قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إلهٍ غيره قد جاءتكم بيّنةٌ من ربّكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين (85) ولا تقعدوا بكلّ صراطٍ توعدون وتصدّون عن سبيل اللّه من آمن به وتبغونها عوجاً واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (86)}
قيل: في مدين إنه اسم بلد وقطر، وقيل اسم قبيلة، وقيل: هم من ولد «مدين» بن إبراهيم الخليل، وروي أن لوط عليه السلام هو جد شعيب لأمه، وقال مكي كان زوج بنت لوط، ومن رأى مدين اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي، ومن رآه اسما للقبيلة أو الأرض فهو أحرى ألا يصرف، وقوله: أخاهم منصوب بقوله: {أرسلنا} [الأعراف: 59] في أول القصص، وهذا يؤيد أن: {لوطاً} [الأعراف: 80] به انتصب، وأن اللفظ مستمر، وهذه الأخوة في القرابة، وقد تقدم القول في غيره وغيره، والبينة إشارة إلى معجزته وإن كنا نحن لم ينص لنا عليها، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «قد جاءتكم آية من ربكم» مكان بيّنةٌ وقوله: {فأوفوا الكيل}؛ أمر لهم بالاستقامة في الإعطاء وهو بالمعنى في الأخذ والإعطاء، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمن وفحشت مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه وتبخسوا معناه تظلموا. ومنه قولهم: تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة خادعة، وأشياءهم يريد أموالهم وأمتعتهم مما يكال أو يوزن، وقوله: {ولا تفسدوا}؛ لفظ عام دقيق الفساد وجليله، وكذلك الإصلاح عام والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح، وقوله: {ذلكم خيرٌ لكم} أي نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان). [المحرر الوجيز: 3/ 609-610]
تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {ولا تقعدوا بكلّ صراطٍ ... الآية}، قال السدي: هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، والصراط: الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل: خسهم ونقصهم الكيل والوزن.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد هذين القولين ويشبههما، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضا، قوله: ولا تقعدوا نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول، وقوله تعالى: {وتصدّون عن سبيل اللّه من آمن ... الآية} المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى وسبيل اللّه المفضية إلى رحمته، والضمير في به يحتمل: أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر «السبيل»، وتقدم القول في مثل قوله:
وتبغونها عوجاً في صدر السورة، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد، وقيل: أغناهم بعد فقر، فالمعنى على هذا: إذ كنتم قليلا قدركم، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة). [المحرر الوجيز: 3/ 610-611]
تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإن كان طائفةٌ منكم آمنوا بالّذي أرسلت به وطائفةٌ لم يؤمنوا فاصبروا حتّى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين (87)}
المعنى: وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم عليّ وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم، وفي قوله: فاصبروا قوة التهديد والوعيد، هذا ظاهر الكلام وأن المخاطبة بجميع الآية للكفار، وحكى منذر بن سعيد عن ابن عباس أن الخطاب بقوله:
{فاصبروا}؛ للمؤمنين على معنى الوعد لهم، وقاله مقاتل بن حيان، قال النقاش، وقال مقاتل بن سليمان: المعنى «فاصبروا» يا معشر الكفار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول الجماعة). [المحرر الوجيز: 3/ 612]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال الملأ الّذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والّذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملّتنا قال أولو كنّا كارهين (88) قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجّانا اللّه منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء اللّه ربّنا وسع ربّنا كلّ شيءٍ علماً على اللّه توكّلنا ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين (89)}
تقدم القول في معنى الملأ ومعنى الاستكبار، وقولهم: {لنخرجنّك يا شعيب} تهديد بالنفي، والقرية المدينة الجامعة للناس لأنها تقرت أي اجتمعت، وقولهم أو لتعودنّ في ملّتنا معناه أو لتصيرن، وعاد: تجيء في كلام العرب على وجهين. أحدهما عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذه الجهة لا تتعدى فإن عديت فبحرف، ومنه قول الشاعر: [السريع]
إن عادت العقرب عدنا لها ....... وكانت النعل لها حاضرة
ومنه قول الآخر: [الطويل]
ألا ليت أيام الشباب جديد ....... وعصرا تولّى يا بثين يعود
ومنه قوله تعالى: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا} [الأنعام: 28] ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فإن تكن الأيام أحسن مرة ....... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
والوجه الثاني أن تكون بمعنى صار وعاملة عملها ولا تتضمن أن الحال قد كانت متقدمة. ومن هذه قول الشاعر: [البسيط]
تلك المكارم لاقعبان من لبن ....... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ومنه قول الآخر: [الرجز]
وعاد رأسي كالثغامة
ومنه قوله تعالى: {حتّى عاد كالعرجون القديم} [يس: 39] على أن هذه محتملة، فقوله في الآية أو لتعودنّ وشعيب عليه السلام لم يكن قط كافرا يقتضي أنها بمعنى صار، وأما في جهة المؤمنين بعد كفرهم فيترتب المعنى الآخر ويخرج عنه «شعيب» إلا أن يريدوا عودته إلى حال سكوته قبل أن يبعث، وقوله أولو كنّا كارهين توقيف منه لهم على شنعة المعصية وطلب أن يقروا بألسنتهم بإكراه المؤمنين بالله على الإخراج ظلما وغشما). [المحرر الوجيز: 3/ 612-614]
تفسير قوله تعالى: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والظاهر في قوله: {قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملّتكم}؛ أنه خبر منه أي لقد كنا نواقع عظيما ونفتري على الله الكذب في الرجوع إلى الكفر، ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدعاء، مثل قول الشاعر:
بقيت وفري ... ... ....... ... ... ... ....
وكما تقول «افتريت على الله» إن كلمت فلانا، وافترينا معناه شققنا بالقول واختلفنا. ومنه قول عائشة: «من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، ونجاة «شعيب» من ملتهم كانت منذ أول أمره، ونجاة من آمن معه كانت بعد مواقعة الكفر، وقوله: {إلّا أن يشاء اللّه}؛ يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا من الله في ذلك سابق وسوء وينفذ منه قضاء لا يرد».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والمؤمنون هم المجوزون لذلك وشعيب قد عصمته النبوة، وهذا أظهر ما يحتمل القول، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات، فلما قال لهم: إنا لا نعود في ملتكم ثم خشي أن يتعبد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول: هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط، وقد علم امتناع ذلك فهو إحالة على مستحيل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة الذين من مذهبهم أن الكفر والإيمان ليسا بمشيئة من الله تعالى فلا يترتب هذا التأويل إلا عندهم، وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه، وقيل: إن هذا الاستثناء إنما هو تستر وتأدّب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان في الكلام إن شاء الله قوى هذا التأويل، وقوله: {وسع ربّنا كلّ شيءٍ علماً}؛ معناه: وسع علم ربنا كل شيء كما تقول: تصبب زيد عرقا أي تصبب عرق زيد، ووسع بمعنى أحاط، وقوله: افتح معناه أحكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير، وقيل بلغة مراد، وقال بعضهم: [الوافر]
ألا أبلغ بني عصم رسولا ....... فإني عن فتاحتكم غنيّ
وقال الحسن بن أبي الحسن: إن كل نبي أراد الله هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم، وقال ابن عباس: ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك، وقوله: {على اللّه توكّلنا}؛ استسلام لله وتمسك بلفظه وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله: {إلّا أن يشاء اللّه}). [المحرر الوجيز: 3/ 614-616]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وقال الملأ الّذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيباً إنّكم إذاً لخاسرون (90) فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (91) الّذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها الّذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين (92) فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم فكيف آسى على قومٍ كافرين (93)}
هذه المقالة قالها الملأ لتبّاعهم وسائر الناس الذي يقلدونهم). [المحرر الوجيز: 3/ 616]
تفسير قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : ({والرّجفة}: الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت ب الرّجفة وفرقة بالظلة ويحتمل أن الظلة والرّجفة كانتا في حين واحد، وروي أن الله تعالى بعث شعيباً إلى أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة، وقيل هما طائفتان وقيل واحدة وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والوزن فدعاهم فكذبوه فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة، فلما عتوا وطالت بهم المدة فتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه فلم ينفعهم ظل ولا ماء، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها فتنادوا، عليكم الظلة، فلما اجتمعوا تحت الظلة وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم، قال الطبري:
فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء قال لما رآها: [البسيط]
يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا ....... عنكم سميرا وعمران بن شداد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت ....... تدعو بصوت على ضمّانة الواد
وإنه لن تروا فيها ضحاء غد ....... إلا الرقيم يمشّي بين انجاد
وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم، وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذكر «شعيبا» قال: ذلك خطيب الأنبياء لقوله لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب} [هود: 88].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يريد لحسن مراجعته وجميل تلطفه. وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال: أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وصعفض وقرست أسماء ملوك مدين، وكان الملك يوم الظلة كلمن، فقالت أخته ترثيه: [مجزوء الرمل]
كلمن قد هد ركني ....... هلكه وسط المحلة
سيد القوم اتساه ....... حتف نار وسط ظله
جعلت نار عليهم ....... دارهم كالمضمحله
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه حكاية مظنون بها والله علم، وقد تقدم معنى جاثمين). [المحرر الوجيز: 3/ 616-618]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {كأن لم يغنوا}؛ فيها لفظ فيه للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم، ونحو هذا قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ....... ... ... ... ...
ويغنوا معناه يقيموا ويسكنوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرض، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر: [الوافر]
وقد نغنى بها ونرى عصورا ....... بها يقتدننا الخرد الخذالا
ومنه قول الآخر: [الرمل]
ولقد يغنى بها جيرانك المس ....... تمسكو منكم بعهد ووصال
أنشده الطبري، ومنه قول الآخر: [الطويل]
ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا ....... ... ... ... ...
ومنه قول مهلهل: [الخفيف]
غنيت دارنا تهامة في الدهر ....... وفيها بنو معد حلّولا
ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء، وأما قوله: كأن لم تغن بالأمس ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنة بهذا المعنى وأما قول الشاعر: [الطويل]
غنينا زمانا بالتصعلك والغنا ....... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنة بمكان). [المحرر الوجيز: 3/ 618-620]
تفسير قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي إلى آخر ... الآية} كلام يقتضي أن شعيباً عليه السلام وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه حزنا وإشفاقا إذ كان أمله فيهم غير ذلك، فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم والقسوة عليهم فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم الذي استوجبوا به أن لا يتأسف عليهم، فذكر أنه بلغ الرسالة ونصح، والمعنى فأعرضوا وكذبوا، ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا وفكرت فيه فكيف آسى على هؤلاء الكفرة، ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر، وقال مكي: وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها، وآسى: أحزن، وقرأ ابن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش: «إيسى» بكسر الهمزة وهي لغة كما يقال أخال وأيمن، قال عبد الله ابن عمر لا أخاله، وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر في كتاب الحج لا أيمن وجميع ذلك في البخاري، وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث، همزة التكلم ونون الجماعة وتاء المخاطبة، ولا يجوز ذلك في ياء الغائب كذا قال سيبويه، وأما قولهم من وجل ييجل فلعله من غير هذا الباب). [المحرر الوجيز: 3/ 620]