قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (جرت عادة بعض الناس إذا هم بأمر ما أن يفتح المصحف كطريق من طرق استخراج الفأل , وذلك بالنظر فى أول سطر يخرج له منه أو غيره , فيستبشر به ويتفائل أو يستاء منه ويتشائم .
وقد اختلفت كلمة أهل العلم فى حكم ذلك :
· فمنهم من أباحه وتعاطاه
· ومنهم من جزم بتحريمه وبدع فاعله .
· وذهب فريق ثالث إلى القول بالكراهة .
وقد حكى القول بإباحة اتخاذ الفأل من المصحف عن جماعة من أهل العلم , كعبيد الله بن بطة , ومحمد بن أحمد اليونينى , .. {30}ويوسف بن عبد الهادى , ومن أصحابنا الحنابلة . بل جزم الأخير به فى غير موضع من كتبه , وهو اختيار البدر بن جماعة , وبه أفتى الشمس الرملى من فقهاء الشافعية . {31}
بل زعم طاش كبرى زاده الحنفى , فى كتابه مفتاح السعادة مشروعية اتخاذ الفأل من المصحف , وأنه منقول عن الصحابة ومن بعدهم , غير أنه لم يسم منهم أحدا , ولم أجد نقلا عن أحد من أهل العلم يؤيد زعمه هذا , بل كافة النصوص التى وقفت عليها تشير إلى أن الكلام فى المسألة متأخر نسبيا , وأن أقدم من نقل عنه فعل ذلك هو ابن بطة الحنبلى , من علماء القرن الرابع الهجرى .قال أبو العباس بن تيمية :( وأما استفتاح الفأل بالمصحف فلم ينقل عن السلف فيه شئ , وقد تنازع فيه المتأخرون وذكر القاضى أبو يعلى أن ابن بطة فعله , وذكر غيره أنه كرهه ).
قال البعلى فى الاختبارات : ( ولا يفتح المصحف للفأل , قاله طائفة من العلماء خلافا لأبى عبد الله بن بطه ). وقال ابن مفلح فى الفروع : ( واستفتاح الفأل فيه فعله ابن بطة , ولم يره غيره .. ذكره شيخنا واختاره ).
قال الدميرى الشافعى : ( وأما أخذ الفأل منه فجزم ابن العربى والطرطوشى والقرافى المالكيون بتحريمه , وأباحه ابن بطة من الحنابلة , ومقتضى مذهبنا كراهته ).
ذكر ذلك الشهاب الرملى فى حاشيته على شرح الروض للأنصارى الشافعى . {32}
قال ابن العربى فى تفسيره لآيات الأحكام عن قوله تعالى : (وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ), وقال ( معناه تطلبوا ما قسم لكم , وجعله من حظوظكم وآمالكم ومنافعكم , ومحرم فسق ممن فعله , فإنه تعرض لعلم الغيب , ولا يجوز لأحد من خلق الله أن يتعرض للغيب ولا يطلبه . فإن الله سبحانه قد رفعه بعد نبيه إلا فى الرؤيا . فإن قيل فهل يجوز طلب ذلك فى المصحف ؟ قلنا : لا يجوز , فإنه لم يكن المصحف ليعلم به الغيب , وإنما بينت آياته ورسمت كلماته ليمنع عن الغيب ,فلا تشتغلوا به , ولا يتعرض أحدكم له )
وذكر القرافى فى الفروق أن الطرطوشى لم يحك فى حرمة أخذ الفأل من المصحف خلافا .
وقال ابن الحاج فى المدخل وهو بصدد الكلام عن التفاؤل الباطل : ( وأشد من ذلك التفاؤل فى فتح الختمة والنظر فى أول سطر يخرج منها أو غيره , وذلك باطل , وقد نهى عنه . بيان ذلك أنه قد يخرج له منها آية عذاب ووعيد فيقع له التشويش من ذلك , فرفع عنه ذلك حتى تنقطع عنه مادة التشويش . بل يخشى عليه أن يقع له ما هو {33} أشد من ذلك , ويؤول أمره إلى الخطر العظيم . ألا ترى إلى ما جرى لبعض الملوك أنه فتح المصحف ليأخذ منه الفأل , فوجد فى أول سطر منه :( وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ), فوجد من ذلك أمرا عظيما , حتى خرج بذلك عن حال المسلمين , وجرت منه أمور لا يمكن ذكرها لمنافرتها لحال المسلمين . والذخيرة قال الطرطوشى رحمه الله تعالى : إن أخ الفأل بالمصحف وضرب الرمل ونحوهما حرام , وهو من باب الاستقسام بالأزلام , مع أن الفأل حسن بالسنة , وتحريره أن الفأل الحسن هو ما يعرض من غير كسب , مثل قائل يقول : يا مفلح ...... ونحوه والتفاؤول المكتسب حرام كما قال الطرطوشى فى تعليقه ).
فتلخص مما مر أن لأهل العلم فى هذه المسألة ثلاثة أقوال :
* التحريم .. وهو اختيار ابن العربى والطرطوشى والقرافى من فقهاء المالكية .
* الكراهة .. وبه قالت طائفة من أهل العلم , ولم يظهر لى وجه القول بالأباحة هذا .. والله أعلم بالصواب ). {34}