتها من علّة مرضٍ أو أذًى كان بها قبل هلاكها، ولكنّ العلّة في ذلك أنّها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الّذي أحلّها به كالّذي:.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في قوله: {والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم} يقول: هذا حرامٌ، لأنّ ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدّونه ميّتًا، إنّما يعدّون الميّت الّذي يموت من الوجع، فحرّمه اللّه عليهم، إلاّ ما ذكروا اسم اللّه عليه وأدركوا ذكاته وفيه الرّوح). [جامع البيان: 8/63-69]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما ذبح على النّصب}
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وما ذبح على النّصب} وحرّم عليكم أيضًا الّذي ذبح على النّصب فما في قوله {وما ذبح} رفع عطفًا على ما الّتي في قوله: {وما أكل السّبع}
والنّصب: الأوثان من الحجارة جماعة أنصابٍ كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقرّبون لها، وليست بأصنامٍ.
وكان ابن جريجٍ يقول في صفته ما:.
- حدّثنا القاسم: قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: النّصب: ليست بأصنامٍ، الصّنم يصوّر وينقش، وهذه حجارةٌ تنصب ثلاثمائةٍ وستّون حجرًا، منهم من يقول: ثلاثمائةٍ منها لخزاعة. فكانوا إذا ذبحوا، نضحوا الدّم على ما أقبل من البيت، وشرحوا اللّحم وجعلوه على الحجارة، فقال المسلمون: يا رسول اللّه، كان أهل الجاهليّة يعظّمون البيت بالدّم، فنحن أحقّ أن نعظّمه. فكان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكره ذلك، فأنزل اللّه: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها}
وممّا يحقّق قول ابن جريجٍ في أنّ الأنصاب غير الأصنام ما:.
- حدّثنا به ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وما ذبح على النّصب} قال: حجارةٌ كان يذبح عليها أهل الجاهليّة.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول اللّه: {النّصب} قال: حجارةٌ حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهليّة، ويبدّلونها إن شاءوا بحجارةٍ أعجب إليهم منها.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وما ذبح على النّصب} والنّصب: حجارةٌ كان أهل الجاهليّة يعبدونها، ويذبحون لها، فنهى اللّه عن ذلك.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله: {وما ذبح على النّصب} يعني: أنصاب اهل الجاهليّة.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وما ذبح على النّصب} والنّصب: أنصابٌ كانوا يذبحون ويهلّون عليها.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ قوله: {وما ذبح على النّصب} قال: كان حول الكعبة حجارةٌ كان يذبح عليها أهل الجاهليّة ويبدّلونها إذا شاءوا بحجرٍ هو أحبّ إليهم منها.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك بن مزاحمٍ، يقول: الأنصاب حجارةٌ كانوا يهلّون لها، ويذبحون عليها.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وما ذبح على النّصب} قال: ما ذبح على النّصب، وما أهلّ لغير اللّه به، وهو واحدٌ). [جامع البيان: 8/69-72]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام}
يعني بقوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم، بالأزلام. وهو استفعلت من القسم: قسم الرّزق والحاجات. وذلك أنّ أهل الجاهليّة كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو نحو ذلك، أجال القداح، وهي الأزلام، وكانت قداحًا مكتوبًا على بعضها: نهاني ربّي، وعلى بعضها: أمرني ربّي، فإن خرج القدح الّذي هو مكتوبٌ عليه: أمرني ربّي، مضى لما أراد من سفرٍ أو غزو أو تزويجٍ وغير ذلك؛ وإن خرج الّذي عليه مكتوبٌ: نهاني ربّي، كفّ عن المضيّ لذلك وأمسك فقيل: {وأن تستقسموا بالأزلام} لأنّهم بفعلهم ذلك كانوا كأنّهم يسألون أزلامهم أن يقسمن لهم. ومنه قول الشّاعر مفتخرًا بترك الاستقسام بها:.
ولم أقسم فتربثني القسوم
وأمّا الأزلام، فإنّ واحدها زلمٌ، ويقال زلمٌ، وهي القداح الّتي وصفنا أمرها.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، وابن وكيعٍ، قالا: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن سفيان، عن أبي حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفرٍ، جعلوا قداحًا للجلوس والخروج، فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن شريكٍ، عن أبي حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: حصًى بيضٌ كانوا يضربون بها قال أبو جعفرٍ: قال لنا سفيان بن وكيعٍ: هو الشّطرنج.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عبّاد بن راشدٍ البزّار، عن الحسن، في قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: كانوا إذا أرادوا أمرًا أو سفرًا، يعمدون إلى قداحٍ ثلاثةٍ على واحدٍ منها مكتوبٌ: اؤمرني، وعلى الآخر: انهني، ويتركون الآخر محلّلاً بينهما ليس عليه شيءٌ. ثمّ يجيلونها، فإن خرج الّذي عليه اؤمرني، مضوا لأمرهم، وإن خرج الّذي عليه انهني كفّوا، وإن خرج الّذي ليس عليه شيءٌ أعادوها.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وأن تستقسموا بالأزلام}: حجارةٌ كانوا يكتبون عليها يسمّونها القداح.
- حدثني محمد بن عمرو قال حدّثنا أبو عاصم قال حدّثنا عيسى عن بن أبى نجيح عن مجاهد في قول الله { بالأزلام} قال القدح يضربون بها لكل سفر وغزو وتجارة.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، عن زهيرٍ، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: كعاب فارسٍ الّتي يقمرون بها، وسهام العرب.
- حدّثني أحمد بن حازمٍ الغفاريّ، قال: حدّثنا أبو نعيمٍ، قال: حدّثنا زهيرٌ، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: سهام العرب وكعاب فارسٍ والرّوم كانوا يتقامرون بها.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: كان الرّجل إذا أراد أن يخرج مسافرًا، كتب في قداحٍ: هذا يأمرني بالمكث، وكتب على الاخر وهذا يأمرني بالخروج، وجعل معها منيحًا، شيءٌ لم يكتب فيه شيئًا، ثمّ استقسم بها حين يريد أن يخرج، فإن خرج الّذي يأمر بالمكث مكث، وإن خرج الّذي يأمر بالخروج خرج،وقال لايصيبنى في سفرى هذا الاخير وإن خرج الذي ليس عليه شيء الآخر أجالها ثانيةً حتّى يخرج أحد القدحين.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وأن تستقسموا بالأزلام} وكان أهل الجاهليّة إذا أراد أحدهم خروجًا، أخذ قدحًا فقال: هذا يأمر بالخروج، فإن خرج فهو مصيبٌ في سفره خيرًا؛ ويأخذ قدحًا آخر فيقول: هذا يأمر بالمكوث، فليس يصيب في سفره خيرًا؛ والمنيح بينهما. فنهى اللّه عن ذلك، وقدّم فيه.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: كانوا يستقسمون بها في الأمور.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: الأزلام قداحٌ لهم كان أحدهم إذا أراد شيئًا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد، فيضرب بها، فأيّ قدحٍ خرج وإن كان أبغض تلك ارتكبه وعمل به.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: الأزلام: قداحٌ كانت في الجاهليّة عند الكهنة، فإذا أراد الرّجل أن يسافر أو يتزوّج أو يحدث أمرًا، أتى الكاهن، فأعطاه شيئًا، فضرب له بها، فإن خرج منها شيءٌ يعجبه أمره ففعل، وإن خرج منها شيءٌ يكرهه نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطّلب على زمزم وعلى عبد اللّه والإبل.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عبد اللّه بن كثيرٍ، قال: سمعنا أنّ أهل الجاهليّة كانوا يضربون بالقداح في الظّعن والإقامة أو الشّيء يريدونه، فيخرج سهم الظّعن فيظعنون، والإقامة فيقيمون.
وقال ابن إسحاق في الأزلام ما:
- حدّثني به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانت هبل أعظم أصنام قريشٍ بمكّة، وكانت على بئرٍ في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي الّتي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكانت عند هبل سبعة أقداحٍ، كلّ قدحٍ منها فيه كتابٌ: قدحٌ فيه العقل إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السّبعة فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله وقدحٌ فيه: نعم للأمر إذا أرادوا يضرب به، فإن خرج قدح نعم عملوا به؛ وقدحٌ فيه لا، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدحٌ فيه: منكم. وقدحٌ فيه: ملصقٌ. وقدحٌ فيه: من غيركم. وقدحٌ فيه: المياه، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يجتبوا غلامًا، أو أن ينكحوا منكحًا، أو أن يدفنوا ميّتًا، ويشكّوا في نسب واحدٍ منهم، ذهبوا به إلى هبل، وبمائة درهمٍ وبجزورٍ، فأعطوها صاحب القداح الّذي يضربها، ثمّ قرّبوا صاحبهم الّذي يريدون به ما يريدون، ثمّ قالوا: يا إلهنا، هذا فلانٌ ابن فلانٍ، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحقّ فيه. ثمّ يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه منكم كان وسيطًا، وإن خرج عليه: من غيركم، كان حليفًا، وإن خرج:عليه ملصقٌ، كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف؛ وإن خرج فيه شيءٌ سوى هذا ممّا يعملون به نعم عملوا به؛ وإن خرج: لا، أخّروه عامهم ذلك، حتّى يأتوا به مرّةً أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك ممّا خرجت به القداح.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} يعني: القدح، كانوا يستقسمون بها في الأمور). [جامع البيان: 8/72-77]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلكم فسقٌ}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ذلكم} هذه الأمور الّتي ذكرها، وذلك أكل الميتة والدّم ولحم الخنزير وسائر ما ذكر في هذه الآية ممّا حرّم أكله. والاستقسام بالأزلام. {فسقٌ} يعني: خروجٌ عن أمر اللّه وطاعته إلى ما نهى عنه وزجر، وإلى معصيته. كما:.
- حدّثني المثنّى: قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {ذلكم فسقٌ} يعني: من أكل من ذلك كلّه، فهو فسقٌ). [جامع البيان: 8/77]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم}
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود أيّها المؤمنون من دينكم، يقول: من دينكم أن تتركوه، فترتدّوا عنه راجعين إلى الشّرك. كما:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدًا.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} قال: أظنّ يئسوا أن ترجعوا عن دينكم.
فإن قال قائلٌ: وأيّ يومٍ هذا اليوم الّذي أخبر اللّه أنّ الّذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين؟ قيل: ذكر أنّ ذلك كان يوم عرفة، عام حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حجّة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال مجاهدٌ: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} {اليوم أكملت لكم دينكم}: هذا حين فعلت. قال ابن جريجٍ: وقال آخرون: ذلك يوم عرفة في يوم جمعةٍ لمّا نظر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلم ير إلاّ موحّدًا ولم ير مشركًا؛ حمد اللّه، فنزل عليه جبريل عليه السّلام: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} أن يعودوا كما كانوا.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} قال: هذا يوم عرفة). [جامع البيان: 8/77-79]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فلا تخشوهم واخشون}
يعني بذلك: فلا تخشوا أيّها المؤمنون هؤلاء الّذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفّار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم فيقهروكم ويردّوكم عن دينكم، {واخشون} يقول: ولكن خافون إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي وتعدّيتم حدودي، أن أحلّ بكم عقابي وأنزل بكم عذابي. كما:.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {فلا تخشوهم واخشون} فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم). [جامع البيان: 8/79]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني جلّ ثناؤه بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} اليوم أكملت لكم أيّها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إيّاكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بيّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلّة الّتي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حجّة الوداع. وقالوا: لم ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بعد هذه الآية شيءٌ من الفرائض ولا تحليل شيءٍ ولا تحريمه، وإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلاّ إحدى وثمانين ليلةً.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام، قال: أخبر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين أنّه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادةٍ أبدًا، وقد أتمّه اللّه عزّ ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه اللّه فلا يسخطه أبدًا.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ، ورجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمات، فقالت أسماء بنت عميسٍ: حججت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك الحجّة، فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل صلّى اللّه عليه وسلّم فمال رسول صلّى اللّه عليه وسلّم على الرّاحلة، فلم تطق الرّاحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجّيت عليه برداءٍ كان عليّ.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: مكث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلةً قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم}.
- حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا ابن فضيلٍ، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: لمّا نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك يوم الحجّ الأكبر، بكى عمر، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادةٍ من ديننا، فأمّا إذ كمل فإنّه لم يكمل شيءٌ إلاّ نقص، فقال: صدقت.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أحمد بن بشيرٍ، عن هارون بن أبي وكيعٍ، عن أبيه، فذكر نحو ذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: {اليوم أكملت لكم دينكم} حجّكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحجّونه أنتم أيّها المؤمنون دون المشركين لا يخالطكم في حجّكم مشركٌ.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن أبي عتبة، عن أبيه، عن الحكم: {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: أكمل لهم دينهم أن حجّوا ولم يحجّ معهم مشركٌ.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: أخلص اللّه لهم دينهم، ونفى المشركين عن البيت.
- حدّثنا أحمد بن حازمٍ، قال: حدّثنا أبو نعيمٍ، قال: حدّثنا قيسٌ، عن أبي حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: تمام الحجّ، ونفي المشركين عن البيت.
وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب أن يقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين به، أنّه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيّه دينهم، بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلائه عنه المشركين، حتّى حجّه المسلمون دونهم، لا يخالطهم مشرك.
فأمّا الفرائض والأحكام، فإنّه قد اختلف فيها، هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا؟ فروي عن ابن عبّاسٍ والسّدّيّ ما ذكرنا عنهما قبل. وروي عن البراء بن عازبٍ أنّ آخر آيةٍ نزلت من القرآن: {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة}
ولا يدفع ذو علمٍ أنّ الوحي لم ينقطع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعًا. فإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة} آخرها نزولاً وكان ذلك من الأحكام والفرائض، كان معلومًا أنّ معنى قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} على خلاف الوجه الّذي تأوّله من تأوّله، أعنّي: كمال العبادات والأحكام والفرائض.
فإن قال قائلٌ: فما جعل قول من قال: قد نزل بعد ذلك فرضٌ أولى من قول من قال: لم ينزل؟
قيل لأنّ الّذي قال لم ينزل، مخبرٌ أنّه لا يعلم نزول فرضٍ، والنّفي لا يكون شهادةً، والشّهادة قول من قال: نزل، وغير جائزٍ دفع خبر الصّادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقًا). [جامع البيان: 8/79-83]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي}
يعني جلّ ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي أيّها المؤمنون بإظهاركم على عدوّي وعدوّكم من المشركين، ونفيي إيّاهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم، وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشّرك.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قال: كان المشركون والمسلمون يحجّون جميعًا، فلمّا نزلت براءة، فنفى المشركين عن البيت، وحجّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحدٌ من المشركين، فكأنّ ذلك من تمام النّعمة: {وأتممت عليكم نعمتي}.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الآية، ذكر لنا أنّ هذه الآية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم عرفة يوم جمعةٍ، حين نفى اللّه المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجّهم.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، قال: حدّثنا داود، عن الشّعبيّ، قال: نزلت هذه الآية بعرفاتٍ، حيث هدم منار الجاهليّة، واضمحلّ الشّرك، ولم يحجّ معهم في ذلك العام مشركٌ.
- حدّثنا ابن المثنّى قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ في هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} قال: نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو واقفٌ بعرفاتٍ، وقد أطاف به النّاس، وتهدّمت منار الجاهليّة ومناسكهم، واضمحلّ الشّرك، ولم يطف حول البيت عريانٌ، فأنزل اللّه: {اليوم أكملت لكم دينكم}.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن داود، عن الشّعبيّ، بنحوه). [جامع البيان: 8/83-84]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينًا}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ورضيت لكم {الإسلام دينًا} أي الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه {دينًا} يعني بذلك: طاعةً منكم لي.
فإن قال قائلٌ: أو ما كان اللّه راضيًا الإسلام دينا لعباده، إلاّ يوم أنزل هذه الآية؟
قيل: لم يزل اللّه راضيًا لخلقه الإسلام دينًا، ولكنّه جلّ ثناؤه لم يزل يصرف نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه في درجاته الاسلام ومراتبه درجةً بعد درجةٍ ومرتبةٍ بعد مرتبةٍ وحالاً بعد حالٍ، حتّى أكمل لهم شرائعه ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه، ثمّ قال حين أنزل عليهم هذه الآية: {ورضيت لكم الإسلام دينًا} بالصّفة الّتي هو بها اليوم، والحالّ الّتي أنتم عليها اليوم منه {دينًا} فالزموه ولا تفارقوه.
وكان قتادة يقول في ذلك ما:.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّه يمثّل لأهل كلّ دينٍ دينهم يوم القيامة، فأمّا الإيمان فيبشّر أصحابه وأهله، ويعدهم في الخير حتّى يجيء الإسلام. فيقول: ربّ أنت السّلام وأنا الإسلام، فيقول: إيّاك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي.
وأحسب أنّ قتادة وجّه معنى الإيمان بهذا الخبر إلى معنى التّصديق والإقرار باللّسان، لأنّ ذلك معنى الإيمان عند العرب، ووجّه معنى الإسلام إلى استسلام القلب وخضوعه للّه بالتّوحيد، وانقياد الجسد له بالطّاعة فيما أمر ونهى، فلذلك قال للإسلام: إيّاك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي.
ذكر من قال: نزلت هذه الآية بعرفة في حجّة الوداع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، وابن وكيعٍ، قالا: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ، قال: قالت اليهود لعمر: إنّكم تقرءون آيةً لو أنزلت فينا لاتّخذناها عيدًا. فقال عمر: إنّي لأعلم حين أنزلت، وأين نزلت، وأين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزلت؛ أنزلت يوم عرفة ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واقفٌ بعرفة قال سفيان: وأشكّ، كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا}.
- حدّثنا أبو كريبٍ وابن وكيعٍ. قالا: حدّثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ، قال: قال يهوديّ لعمر: لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} لو نعلم ذلك اليوم اتّخذنا ذلك اليوم عيدًا. فقال عمر: قد علمت اليوم الّذي نزلت فيه والسّاعة، وأين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين نزلت؛ نزلت ليلة الجمعة ونحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعرفاتٍ. لفظ الحديث لأبي كريبٍ، وحديث ابن وكيعٍ نحوه.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا جعفر بن عونٍ، عن أبي العميس، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارقٍ، عن عمر، نحوه.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن حمّاد بن سلمة، عن عمّارٍ، مولى بني هاشمٍ، قال: قرأ ابن عبّاسٍ: {اليوم أكملت لكم دينكم} وعنده رجلٌ من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا أيّ يومٍ نزلت هذه الآية لاتّخذناه عيدًا، فقال ابن عبّاسٍ: فإنّها نزلت يوم عرفة يوم جمعةٍ.
- حدّثني المثنّى: حدّثنا الحجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن عمّار بن أبي عمّارٍ، عن ابن عبّاسٍ نحوه.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: حدّثنا رجاء بن أبي سلمة، قال: أخبرنا عبادة بن نسيٍّ، قال: حدّثنا أميرنا إسحاق بن قبيصه، قال أبو جعفرٍ إسحاق هو ابن خرشة عن قبيصة قال: قال كعبٌ: لو أنّ غير هذه الأمّة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الّذي أنزلت فيه عليهم فاتّخذوه عيدًا يجتمعون فيه، فقال عمر: أيّ آيةٍ يا كعب؟ فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال عمر: قد علمت اليوم الّذي أنزلت فيه، والمكان الّذي أنزلت فيه، يوم جمعةٍ، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد اللّه لنا عيدٌ.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن عيسى بن جارية الأنصاريّ، قال: كنّا جلوسًا في الدّيوان، فقال لنا نصرانيٌّ: يا أهل الإسلام: لقد نزلت عليكم آيةٌ لو نزلت علينا لاتّخذنا ذلك اليوم وتلك السّاعة عيدًا ما بقي منّا اثنان: {اليوم أكملت لكم دينكم} فلم يجبه أحدٌ منّا، فلقيت محمّد بن كعبٍ القرظيّ، فسألته عن ذلك، فقال: ألا رددتم عليه؟ فقال: قال عمر بن الخطّاب: أنزلت على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو واقفٌ على الجبل يوم عرفة، فلا يزال ذلك اليوم عيدًا للمسلمين ما بقي منهم أحدٌ.
- حدّثنا حميد بن مسعدة، قال: حدّثنا بشر بن المفضّل، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ، قال: أنزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} عشيّة عرفة وهو في الموقف.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الوهّاب، قال: حدّثنا داود، قال: قلت لعامرٍ: إنّ اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الّذي أكمل اللّه لها دينها فيه؟ فقال عامرٌ: أو ما حفظته؟ قلت له: فأيّ يومٍ؟ قال: يوم عرفة، أنزل اللّه في يوم عرفه.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، قال: بلغنا أنّها نزلت يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ليثٍ، عن شهر بن حوشبٍ، قال: نزلت سورة المائدة على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو واقفٌ بعرفة على راحلته، فتنوّخت لأن يدقّ ذراعها.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن شهر بن حوشبٍ، عن أسماء بنت يزيد، قالت: نزلت سورة المائدة جميعًا وأنا آخذةٌ، بزمام ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العضباء؛ قالت: فكادت من ثقلها أن يدقّ عضد النّاقة.
- حدّثني أبو عامرٍ إسماعيل بن عمرٍو السّكونيّ، قال: حدّثنا هشام بن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن عيّاشٍ، قال: حدّثنا عمرو بن قيسٍ الّكنديّ، أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان، على المنبر ينتزع بهذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم} حتّى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعةٍ.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية، أعني قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} يوم الاثنين، وقالوا: أنزلت سورة المائدة بالمدينة.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: أخبرنا محمّد بن حربٍ، قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنشٍ، عن ابن عبّاسٍ: ولد نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الاثنين، وخرج من مكّة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين {اليوم أكملت لكم دينكم} ورفع الرّكن يوم الاثنين.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا همّامٌ، عن قتادة، قال: المائدة مدنيّةٌ.
وقال آخرون: نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مسيره في حجّة الوداع.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: نزلت سورة المائدة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسير في حجّة الوداع، وهو راكبٌ راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها.
وقال آخرون: ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند النّاس، وإنّما معناه اليوم الّذي أعلمه أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {اليوم أكملت لكم دينكم} يقول: ليس بيومٍ معلومٍ يعلمه النّاس.
وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القول الّذي روي عن عمر بن الخطّاب: أنّها نزلت يوم عرفة يوم جمعةٍ، لصحّة سنده ووهي أسانيد غيره). [جامع البيان: 8/84-91]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ}
يعني تعالى ذكره بقول: {فمن اضطرّ} فمن أصابه ضرٌّ في مخمصةٍ، يعني في مجاعةٍ،
وهي مفعلةٌ مثل المجبنة والمبخلة والمنجبة، من خمص البطن، وهو اضطماره، وأظنّه هو في هذا الموضع معنيٌّ به اضطماره من الجوع وشدّة السّغب، وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارًا من غير الجوع والسّغب، ولكن من خلقةٍ، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأةٍ بخمص البطن:.
والبطن ذو عكنٍ خميصٍ ليّنٍ = والنّحر تنفجه بثديٍ مقعد
فمعلومٌ أنّه لم يرد صفتها بقوله خميصٍ بالهزال والضّرّ من الجوع، ولكنّه أراد وصفها بلطافة طيّ ما على الأوراك والأفخاذ من جسدها، لأنّ ذلك ممّا يحمد من النّساء. ولكنّ الّذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضّرّ، من ذلك قول أعشى بني ثعلبة:.
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم = وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
يعني بذلك: يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسّغب والضّرّ، فمن هذا المعنى قوله: في مخمصةٍ.
وكان بعض نحويّي البصرة يقول: المخمصة: المصدر من خمصه الجوع.
وكان غيره من أهل العربيّة يرى أنّها اسمٌ للمصدر وليست بمصدرٍ؛ ولذلك تقع المفعلة اسمًا في المصادر للتّأنيث والتّذكير.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ} يعني في مجاعةٍ.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ} أي في مجاعةٍ.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، مثله.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ} قال: ذكر الميتة وما فيها وأحلّها في الاضطرار. {في مخمصةٍ} يقول: في مجاعةٍ.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سمعت ابن زيدٍ، يقول في قوله: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ} قال: المخمصة: الجوع). [جامع البيان: 8/91-93]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {غير متجانفٍ لإثمٍ}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ} إلى أكل ما حرّمت عليه منكم أيّها المؤمنون من الميتة والدّم ولحم الخنزير وسائر ما حرّمت عليه بهذه الآية. {غير متجانفٍ لإثمٍ} يقول: لا متجانفًا لإثمٍ.
فلذلك نصب غير لخروجها من الاسم الّذي في قوله: {فمن اضطرّ} وبمعنى لا، فنصب بالمعنى الّذي كان به منصوبًا المتجانف لو جاء الكلام: لا متجانفًا.
وأمّا المتجانف للإثم، فإنّه المتمايل له، المنحرف إليه، وهو في هذا الموضع مرادٌ به المتعمّد له القاصد إليه، من جنف القوم عليّ إذا مالوا، وكلّ أعوج فهو أجنف عند العرب
وقد بيّنّا معنى الجنف بشواهده في قوله: {فمن خاف من موص جنفًا} بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأمّا تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها ممّا حرّم اللّه أكله على المؤمنين بهذه الآية للإثم في حال أكله، فهو تعمّده الأكل لغير دفع الضّرورة النّازلة به، ولكن لمعصية اللّه وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ} يعني: إلى ما حرّم ممّا سمّى في صدر هذه الآية: {غير متجانفٍ لإثمٍ} يقول: غير متعمّدٍ لإثمٍ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {غير متجانفٍ لإثمٍ} غير متعمّدٍ لإثمٍ، قال:لما حرم اللّه ما حرّم، رخّص للمضطرّ إذا كان غير متعمّدٍ لإثمٍ أن يأكله من جهدٍ؛ فمن بغى أو عدا أو خرج في معصية اللّه، فإنّه محرّمٌ عليه أن يأكله.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {غير متجانفٍ لإثمٍ} أي غير متعرّضٍ لمعصيةٍ.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {غير متجانفٍ لإثمٍ} غير متعمّدٍ لإثمٍ، غير متعرّضٍ.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {غير متجانفٍ لإثمٍ} يقول: غير متعرّضٍ لإثمٍ: أن يبتغي فيه شهوةً، أو يعتدي في أكله.
- حدّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {غير متجانفٍ لإثمٍ} لا يأكل ذلك ابتغاء الإثم، ولا جراءةً عليه). [جامع البيان: 8/93-95]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}
وفي هذا الكلام متروكٌ اكتفي بدلالة ما ذكر عليه منه، وذلك أنّ معنى الكلام: فمن اضطرّ في مخمصةٍ إلى ما حرّمت عليه ممّا ذكرت في هذه الآية {غير متجانفٍ لإثمٍ} فأكله {فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} فترك ذكر: فأكله. وذكر: له، لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما.
وأمّا قوله: {فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} فإنّ معناه: فإنّ اللّه لمن أكل ما حرّمت عليه بهذه الآية أكله في مخمصةٍ، غير متجانفٍ لإثمٍ، غفورٌ رحيمٌ، يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك بعفوه عن مؤاخذته إيّاه، وصفحه عنه، وعن عقوبته عليه {رحيمٌ} يقول: وهو به رفيقٌ، من رحمته ورفقه به، أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه، من كلب الجوع وضرّ الحاجة العارضة ببدنه.
فإن قال قائلٌ: وما الأكل الّذي وعد اللّه المضطرّ إلى الميتة وسائر المحرّمات معها بهذه الآية غفرانه إذا أكل منها؟ قيل: ما:.
- حدّثني عبد الأعلى بن واصلٍ الأسديّ، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم الأسديّ، عن الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطيّة، عن أبي واقدٍ اللّيثيّ، قال: قلنا: يا رسول اللّه، إنّا بأرضٍ تصيبنا فيها مخمصةٌ، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بقلا، فشأنكم بها.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن الخصيب بن زيدٍ التّميميّ، قال: حدّثنا الحسن: أنّ رجلاً، سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: إلى متى يحلّ لي الحرام؟ قال: فقال: إلى أن يروى أهلك من اللّبن، أو تجيء ميرتهم.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا خصيب بن زيدٍ التّميميّ، قال: حدّثنا الحسن: أنّ رجلاً سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكر مثله، إلاّ أنّه قال: أو تجي ميرتهم.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني عمر بن عبد اللّه بن عروة عن جدّه، عروة بن الزّبير، عمّن حدّثه: أنّ رجلاً من الأعراب أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يستفتيه في الّذي حرّم اللّه عليه والّذي أحلّ له، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: يحلّ لك الطّيّبات، ويحرم عليك الخبائث، إلاّ أن تفتقر إلى طعامٍ لك فتأكل منه حتّى تستغني عنه فقال الرّجل: وما فقري الّذي يحلّ لي، وما غناي الّذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا كنت ترجو نتاجًا فتبلّغ بلحوم ماشيتك إلى نتاجك، أو كنت ترجو غنًى تطلبه فتبلّغ من ذلك شيئًا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتّى تستغني عنه فقال الأعرابيّ: ما غناي الّذي أدعه إذا وجدته؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا أرويت أهلك غبوقًا من اللّيل فاجتنب ما حرّم اللّه عليك من طعام وأما مالك، فإنّه ميسورٌ كلّه، ليس فيه حرامٌ.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن ابن عونٍ، قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه، وكان فيه: ويجزي من الاضطرار غبوقٌ أو صبوحٌ.
- حدّثنا هنّاد وأبو هشامٍ الرّفاعيّ، قالا: حدّثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن عونٍ، قال: قرأت في كتاب سمرة بن جندبٍ: يكفي من الاضطرار أو من الضّرورة غبوقٌ أو صبوحٌ.
- حدّثني عليّ بن سعيدٍ الكنديّ، وأبو كريبٍ، قالا: حدّثنا عبد اللّه بن إدريس، عن هشام بن حسّان، عن الحسن، قال: إذا اضطرّ الرّجل إلى الميتة أكل منها قوّته يعني: مسكته.
- حدّثنا هنّاد بن السّريّ، قال: حدّثنا ابن مباركٍ، عن الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطيّة، قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه، إنّا بأرض مخمصةٍ، فما يحلّ لنا من الميتة؟ ومتى تحلّ لنا الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها.
- حدّثنا هنّاد بن السّريّ، قال: حدّثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطيّة، عن رجلٍ قد سمّي له، أنّ رجلاً قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّا نكون بأرض مخمصةٍ، فمتى تحلّ لنا الميتة؟ قال: إذا لم تغتبقوا ولم تصطبحوا ولم تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها
قال أبو جعفرٍ: يروى هذا على أربعة أوجهٍ: تحتفئوا بالهمزة، وتحتفيوا بتخفيف الياء والحاء وتحتفّوا بتشديد الفاء، وتحتفوا بالحاء والتّخفيف، ويحتمل الهمز). [جامع البيان: 8/95-99]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال نا آدم قال حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله وما ذبح على النصب قال حجارة كانت حول الكعبة كان يذبح لها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاؤوا وإذا رأوا ما هو أعجب إليهم منها). [تفسير مجاهد: 185]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وإن تستقسموا بالأزلام قال هي قداح القمار يضربونها لكل سفر وغزو وتجارة). [تفسير مجاهد: 185]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا إسرائيل عن أبي إسحق الفزاري عن أبي ميسرة قال في المائدة ثمانية عشر فريضة محكمة لم ينسخ منها شيء قوله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام والجوارح مكلبين وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وتمام الوضوء إلى قوله فتيمموا صعيدا طيبا والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فهذه كلها محكمة لم ينسخ منها شيء). [تفسير مجاهد: 208-209]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ م ت س) طارق بن شهاب - رحمه الله - قال: قالت اليهود لعمر - رضي الله عنه- إنّكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: يوم عرفةٍ وإنا-والله- بعرفة. قال سفيان: وأشكّ : كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3].
وفي رواية قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت - معشر اليهود - لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: فأيّ آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، في يوم جمعةٍ.
أخرجه الجماعة إلا الموطأ وأبا داود). [جامع الأصول: 2/113-114]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (ت) ابن عباس - رضي الله عنهما - قرأ: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وعنده يهوديٌّ فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتّخذناها عيداً، فقال ابن عباس: «فإنها نزلت يوم عيدين: في يوم جمعة، ويوم عرفة» أخرجه الترمذي). [جامع الأصول: 2/114]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (وعن سمرة - رضي اللّه عنه - قال: «نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3] يوم عرفة، ورسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - واقفٌ بعرفة يوم جمعةٍ».
رواه الطّبرانيّ والبزّار، وفيه عمر بن موسى بن وجيهٍ، وهو ضعيفٌ). [مجمع الزوائد: 7/13-14]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (وعن عمرو بن قيسٍ أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] حتّى ختم الآية، قال: نزلت في يوم عرفة في يوم جمعةٍ، ثمّ تلا هذه الآية {فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدًا} [الكهف: 110].
رواه الطّبرانيّ، ورجاله ثقاتٌ). [مجمع الزوائد: 7/14]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (حدّثنا إبراهيم بن سعيدٍ الجوهريّ، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ، ثنا أبي، عن محمّد بن إسحاق، ثنا عمر بن موسى بن وجيهٍ، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بعرفة يوم الجمعة.
قال البزّار: لا نعلمه يروى عن سمرة إلا من هذا الوجه، وعمر بن وجيهٍ ليّن الحديث). [كشف الأستار عن زوائد البزار: 3/47-48]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (حدّثنا إبراهيم بن يوسف الصّيرفيّ، ثنا عبد اللّه بن إدريس، ثنا داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بعرفة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3].
قال البزّار: لا نعلم أحدًا حدّث به عن الشّعبيّ إلا داود، ولا عنه إلا ابن إدريس، ولم نسمعه إلا من إبراهيم، ورواه يوسف، عن ابن عبّاسٍ). [كشف الأستار عن زوائد البزار: 3/48]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال إسحاق بن راهويه: ثنا عبيد اللّه بن موسى، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية قال: "كانوا عند عمر بن الخطّاب فذكروا هذه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم) فقال رجلٌ من اليهود ... " الحديث. فقال عمر: فأكمل اللّه لنا الأمر فعرفنا أنّ الأمر، بعد ذلك في انتقاصٍ.
قلت: أصل مخرجه عندهم من حديث طارق بن شهابٍ، عن عمر دون ما هنا). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/203]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال إسحاق: أخبرنا عبيد اللّه بن موسى، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، قال: كانوا عند عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فذكروا هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فقال رجلٌ من اليهود... الحديث.
فقال عمر رضي الله عنه: فأكمل اللّه (تعالى) لنا الأمر، فعرفنا أنّ الأمر بعد ذلك في انتقاصٍ.
قلت: أصله مخرّجٌ عندهم من حديث طارق بن شهابٍ عن عمر رضي الله عنه دون ما هنا). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/619]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}.
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني، وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي أمامة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شعائر الإسلام فأتيتهم فبينما نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها قالوا: هلم يا صدي فكل، قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم وأنزل الله عليه، قالوا: وما ذاك قال: فتلوت عليهم هذه الآية {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} الآية
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة قال: إذا أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس في قوله {وما أهل لغير الله به} قال: ما أهل للطواغيت به {والمنخنقة} قال: التي تخنق فتموت {والموقوذة} التي تضرب بالخشبة فتموت {والمتردية} قال: التي تتردى من الجبل فتموت {والنطيحة} قال: الشاة التي تنطح الشاة {وما أكل السبع} يقول: ما أخذ السبع {إلا ما ذكيتم} يقول: ما ذبحتم من ذلك وبه روح فكلوه {وما ذبح على النصب} قال: النصب، انصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: هي القداح كانوا يستقسون بها في الأمور {ذلكم فسق} يعني من أكل من ذلك كله فهو فسق.
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى {والمنخنقة} قال: كانت العرب تخنق الشاة فإذا ماتت أكلوا لحمها، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت امرئ القيس وهو يقول:
يغط غطيط البكر شد خناقه * ليقتلني والمرء ليس بقتال
قال: أخبرني عن قوله {والموقوذة} قال: التي تضرب بالخشب حتى تموت، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت الشاعر يقول:
يلوينني دين النهار واقتضي * ديني إذا وقذ النعاس الرقدا
قال: أخبرني عن قوله {والأنصاب} قال: الأنصاب، الحجارة التي كانت العرب تعبدها من دون الله وتذبح لها، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت نابغة بني ذبيان وهو يقول:
فلا لعمر الذي مسحت كعبته * وما هريق على الأنصاب من جسد
قال: أخبرني عن قوله {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: الأزلام، القداح كانوا يستقسمون الأمور بها مكتوب على أحدهما أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي
فإذا أرادوا أمرا أتوا بيت أصنامهم ثم غطوا على القداح بثوب فأيهما خرج عملوا به، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم، أما سمعت الحطيئة وهو يقول:
لا يزجر الطير إن مرت به سنحا * ولا يفاض على قدح بأزلام
وأخرج البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الرادة التي تتردى في البئر والمتردية التي تتردى من الجبل.
وأخرج عن أبي ميسرة أنه كان يقرأ (والمنطوحة).
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قرأ (وأكيل السبع).
وأخرج ابن جرير، عن علي، قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تأكل الشريطة فإنها ذبيحة الشيطان قال ابن المبارك: هي أن تخرج الروح منه بشرط من غير قطع حلقوم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {وما ذبح على النصب} قال: كانت حجارة حول الكعبة يذبح عليها أهل الجاهلية ويبدلونها بحجارة: إذا شاؤوا أعجب اليهم منها.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال {والأزلام} القداح يضربون بها لكل سفر وغزو وتجارة.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: القداح كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحا للخروج وللجلوس فإن وقع الخروج خرجوا وإن وقع الجلوس جلسوا.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: حصى بيض كانوا يضربون بها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن في الآية قال: كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا يعمدون إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب أمرني وعلى الآخر انهني ويتركون الآخر محللا بينهما عليه شيء ثم يجيلونها فإن خرج الذي عليه مرني مضوا لأمرهم وإن خرج الذي عليه انهني كفوا وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يلج الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا). [الدر المنثور: 5/174-179]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : ( {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم}
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} قال: يئسوا أن ترجعوا إلى دينهم أبدا.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} يقول: يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم عبادة الأوثان أبدا {فلا تخشوهم} في اتباع محمد {واخشوني} في عبادة الأوثان وتكذيب محمد فلما كان واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله {اليوم أكملت لكم دينكم} يقول: حلالكم وحرامكم فلم ينزل بعد هذا حلال ولا حرام {وأتممت عليكم نعمتي} قال: منتي فلم يحج معكم مشرك {ورضيت} يقول: واخترت {لكم الإسلام دينا} مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين يوما ثم قبضه الله إليه.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم} قال: هذا حين فعلت.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله {فلا تخشوهم واخشون} قال: فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم.
وأخرج مسلم، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه راض منكم بما تحقرون.
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ولكن سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة فاتقوا المظالم ما استطعتم). [الدر المنثور: 5/179-180]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : ( {اليوم أكملت لكم دينكم}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا تحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه فلا ينقص أبدا وقد رضيه فلا يسخطه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: أخلص الله لهم دينهم ونفى المشركين عن البيت قال: وبلغنا أنها أنزلت يوم عرفة ووافقت يوم جمعة.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام واخلص للمسلمين حجهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا فلما نزلت براءة فنفي المشركون عن البيت الحرام وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين فكان ذلك من تمام النعمة وهو قوله {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: تمام الحج ونفي المشركين عن البيت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات وقد أطاف به الناس وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يطف بالبيت عريان ولم يحج معه في ذلك العام مشرك فانزل الله {اليوم أكملت لكم دينكم}.
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي قال: نزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية وهو بعرفة {اليوم أكملت لكم دينكم} وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة قال: وكان جبريل يعلم كيف ينسك.
وأخرج الحميدي وأحمد، وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان والبيهقي في "سننه" عن طارق بن شهاب قال قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية قالوا {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}
قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه والساعة التي نزلت فيها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده، وعبد بن حميد عن أبي العالية قال: كانوا عند عمر فذكروا هذه الآية فقال رجل من أهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيدا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعله لنا عيدا واليوم الثاني نزلت يوم عرفة واليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الأمر فعلمنا أن الأمر بعد ذلك في انتقاص.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك يوم الحج الاكبر بكى عمر فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما يبكيك قال: أبكاني إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه يكمل شيء قط إلا نقص، فقال: صدقت
وأخرج ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه فقال عمر: وأي آية يا كعب فقال {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال عمر: لقد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي نزلت فيه نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وأخرج الطيالسي، وعبد بن حميد والترمذي وحسنه، وابن جرير والطبراني والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس انه قرأ هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: في يوم جمعة يوم عرفة.
وأخرج ابن جرير عن عيسى بن حارثة الأنصاري قال: كنا جلوسا في الديوان فقال لنا نصراني: يا أهل الإسلام لقد أنزلت عليكم آية لو أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدا ما بقي منا اثنان {اليوم أكملت لكم دينكم} فلم يجبه أحد منا فلقيت محمد بن كعب القرظي فسألته عن ذلك فقال: ألا رددتم عليه فقال: قال عمر بن الخطاب: أنزلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة فلا يزال ذلك اليوم عيد للمسلمين ما بقي منهم أحد.
وأخرج ابن جرير عن داود قال: قلت لعامر الشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه فقال عامر: أو ما حفظته، قلت له: فأي يوم هو قال: يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن علي، قال: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة {اليوم أكملت لكم دينكم}.
وأخرج ابن جرير والطبراني عن عمرو بن قيس السكوني، انه سمع معاوية ابن أبي سفيان على المنبر ينزع بهذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة في يوم جمعة.
وأخرج البزار والطبراني، وابن مردويه عن سمرة قال: نزلت هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة واقف يوم الجمعة
وأخرج البزار بسند صحيح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة {اليوم أكملت لكم دينكم}.
وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس قال: ولد نبيكم يوم الاثنين ونبأ يوم الإثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وفتح مكة يوم الاثنين وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين {اليوم أكملت لكم دينكم} وتوفي يوم الاثنين.
وأخرج ابن مردويه، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبريل عليه بهذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم}
وأخرج ابن مردويه والخطيب، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: لما كان يوم غدير خم وهو يوم ثماني عشر من ذي الحجة قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، فانزل الله {اليوم أكملت لكم دينكم}.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: هذا نزل يوم عرفة فلم ينزل بعدها حرام ولا حلال ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فقالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل على الراحلة فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن فبركت فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال مكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة قوله {اليوم أكملت لكم دينكم}). [الدر المنثور: 5/181-187]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا انه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم إلى الخير حتى يجيء الإسلام فيقول: رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول: إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي.
وأخرج أحمد عن علقمة بن عبد الله المزني قال: حدثني رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الإسلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الإسلام بدأ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا، قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان). [الدر المنثور: 5/187-188]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : ({فمن اضطر} الآية
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {فمن اضطر} يعني إلى ما حرم مما سمي في صدر هذه السورة {في مخمصة} يعني مجاعة {غير متجانف لإثم} يقول: غير معتد لإثم.
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله {في مخمصة} قال: في مجاعة وجهد، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت الأعشى وهو يقول:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم * وجاراتكم غرتي يبتن خمائصا.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} قال: في مجاعة غير متعرض لاثم.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال: رخص للمضطر إذا كان غير متعمد لإثم أن يأكله من جهد فمن بغى أو عدا أو خرج في معصية الله فإنه محرم عليه أن يأكله.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة قال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها
وأخرج ابن سعد وأبو داود عن الفجيع العامري، انه قال يا رسول الله ما يحل لنا من الميتة فقال: ما طعامكم قلنا: نغتبق ونصطبح، قال عقبة: قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك، وأبى الجوع وأحل لهم الميتة على هذه الحال.
وأخرج الحاكم وصححه عن سمرة بن جندب أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال إذا رويت أهلك من اللبن غبوقا فاجتنب ما نهى الله عنه من ميتة). [الدر المنثور: 5/188-190]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 11:15 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وما أهلّ لغير اللّه به...}
{وما}: في موضع رفع بما لم يسمّ فاعله.
{والمنخنقة}: ما اختنقت فماتت ولم تدرك.
{والموقوذة}: المضروبة حتى تموت ولم تذكّ.
{والمتردّية}: ما تردّى من فوق جبل أو بئر، فلم تدرك ذكاته.
{والنّطيحة}: ما نطحت حتى الموت. كل ذلك محرّم إذا لم تدرك ذكاته.
وقوله: {إلاّ ما ذكّيتم} نصب ورفع.
{وما ذبح على النّصب}: ذبح للأوثان. و(ما ذبح) في موضع رفع لا غير.
{وأن تستقسموا} رفع بما لم يسمّ فاعله. والاستقسام: أنّ سهاما كانت تكون في الكعبة، في بعضها: أمرني ربى، (وفي موضعها: نهاني ربي) فكان أحدهم إذا أراد سفرا أخرج سهمين فأجالهما، فإن خرج الذي فيه (أمرني ربي) خرج. وإن خرج الذي فيه (نهاني ربي) قعد وأمسك عن الخروج.
قال الله تبارك وتعالى: {ذالكم فسقٌ اليوم} والكلام منقطع عند الفسق، و{اليوم} منصوب بـ (يئس) لا بالفسق.
{اليوم أحلّ لكم الطّيّبات} نصب (اليوم) بـ (أحلّ).
وقوله: {غير متجانفٍ لإثمٍ} مثل قوله: {غير محلّي الصيد} يقول: غير معتمد لإثم. نصبت (غير) لأنها حال لـ (من)، وهي خارجة من الاسم الذي في (اضطرّ) ). [معاني القرآن: 1/301]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (حرّمت عليكم الميتة) (3): مخفّفة، وهي تخفيف ميتّة، ومعناهما واحد، خفّفت أو ثقّلت. كقول ابن الرّعلاء:
ليس من مات فاستراح بميتٍ=إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش ذليلاً=سيّئا باله قليل الرّجاء
واسم ابن الرّعلاء كوتىّ، والكؤتيّ، والكوئىّ يهمز، ولا يهمز. والكوتى من الخيل والحمير: القصار. قال: فلا أدري أيكون في الناس أم لا؛ قال: ولا أدري الرّعلاء أبوه أو أمّه.
(وما أهلّ لغير الله به) (3) مجازه: وما أهلّ به لغير الله، ومعناه: وما ذكر غير اسم الله عليه إذا ذبح أو نحر، وهي من استهلال الكلام.
قال رجل: وخاصم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنين: (أرأيت من لا شرب ولا أكل ولا صاح فاستهلّ، أليس مثل ذلكم يطلّ). ومنه قولهم: أهلّ بالحجّ أي تكلّم به، وأظهره من فيه.
وقال ابن أحمر:
يهلّ بالفرقد ركبانها=كما يهلّ الرّاكب المعتمر
يقال: معتمر ومعتم، والعمار والعمامة، وكل شيء على الرأس من إكليل أو تاج أو عمامة، فهو عمار؛ وله موضع آخر.
ما ذبح لغيره، كقول ابن هرمة:
كم ناقةٍ قد وجأت لبّتها=بمستهلّ الشّؤبوب أو جمل
أي بمنفجر.
(والمنخنقة) (3): التي انحنقت في خناقها حتى ماتت.
(والموقوذة) (3): التي تضرب حتى توقذ فتموت منه أو ترمى؛ يقال: رماه بحجر، فوقذه يقذه وقذاً ووقوذاً.
(والمتردّية) (3): التي تردّت فوقعت في بئر أو وقعت من جبل أو حائط أو نحو ذلك فماتت.
(والنّطيحة) (3): مجازها مجاز المنطوحة حتى ماتت.
(وما أكل السّبع) (3) وهو الذي يصيده السّبع فيأكل منه ويبقى بعضه ولم يذكّ، وإنما هو فريسة.
(إلاّ ما ذكّيتم) (3): وذكاته أن تقطع أوداجه أو تنهر دمه وتذكر اسم الله عليه إذا ذبجته، كقوله:
نعم هو ذكّاها وأنت أضعتها=وألهاك عنها خرفةٌ وفطيم
الخرفة اجتناء، اخترف اجتنى.
(وما ذبح على النّصب) (3) وهو واحد الأنصاب، وكان أبو عمرو يقول: نصب بفتح أوله ويسكن الحرف الثاني منه.
والأنصاب: الحجارة التي كانوا يعبدونها، وأنصاب الحرم أعلامه.
(وأن تستقسموا بالأزلام) (3) وهو من استفعلت من قسمت أمرى، بأن أجيل القداح لتقسم لي أمري: أأسافر أم أقيم أم أغزو أو لا أغزو ونحو ذلك فتكون هي التي تأمرني وتنهاني ولكلّ ذلك قدحٌ معروف وقال:
=ولم أقسم فتر بثنى القسوم
ويقال: ربثه يربثه ربثاً إذا حبسه. وواحد الأزلام: زلم وزلم لغتان وهو القدح.
(ذلكم فسقٌ) (3) أي كفر.
(ورضيت لكم الإسلام ديناً) (3) أي اخترت لكم.
(في مخمصةٍ) (3) أي مجاعة، وقال الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم=وجاراتكم سغب يبتن خمائصا
أي جياعاً.
(غير متجانف لإثمٍ) (3) أي غير متعوّج مائل إليه، وكل منحرف، وكل أعوج فهو أجنف). [مجاز القرآن: 1/148-153]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذالكم فسقٌ اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رّحيمٌ}
وقال: {والموقوذة} من (وقذت) فـ"هي موقوذةٌ".
{والنّطيحة} فيها الهاء لأنها جعلت كالاسم مثل "أكيلة الأسد". وإنما تقول: "هي أكيلٌ" و"هي نطيحٌ" "لأنّ كل ما فيه "مفعولة" فـ"الفعيل" فيه بغير الهاء نحو "القتيل" و"الصريع" إذا عنيت المرأة و"هي جريحٌ" لأنك تقول "مجروحةٌ".
وقال: {وما أكل السّبع} ولغة يخففون "السبع".
{وما ذبح على النّصب} وجميعه: "الأنصاب".
{وأن تستقسموا بالأزلام} يقول: "وحرّم ذلك " وواحدها "زلم" و"زلم".
وقال: {مخمصةٍ} تقول: "خمصه الجوع" نحو "المغضبة" لأنه أراد المصدر.
[وقال] {يئس الّذين كفروا} مهموزة الياء الثانية وهي من "فعل" "يفعل" وكسر الياء الأولى لغة نحو "لعب" ومنهم من يكسر اللام والعين ويسكنون العين ويفتحون اللام أيضاً ويكسرونها وكذلك "يئس". وذلك أنّ "فعل" إذا كان ثانيه احد الحروف الستة كسروا أوله وتركوه على الكسر، كما يقولون ذلك في "فعيل" نحو "شعير" و"صهيل". ومنهم من يسكن ويكسر الأولى نحو "رحمه الله" فلذلك تقول: "يئس" تسكر الياء وتسكن الهمزة. وقد قرئت هذه الآية {نعمّا يعظكم به} على تلك اللغة التي يقولون فيها "لعب". وأناس يقولون "نعم الرّجل زيدٌ" فقد يجوز كسر هذه النون التي في "نعم" لأن التي بعدها من الحروف الستة كما كسر "لعب". وقولهم: "إن العين ساكنة من "نعمّا" إذا أدغمت خطأ لأنه لا يجتمع ساكنان. ولكن إذا شئت أخفيته فجعلته بين الإدغام والإظهار فيكون في زنة متحرك كما قرئت {إنّي ليحزنني} يشمون النون الأولى الرفع.
وقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} لأّنّ الإسلام كان فيه بعض الفرائض فلما فرغ الله مما أراد منه قال: {اليوم أكملت لكم دينكم} {ورضيت لكم الإسلام ديناً} لا على غير هذه الصفة.
وقال: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رّحيمٌ} كأنه قال: "فإنّ الله له غفورٌ رحيم". كما تقول: "عبد الله ضربت" تريد: ضربته. قال الشاعر:
ثلاثٌ كلّهنّ قتلت عمداً = فأخزى الله رابعةً تعود
وقال الآخر:
قد أصبحت أم الخيار تدّعي = عليّ ذنباً كلّه لم أصنع). [معاني القرآن: 1/216-217]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أبو عمرو والأعرج "وما أكل السبع"؛ والسبع بالإسكان لغة؛ وقد ذكرناها في صدر الكتاب.
[معاني القرآن لقطرب: 476]
قراءة شيبة ونافع {فمن اضطر} برفع النون والطاء.
أبو جعفر {فمن اضطر} بكسر الطاء ورفع النون، كل ما في القرآن). [معاني القرآن لقطرب: 477]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما {المنخنقة} فمن خنقها فانخنقت، مثل كسرها فانكسرت.
وأما {الموقوذة} فمن وقذها يقذها؛ إذا أثخنها.
وأما {المتردية} فالتردي من الجبل وشبهه، وهو من قول الله عز وجل {وما يغني عنه ماله إذا تردى}؛ أي إذا هوى في النار؛ ومثلها من قوله {فتردى}، والفعل منها ردي يردى ردى.
وأما {النطيحة}؛ فالمنطوحة، كالذبيحة والفريسة؛ كأنه أراد الاسم ولم يرد الفعل؛ ولو أراده لم تكن هاء في المؤنث، مثل امرأة جريح وقتيل؛ وناقة كسير.
وأما قوله عز وجل {وما ذبح على النصب}؛ والنصب كل ما كانوا يذبحون عليه.
[معاني القرآن لقطرب: 489]
وقال طرفة:
إني وجدك ما هجوتك والأنصاب يسفح فوقهن دم
و"النصب" - مخففة -: المرض أيضًا كقوله "إني مسني الشيطان بنصب" و{نصب} أيضًا.
وقال عدي بن زيد:
علق الأحشاء من هند علق = مستسر فيه نصب وأرق.
وأما النصب: فالعناء في الأمر.
وأما النصب بإسكان الصاد: فالعلم.
وفي بعض القراءة {إلى نصب يوفضون}؛ وكأنه العلم يرفع لهم والشيء؛ والأنصاب جمع، أنصاب الحرم؛ وقالوا أنصبني: عذبني وبرح بي؛ ونصبني لغة بغير ألف.
وأما قوله عز وجل {وأن تستقسموا بالأزلام}؛ فالاستقسام إفاضة السهام؛ إذا أرادوا وجهًا أفاضوها لينظروا أيخرجون أم لا؛ واسمه القسم؛ وكأنه الاستسلام لها ليمضيها؛ فكأنه يعني اليمين التي يلزمها نفسه.
قال عدي بن زيد في ذلك:
ظنه شبهت فأملكت القسم فأعداه والخبير خبير
[معاني القرآن لقطرب: 490]
أي ملكت القسم الأمر، صار القسم هو الذي يحكم في الأمر.
وقال الحطيئة أيضًا:
لا يزجر الطير إن مرت به سنحا = ولا يفاض له قسم بأزلام
وأما الأزلام فالواحد زلم؛ تميم تقول: زلم في الواحد، وحكاها أيضًا يونس زلم.
وقال المرقش:
تعدو إذا حرك مجدافها = عدو رباع مفرد كالزلم
وقال الهذلي:
يظل في رأسها كأنه زلم = من القداح به ضرس وتعقيق
وقال الراجز أيضًا:
قد لفها الليل بسواق حطم = بات يقاسيها غلام كالزلم
وأما قوله عز وجل {اليوم يئس الذين كفروا} فالفعل يئس ييأس، وقالوا: يئس بكسرة الهمزة، وقد ذكرناها؛ مصدر يئس يأسًا ويآسة بالمد، فعالة؛ وقالوا: أيس الرجل، فقدموا الهمزة.
وقال الراجز:
مالك لا يأتيك من سؤالها = شيء ولا تأيس من نوالها
على تقديم الهمزة؛ وقالوا رجل يؤوس ويؤس مثل رؤوف ورؤف، للذي لا يطمع بخير ولا يرجوه ولا يصدق به؛ يوكد شدة يأسه.
وأما قوله عز وجل {فمن اضطر في مخمصة} فإنهم يقولون: خمص بطن الرجل، وخمص خمصًا وخمصًا، وهو خصمان وخمصان، وامرأة خمصانة وخمصانة؛ أي خميص البطن.
[معاني القرآن لقطرب: 491]
وأما قوله عز وجل {غير متجانف} فإنها متفاعل، من جنف عليه؛ أي مال عليه؛ وقد ذكرناها). [معاني القرآن لقطرب: 492]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({وما أهل لغير الله به}: أي ما ذكر عليه اسم غير الله.
وأصل الإهلال الصوت والكلام.
استهل الصبي إذا صاح وأهل الحج إذا تكلم به. وكل رافع صوته مهل. يقال: أهل بالحج إذا لبى.
3- {والمنخنقة}: التي تموت في خناقها.
3- {والموقوذة}: المضروبة حتى تموت.
3- {والمتردية}: الواقعة من الجبل أو غيره.
3- {والنطيحة}: المنطوحة.
3- {وما أكل السبع}: الفريسة وهي التي أكل السبع بعضها.
3- {إلا ما ذكيتم}: الذكاة الذبح.
3- {النصب}: واحد الأنصاب. الحجارة التي كانوا يعبدونها.
3- {والأزلام}: القداح والاستقسام أن يجيلها فيفعل ما يأمره به القدح وينهاه عنه وواحد الأزلام زلم وبعضهم يقول زلم والقدح
والزلم السهم الذي لا ريش له وقال بعضهم الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها.
3- (المخمصة): المجاعة).[غريب القرآن وتفسيره: 125-128]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({وما أهلّ لغير اللّه به} أي ذبح لغير اللّه، وذكر عند ذبحه غير اسم اللّه. واستهلال الصّبيّ منه، أي صوته. وإهلال الحج منه، أي التّكلّم بإيجابه والتلبية.
{والمنخنقة} التي تختنق.
{والموقوذة} التي تضرب حتى توقذ، أي تشرف على الموت. ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة. ومنه يقال: فلان وقيذ. وقد وقذته العبادة.
{والمتردّية} الواقعة من جبل أو حائط أو في بئر. يقال: تردّي: إذا سقط. ومنه قوله تعالى: {وما يغني عنه ماله إذا تردّى} أي تردّي في النار.
{والنّطيحة} التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة. فعيله بمعنى مفعوله.
{وما أكل السّبع} أي افترسه فأكل بعضه.
{إلّا ما ذكّيتم} يقول: إلا ما لحقتم من هذا كلّه وبه حياة فذبحتموه.
{وما ذبح على النّصب} وهو حجر أو صنم، منصوب كانوا يذبحون
عنده يقال له: النّصب والنّصب. وجمعه أنصاب.
{وأن تستقسموا بالأزلام} وهي القداح. واحدها. زلم وزلم.
والاستقسام بها: أن يضرب بها ثم يعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي.
وكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم وأحبوا أن يعرفوا قسم كلّ امرئ تعرّفوا ذلك منها. فأخذ الاستقسام من القسم وهو النّصيب. كأنه طلب النّصيب.
و(المخمصة): المجاعة. والخمص الجوع. قال الشاعر يذم رجلا:
يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهما
{غير متجانفٍ لإثمٍ} أي منحرف مائل إلى ذلك. والجنف: الميل. والإثم: أن يتعدي عند الاضطرار فيأكل فوق الشّبع). [تفسير غريب القرآن: 140-141]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: (حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلّا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانف لإثم فإنّ اللّه غفور رحيم (3)
(حرّمت عليكم الميتة).
أصله الميتة بالتشديد، إلا أنه مخفف، ولو قرئت الميتة لجاز، يقال: ميّت، وميت، والمعنى واحد.
وقال بعضهم: الميّت يقال لما: لم يمت.
والميت لما قد مات، وهذا خطأ إنما ميّت يصلح لما قد مات، ولما سيموت.
قال اللّه عزّ وجلّ: (إنّك ميّت وإنّهم ميّتون).
وقال الشاعر في تصديق أن الميت والميّت بمعنى واحد:
ليس من مات فاستراح بميت=إنما الميت ميّت الأحياء
فجعل الميت مخففا من الميت.
وقوله: (والدّم).
قيل: إنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن الدم المسفوح، أي المصبوب حرام، فأمّا المتلطخ بالدم
فهو كاللحم في الحل.
وقوله: (وما أهلّ لغير اللّه به).
موضعه رفع، والمعنى: وحرم عليكم ما أهل لغير اللّه به، ومعنى (أهلّ لغير اللّه به) ذكر عليه اسم غير اللّه، وقد فسرنا أن الإهلال رفع الصوت
بالشيء فما يتقرّب به من الذبح لغير اللّه، أو ذكر غير اسمه فحرام.
(ولحم الخنزير) حرام، حرم الله أكله، وملكه، والخنزير يشمل على الذكر والأنثى.
وقوله (والمنخنقة).
وهي التي تنخنق بربقتها أي بالحبل الذي تشدّ به، وبأي جهة اختنقت فهي حرام.
وقوله: (والموقوذة).
وهي التي تقتل ضربا، يقال وقذتها أوقذها وقذا وأوقذتها أوقذها إيقاذا.
إذا أثخنتها ضربا.
وقوله عزّ وجلّ: (والنطيحة).
وهي التي تنطح أو تنطح فتموت.
وقوله: (وما أكل السّبع).
موضع " ما " أيضا رفع عطف على ما قبلها.
وقوله: (إلّا ما ذكّيتم).
أي إلا ما أدركتم ذكاته من هذه التي وصفنا، وموضع " ما " نصب أي حرمت عليكم هذه الأشياء إلّا الشيء الذي أدرك ذبحه منها، وكل ذبح ذكاة، ومعنى التذكية أن يدركها وفيها بقية تشخب معها الأوداج، وتضطرب اضطراب المذبوح الذي أدركت ذكاته.
وأهل العلم يقولون إن أخرج السّبع الحشوة، أو قطع الجوف قطعا خرج معه الحشوة فلا ذكاة لذلك، وتأويله إنّه يصير في حالة ما لا يؤثر في حياته الذبح، وأصل الذكاء في اللغة كلها تمام الشيء، فمن ذلك الذّكاء في السن والفهم، وهو تمام السن، قال الخليل: الذكاء في السّن أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمائم استكمال القوة.
قال زهير:
يفضّله إذا اجتهدوا عليه=تمام السّنّ منه والذّكاء
وقيل: جري المذكيات غلاب. أي جري المسانّ التي قد تأسّنت.
وتأويل تمام السّن النهاية في الشباب فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال لها: الذكاء والذكاء في الفهم أن يكون فهما تامّا سريع القبول، وذكيت النار إنما هو من هذا. تأويله أتممت إشعالها.
(إلا ما ذكيتم) ما أذكيتم ذبحة على التمام.
وقوله: (وما ذبح على النّصب).
والنصب الحجارة التي كانوا يعبدونها، وهي الأوثان واحدها نصاب.
وجائز أن يكون واحدا، وجمعه أنصاب.
وقوله: (وأن تستقسموا بالأزلام).
موضع " أن " رفع، والمعنى وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام.
وواحد الأزلام زلم، وزلم، وهي سهام كانت في الجاهلية مكتوب على بعضها " أمرني ربّي " وعلى بعضها: " نهاني ربّي - فإذا أراد الرّجل سفرا أو أمرا يهتم به
اهتماما شديدا ضرب تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه " أمرني ربّي مضى لحاجته، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض في أمره، فأعلم اللّه عزّ وجل أن ذلك حرام، ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل طلوع نجم كذا؛ لأن الله جلّ وعزّ قال: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا)
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خمس لا يعلمهن إلا اللّه))، وذكر الآية التي في آخر سورة لقمان.
(إنّ اللّه عنده علم السّاعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأيّ أرض تموت).
وهذا هو دخول في علم اللّه الذي هو غيب، وهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله جل وعز أنها حرام.
والاستقسام بالأزلام فسق. والفسق اسم لكل ما أعلم الله أنه مخرج عن الحلال إلى الحرام، فقد ذم الله به جميع الخارجين من متعبّداته وأصله عند أهل اللغة قد فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها.
ولو كان بعض هذه المرفوعات نصبا على المعنى لجاز في غير القرآن.
لو قلت حرمت على الناس الميتة والدم ولحم الخنزير، وتحمله على معنى وحرم الله الدم ولحم الخنزير لجاز ذلك، فأمّا القرآن فخطأ فيه أن نقرأ بما لم يقرأ به من هو قدوة في القراءة، لأن القراءة سنة لا تتجاوز.
وقوله: (اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم).
"اليوم " منصوب على الظرف، وليس يراد به - واللّه أعلم - يوما بعينه.
معناه الآن يئس الذين كفروا من دينكم، وهذا كما تقول أنا اليوم قد كبرت.
وهذا الشأن لا يصلح في اليوم. تريد أنا الآن، وفي هذا الزمان ومعناه: أن قد حوّل الله الخوف الذي كاد يلحقكم منهم اليوم ويئسوا من بطلان الإسلام وجاءكم ما كنتم توعدون من قوله: (ليظهره على الدّين كلّه).
والدّين اسم لجميع ما تعبّد اللّه خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، والذي به يجزون، والذي أمرهم أن يكون عادتهم.
وقد بينّا ذلك في قوله: (مالك يوم الدين).
وقوله: (فلا تخشوهم واخشون).
أي فليكن خوفكم لله وحده، فقد أمنتم أن يظهر دين على الإسلام وكذلك - واللّه أعلم -.
قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم).
أي الآن أكملت لكم الدين بأن كفيتكم خوف عدوكم وأظهرتكم عليهم، كما تقول: الآن كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، بأن كفينا من كنا نخافه.
وقد قيل أيضا: (اليوم أكملت لكم دينكم) أي أكملت لكم فرض ما تحتاجون إليه في دينكم. وذلك جائز حسن، فأما أن يكون دين الله في وقت من الأوقات غير كامل فلا.
وقوله عزّ وجلّ: (فمن اضطرّ في مخمصة).
أي فمن دعته الضرورة في مجاعة؛ لأن المخمصة شدة ضمور البطن.
(غير متجانف لإثم).
أي غير مائل إلى إثم.
(فإن اللّه غفور رحيم).
أي فإن الله أباحه ذلك رحمة منه وتسهيلا على خلقه، وكذلك فمن اضطر غير باغ ولا عاد، أي غير آكل لها على جهة الاستحلال ولا عاد: أي مجاوز لقدر الحاجة، وغير آكل لها على جهة التلذذ فإن اللّه غفور رحيم). [معاني القرآن: 2/144-149]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}
يقال: ميتة وميتة بمعنى واحد هذا قول من يوثق به من أهل اللغة.
وقيل: الميتة ما لم تمت بعد والميتة التي قد ماتت.
وروي أنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ثم يشوونها ويأكلونها فحرم الله جل وعز: {الدم المسفوح} وهو المصبوب). [معاني القرآن: 2/255]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {وما أهل لغير الله به}
أي ذبح لغير الله وذكر عليه غير اسمه وأصل الإهلال الصوت ومنه سمي الإهلال بالحج وهو الصوت بالتلبية وإيجاب الحج ومنه استهلال المولود ومنه أهل الهلال؛ لأن الناس إذا رأوه أومأوا إليه بأصواتهم). [معاني القرآن: 2/255-256]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {المنخنقة} قال قتادة هي التي تموت في خناقها). [معاني القرآن: 2/256]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {والموقوذة} قال الضحاك كانوا يأخذون الشاة أو غيرها من البهائم فيضربونها عند آلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها ويقال وقذه وأقذه فهو موقوذ وموقذ إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ومنه قيل فلان وقيذ). [معاني القرآن: 2/256]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {والمتردية}
قال الضحاك: المتردية أن تتردى في ركية أو من جبل، ويقال: تردى إذا سقط ومنه {وما يغني عنه ماله إذا تردى} {والنطيحة} المنطوحة). [معاني القرآن: 2/256-257]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {وما أكل السبع} أي ما افترسه فأكل بعضه وقرأ الحسن (السبع) وهو مسكن استثقالا للضمة). [معاني القرآن: 2/257]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {إلا ما ذكيتم} والتذكية أن تشخب الأوداج دما ويضطرب اضطراب المذبوح وأصل التذكية في اللغة التمام وقال زهير:
يفضله إذا اجتهدا عليه=تمام السن منه والذكاء
ومنه لفلان ذكاء أي هو تام الفهم وذكيت النار أي أتممت إيقادها وذكيت الذبيحة أتممت ذبحها على ما يجب). [معاني القرآن: 2/257-258]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {وما ذبح على النصب} وقرأ طلحة على النصب قال مجاهد هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها وربما استبدلوا منها ويجوز أن يكون جمع نصاب). [معاني القرآن: 2/258]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {وأن تستقسموا بالأزلام}
قال قتادة: كان أحدهم إذا أراد أن يخرج كتب على قدح يعني السهم تأمرني بالخروج وعلى الآخر لا تأمرني بالخروج وجعل بينهما سهما منيحا لم يكتب عليه شيئا فيجيلها فإن خرج الذي عليه تأمرني بالخروج خرج وإن خرج الذي عليه لا تأمرني بالخروج لم يخرج وإن خرج المنيح رجع فأجالها، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي، ونظير هذا الذي حرمه الله قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا أو اخرج من أجل نجم كذا وقال جل وعز: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت}
قال أبو جعفر: وذكر محمد بن جرير أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها.
قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشطرنج). [معاني القرآن: 2/258-260]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {ذلكم فسق} والفسق الخروج أي الخروج من الحلال إلى الحرام وقوله جل وعز: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم}
قال ابن عباس: يئس الذين كفروا من دينكم المعنى يئس الذين كفروا أن تعود الجاهلية.
وقال ورقاء: المعنى لأن يئس الذين كفروا من دينكم وهذا معروف عند أهل اللغة كما تقول أنا اليوم قد كبرت عن هذا). [معاني القرآن: 2/260]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {اليوم أكملت لكم دينكم}
روي أن أناسا من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر رضي لله عنه: نزلت في يوم جمعة يوم عرفة.
وروي عن على رضي الله عنه أنه قال: نزلت يوم عرفة أو عشية عرفة.
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما الآن أكملت لكم دينكم بأن أهلكت عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله، كما تقول: قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك.
ويجوز أن يكون المعنى اليوم أكملت لكم دينكم فوق ما تحتاجون إليه من الحلال والحرام في أمر دينكم
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة أنه قال في المائدة: ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب والاستقسام بالأزلام وتحليل طعام الذين أوتوا الكتاب والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب والجوارح مكلبين وتمام الطهور إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}.
ويروى أنها آخر سورة أنزلت). [معاني القرآن: 2/261-262]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {فمن اضطر في مخمصة} المخمصة ضمور البطن من الجوع). [معاني القرآن: 2/262]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {غير متجانف لإثم}
قال قتادة: الإثم ههنا أن تأكل منها فوق الشبع). [معاني القرآن: 2/263]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {فإن الله غفور رحيم} أي رحمكم فأباح لكم هذه الأشياء عند الضرورة). [معاني القرآن: 2/263]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَالْمُنْخَنِقَةُ} التي تنخنق بحبل.
{وَالْمَوْقُوذَةُ} التي تضرب بعود أو حجر حتى تشرف على الموت.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} الواقعة من جبل أو حائط أو في بئر.
{وَالنَّطِيحَةُ} التي تنطحها شاة أخرى، وهي (فعلية) بمعنى (مفعولة) ويجوز أن تكون هي الناطحة، نطحت غيرها فماتت، فتكون النطيحة بمعنى الناطحة.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي افترسه فأكل بعضه، فكل هذا حرام إذا مات حتف أنفه، وكذلك هو حرام عند أهل المدينة، وإن أُدرك حياً بحياة لا يُرجى دوامها، ثم قال تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} أي أدركتم ذكاته من هذا، وفيه روح، ويرجى حياته لو ترك، هذا مذهب مالك رحمه الله- فكلوه.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} هو ما ذبح عند صنم أو حجر كانوا يذبحون عنده، (والأزلام) القداح، و(الاستقسام) بها (أن يٌضرب) ثم يعمل بها يخرج فيها من أمر أو نهي.
(والمخمصة) المجاعة.
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} أي منحرف مائل). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 67-68]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}: لم يذكر عليه اسم الله
3- {الْمُنْخَنِقَةُ}: التي تخنق فتموت
3- {الْمَوْقُوذَةُ}: التي تضرب حتى الموت
3- {الْمُتَرَدِّيَةُ}: التي تسقط من موضع عالٍ فتموت
3- {النَّطِيحَةُ}: التي تنطح فتموت
3- {ذَكَّيْتُمْ}: ذبحتم
3- {النُّصُبِ}: الأصنام
3- {تَسْتَقْسِمُواْ}: تفعلون ما يخرجه السهم
3- {الأَزْلاَمِ}: القداح
3- {مَخْمَصَة}: مجاعة
3- {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ}: غير مائل إلى معصية). [العمدة في غريب القرآن: 118-120]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 2 جمادى الأولى 1434هـ/13-03-2013م, 11:05 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي المجموع

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
قال أبو فَيدٍ مُؤَرِّجُ بنُ عمروٍ السَّدُوسِيُّ (ت: 195هـ) : (
وأَطْوِي على الْخَمْصِ الحوايَا كما انْطَوَتْ = خُيوطةُ ماريٍّ تُغارُ وتُفْتَلُ
الْخَمْصُ: الْمَخْمَصَةُ، وهو خَلاءُ البَطْنِ مِن الطعامِ جُوعًا). [شرح لامية العرب: --]
قال أبو فَيدٍ مُؤَرِّجُ بنُ عمروٍ السَّدُوسِيُّ (ت: 195هـ) : (والْخَمْصُ: الجُوعُ). [شرح لامية العرب: --] (م)
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (قال الله عز وجل: {والنطيحة} ... جعلوها بالهاء لما صيرت اسما مفردا). [المذكور والمؤنث: 54]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم
وقوله تعالى: حرّمت عليكم الميتة الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من بهيمة الأنعام [المائدة: 1] والميتة كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة، وقرأ جمهور الناس «الميتة» بسكون الياء، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة» بالتشديد في الياء قال الزجاج:
هما بمعنى واحد، وقال قوم من أهل اللسان: الميت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت = إنما الميت ميت الأحياء
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والبيت يحتمل أن يتأول شاهدا عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة وقوله تعالى: والدّم معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم وعلى تحليل الطحال ونحوه وكانت الجاهلية تستبيح الدم ومنه قولهم لم يحرم من فصد له والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلدا كان أو عظما، وقوله تعالى: وما أهلّ لغير اللّه به يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارى وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذا صاح عند الولادة، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر:
يهل بالفرقد ركبانها = كما يهل الراكب المعتمر
وقوله تعالى: والمنخنقة معناه التي تموت خنقا وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة
وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباس والموقوذة التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق:
شغارة تغذ الفصيل برجلها = فطارة لقوادم الأبكار
وقال ابن عباس الموقوذة التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن اللفظة قول معاوية، وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته، وقال الضحاك: كانوا يضربون «الأنعام» بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها وقال أبو عبد الله الصنابحي ليس الموقوذة إلا في مالك وليس في الصيد وقيذ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المعراض «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ»، والمتردّية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة، والنّطيحة فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت وتأول قوم النّطيحة بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقال قوم: لو ذكر الشاة لقيل: والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكرا يريد أم مؤنثا، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك: النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم..
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكل ما مات ضغطا فهو نطيح، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة»، وقوله: وما أكل السّبع يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه هذه كلها سباع. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد. وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره.
وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبع» بسكون الباء وهي لغة أهل نجد وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه. وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع» وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع»، واختلف العلماء في قوله تعالى: إلّا ما ذكّيتم فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاستثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرق بعين أو يمصع برجل أو يحرك ذنبا وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول، وقال أيضا وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة ان قوله تعالى: إلّا ما ذكّيتم معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم» مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى إلّا ما ذكّيتم من غير هذه فكلوه، وفي هذا عندي نظر، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات، وقال الطبري: إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله ثعلب، قال ابن سيده: والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا إنما هو حديث، وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قول الشاعر:
يذكيها الأسل
ومما احتج به المالكيون لقول مالك، إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولا يغني عنها فمن حجة المخالف ان قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميتة الوجع حسب ما كانت هي عليه.
قوله تعالى: ... وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (3)
قوله: وما ذبح عطف على المحرمات المذكورات، والنّصب جمع واحده نصاب، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضا وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعا قطعا ليأكل الناس، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: النّصب حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. وقال ابن عباس:
ويهلون عليها، قال ابن جريج: النّصب ليس بأصنام الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون فيها أنصاب مكة، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة.. فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى: لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها [الحج: 37] ونزلت وما ذبح على النّصب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: المعنى والنية فيها تعظيم النصب، قال مجاهد: وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها، قال ابن زيد: ما ذبح على النّصب وما أهل به لغير الله شيء واحد.
قال رضي الله عنه: ما ذبح على النّصب جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضا نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النّصب» بفتح النون وسكون الصاد، وقال على الصنم، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النّصب» بضم النون وسكون الصاد، وقرأ عيسى بن عمر «على النّصب» بفتح النون والصاد وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور، وقوله تعالى: وأن تستقسموا بالأزلام حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر بالأزلام وهي سهام واحدها زلم بضم الزاي وبفتحها وأزلام العرب ثلاثة أنواع، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل والآخر لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل، في أحدها العقل في أمور الديات، وفي آخر منكم وفي آخر من غيركم وفي آخر ملصق وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل. والنوع الثالث هو قداح الميسر وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام» حرام كله وقوله تعالى: ذلكم فسقٌ إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، والفسق الخروج من مكان محتو جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته.
وقوله تعالى: اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة ألا بطل السحر اليوم، إلى غير هذا من الأمثلة، وهذه الآية نزلت في إثر حجة الوداع وقيل في يوم عرفة ولم يكن المشركون يومئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج، ويحتمل قوله تعالى: اليوم أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك. ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان يئس الكفار من دينكم وقوله تعالى: الّذين كفروا يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى: فلا تخشوهم واخشون فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم ومفتاح كل خير، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس» بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر.
وقوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم تحتمل الإشارة ب اليوم ما قد ذكرناه، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا، وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك. وقال ابن عباس والسدي هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة. وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صدقت، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي: آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال له عمر أية آية هي فقال له: اليوم أكملت لكم دينكم فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته قال داود: فقلت أي يوم هو قال يوم عرفة، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوسا في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال: نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم
الاثنين، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قبلنا، وقوله تعالى: ورضيت لكم الإسلام ديناً يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى: إنّ الدّين عند اللّه الإسلام [آل عمران: 19] وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان والأعمال والشعب.
وقوله تعالى: فمن اضطرّ في مخمصةٍ يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تحل الميتة؟ فقال إذا لم يصطبحوا ولم يغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة وقرأ ابن محيصن «فمن اطر» بإدغام الضاد في الطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالا كثيرا وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة، و «المخمصة» المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال خمصانة وبطن خميص ومنه أخمص القدم، ويستعمل ذلك كثيرا في الجوع والغرث، ومنه قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم = وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن، وقوله تعالى: غير متجانفٍ لإثمٍ هو بمعنى غير باغٍ ولا عادٍ [البقرة: 173] وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف»، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من متجانفٍ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه. ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا، ومقاربة ميل، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى: فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات). [المحرر الوجيز: 3/94-105]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 04:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلّا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (3) }
يخبر تعالى عباده خبرًا متضمّنًا النّهي عن تعاطي هذه المحرّمات من الميتة وهي: ما مات من الحيوان حتف أنفه، من غير ذكاةٍ ولا اصطيادٍ، وما ذاك إلّا لما فيها من المضرّة، لما فيها من الدّم المحتقن، فهي ضارّةٌ للدّين وللبدن فلهذا حرّمها اللّه، عزّ وجلّ، ويستثني من الميتة السّمك، فإنّه حلالٌ سواءٌ مات بتذكيةٍ أو غيرها، لما رواه مالكٌ في موطّئه، والشّافعيّ وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبّان في صحيحيهما، عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن ماء البحر، فقال: "هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ".
وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث، وقوله: {والدّم} يعني [به] المسفوح؛ لقوله: {أو دمًا مسفوحًا} [الأنعام: 145] قاله ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبير.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا كثير بن شهابٍ المذحجي، حدّثنا محمّد بن سعيد بن سابقٍ، حدّثنا عمرٌو-يعني ابن قيسٍ-عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: أنه سئل عن الطّحال فقال: كلوه فقالوا: إنّه دمٌ. فقال: إنّما حرم عليكم الدّم المسفوح.
وكذا رواه حمّاد بن سلمة، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم، عن عائشة، قالت: إنّما نهى عن الدّم السّافح.
وقد قال أبو عبد اللّه محمّد بن إدريس الشّافعيّ: حدّثنا عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "أحلّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطّحال".
وكذا رواه أحمد بن حنبلٍ، وابن ماجه، والدّارقطنيّ، والبيهقيّ، من حديث عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيفٌ. قال الحافظ البيهقيّ: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد اللّه، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعًا.
قلت: وثلاثتهم ضعفاء، ولكنّ بعضهم أصلح من بعضٍ. وقد رواه سليمان بن بلالٍ أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرّازّيّ: وهو أصحّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسن، حدّثنا محمّد بن عبد الملك بن أبي الشّوارب، حدّثنا بشير بن سريج، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة -وهو صديّ بن عجلان-قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى قومي أدعوهم إلى اللّه ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعة من دمٍ، فاجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلمّ يا صديّ، فكل. قال: قلت: ويحكم! إنّما أتيتكم من عند محرّم هذا عليكم، وأنزل اللّه عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: {حرّمت عليكم الميتة والدّم [ولحم الخنزير]} الآية.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشّوارب بإسنادٍ مثله، وزاد بعد هذا السّياق: قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام، ويأبون عليّ، فقلت لهم: ويحكم، اسقوني شربةً من ماءٍ، فإنّي شديد العطش -قال: وعليّ عباءتي-فقالوا: لا ولكن ندعك حتّى تموت عطشًا. قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء، ونمت على الرّمضاء في حرٍّ شديدٍ، قال: فأتاني آتٍ في منامي بقدح من زجاجٍ لم ير النّاس أحسن منه، وفيه شرابٌ لم ير النّاس [شرابًا] ألذّ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، فلا واللّه ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة.
ورواه الحاكم في مستدركه، عن عليّ بن حمشاذ عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، حدّثني عبد اللّه بن سلمة بن عيّاشٍ العامريّ، حدّثنا صدقة بن هرمز، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة، قد ذكر نحوه وزاد بعد قوله: "بعد تيك الشّربة": فسمعتهم يقولون: أتاكم رجلٌ من سراة قومكم، فلم تمجعوه بمذقةٍ، فأتوني بمذقةٍ فقلت: لا حاجة لي فيها، إن اللّه أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم.
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته الّتي ذكرها ابن إسحاق:
وإياك والميتات لا تقربنّها = ولا تأخذنّ عظمًا حديدًا فتفصدا
أي: لا تفعل كما يفعل الجاهليّة، وذلك أنّ أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محدّدًا من عظمٍ ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيوانًا من أيّ صنفٍ كان، فيجمع ما يخرج منه من الدّم فيشربه؛ ولهذا حرّم اللّه الدّم على هذه الأمّة، ثمّ قال الأعشى:
وذا النّصب المنصوب لا تأتينّه = ولا تعبد الأصنام واللّه فاعبدا
وقوله: {ولحم الخنزير} يعني: إنسيّه ووحشيّه، واللّحم يعمّ جميع أجزائه حتّى الشّحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظّاهريّة في جمودهم هاهنا وتعسّفهم في الاحتجاج بقوله: {فإنّه رجسٌ أو فسقًا} يعنون قوله تعالى: {إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ} [الأنعام: 145] أعادوا الضّمير فيما فهموه على الخنزير، حتّى يعمّ جميع أجزائه، وهذا بعيدٌ من حيث اللّغة، فإنّه لا يعود الضّمير إلّا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أنّ اللّحم يعمّ جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطّرد، وفي صحيح مسلمٍ، عن بريدة بن الخصيب الأسلميّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من لعب بالنردشير فكأنّما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه" فإذا كان هذا التّنفير لمجرّد اللّمس فكيف يكون التّهديد والوعيد الأكيد على أكله والتّغذّي به، وفيه دلالةٌ على شمول اللّحم لجميع الأجزاء من الشّحم وغيره.
وفي الصّحيحين: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول اللّه، أرأيت شحوم الميتة، فإنّها تطلى بها السّفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها النّاس؟ فقال: "لا هو حرامٌ".
وفي صحيح البخاريّ من حديث أبي سفيان: أنّه قال لهرقل ملك الروم: "نهانا عن الميتة والدم".
وقوله: {وما أهلّ لغير اللّه به} أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير اللّه، فهو حرامٌ؛ لأنّ اللّه أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنمٍ أو طاغوتٍ أو وثنٍ أو غير ذلك، من سائر المخلوقات، فإنّها حرامٌ بالإجماع. وإنّما اختلف العلماء في المتروك التّسمية عليه، إمّا عمدًا أو نسيانًا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسن الهسنجاني، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا ابن فضيلٍ، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطّفيل قال: نزل آدم بتحريم أربعٍ: الميتة، والدّم، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير اللّه به، وإنّ هذه الأربعة الأشياء لم تحلّ قطّ، ولم تزل حرامًا منذ خلق اللّه السّموات والأرض، فلمّا كانت بنو إسرائيل حرّم اللّه عليهم طيّباتٍ أحلت لهم بذنوبهم، فلمّا بعث اللّه عيسى ابن مريم، عليه السّلام، نزل بالأمر الأوّل الّذي جاء به آدم [عليه السّلام] وأحلّ لهم ما سوى ذلك فكذّبوه وعصوه. وهذا أثرٌ غريبٌ.
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا ربعيّ بن عبد اللّه قال: سمعت الجارود بن أبي سبرة -قال: هو جدّي-قال: كان رجلٌ من بني رياح يقال له: ابن وثيل، وكان شاعرًا، نافر-غالبًا-أبا الفرزدق بماءٍ بظهر الكوفة، على أن يعقر هذا مائةً من إبله، وهذا مائةً من إبله، إذا وردت الماء، فلمّا وردت الماء قاما إليها بالسّيوف، فجعلا يكسفان عراقيبها. قال: فخرج النّاس على الحمرات والبغال يريدون اللّحم -قال: وعليٌّ بالكوفة-قال: فخرج عليٍّ على بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم البيضاء وهو ينادي: يا أيّها النّاس، لا تأكلوا من لحومها فإنّما أهلّ بها لغير اللّه.
هذا أثرٌ غريبٌ، ويشهد له بالصّحّة ما رواه أبو داود: حدّثنا هارون بن عبد اللّه، حدّثنا حمّاد بن مسعدة، عن عوفٍ، عن أبي ريحانة، عن ابن عبّاسٍ قال: نهى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن معاقرة الأعراب.
ثمّ قال أبو داود: محمّد بن جعفرٍ -هو غندر-أوقفه على ابن عبّاسٍ. تفرّد به أبو داود
وقال أبو داود أيضًا: حدّثنا هارون بن زيد بن أبي الزّرقاء، حدّثنا أبي، حدّثنا جرير بن حازمٍ، عن الزّبير بن خرّيتٍ قال: سمعت عكرمة يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
ثمّ قال أبو داود: أكثر من رواه عن جريرٍ لا يذكر فيه ابن عبّاسٍ. تفرّد به أيضًا.
وقوله: {والمنخنقة} وهي الّتي تموت بالخنق إمّا قصدًا أو اتّفاقًا، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به، فهي حرام.
وأمّا {الموقوذة} فهي الّتي تضرب بشيءٍ ثقيلٍ غير محدّدٍ حتّى تموت، كما قال ابن عبّاسٍ وغير واحدٍ: هي الّتي تضرب بالخشب حتّى توقذ بها فتموت.
وقال قتادة: كان أهل الجاهليّة يضربونها بالعصى حتّى إذا ماتت أكلوها.
وفي الصّحيح: أنّ عديّ بن حاتمٍ قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّي أرمي بالمعراض الصّيد فأصيب. قال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فإنّما هو وقيذ فلا تأكله".
ففرّق بين ما أصابه بالسّهم، أو بالمزراق ونحوه بحدّه فأحلّه، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذًا فلم يحلّه، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصّيد فقتله بثقله ولم يجرحه، على قولين، هما قولان للشّافعيّ، رحمه اللّه:
أحدهما: [أنّه] لا يحلّ، كما في السّهم، والجامع أنّ كلًّا منهما ميّتٌ بغير جرحٍ فهو وقيذٌ.
والثّاني: أنّه يحلّ؛ لأنّه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدلّ على إباحة ما ذكرناه؛ لأنّه قد دخل في العموم. وقد قرّرت لهذه المسألة فصلًا فليكتب هاهنا..
فصلٌ:
اختلف العلماء رحمهم اللّه تعالى، فيما إذا أرسل كلبًا على صيدٍ فقتله بثقله ولم يجرحه، أو صدمه، هل يحلّ أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنّ ذلك حلالٌ؛ لعموم قوله تعالى: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} [المائدة: 4] وكذا عمومات حديث عدي بن حاتمٍ. وهذا قولٌ حكاه الأصحاب عن الشّافعيّ، رحمه اللّه، وصحّحه بعض المتأخّرين [منهم] كالنّوويّ والرّافعيّ.
قلت: وليس ذلك بظاهرٍ من كلام الشّافعيّ في الأمّ والمختصر، فإنّه قال في كلا الموضعين: "يحتمل معنيين". ثمّ وجّه كلًّا منهما، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللّهمّ إلّا أنّه في بحثه حكايته للقول بالحلّ رشّحه قليلًا ولم يصرّح بواحدٍ منهما ولا جزم به. والقول بذلك، أعني الحلّ، نقله ابن الصّبّاغ عن أبي حنيفة، من رواية الحسن بن زيادٍ، عنه، ولم يذكر غير ذلك وأمّا أبو جعفر بن جريرٍ فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسيّ، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقّاصٍ، وابن عمر. وهذا غريبٌ جدًّا، وليس يوجد ذلك مصرّحًا به عنهم، إلّا أنّه من تصرّفه، رحمه اللّه ورضي عنه.
والقول الثّاني: أنّ ذلك لا يحلّ، وهو أحد القولين عن الشّافعيّ، رحمه اللّه، واختاره المزني ويظهر من كلام ابن الصّبّاغ ترجيحه أيضًا، واللّه أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، رضي اللّه عنه وهذا القول أشبه بالصّواب، واللّه أعلم، لأنّه أجرى عن القواعد الأصوليّة، وأمسّ بالأصول الشّرعيّة. واحتجّ ابن الصّبّاغ له بحديث رافع بن خديج، قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدًى، أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه". الحديث بتمامه وهو في الصّحيحين.
وهذا وإن كان واردًا على سببٍ خاصٍّ، فالعبرة بعموم اللّفظ عند جمهورٍ من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السّلام عن البتع -وهو نبيذ العسل-فقال: "كلّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ" أفيقول فقيهٌ: إنّ هذا اللّفظ مخصوصٌ بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيءٍ من الذّكاة فقال لهم كلامًا عامًّا يشمل ذاك المسئول عنه وغيره؛ لأنّه عليه السّلام قد أوتي جوامع الكلم.
إذا تقرّر هذا فما صدمه الكلب أو غمّه بثقله، ليس ممّا أنهر دمه، فلا يحلّ لمفهوم هذا الحديث. فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيءٍ؛ لأنّهم إنّما سألوا عن الآلة الّتي يذكّى بها، ولم يسألوا عن الشّيء الّذي يذكّى؛ ولهذا استثنى من ذلك السّنّ والظّفر، حيث قال: "ليس السّنّ والظّفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظّفر فمدي الحبشة". والمستثنى يدلّ على جنس المستثنى منه، وإلّا لم يكن متّصلًا فدلّ على أنّ المسئول عنه هو الآلة، فلا يبقى فيه دلالةٌ لما ذكرتم.
فالجواب عن هذا: بأنّ في الكلام ما يشكل عليكم أيضًا، حيث يقول: "ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه". ولم يقل: "فاذبحوا به" فهذا يؤخذ منه الحكمان معًا، يؤخذ حكم الآلة الّتي يذكّى بها، وحكم المذكّى، وأنّه لا بدّ من إنهار دمه بآلةٍ ليست سنًّا ولا ظفرًا. هذا مسلكٌ.
والمسلك الثّاني: طريقة المزني، وهي أنّ السّهم جاء التّصريح فيه بأنّه إن قتل بعرضه فلا تأكل، وإن خزق فكل. والكلب جاء مطلقًا فيحمل على ما قيّد هناك من الخزق؛ لأنّهما اشتركا في الموجب، وهو الصّيد، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السّبب، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظّهار على تقييده بالإيمان في القتل، بل هذا أولى. وهذا يتوجّه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي، وليس فيها خلافٌ بين الأصحاب قاطبةً، فلا بدّ لهم من جوابٍ عن هذا. وله أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحلّ قياسًا على ما قتله السّهم بعرضه والجامع أنّ كلًّا منهما آلةٌ للصّيد، وقد مات بثقله فيهما. ولا يعارض ذلك بعموم الآية؛ لأنّ القياس مقدّمٌ على العموم، كما هو مذهب الأئمّة الأربعة والجمهور، وهذا مسلكٌ حسنٌ أيضًا.
مسلكٌ آخر، وهو: أنّ قوله تعالى: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} [المائدة: 4] عامٌّ فيما قتلن بجرح أو غيره، لكنّ هذا المقتول على هذه الصّورة المتنازع فيها لا يخلو: إمّا أن يكون نطيحًا أو في حكمه، أو منخنقًا أو في حكمه، وأيًّا ما كان فيجب تقديم [حكم] هذه الآية على تلك لوجوهٍ:
أحدها: أنّ الشّارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصّيد، حيث يقول لعديّ بن حاتمٍ: "وإن أصابه بعرضه فإنّما هو وقيذ فلا تأكله". ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكمٍ وحكمٍ من هذه الآية، فقال: إن الوقيذ معتبرٌ حالة الصّيد، والنّطيح ليس معتبرًا، فيكون القول بحلّ المتنازع فيه خرقًا للإجماع لا قائل به، وهو محظورٌ عند كثيرٍ من العلماء.
الثّاني: أنّ تلك الآية: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} [المائدة: 4] ليست على عمومها بالإجماع، بل مخصوصةً بما صدن من الحيوان المأكول، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتّفاق، والعموم المحفوظ مقدّمٌ على غير المحفوظ.
المسلك الآخر: أنّ هذا الصّيد والحالة هذه في حكم الميتة سواءٌ؛ لأنّه قد احتقن فيه الدّماء وما يتبعها من الرّطوبات، فلا تحلّ قياسًا على الميتة.
المسلك الآخر: أنّ آية التّحريم، أعني قوله: {حرّمت عليكم الميتة} إلى آخرها، محكمةٌ لم يدخلها نسخٌ ولا تخصيصٌ، وكذا ينبغي أن تكون آية التّحليل محكمةٌ، أعني قوله: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات [وما علّمتم من الجوارح مكلّبين]} [المائدة: 4] فينبغي ألّا يكون بينهما تعارضٌ أصلًا وتكون السّنّة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك قصّة السّهم، فإنّه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خزفه المعراض فيكون حلالًا؛ لأنّه من الطّيّبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية التّحريم، وهو ما إذا أصابه بعرضٍ فلا يؤكل؛ لأنّه وقيذٌ، فيكون أحد أفراد آية التّحريم، وهكذا يجب أنّ يكون حكم هذا سواءً، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخلٌ في حكم آية التّحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيحٌ أو في حكمه فلا يكون حلالًا.
فإن قيل: فلم لا فصّل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم: إن جرحه فهو حلالٌ، وإن لم يجرحه فهو حرامٌ؟
فالجواب: أنّ ذلك نادرٌ؛ لأنّ من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معًا، وأمّا اصطدامه هو والصّيد فنادرٌ، وكذا قتله إيّاه بثقله، فلم يحتجّ إلى الاحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة. وأمّا السّهم والمعراض فتارةً يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته؛ فلهذا ذكر كلًّا من حكميه مفصّلًا واللّه أعلم؛ ولهذا لمّا كان الكلب من شأنه أنّه قد يأكل من الصّيد، ذكر حكم ما إذا أكل من الصّيد فقال: "إن أكل فلا تأكل، فإنّي أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيحٌ ثابتٌ في الصّحيحين وهو أيضًا مخصوصٌ من عموم آية التّحليل عند كثيرين فقالوا: لا يحلّ ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة، وابن عبّاسٍ. وبه قال الحسن، والشعبي، والنخعي. وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبلٍ، والشّافعيّ في المشهور عنه. وروى ابن جريرٍ في تفسيره عن عليٍّ، وسعدٍ، وسلمان، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عبّاسٍ: أنّ الصّيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتّى قال سعدٌ، وسلمان، وأبو هريرة وابن عمر، وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلّا بضعةٌ. وإلى ذلك ذهب مالكٌ والشّافعيّ في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصّبّاغ وغيره من الأصحاب عنه.
وقد روى أبو داود بإسنادٍ جيّدٍ قويٍّ، عن أبي ثعلبة الخشني، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم اللّه فكل وإن أكل منه، وكل ما ردّت عليك يدك".
ورواه أيضًا النّسائيّ من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه؛ أنّ أعرابيًّا يقال له: أبو ثعلبة قال: يا رسول اللّه، فذكر نحوه.
وقال محمّد بن جريرٍ في تفسيره: حدّثنا عمران بن بكّار الكلاعيّ، حدّثنا عبد العزيز بن موسى-هو اللّاحونيّ-حدّثنا محمّد بن دينارٍ -هو الطّاحيّ-عن أبي إياسٍ -وهو معاوية بن قرّة-عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان الفارسيّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إذا أرسل الرّجل كلبه على الصّيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي.
ثمّ إنّ ابن جريرٍ علّله بأنّه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان موقوفًا وأمّا الجمهور فقدّموا حديث "عديّ" على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنّه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ، فأكل منه لجوعه ونحوه، فإنّه لا بأس بذلك؛ لأنّه -والحالة هذه؛ لا يخشى أنّه أمسك على نفسه، بخلاف ما إذا أكل منه أوّل وهلةٍ، فإنّه يظهر منه أنّه أمسك على نفسه، واللّه أعلم.
فأمّا الجوارح من الطّير فنصّ الشّافعيّ على أنّها كالكلاب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين. واختار المزنيّ من أصحابنا أنّه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطّيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنّه لا يمكن تعليمها كما يعلّم الكلب بالضّرب ونحوه، وأيضًا فإنّها لا تعلّم إلّا بأكلها من الصّيد، فيعفى عن ذلك، وأيضًا فالنّصّ إنّما ورد في الكلب لا في الطّير. وقال الشّيخ أبو عليٍّ في "الإفصاح": إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطّير وجهان، وأنكر القاضي أبو الطّيّب هذا التّفريع والتّرتيب، لنصّ الشّافعيّ، رحمه اللّه على التّسوية بينهما، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا {المتردّية} فهي الّتي تقع من شاهقٍ أو موضعٍ عالٍ فتموت بذلك، فلا تحلّ.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {المتردّية} الّتي تسقط من جبلٍ. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر.
وقال السّدّيّ: هي الّتي تقع من جبلٍ أو تتردّى في بئرٍ.
وأمّا {النّطيحة} فهي الّتي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرامٌ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدّم ولو من مذبحها.
والنّطيحة فعيلةٌ بمعنى مفعولةٍ، أي: منطوحةٍ. وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التّأنيث، فيقولون: كفٌّ خضيبٌ، وعينٌ كحيلٌ، ولا يقولون: كفّ خضيبةٍ، ولا عين كحيلةٍ: وأمّا هذه فقال بعض النّحاة: إنّما استعمل فيها تاء التّأنيث؛ لأنّها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم: طريقةٌ طويلةٌ. وقال بعضهم: إنّما أتي بتاء التّأنيث فيها لتدلّ على التّأنيث من أوّل وهلةٍ، بخلاف: عينٍ كحيلٍ، وكفٍّ خضيبٍ؛ لأنّ التّأنيث مستفادٌ من أوّل الكلام.
وقوله: {وما أكل السّبع} أي: ما عدا عليها أسدٌ، أو فهدٌ، أو نمرٌ، أو ذئبٌ، أو كلبٌ، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرامٌ وإن كان قد سال منها الدّماء ولو من مذبحها، فلا تحلّ بالإجماع. وقد كان أهل الجاهليّة يأكلون ما أفضل السّبع من الشّاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرّم اللّه ذلك على المؤمنين.
وقوله: {إلا ما ذكّيتم} عائدٌ على ما يمكن عوده عليه، ممّا انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاةٍ، وفيه حياةٌ مستقرّةٌ، وذلك إنّما يعود على قوله: {والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع}
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {إلا ما ذكّيتم} يقول: إلّا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روحٌ، فكلوه، فهو ذكيٌّ. وكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ، والحسن البصريّ، والسّدّيّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا حفص بن غياثٍ حدّثنا جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن علي قال: {وما أكل السّبع إلا ما ذكّيتم} قال: إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها فكل.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثنا هشيمٌ وعبّادٌ قالا حدّثنا حجّاجٌ، عن حصينٍ، عن الشّعبيّ، عن الحارث، عن عليٍّ قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردّية والنّطيحة، وهي تحرّك يدًا أو رجلًا فكلها.
وهكذا روي عن طاوسٍ، والحسن، وقتادة وعبيد بن عمير، والضّحّاك وغير واحدٍ: أنّ المذكّاة متى تحرّكت بحركةٍ تدلّ على بقاء الحياة فيها بعد الذّبح، فهي حلالٌ. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ. وقال ابن وهبٍ: سئل مالكٌ عن الشّاة الّتي يخرق جوفها السّبع حتّى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالكٌ: لا أرى أن تذكّي أيّ شيءٍ يذكّى منها.
وقال أشهب: سئل مالكٌ عن الضّبع يعدو على الكبش، فيدقّ ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت، فيؤكل؟ قال إن كان قد بلّغ السّحرة، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدقّ ظهره؟ فقال: لا يعجبني، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذّئب يعدو على الشّاة فيشقّ بطنها ولا يشقّ الأمعاء؟ فقال: إذا شقّ بطنها فلا أرى أن تؤكل.
هذا مذهب مالكٍ، رحمه اللّه، وظاهر الآية عامٌّ فيما استثناه مالكٌ، رحمه اللّه من الصّور الّتي بلغ الحيوان فيها إلى حالةٍ لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى دليلٍ مخصّصٍ للآية، واللّه أعلم.
وفي الصّحيحين: عن رافع بن خديج أنّه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: "ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه، ليس السنّ والظّفر، وسأحدّثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة".
وفي الحديث الّذي رواه الدّارقطنيّ [عن أبي هريرة] مرفوعًا، وفيه نظرٌ، وروي عن عمر موقوفًا، وهو أصحّ "ألا إنّ الذّكاة في الحلق واللّبّة، ولا تعجّلوا الأنفس أن تزهق".
وفي الحديث الّذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن، من رواية حمّاد بن سلمة، عن أبي العشراء الدّارميّ، عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللّه، أما تكون الذّكاة إلّا من اللّبّة والحلق؟ فقال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.
وهو حديثٌ صحيحٌ ولكنّه محمولٌ على ما [لم] يقدر على ذبحه في الحلق واللّبّة.
وقوله: {وما ذبح على النّصب} قال مجاهدٌ وابن جريج كانت النّصب حجارةً حول الكعبة، قال ابن جريجٍ: وهي ثلاثمائةٍ وستّون نصبًا، كان العرب في جاهليّتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذّبائح، ويشرّحون اللّحم ويضعونه على النّصب.
وكذا ذكره غير واحدٍ، فنهى اللّه المؤمنين عن هذا الصّنيع، وحرّم عليهم أكل هذه الذّبائح الّتي فعلت عند النّصب حتّى ولو كان يذكر عليها اسم اللّه في الذّبح عند النّصب من الشّرك الّذي حرّمه اللّه ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا؛ لأنّه قد تقدّم تحريم ما أهل به لغير الله.
وقوله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام} أي: حرم عليكم أيّها المؤمنون الاستقسام بالأزلام: واحدها: زلم، وقد تفتح الزّاي، فيقال: زلم، وقد كانت العرب في جاهليّتها يتعاطون ذلك، وهي عبارةٌ عن قداحٍ ثلاثةٍ، على أحدها مكتوبٌ: "أفعل" وعلى الآخر: "لا تفعل" والثّالث "غفل ليس عليه شيءٌ. ومن النّاس من قال: مكتوبٌ على الواحد: "أمرني ربّي" وعلى الآخر: "نهاني ربّي". والثّالث غفلٌ ليس عليه شيءٌ، فإذا أجالها فطلع السّهم الآمر فعله، أو النّاهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد [الاستقسام.]
والاستقسام: مأخوذٌ من طلب القسم من هذه الأزلام. هكذا قرّر ذلك أبو جعفر بن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا الحجّاج بن محمّدٍ، أخبرنا ابن جريجٍ وعثمان بن عطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: والأزلام: قداحٌ كانوا يستقسمون بها في الأمور.
وكذا روي عن مجاهدٍ، وإبراهيم النّخعي، والحسن البصريّ، ومقاتل بن حيّان.
وقال ابن عبّاسٍ: هي القداح، كانوا يستقسمون بها الأمور. وذكر محمّد بن إسحاق وغيره: أنّ أعظم أصنام قريشٍ صنمٌ كان يقال له: هبل، وكان داخل الكعبة، منصوبٌ على بئرٍ فيها، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، كان عنده سبعة أزلامٍ مكتوبٌ فيها ما يتحاكمون فيه، ممّا أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه.
وثبت في الصّحيح: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصوّرين فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم اللّه، لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها أبدًا."
وفي الصّحيح: أنّ سراقة بن مالك بن جعشم لمّا خرج في طلب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأبي بكرٍ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرّهم أم لا؟ فخرج الّذي أكره: لا تضرّهم قال: فعصيت الأزلام وأتبعتهم، ثمّ إنّه استقسم بها ثانيةً وثالثةً، كلّ ذلك يخرج الّذي يكره: لا تضرّهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثمّ أسلم بعد ذلك.
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد، عن رقبة، عن عبد الملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدّرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لن يلج الدّرجات من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفرٍ طائرًا".
وقال مجاهدٌ في قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.
وهذا الّذي ذكر عن مجاهدٍ في الأزلام أنّها موضوعةٌ للقمار، فيه نظرٌ، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارةً، وفي القمار أخرى، واللّه أعلم. فإنّ اللّه سبحانه [وتعالى] قد فرّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر، فقال في آخر السّورة: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون. إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم] منتهون} [الآيتان:90، 91] وهكذا قال هاهنا: {وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ} أي: تعاطيه فسقٌ وغيٌّ وضلالٌ وجهالةٌ وشركٌ، وقد أمر اللّه المؤمنين إذا تردّدوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه، ثمّ يسألوه الخيرة في الأمر الّذي يريدونه، كما رواه الإمام أحمد والبخاريّ وأهل السّنن، من طرقٍ عن عبد الرّحمن بن أبي الموالي، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السّورة من القرآن، ويقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللّهمّ إنّ كنت تعلم هذا الأمر -ويسمّيه باسمه-خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسّره لي وبارك لي فيه، اللّهمّ إن كنت تعلمه شرًّا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفني عنه، واصرفه عنّي، واقدر لي الخير حيث كان، ثمّ رضّني به". لفظ أحمد.
وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نعرفه إلّا من حديث ابن أبي الموالي.
قوله: {اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم..
وكذا روي عن عطاء بن أبي رباحٍ، والسّدّي ومقاتل بن حيّان. وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثّابت في الصّحيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "إنّ الشّيطان قد يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن بالتّحريش بينهم".
ويحتمل أن يكون المراد: أنّهم يئسوا من مشابهة المسلمين، بما تميّز به المسلمون من هذه الصّفات المخالفة للشّرك وأهله؛ ولهذا قال تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفّار، ولا يخافوا أحدًا إلّا اللّه، فقال: {فلا تخشوهم واخشون} أي: لا تخافوا منهم في مخالفتكم إيّاهم واخشوني، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} هذه أكبر نعم اللّه، عزّ وجلّ، على هذه الأمّة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبيٍّ غير نبيّهم، صلوات اللّه وسلامه عليه؛ ولهذا جعله اللّه خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجنّ، فلا حلال إلّا ما أحلّه، ولا حرام إلّا ما حرّمه، ولا دين إلّا ما شرعه، وكلّ شيءٍ أخبر به فهو حقٌّ وصدقٌ لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: {وتمّت كلمت ربّك صدقًا وعدلا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنّواهي، فلمّا أكمل الدّين لهم تمّت النّعمة عليهم ؛ ولهذا قال [تعالى] {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنّه الدّين الّذي رضيه اللّه وأحبّه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام، أخبر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين أنّه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادةٍ أبدًا، وقد أتمّه اللّه فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه اللّه فلا يسخطه أبدًا.
وقال أسباطٌ عن السّدّيّ: نزلت هذه الآية يوم عرفة، فلم ينزّل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ، ورجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمات. قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك الحجّة، فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل، فمال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الرّاحلة، فلم تطق الرّاحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت فأتيته فسجّيت عليه بردا كان عليّ.
قال ابن جريج وغير واحدٍ: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد يوم عرفة بأحدٍ وثمانين يومًا.
رواهما ابن جريرٍ، ثمّ قال: حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا ابن فضيل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: لمّا نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك يوم الحجّ الأكبر، بكى عمر، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما يبكيك؟ " قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادةٍ من ديننا، فأما إذ أكمل فإنّه لم يكمل شيءٌ إلّا نقص. فقال: "صدقت".
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثّابت: "إنّ الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا أبو العميس، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطّاب [رضي اللّه عنه] فقال: يا أمير المؤمنين، إنّكم تقرءون آيةً في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: وأيّ آيةٍ؟ قال قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فقال عمر: واللّه إني لأعلم اليوم الّذي نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، والسّاعة الّتي نزلت فيها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نزلت عشية عرفة في يوم جمعةٍ.
ورواه البخاريّ عن الحسن بن الصّبّاح عن جعفر بن عونٍ، به. ورواه أيضًا مسلمٌ والتّرمذيّ والنّسائيّ، من طرقٍ عن قيس بن مسلمٍ، به ولفظ البخاريّ عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثّوريّ، عن قيسٍ، عن طارقٍ قال: قالت اليهود لعمر: إنّكم تقرؤون آيةً، لو نزلت فينا لاتّخذناها عيدًا. فقال عمر: إنّي لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت وأين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا واللّه بعرفة -قال سفيان: وأشكّ كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية.
وشكّ سفيان، رحمه اللّه، إن كان في الرّواية فهو تورّعٌ، حيث شكّ هل أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكًّا في كون الوقوف في حجّة الوداع كان يوم جمعةٍ، فهذا ما إخاله يصدر عن الثّوريّ، رحمه اللّه، فإنّ هذا أمرٌ معلومٌ مقطوعٌ به، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسّير ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترةٌ لا يشكّ في صحّتها، واللّه أعلم، وقد روي هذا الحديث من غير وجهٍ عن عمر.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نسيّ، أخبرنا أميرنا إسحاق -قال أبو جعفر بن جريرٍ: هو إسحاق بن خرشة-عن قبيصة -يعني ابن ذؤيب-قال: قال كعبٌ: لو أنّ غير هذه الأمّة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الّذي أنزلت فيه عليهم، فاتّخذوه عيدًا يجتمعون فيه. فقال عمر: أيّ آيةٍ يا كعب؟ فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال عمر: قد علمت اليوم الّذي أنزلت فيه، والمكان الّذي أنزلت فيه، نزلت في يوم جمعةٍ ويوم عرفة، وكلاهما بحمد اللّه لنا عيدٌ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا قبيصة، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عمّارٍ-هو مولى بني هاشمٍ-أنّ ابن عبّاسٍ قرأ: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} فقال يهوديٌّ: لو نزلت هذه الآية علينا لاتّخذنا يومها عيدًا. فقال ابن عبّاسٍ: فإنّها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيدٍ ويوم جمعةٍ.
وقال ابن مردويه: حدّثنا أحمد بن كاملٍ، حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا يحيى بن الحمّاني، حدّثنا قيس بن الرّبيع، عن إسماعيل بن سلمان، عن أبي عمر البزّار، عن ابن الحنفيّة، عن عليٍّ [رضي اللّه عنه] قال: نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو قائمٌ عشيّة عرفة: {اليوم أكملت لكم دينكم}
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو عامرٍ إسماعيل بن عمرٍو السّكوني، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدثنا بن عيّاشٍ، حدّثنا عمرو بن قيسٍ السّكونيّ: أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم} حتّى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعةٍ.
وروى ابن مردويه، من طريق محمّد بن إسحاق، عن عمر بن موسى بن وجيهٍ، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} يوم عرفة ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واقفٌ على الموقف.
فأمّا ما رواه ابن جريرٍ وابن مردويه، والطّبرانيّ من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبد اللّه الصّنعانيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: ولد نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الاثنين، [ونبّئ يوم الاثنين] وخرج من مكّة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين: {اليوم أكملت لكم دينكم} ورفع الذّكر يوم الاثنين، فإنّه أثرٌ غريبٌ وإسناده ضعيفٌ.
وقد رواه الإمام أحمد: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصّنعانيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: ولد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكّة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفّي يوم الاثنين، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين.
هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فاللّه أعلم. ولعلّ ابن عبّاسٍ أراد أنّها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدّم، فاشتبه على الرّاوي، واللّه أعلم.
[و] قال ابن جريرٍ: وقد قيل: ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند النّاس، ثمّ روي من طريق العوفيّ عن ابن عبّاسٍ في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} يقول: ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند النّاس قال: وقد قيل: إنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مسيره إلى حجّة الوداع. ثمّ رواه من طريق أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ.
قلت: وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العيدي، عن أبي سعيدٍ الخدريّ؛ أنّها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعليٍّ: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه". ثمّ رواه عن أبي هريرة وفيه: أنّه اليوم الثّامن عشر من ذي الحجّة، يعني مرجعه عليه السّلام من حجة الوداع.
ولا يصحّ هذا ولا هذا، بل الصّواب الّذي لا شكّ فيه ولا مرية: أنّها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعةٍ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالبٍ، وأوّل ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد اللّه بن عبّاسٍ، وسمرة بن جندبٍ، رضي اللّه عنهم، وأرسله [عامرٌ] الشّعبيّ، وقتادة بن دعامة، وشهر بن حوشب، وغير واحدٍ من الأئمّة والعلماء، واختاره ابن جريرٍ الطّبريّ، رحمه اللّه.
وقوله: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: فمن احتاج إلى تناول شيءٍ من هذه المحرّمات الّتي ذكرها تعالى لضرورةٍ ألجأته إلى ذلك، فله تناول ذلك، واللّه غفورٌ رحيمٌ له؛ لأنّه تعالى يعلم حاجة عبده المضطرّ، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند وصحيح ابن حبّان، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه يحبّ أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته" لفظ ابن حبّان. وفي لفظٍ لأحمد من لم يقبل رخصة اللّه كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة".
ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته التّلف ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبًا، و [قد] يكون مباحًا بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسدّ به الرّمق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزوّد؟ على أقوالٍ، كما هو مقرّرٌ في كتاب الأحكام. وفيما إذا وجد ميتةً وطعام الغير، أو صيدًا وهو محرمٌ: هل يتناول الميتة، أو ذلك الصّيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطّعام ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشّافعيّ، رحمه اللّه. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيّامٍ لا يجد طعامًا، كما قد يتوهّمه كثيرٌ من العوامّ وغيرهم، بل متى اضطرّ إلى ذلك جاز له، وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيّ، حدّثنا حسّان بن عطيّة، عن أبي واقدٍ اللّيثيّ أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، إنّا بأرضٍ تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحلّ لنا بها الميتة؟ فقال: "إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تجتفئوا بقلا فشأنكم بها ".
تفرّد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسنادٌ صحيحٌ على شرط الصّحيحين. وكذا رواه ابن جريرٍ، عن عبد الأعلى بن واصلٍ، عن محمّد بن القاسم الأسديّ، عن الأوزاعيّ به لكن رواه بعضهم عن الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطيّة، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقدٍ، به ومنهم من رواه عن الأوزاعيّ، عن حسّانٍ، عن مرثدٍ -أو أبي مرثدٍ-عن أبي واقدٍ، به ورواه ابن جريرٍ عن هنّاد بن السّريّ، عن عيسى بن يونس، عن حسّانٍ، عن رجلٍ قد سمّي له، فذكره. ورواه أيضًا عن هنّادٍ، عن ابن المبارك، عن الأوزاعيّ، عن حسّانٍ، مرسلًا
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، عن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه، فكان فيه: "ويجزى من الأضرار غبوق أو صبوحٌ ".
حدّثنا أبو كريب، حدّثنا هشيم، عن الخصيب بن زيدٍ التّميميّ حدّثنا الحسن، أنّ رجلًا سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: [إلى] متى يحلّ [لي] الحرام؟ قال: فقال: "إلى متى يروى أهلك من اللّبن، أو تجيء ميرتهم ".
حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، حدّثنا عمر بن عبد اللّه بن عروة، عن جدّه عروة بن الزّبير، عن جدّته ؛ أنّ رجلًا من الأعراب أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يستفتيه في الّذي حرّم اللّه عليه، والّذي أحلّ له، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "تحلّ لك الطّيّبات، وتحرم عليك الخبائث إلّا أن تفتقر إلى طعامٍ لا يحلّ لك، فتأكل منه حتّى تستغني عنه". فقال الرّجل: وما فقري الّذي يحلّ لي؟ وما غناي الّذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا كنت ترجو نتاجًا، فتبلغ بلحوم ماشيتك إلى نتاجك، أو كنت ترجو غنًى، تطلبه، فتبلغ من ذلك شيئًا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتّى تستغني عنه". فقال الأعرابيّ: ما غناي الّذي أدعه إذا وجدته؟ فقال [النّبيّ] صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أرويت أهلك غبوقا من اللّيل، فاجتنب ما حرّم اللّه عليك من طعامٍ، وأمّا مالك فإنّه ميسورٌ كلّه، ليس فيه حرامٌ".
ومعنى قوله: "ما لم تصطبحوا": يعني به: الغداء، "وما لم تغتبقوا": يعني به: العشاء، "أو تختفئوا بقلًا فشأنكم بها" [أي] فكلوا منها. وقال ابن جريرٍ: يروى هذا الحرف -يعني قوله: "أو تختفئوا [بقلًا] على أربعة أوجهٍ: "تختفئوا" بالهمزة، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] وتحتفوا" بالحاء وبالتّخفيف، ويحتمل الهمز، كذا ذكره في التّفسير.
حديثٌ آخر: قال أبو داود: حدّثنا هارون بن عبد اللّه، حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا عقبة بن وهب بن عقبة العامريّ سمعت أبي يحدّث عن الفجيع العامريّ؛ أنّه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال: ما يحلّ لنا من الميتة؟ قال: "ما طعامكم؟ " قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيمٍ: فسّره لي عقبة: قدح غدوة، وقدح عشيّة قال: "ذاك وأبي الجوع". وأحلّ لهم الميتة على هذه الحال.
تفرّد به أبو داود وكأنّهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم، فأحلّ لهم الميتة لتمام كفايتهم، وقد يحتجّ به من يرى جواز الأكل منها حتّى يبلغ حدّ الشّبع، ولا يتقيّد ذلك بسدّ الرّمق، واللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال أبو داود: حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّادٌ، حدّثنا سماكٌ، عن جابر بن سمرة، أن رجلًا نزل الحرّة، ومعه أهله وولده، فقال له رجلٌ: إنّ ناقةً لي ضلّت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فنفقت، فقالت له امرأته: اسلخها حتّى نقدد شحمها ولحمها فنأكله. فقال: حتّى أسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنًى يغنيك؟ " قال: لا. قال: " فكلوها". قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلّا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.
تفرّد به وقد يحتجّ به من يجوز الأكل والشّبع، والتّزوّد منها مدّةً يغلب على ظنّه الاحتياج إليها واللّه أعلم.
وقوله: {غير متجانفٍ لإثمٍ} أي: [غير] متعاطٍ لمعصية اللّه، فإنّ اللّه قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} [الآية: 173].
وقد استدلّ بهذه الآية من يقول بأنّ العاصي بسفره لا يترخّص بشيءٍ من رخص السّفر؛ لأنّ الرّخص لا تنال بالمعاصي، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 3/14-31]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:45 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة