تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل أيّ شيءٍ أكبر شهادةً قل اللّه شهيدٌ بيني وبينكم وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنّكم لتشهدون أنّ مع اللّه آلهةً أخرى قل لا أشهد قل إنّما هو إلهٌ واحدٌ وإنّني بريءٌ ممّا تشركون (19)}
أيّ استفهام، وهي معربة مع إبهامها، وإنما كان ذلك لأنها تلتزم الإضافة ولأنها تتضمن علم جزء من المستفهم عنه غير معين، لأنك إذا قلت أي الرجلين جاءنا فقد كنت تعلم أن أحدهما جاء غير معين فأخرجها هذان الوجهان عن غمرة الإبهام فأعربت، وتتضمن هذه الآية أن الله -عز وجل- يقال عليه شيءٍ كما يقال عليه موجود، ولكن ليس كمثله -تبارك وتعالى- شيء، وشهادةً نصب على التمييز ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذه الآية مثل قوله تعالى: {قل لمن ما في السّماوات والأرض قل للّه} [الأنعام: 12] في أن استفهم على جهة التوقيف والتقدير ثم بادر إلى الجواب إذ لا تتصور فيه مدافعة، وهذا كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر من في البلد ثم تبادر وتقول السلطان فهو يحول بيننا، ونحو هذا من الأمثلة، فتقدير الآية أنه قال لهم أي شيء أكبر شهادة الله أكبر شهادة، فهو شهيد بيني وبينكم، ف اللّه رفع بالابتداء وخبره مضمر يدل عليه ظاهر الكلام كما قدرناه، وشهيدٌ خبر ابتداء مضمر.
وقال مجاهد المعنى أن الله -تعالى- قال لنبيه -عليه السلام-: قل لهم: أي شيء أكبر شهادة؟ وقل لهم: الله شهيد بيني وبينكم لما عيوا عن الجواب، ف شهيدٌ على هذا التأويل خبر لله وليس في هذا التأويل مبادرة من السائل إلى الجواب المراد بقوله: شهيدٌ، بيني وبينكم أي في تبليغي، وقرأت فرقة: {وأوحى إليّ هذا القرآن} على الفعل الماضي ونصب القرآن وفي {أوحى} ضمير عائد على الله تعالى من قوله قل اللّه، وقرأت فرقة {وأوحي} على بناء الفعل للمفعول {القرآن} رفعا، لأنذركم معناه لأخوفكم به العقاب والآخرة، ومن عطف على الكاف والميم في قوله: لأنذركم وبلغ معناه على قول الجمهور بلاغ القرآن، أي لأنذركم وأنذر من بلغه، ففي بلغ ضمير محذوف لأنه في صلة من، فحذف لطول الكلام، وقالت فرقة ومن بلغ الحكم، ففي بلغ على هذا التأويل ضمير مقدر راجع إلى من، وروي في معنى التأويل الأول أحاديث، منها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية، فإنه من بلغ آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله تعالى أخذه أو تركه»، ونحو هذا من الأحاديث كقوله: «من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره»، وقرأت فرقة «أأينكم» بزيادة ألف بين الهمزة الأولى والثانية المسهلة عاملة بعد التسهيل العاملة قبل التسهيل وقرأت فرقة «أينكم» بهمزتين الثانية مسهلة دون ألف بينهما، وقرأت فرقة «أإنكم» استثقلت اجتماع الهمزتين فزادت ألفا بين الهمزتين، وقرأت فرقة «أنكم» بالإيجاب دون تقدير وهذه الآية مقصدها التوبيخ وتسفيه الرأي. وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل تجري في الإفراد مجرى الواحدة المؤنثة كقوله: {مآرب أخرى} [طه: 18] وكذلك مخاطبته جمع ما لا يعقل كقوله: يا جبال أوّبي معه ونحو هذا، ولما كانت هذه الآلهة حجارة وعيدانا أجريت هذا المجرى ثم أمره الله تعالى أن يعلن بالتبري من شهادتهم. والإعلان بالتوحيد لله عز وجل والتبري من إشراكهم، وإنّني إيجاب ألحقت فيه النون التي تلحق الفعل لتبقى حركته عند اتصال الضمير به في قولك ضربني ونحوه، وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم يثبت صحته أنها نزلت في قوم من اليهود، وأسند إلى ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد وفردم بن كعب وبحري بن عمرو، فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال لهم: «لا إله إلا الله بذلك أمرت»، فنزلت الآية فيهم). [المحرر الوجيز: 3/ 329-331]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الّذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20) ومن أظلم ممّن افترى على اللّه كذباً أو كذّب بآياته إنّه لا يفلح الظّالمون (21)}
الّذين رفع بالابتداء وخبره يعرفونه والكتاب معناه التوراة والإنجيل وهو لفظ مفرد يدل على الجنس، والضمير في يعرفونه عائد في بعض الأقوال على التوحيد لقرب قوله:{قل إنّما هو إلهٌ واحدٌ} [الأنعام: 19] وهذا استشهاد في ذلك على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب، والّذين خسروا على هذا التأويل منقطع مرفوع بالابتداء وليس من صفة الّذين الأولى، لأنه لا يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويذمون في آية واحدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه، وأن الذم والاستشهاد ليس من جهة واحدة، وقال قتادة والسدي وابن جريج: الضمير عائد في يعرفونه على محمد -عليه السلام- ورسالته، وذلك على ما في قوله: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم} [الأنعام: 19] فكأنه قال وأهل الكتاب يعرفون ذلك من إنذاري والوحي إليّ، وتأول هذا التأويل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يدل على ذلك قوله لعبد الله بن سلام: «إن الله أنزل على نبيه بمكة أنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة، فقال عبد الله بن سلام: نعم أعرفه الصفة التي وصفه الله في التوراة فلا أشك فيه، وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه».
قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-: وتأول ابن سلام -رضي الله عنه- المعرفة بالابن تحقق صحة نسبه، وغرض الآية إنما هو الوقوف على صورته فلا يخطئ الأب فيها، وقالت فرقة: الضمير من يعرفونه عائد على القرآن المذكور قبل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويصح أن تعيد الضمير على هذه كلها دون اختصاص، كأنه وصف أشياء كثيرة، ثم قال: أهل الكتاب يعرفونه أي ما قلنا وما قصصنا وقوله تعالى: {الّذين خسروا ... الآية}، يصح أن يكون الّذين نعتا تابعا ل الّذين قبله، والفاء من قوله فهم عاطفة جملة على جملة، وهذا يحسن على تأويل من رأى في الآية قبلها أن أهل الكتاب متوعدون مذمومون لا مستشهد بهم، ويصح أن يكون الّذين رفعا بالابتداء على استئناف الكلام، وخبره فهم لا يؤمنون والفاء على هذا جواب، وخسروا معناه غبنوها، وقد تقدم، وروي أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار فهاهنا هي الخسارة بينة والربح الآخرين). [المحرر الوجيز: 3/ 332-333]