العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة الأنفال

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 11:03 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي تفسير سورة الأنفال [ من الآية (30) إلى الآية (35) ]

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21 ربيع الثاني 1434هـ/3-03-2013م, 11:52 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة وعن عثمان الجزري عن مقسم مولى ابن عباس في قوله تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا} قال تشاوروا فيه ليلة وهو بمكة فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق وقال بعضهم بل اقتلوه وقال بعضهم بل أخرجوه فلما أصبحوا رأوا عليا فرد الله تعالى مكرهم.
قال معمر وأخبرني عثمان الجزري عن مقسم أن عليا حين تشاوروا في النبي تلك الليلة بات على فراش النبي وخرج النبي حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسونه ويحسبون أن عليا هو النبي حتى أصبح ورد الله تعالى مكرهم). [تفسير عبد الرزاق: 1/258]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (سمعت أبي يحدث عن عكرمة في قوله تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا} قال لما خرج النبي وأبو بكر إلى الغار أمر علي بن أبي طالب فنام في مضجعه وبات المشركون يحرسونه فإن رأوه نائما حسبوا أنه النبي فتركوه فلما أصبحوا وثبوا عليه وهم يحسبون أنه النبي فإذا هم بعلي فقالوا أين صاحبك قال لا أدري قال فركبوا الصعب والذلول في طلبه). [تفسير عبد الرزاق: 1/259]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن منصور عن مجاهد {يثبتوك} قال: يوبقوك [الآية: 30]). [تفسير الثوري: 118]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (وقال مجاهدٌ: ... {ليثبتوك} [الأنفال: 30]: «ليحبسوك»). [صحيح البخاري: 6/61]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله ليثبتوك يحبسوك وصله بن أبي حاتم من طريق بن جريجٍ عن عطاءٍ عنه وروى أحمد والطّبرانيّ من حديث بن عبّاسٍ قال تشاورت قريشٌ فقال بعضهم إذا أصبح محمّدٌ فأثبتوه بالوثاق الحديث). [فتح الباري: 8/307]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال ابن جرير ثنا المثنى ثنا أبو حذيفة ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله 30 الأنفال {ليثبتوك} قال ليوثقوك
أخبرنا عبد القادر بن محمّد أنا أحمد بن علّي أنا محمّد بن إسماعيل أنا علّي بن حمزة أنا محمّد بن محمّد أنا محمّد بن عبد الله ثنا إسحاق بن الحسن ثنا موسى بن مسعود ثنا سفيان عن منصور عن مجاهد ليثبتوك قال ليوثقوك). [تغليق التعليق: 4/216]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (ليثبتوك ليحبسوك
أشار به إلى قوله عز وجل: {وإذا يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} (الأنفال: 30) الآية وفسّر قوله: (ليثبتوك) بقوله: ليحبسوك، وبه فسر عطاء وابن زيد، وقال السّديّ: الإثبات هو الحبس والوثاق، وقال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة: ليثبتوك ليقيدوك، وقاله سنيد عن حجاج عن ابن جريج، قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمر بك؟ قال: يريدون أن يسجروني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من خبرك بهذا؟ قال: ربّي، قال: نعم الرب ربك استوص به خيرا، قال: أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي. ورواه ابن جرير أيضا بإسناده إلى عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة نحوه، وقال ابن كثير: ذكر أبي طالب هنا غريب جدا بل منكر لأن هذه الآية مدنيّة ثمّ إن هذه القصّة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النّفي أو القتل إنّما كان ليلة الهجرة سواء، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترؤوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الّذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه، واعلم أن هذه الألفاظ وقعت في كثير من النّسخ مختلفة بحسب تقديم بعضها على بعض وتأخير بعضها عن بعض). [عمدة القاري: 18/246]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({ليثبتوك}) أي (ليحبسوك) وما روي عن عبيد بن عمير أن قريشًا لما ائتمروا بالنبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: (يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني) فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "رب الخير" الخ ...
تعقبه ابن كثير بأن ذكر أبي طالب فيه غريب جدًا بل منكر لأن هذه الآية مدنية، وهذه القصة إنما كانت ليلة الهجرة بعد موت أبي طالب بنحو ثلاث سنين.
وذكر ابن إسحاق عن ابن عباس أنهم اجتمعوا في دار الندوة فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ نجدي فقال بعضهم: تحبسونه في بيت وتسدّون منافذه غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت فقال إبليس: بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم، وقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضرّكم ما صنع فقال بئس الرأي يفسد قومًا غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلامًا وتعطوه سيفًا فيضربه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل، فقال إبليس: صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريل النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذره نعمته عليه {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} [الأنفال: 30].
وقد منع بعضهم حديث إبليس وتغيير صورته لأن فيه إعانة للكفار ولا يليق بحكمة الله تعالى أن يجعل إبليس قادرًا عليه، وأجيب: بأنه إذا لم يبعد أن يسلطه الله على قريش بالوسوسة فيما صدر منهم فكيف يبعد ذلك). [إرشاد الساري: 7/133]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم مذكّره نعمه عليه: واذكر يا محمّد؛ إذ يمكر بك الّذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك.
واختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: {ليثبتوك} فقال بعضهم: معناه: ليقيّدوك.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} يعني: ليوثقوك.
- قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ليثبتوك} ليوثقوك.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} الآية يقول: ليشدّوك وثاقًا، وأرادوا بذلك نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يومئذٍ بمكّة.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، ومقسمٍ، قالا: قالوا: أوثقوه بالوثاق.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ليثبتوك} قال: الإثبات: هو الحبس والوثاق.
وقال آخرون: بل معناه الحبس.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: سألت عطاءً عن قوله: {ليثبتوك} قال: يسجنوك. وقالها عبد اللّه بن كثيرٍ.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قالوا: اسجنوه.
وقال آخرون: بل معناه: ليسحروك.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن إسماعيل البصريّ المعروف بالوساوسيّ قال: حدّثنا عبد المجيد بن أبي روّادٍ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن عبيد بن عميرٍ، عن المطّلب بن أبي وداعة: أنّ أبا طالبٍ، قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربّي قال: نعم الرّبّ ربّك، فاستوص به خيرًا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي خيرًا. فنزلت: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الآية.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ قال: قال ابن جريجٍ: قال عطاءٌ: سمعت عبيد بن عميرٍ، يقول: لمّا ائتمروا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه قال له أبو طالبٍ: هل تدري ما ائتمروا لك؟ قال: نعم. قال: فأخبره. قال: من أخبرك؟ قال: ربّي. قال: نعم الرّبّ ربّك، استوص به خيرًا قال أنا أستوصي به، أو هو يستوصي بي؟.
وكان معنى مكر قوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم به ليثبتوه كما:
- حدّثنا سعيد بن يحيى الأمويّ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: وحدثني الكلبيّ، عن زاذان، مولى أمّ هانئٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّ نفرًا، من قريش من أشراف كلّ قبيلةٍ اجتمعوا ليدخلوا دار النّدوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخٍ جليلٍ، فلمّا رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخٌ من نجدٍ، سمعت أنّكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم منّي رأي ونصحٌ. قالوا: أجل، ادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرّجل، واللّه ليوشكنّ أن يواثبكم في أموركم بأمره قال: فقال قائلٌ: احبسوه في وثاقٍ، ثمّ تربّصوا به ريب المنون حتّى يهلك كما هلك من كان قبله من الشّعراء، زهيرٌ والنّابغة، إنّما هو كأحدهم قال: فصرخ عدوّ اللّه الشّيخ النّجديّ، فقال: واللّه ما هذا لكم رأي، واللّه ليخرجنّه ربّه من محبسه إلى أصحابه فليوشكنّ أن يثبوا عليه حتّى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: فانظروا في غير هذا. قال: فقال قائلٌ: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنّه إذا خرج لن يضرّكم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم، فقال الشّيخ النّجديّ: واللّه ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ واللّه لئن فعلتم ثمّ استعرض العرب، لتجتمعنّ عليكم، ثمّ ليأتينّ إليكم حتّى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق واللّه، فانظروا رأيًا غير هذا قال: فقال أبو جهلٍ: واللّه لأشيرنّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد ما أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كلّ قبيلةٍ غلامًا وسطًا شابًّا نهدًا، ثمّ يعطى كلّ غلامٍ منهم سيفًا صارمًا، ثمّ يضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلّها، فلا أظنّ هذا الحيّ من بني هاشمٍ يقدرون على حرب قريشٍ كلّها، فإنّهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. فقال الشّيخ النّجديّ: هذا واللّه الرّأي القول ما قال الفتى، لا أرى غيره. قال: فتفرّقوا على ذلك وهم مجمعون له. قال: فأتى جبريل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الّذي كان يبيت فيه تلك اللّيلة، وأذن اللّه له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكّره نعمه عليه وبلاءه عنده: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين}؛ وأنزل في قولهم: تربّصوا به ريب المنون حتّى يهلك كما هلك من كان قبله من الشّعراء: {أم يقولون شاعرٌ نتربّص به ريب المنون} وكان يسمّى ذلك اليوم: يوم الزّحمة للّذي اجتمعوا عليه من الرّأي.
- حدّثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، ومقسمٍ، في قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} قالا: تشاوروا فيه ليلةً وهم بمكّة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأوثقوه بالوثاق، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فلمّا أصبحوا رأوا عليًّا رضي اللّه عنه، فردّ اللّه مكرهم.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرني أبي، عن عكرمة، قال: لمّا خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ إلى الغار، أمر عليّ بن أبي طالبٍ، فنام في مضجعه، فبات المشركون يحرسونه. فإذا رأوه نائمًا حسبوا أنّه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فتركوه. فلمّا أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنّه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فإذا هم بعليٍّ، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. قال: فركبوا الصّعب والذّلول في طلبه.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، قال: أخبرني عثمان الجريريّ: أنّ مقسمًا، مولى ابن عبّاسٍ أخبره عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} قال: تشاورت قريشٌ ليلةً بمكّة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، فبات عليٌّ رضي اللّه عنه على فراش النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم تلك اللّيلة، وخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا، يحسبون أنّه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فلمّا أصبحوا ثاروا إليه، فلمّا رأوه عليًّا رضي اللّه عنه، ردّ اللّه مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. فاقتصّوا أثره، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسجٌ على بابه، فمكث فيه ثلاثًا.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين} قال: اجتمعت مشيخة قريشٍ يتشاورون في النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما أسلمت الأنصار وفرقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأً لجأ إليه. فجاء إبليس في صورة رجلٍ من أهل نجدٍ، فدخل معهم في دار النّدوة، فلمّا أنكروه قالوا: من أنت؟ فواللّه ما كلّ قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا قال: أنا رجلٌ من أهل نجدٍ سمع من حديثكم وأشير عليكم. فاستحيوا فخلّوا عنه. فقال بعضهم: خذوا محمّدًا إذا اصطبح على فراشه، فاجعلوه في بيتٍ نتربّص به ريب المنون والرّيب: هو الموت، والمنون: هو الدّهر قال إبليس: بئسما قلت، تجعلونه في بيتٍ فيأتي أصحابه فيخرجونه فيكون بينكم قتالٌ، قالوا: صدق الشّيخ. قال: أخرجوه من قريتكم قال إبليس: بئسما قلت، تخرجونه من قريتكم وقد أفسد سفهاءكم فيأتي قريةً أخرى فيفسد سفهاءهم فيأتيكم بالخيل والرّجال. قالوا: صدق الشّيخ. قال أبو جهلٍ، وكان أولاهم بطاعة إبليس: بل نعمد إلى كلّ بطنٍ من بطون قريشٍ، فنخرج منهم رجلاً فنعطيهم السّلاح، فيشدّون على محمّدٍ جميعًا فيضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ، فلا يستطيع بنو عبد المطّلب أن يقتلوا قريشًا، فليس لهم إلاّ الدّية. قال إبليس: صدق، وهذا الفتى هو أجودكم رأيًا. فقاموا على ذلك، وأخبر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فنام على الفراش، وجعلوا عليه العيون. فلمّا كان في بعض اللّيل، انطلق هو وأبو بكرٍ إلى الغار، ونام عليّ بن أبي طالبٍ على الفراش، فذلك حين يقول اللّه: {ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} والإثبات: هو الحبس والوثاق، وهو قوله: {وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذًا لا يلبثون خلافك إلاّ قليلاً} يقول: يهلكهم. فلمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة لقيه عمر، فقال له: ما فعل القوم؟ وهو يرى أنّهم قد أهلكوا حين خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من بين أظهرهم، وكذلك كان يصنع بالأمم، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أخّروا بالقتال.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ليثبتوك أو يقتلوك} قال: كفّار قريشٍ أرادوا ذلك بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يخرج من مكّة.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوه.
- حدّثني ابن وكيعٍ قال: حدّثنا هانئ بن سعيدٍ، عن حجّاجٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ نحوه؛ إلاّ أنّه قال: فعلوا ذلك بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك} الآية، هو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مكروا به وهو بمكّة.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} إلى آخر الآية قال: اجتمعوا فتشاوروا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: اقتلوا هذا الرّجل، فقال بعضهم: لا يقتله رجلٌ إلاّ قتل به، قالوا: خذوه فاسجنوه واجعلوا عليه حديدًا، قالوا: فلا يدعكم أهل بيته. قالوا: أخرجوه، قالوا: إذًا يستغوي النّاس عليكم. قال: وإبليس معهم في صورة رجلٍ من أهل نجدٍ. واجتمع رأيهم أنّه إذا جاء يطوف البيت ويستسلم أن يجتمعوا عليه فيغمّوه ويقتلوه، فإنّه لا يدري أهله من قتله، فيرضون بالعقل فنقتله ونستريح ونعقله. فلمّا أن جاء يطوف بالبيت اجتمعوا عليه، فغمّوه. فأتى أبو بكرٍ، فقيل له ذاك، فأتى فلم يجد مدخلاً؛ فلمّا أن لم يجد مدخلاً قال: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي اللّه وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم} [غافر] قال: ثمّ فرّجها اللّه عنه؛ فلمّا أن كان اللّيل أتاه جبريل عليه السّلام فقال: من أصحابك؟ فقال: فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ. فقال: لا نحن أعلم بهم منك يا محمّد، هو ناموس ليلٍ قال: وأخذ أولئك من مضاجعهم وهم نيامٌ. فأتي بهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقدّم أحدهم إلى جبريل، فكحله، ثمّ أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته يا نبيّ اللّه. ثمّ قدم آخرٌ فنقر فوق رأسه. بعصًا نقرةً، ثمّ أرسله فقال: ما صورته يا جبريل؟ فقال: كفيته يا نبيّ اللّه، ثمّ أتي بآخر فنقر في ركبته، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته. ثمّ أتي بآخر، فسقاه مذقةً، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته يا نبيّ اللّه. وأتي بالخامس. فلمّا غدا من بيته مرّ بنبالٍ، فتعلّق مشقصٌ بردائه فالتوى، فقطع الأكحل من رجله. وأمّا الّذي كحلت عيناه فأصبح وقد عمي، وأمّا الّذي سقي مذقةً فأصبح وقد استسقى بطنه؛ وأمّا الّذي نقر فوق رأسه فأخذته النّقدة والنّقدة: قرحةٌ عظيمةٌ أخذته في رأسه. وأمّا الّذي طعن في ركبته، فأصبح وقد أقعد. فذلك قول اللّه: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين}.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: {ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين} أي: فمكرت لهم بكيدي المتين حتّى خلّصتك منهم.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عكرمة، قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا} قال: هذه مكّيّةٌ. قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ: هذه مكّيّةٌ.
- فتأويل الكلام إذن: واذكر يا محمّد نعمتي عندك بمكري بمن حاول المكر بك من مشركي قومك، بإثباتك، أو قتلك، أو إخراجك من وطنك، حتّى استنقذتك منهم وأهلكتهم، فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين، وتولّى عن إجابة ما أرسلتك به من الدّين القيّم، ولا يرعبنّك كثرة عددهم، فإنّ ربّك خير الماكرين بمن كفر به وعبد غيره وخالف أمره ونهيه. وقد بيّنّا معنى المكر فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع). [جامع البيان: 11/131-141]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين (30)
قوله تعالى: وإذ يمكر بك الّذين كفروا
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا إبراهيم بن سعيدٍ الجوهريّ ثنا يحيى بن سعيدٍ الأمويّ عن محمّد بن إسحاق عن ابن أبي ليلى عن مجاهدٍ عن ابن عبّاسٍ: أنّ نفرًا من قريشٍ ومن أشراف كلّ قبيلةٍ، اجتمعوا ليدخلوا دار النّدوة واعترضهم إبليس في صورة شيخٍ جليلٍ، فلمّا رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخٌ من أهل نجدٍ، سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم منّي رأيٌ ونصحٌ قالوا:
أجل فادخل فدخل معهم قال: انظروا في شأن هذا الرجل فو الله ليوشكنّ أن يواثبكم في أمركم بأمره فقال قائلٌ: احبسوه في وثاقٍ ثمّ تربّصوا به المنون حتّى يهلك كما هلك من كان قبله من الشّعراء زهير ونابغة، فإنّما هو كأحدهم، فقال عدوّ اللّه- الشّيخ النّجديّ: لا واللّه، ما هذا لكم برأي واللّه ليخرجنّ رأيه من محبسه إلى أصحابه فليوشكنّ أن يثبوا عليه حتّى يأخذوه من أيديكم، ثمّ يمنعوه منكم فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرّأي، فقال قائلٌ: فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه فإنّه إذا خرج لم يضرّكم ما صنع وأين وقع وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه وكان أمره في غيركم فقال الشّيخ النّجديّ: واللّه ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما يستمع من حديثه؟ واللّه لئن فعلتم ثمّ استعرض العرب ليجتمعنّ عليه ثمّ ليسيرنّ إليكم حتّى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق واللّه، فانظروا رأيًا غير هذا، فقال أبو جهلٍ:
واللّه لأشيرنّ عليكم برأي ما أرى أبصرتموه بعد ما أرى غيره، قالوا: وما هذا؟ قال:
نأخذ من كلّ قبيلةٍ غلامًا سبطًا شابًّا نهدًا، ثمّ نعطي كلّ غلامٍ منهم سيفًا صارمًا، ثمّ يضربونه يعني: ضربة رجلٍ واحدٍ، فإذا قتلتموه تفرّق دمه في القبائل كلّها فلا أظنّ هذا الحيّ من بني هاشمٍ يقوون على حرب قريشٍ كلّهم، وأنّهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنّا أذاه، فقال الشّيخ النّجديّ: هذا واللّه هو الرّأي القول، ما قال الفتى لا رأي غيره فتفرّعوا على ذلك وهم مجمعون له، قال: فأتى جبريل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الّذي كان يبيت، وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بيته تلك اللّيلة وأذن اللّه له عند ذلك في الخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة في الأنفال يذكر نعمته عليه وبلاءه عنده وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه والله خير الماكرين
قوله تعالى: ليثبتوك
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك يعني: ليوثقوك. وروي عن قتادة نحو ذلك.
والوجه الثّاني:
- ذكره الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا حجّاجٌ عن ابن جريجٍ قال: وأنبأ عطاءٌ وابن كثيرٍ ليثبتوك إنّها: ليسجنوك.
وروي عن السّدّيّ أنّه قال: يحبسوك ويوثقوك.
قوله تعالى: أو يقتلوك
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك كفّار قريشٍ حين أرادوا ذلك بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يخرج من مكّة.
قوله تعالى: أو يخرجوك
- حدّثنا أبي ثنا إبراهيم بن موسى أنبأ هشام بن يوسف عن ابن جريجٍ أخبرني عطاءٌ عن عبيد بن عميرٍ أنّ أبا طالبٍ قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم هل تدري ما ائتمر فيك قومك؟ قال: نعم، ائتمروا أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني قال: من أخبرك هذا؟ قال: ربّي، قال: نعم الرّبّ ربّك فاستوص به خيرًا، قال: أنا استوصي به أو هو يستوصي بي؟
قوله تعالى: ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ حدّثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق حدّثنا محمّد بن جعفر بن الزّبير عن عروة بن الزّبير ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتّى خلّصتك منهم). [تفسير القرآن العظيم: 5/1686-1688]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا} [الأنفال: 30].
- عن ابن عبّاسٍ «في قوله - عزّ وجلّ -: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} [الأنفال: 30] قال: تشاورت قريشٌ ليلةً بمكّة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع اللّه - عزّ وجلّ - نبيّه على ذلك، فبات عليٌّ - رضي اللّه عنه - على فراش رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - وخرج رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - حتّى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا، يحسبونه النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم - فلمّا أصبحوا ثاروا إليه، فلمّا رأوا عليًّا ردّ اللّه مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصّوا أثره، فلمّا بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا نسج العنكبوت على بابه فبات فيه ثلاث ليالٍ».
رواه أحمد والطّبرانيّ، وفيه عثمان بن عمرٍو الجزريّ، وثّقه ابن حبّان، وضعّفه غيره، وبقيّة رجاله رجال الصّحيح). [مجمع الزوائد: 7/27]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال محمّد بن يحيى بن أبي عمر: أبنا عبد الرزاق، أبنا معمرٌ، عن عثمان الجزريّ، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ- رضي اللّه عنهما- "في قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك) قال: تشاورت قريشٌ ليلةً بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقال بعضهم: اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع اللّه- عزّ وجلّ- نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ذلك فبات عليّ بن أبي طالبٍ على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك اللّيلة، وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبون أنّه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فلمّا رأوا عليًّا ردّ اللّه مكرهم، قالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره فلمّا بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل، فمرّوا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه! فمكث فيه ثلاثًا"
- رواه أحمد بن حنبلٍ: ثنا عبد الرّزّاق، ثنا معمرٌ، أخبرني عثمان الجزريّ "أنّ مقسمًا مولى ابن عبّاسٍ أخبره عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما- في قوله تعالى (وإذ يمكر بك الذين كفروا ... " فذكره بتمامه). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/213]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 30.
وأخرج عبد الرزاق وأحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك}
قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النّبيّ صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش النّبيّ وخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا رضي الله عنه يحسبونه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوه عليا رضي الله عنه رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا قال: لا أدري، فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا: من أنت قال: شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح، قالوا: أجل فادخل فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل - فوالله - ليوشكن أن يواتيكم في أمركم بأمره، فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير ونابغة فإنما هو كأحدهم فقال عدو الله الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم فانظروا في غير هذا الرأي، فقال قائل: فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه القلوب بما تستمع من حديث والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجتمعن إليه ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق - والله - فانظروا رايا غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره، قالوا: وما هذا قال: تأخذوا من كل قبيلة غلاما وسطا شابا مهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربوه به - يعني ضربة رجل واحد - فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم وإنهم إذا أرادوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، فقال الشيخ النجدي: هذا - والله - هو الرأي القول ما قال الفتى لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك في الخروج وأمرهم بالهجرة وافترض عليهم القتال فأنزل الله (أذن للذين يقاتلون) (الحج الآية 39) فكانت هاتان الآيتان أول ما نزل في الحرب
وأنزل بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية.
وأخرج سنيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك قال: يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدثك بهذا قال: ربي، قال: نعم الرب ربك استوص به خيرا، قال: أنا أستوصي به بل هو يستوصي بي.
وأخرج ابن جرير من طريق عبيد بن عمير رضي الله عنه عن المطلب بن أبي وداعة أنا أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك قال: يريدون أن يجسنوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدثك بهذا قال: ربي، قال: نعم الرب ربك فاستوص به خيرا، قال: أنا أستوصي به بل هو يستوصي بي: فنزلت {وإذ يمكر بك الذين كفروا}.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج رضي الله عنه {وإذ يمكر بك الذين كفروا} قال: هي مكية.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الأيام سئل عن يوم السبت فقال هو يوم مكر وخديعة، قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله قال: فيه مكرت قريش في دار الندوة إذ قال الله {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {ليثبتوك} يعني ليوثقوك.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه قال: دخلوا دار الندوة يأتمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا يدخل عليكم أحد ليس منكم فدخل معهم الشيطان في صورة شيخ من أهل نجد فتشاوروا فقال أحدهم: نخرجه: فقال الشيطان: بئسما رأى هذا هو قد كاد أن يفسد فيما بينكم وهو بين أظهركم فكيف إذا أخرجتموه فافسد الناس ثم حملهم عليكم يقاتلونكم، قالوا: نعم ما رأى هذا، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فخرج هو وأبو بكر رضي الله عنه إلى غار في جبل يقال ثور وقام علي بن أبي طالب على فراش النّبيّ وباتوا يحرسونه يحسبون أنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فإذا هم بعلي رضي الله عنه، فقالوا: أين صاحبك فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره حتى بلغوا الغار ثم رجعوا ومكث فيه هو وأبو بكر رضي الله عنه ثلاث ليال.
وأخرج عبد بن حميد عن معاوية بن قرة رضي الله عنه، أن قريشا اجتمعت في بيت وقالوا: لا يدخل معكم اليوم إلا من هو منكم فجاء إبليس فقال له: من أنت قال: شيخ من أهل نجد وأنا ابن أختكم، فقالوا: ابن أخت القوم منهم فقال بعضهم: أوثقوه، فقال: أيرضى بنو هاشم بذلك فقال بعضهم: أخرجوه، فقال: يؤويه غيركم، فقال أبو جهل: ليجتمع من كل بني أب رجل فيقتلوه، فقال إبليس: هذا الأمر الذي قال الفتى، فأنزل الله تعالى هذه الآية {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} إلى آخر الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} قال: كفار قريش أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شرى علي رضي الله عنه نفسه ولبس ثوب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه وكان المشركون يحسبون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قريش تريد أن تقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا يرمقون عليا ويرونه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجعل علي رضي الله يتصور فإذا هو علي رضي الله عنه فقالوا: إنك للئيم إنك لتتصور وكان صاحبك لا يتصورك ولقد استنكرناه منك
وأخرج الحاكم وصححه عن علي بن الحسين رضي الله عنه وقال في ذلك:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق
والحجر رسول الله خاف أن يمكروا به * فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمنا * وفي حفظ من الله وفي ستر
وبت أراعيه وما يتهمونني * وقد وطنت نفسي على القتل والأسر). [الدر المنثور: 7/94-102]

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين}.
يقول تعالى ذكره: وإذا تتلى على هؤلاء الّذين كفروا آيات كتاب اللّه الواضحة لمن شرح اللّه صدره لفهمه قالوا جهلاً منهم وعنادًا للحقّ وهم يعلمون أنّهم كاذبون في قيلهم: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} الّذي تلي علينا {إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين} يعني أنّهم يقولون ما هذا القرآن الّذي يتلى عليهم إلاّ أساطير الأوّلين.
والأساطير: جمع أسطرٍ، وهو جمع الجمع؛ لأنّ واحد الأسطر: سطر، ثمّ يجمع السّطر: أسطرٌ وسطورٌ، ثمّ يجمع الأسطر: أساطير وأساطر.
وقد كان بعض أهل العربيّة يقول: واحد الأساطير: أسطورةٌ.
وإنّما عنى المشركون بقولهم: {إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين} إنّ هذا القرآن الّذي تتلوه علينا يا محمّد إلاّ ما سطر الأوّلون وكتبوه من أخبار الأمم. كأنّهم أضافوه إلى أنّه أخذ عن بني آدم، وأنّه لم يوحه اللّه إليه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ قال: قال ابن جريجٍ، قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} قال: كان النّضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس، فيمرّ بالعباد وهم يقرءون الإنجيل، ويركعون ويسجدون. فجاء مكّة، فوجد محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد، فقال النّضر: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، للّذي سمع من العباد. فنزلت: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} قال: فقصّ ربّنا ما كانوا قالوا بمكّة، وقصّ قولهم: {إذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} الآية.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: كان النّضر بن الحارث بن علقمة أخو بني عبد الدّار يختلف إلى الحيرة، فيسمع سجع أهلها وكلامهم. فلمّا قدم مكّة، سمع كلام النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن، فقال: {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين} يقول: أساجيع أهل الحيرة.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قتل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم بدرٍ صبرًا عقبة بن أبي معيطٍ، وطعيمة بن عديٍّ، والنّضر بن الحارث؛ وكان المقداد أسر النّضر، فلمّا أمر بقتله قال المقداد: يا رسول اللّه أسيري، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: وإنّه كان يقول في كتاب اللّه ما يقول. فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بقتله. فقال المقداد: أسيري، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: اللّهمّ أغن المقداد من فضلك فقال المقداد: هذا الّذي أردت. وفيه نزلت هذه الآية: {وإذا تتلى عليهم آياتنا} الآية.
- حدّثني يعقوب قال: حدّثنا هشيمٌ قال: أخبرنا أبو بشرٍ، عن سعيد بن جبير: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قتل يوم بدرٍ ثلاثة رهطٍ من قريشٍ صبرًا المطعم بن عديٍّ، والنّضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيطٍ. قال: فلمّا أمر بقتل النّضر قال المقداد بن الأسود: أسيري يا رسول اللّه قال: إنّه كان يقول في كتاب اللّه وفي رسوله ما كان يقول قال: فقال ذلك مرّتين أو ثلاثًا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: اللّهمّ أغن المقداد من فضلك وكان المقداد أسر النّضر). [جامع البيان: 11/141-143]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلّا أساطير الأوّلين (31)
قوله تعالى وإذا
- حدّثنا أبو بكر بن أبي موسى ثنا هارون بن حاتمٍ ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ عن أسباط بن نصرٍ عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ قوله: إذا يعني: لم يكن.
قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا
- حدّثنا أبي ثنا أبو مسلمٍ أحمد بن أبي شعيبٍ ثنا مسكين بن بكيرٍ عن شعبة عن أبي بشرٍ عن سعيد بن جبيرٍ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا قال: هو النّضر بن الحارث.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل عن أسباط عن السّدّيّ قال: كان النّضر بن الحارث بن علقمة أخو بن علقمة أخو بني عبد الدّار يختلف في الحيرة، فيسمع سجع أهلها وكلامهم، فلمّا قدم مكّة سمع كلام النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- والقرآن فقال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأوّلين
قوله تعالى إن هذا إلا أساطير الأوّلين
- وبه عن السّدّيّ قوله: إن هذا إلا أساطير الأوّلين يقول: أساجيع
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد ثنا يزيد بن زريعٍ ثنا سعيدٌ عن قتادة قوله: أساطير الأوّلين أي أحاديث الأوّلين وباطلهم.
قوله تعالى: الأوّلين
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: إن هذا إلا أساطير الأوّلين يقول: أساجيع أهل الحيرة.
- حدّثنا أبو بكر بن أبي موسى ثنا هارون بن حاتمٍ ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ عن أسباط بن نصرٍ عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ قوله: وإذ فقد كان). [تفسير القرآن العظيم: 5/1689]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 31.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول: وفيه أنزلت هذه الآية {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السيد رضي الله عنه قال: كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فقال: {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين}). [الدر المنثور: 7/102-103]

تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) )
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [الآية (32) : قوله تعالى: {وإذ قالوا اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء} الآية]
- حدثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبيرٍ - في قوله عزّ وجلّ: {إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء} - قال: نزلت في النّضر بن الحارث). [سنن سعيد بن منصور: 5/211-212]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {وإذ قالوا: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} [الأنفال: 32]
قال ابن عيينة: «ما سمّى اللّه تعالى مطرًا في القرآن إلّا عذابًا وتسمّيه العرب الغيث» ، وهو قوله تعالى: (ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) ). [صحيح البخاري: 6/62]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر الآية)
كذا لأبي ذرٍّ وساق غيره الآية قوله قال بن عيينة الخ كذا في تفسير بن عيينة رواية سعيد بن عبد الرّحمن المخزوميّ عنه قال ويقول ناسٌ ما سمّى اللّه المطر في القرآن إلّا عذابًا ولكن تسمّيه العرب الغيث يريد قوله تعالى وهو الّذي ينزل الغيث كذا وقع في تفسير حم عسق وقد تعقب كلام بن عيينة بورود المطر بمعنى الغيث في القرآن في قوله تعالى إن كان بكم أذًى من مطر فالمراد به هنا الغيث قطعا ومعنى التّأذّي به البلل الحاصل منه للثّوب والرّجل وغير ذلك وقال أبو عبيدة إن كان من العذاب فهو أمطرت وإن كان من الرّحمة فهو مطرت وفيه نظرٌ أيضًا). [فتح الباري: 8/308]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
قال ابن عيينة ما سمّى الله مطرا في القرآن إلّا عذابا
أخبرنا علّي بن محمّد مشافهة عن سليمان بن حمزة أن محمّد بن عبد الواحد أنبأ أنا زاهر بن أبي طاهر أنا الحسين بن عبد الملك أنا عبد الرّحمن بن الحسن أنا أحمد بن إبراهيم أنا أبو جعفر الديبلي ثنا سعيد بن عبد الرّحمن ثنا سفيان هو ابن عيينة قال ويقول ناس ما سمّى الله المطر في القرآن إلّا عذابا ولكن سمته العرب الغيث يريد قول الله 38 الشورى {وهو الّذي ينزل الغيث} هكذا قال سفيان في تفسير حم الشورى). [تغليق التعليق: 4/217]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (بابٌ: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هاذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} (الأنفال: 32)
أي: هذا باب في قوله عز وجل: {وإذ قالوا اللّهمّ} الآية، وليس في بعض النّسخ ذكر لفظ: باب، وفي رواية أبي ذر: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر} الآية. قوله: (وإذ قالوا) أي: ذكر حين قالوا ما قالوا، والقائلون هم كفار قريش مثل النّضر بن الحارث وأبي جهل وإضرابهما من الكفرة الجهلة وذلك من كثرة جهلهم وعتوهم وعنادهم وشدّة تكذيبهم. قوله: (هذا هو الحق) أرادوا به القرآن، وقيل: أرادو به نبوة النّبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فأمطر علينا حجارة من السّماء) ، إنّما قالوا هذا القول لشبهة تمكنت في قلوبهم ولو عرفوا بطلانها ما قالوا مثل هذا القول مع علمهم بأن الله قادر على ذلك، فطلبوا إمطار الحجارة إعلاماً بأنّهم على غاية الثّقة في أن أمره صلى الله عليه وسلم ليس بحق، وإذا لم يكن حقًا لم يصبهم هذا البلاء الّذي طلبوه.
قال ابن عيينة ما سمّى الله تعالى مطراً في القرآن إلاّ عذاباً وتسمّيه العرب الغيث وهو قوله تعالى: {ينزل الغيث من بعد ما قنطوا} (الشورى: 28)
أي: قال سفيان بن عيينة إلى آخره، وهكذا هو في تفسيره رواه سعيد بن عبد الرّحمن المخزومي عنه. قوله: (إلّا عذابا) ، فيه نظر لأن المطر جاء في القرآن بمعنى الغيث في قوله تعالى: {إن كان بكم أذى من مطر} (النّساء: 102) فالمراد به هنا المطر قطعا ومعنى التأذي به البلل الحاصل منه والوحل وغير ذلك. قوله: (وتسميه العرب) إلى آخره، من كلام ابن عيينة، وقال الجوهري: المطر واحد الأمطار، ومطرت السّماء تمطر مطرا، وأمطرها الله وقد مطرنا، وناس يقولون: مطرت السّماء وأمطرت بمعنى، وقال أبو عبيدة: إذا كان من العذاب فهو أمطرت، وإن كان من الرّحمة فهو ومطرت). [عمدة القاري: 18/248]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} [الأنفال: 32] قال ابن عيينة: ما سمّى اللّه تعالى مطرًا في القرآن إلاّ عذابًا، وتسمّيه العرب الغيث وهو قوله تعالى: {وهو الّذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا} [الشورى: 28]
(باب قوله) عز وجل: ({وإذ قالوا اللهم إن كان هذا}) أي القرآن ({هو الحق من عندك}) منزلًا ({فأمطر علينا حجارة من السماء}) عقوبة لنا على إنكاره وفائدة قوله من السماء والأمطار لا تكون إلا منها المبالغة في العذاب فإنها محل الرحمة كأنهم قالوا بدّل رحمتك النازلة من السماء بنزول العذاب منها أو أنها أشد تأثيرًا إذا سقطت من أعلى الأماكن ({أو ائتنا بعذاب أليم}) [الأنفال: 32]. بنوع آخر والمراد نفي كونه حقًا وإذا انتفى كونه حقًا لم يستوجب منكره عذابًا فكان تعليق العذاب بكونه حقًا مع اعتقاده أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك إن كان الباطل حقًا فأمطر علينا حجارة وهذا من عنادهم وتمرّدهم.
روي أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة؟ فقال: أجهل من قومي قومك حين قالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ولم يقولوا فاهدنا له.
وروي أن النضر بن الحارث لعنه الله لما قال: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "ويلك إنه كلام الله" فقال هو وأبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، وثبت باب قوله لأبي ذر وسقط له من قوله علينا حجارة الخ. وقال بعد قوله: {فأمطر} الآية.
(قال ابن عيينة) سفيان في تفسيره رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي: (ما سمى الله تعالى مطرًا في القرآن إلاّ عذابًا) أو ردّ عليه قوله تعالى: {إن كان بكم أذى من مطر} فإن المراد به المطر قطعًا ونسبة الأذى إليه بالبلل والوحل الحاصل منه لا يخرجه عن كونه مطرًا (وتسمية العرب الغيث وهو قوله تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا}) [الشورى: 28] وثبت قوله: وهو الذي في الفرع وسقط من أصله). [إرشاد الساري: 7/134-135]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ}.
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمّد أيضًا ما حلّ بمن قال: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} إذ مكرت لهم، فأتيتهم بعذابٍ أليمٍ. وكان ذلك العذاب قتلهم بالسّيف يوم بدرٍ.
وهذه الآية أيضًا ذكر أنّها نزلت في النّضر بن الحارث.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: حدّثنا أبو بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء} قال: نزلت في النّضر بن الحارث.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {إن كان هذا هو الحقّ من عندك} قال: قول النّضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} قول النّضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدّار.
- قال: أخبرنا إسحاق قال: أخبرنا عبد اللّه، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {إن كان هذا هو الحقّ من عندك} قال: هو النّضر بن الحارث بن كلدة.
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا طلحة بن عمرٍو، عن عطاءٍ، قال: قال رجلٌ من بني عبد الدّار، يقال له النّضر بن كلدة: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} فقال اللّه: {وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب} وقال: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّةٍ} وقال: {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين} قال عطاءٌ: لقد نزل فيه بضع عشرة آيةً من كتاب اللّه.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: فقال: يعني النّضر بن الحارث اللّهمّ إن كان ما يقول محمّدٌ هو الحقّ من عندك {فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} قال اللّه: {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين}.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {إن كان هذا هو الحقّ من عندك} الآية قال: {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين}.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} الآية قال: قال ذلك سفهة هذه الأمّة وجهلتها، فعاد اللّه بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمّة وجهلتها.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثمّ ذكر غيرة قريشٍ واستفتاحهم على أنفسهم؛ إذ قالوا: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} أي: ما جاء به محمّدٌ {فأمطر علينا حجارةً من السّماء} كما أمطرتها على قوم لوطٍ {أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} أي: ببعض ما عذّبت به الأمم قبلنا.
واختلف أهل العربيّة في وجه دخول هو في الكلام. فقال بعض البصريّين نصب الحقّ؛ لأنّ هو واللّه أعلم حوّلت زائدةً في الكلام صلة توكيدٍ كزيادة ما، ولا تزاد إلاّ في كلّ فعلٍ لا يستغني عن خبرٍ، وليس هو بصفةٍ لهذا؛ لأنّك لو قلت: رأيت هذا هو لم يكن كلامًا، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظّاهرة، ولكنّها تكون من صفة المضمرة، نحو قوله: {ولكن كانوا هم الظّالمين} {تجدوه عند اللّه هو خيرًا وأعظم أجرًا} لأنّك تقول: وجدته هو وإيّاي فتكون هو صفةٌ. وقد تكون في هذا المعنى أيضًا غير صفةٍ، ولكنّها تكون زائدةً كما كان في الأوّل. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم، فيرفع ما بعدها إن كان بعدها ظاهرًا أو مضمرًا في لغة بني تميمٍ، يقولون في قوله: {إن كان هذا هو الحقّ من عندك} {ولكن كانوا هم الظّالمين} و{تجدوه عند اللّه هو خيرًا وأعظم أجرًا} كما تقول: كانوا آباؤهم الظّالمون، جعلوا هذا المضمر نحو هو وهما وأنت زائدًا في هذا المكان. ولم تجعل مواضع الصّفة؛ لأنّه فصل أراد أن يبيّن به أنّه ليس ما بعده صفةً لما قبله، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الّذي لا يكون له خبرٌ.
وكان بعض الكوفيّين يقول: لم تدخل هو الّتي هي عمادٌ في الكلام إلاّ لمعنًى صحيحٍ. وقال: كأنّه قال: زيدٌ قائمٌ، فقلت أنت: بل عمرٌو هو القائم؛ فهو لمعهود الاسم، والألف واللاّم لمعهود الفعل الّتي هي صلةٌ في الكلام مخالفةٌ لمعنى هو؛ لأنّ دخولها وخروجها واحدٌ في الكلام، وليست كذلك هو؛ وأمّا الّتي تدخل صلةً في الكلام، فتوكيدٌ شبيهٌ بقولهم: وجدته نفسه تقول ذلك، وليست بصفةٍ كالظّريف والعاقل). [جامع البيان: 11/143-147]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ (32)
قوله تعالى: وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا عبيد اللّه بن معاذٍ حدّثنا أبي ثنا شعبة عن عبد الحميد صاحب الزّياديّ سمع أنس بن مالكٍ قال: قال أبو جهلٍ: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم
فنزلت وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون إلى آخر الآية
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي ثنا عيسى بن جعفرٍ قاضي الرّيّ ثنا سفيان عن الأعمش عن رجلٍ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ في قوله: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك قال: هو النّضر بن الحارث.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ- فيما كتب إليّ ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قال: قال النّضر بن الحارث: اللّهمّ إن كان ما يقول محمّدٌ هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء. وروي عن سعيد بن جبيرٍ مثل ذلك.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد ثنا يزيد بن زريعٍ عن سعيدٍ عن قتادة قوله: وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك قال: قال ذلك سفهة هذه الأمّة وجهلتها، فعاد اللّه بعائدته على سفهة هذه الأمّة وجهلتها.
- حدّثنا محمّد بن العبّاس ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال: وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير عن عروة بن الزّبير وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك أي ما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم.
قوله تعالى: فأمطر علينا حجارةً من السّماء
- وبه عن عروة بن الزّبير ثمّ ذكر غرّة قريشٍ واستفتاحهم على أنفسهم وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أي كما أمطرتها على قوم لوطٍ.
قوله تعالى: أو ائتنا بعذاب أليم
- حدّثنا أبي ثنا عيسى بن جعفرٍ قاضي الرّيّ ثنا سفيان عن الأعمش عن رجلٍ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ في قوله: فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ قال: هو النّضر بن الحارث يعني ابن كلدة قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين ليس له دافعٌ
- حدّثنا محمّد بن العبّاس ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال: وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير عن عروة بن الزّبير أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ أي ببعض ما عذّبت به الأمم قبلنا.
قوله تعالى: أليمٌ
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع بن أنسٍ عن أبي العالية في قوله: أليمٌ قال: الأليم: الموجع في القرآن كلّه. وروي عن سعيد بن جبيرٍ والضّحّاك بن مزاحمٍ وأبي مالكٍ وقتادة وأبي عمران الجونيّ ومقاتل بن حيّان نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 5/1689-1691]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء قال هذا قول النضر بن الحارث بن كلدة). [تفسير مجاهد: 261]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ م) أنس بن مالك - رضي الله عنه -: قال: قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء... } الآية [الأنفال: 32] فنزلت {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم... } الآية [الأنفال: 33] فلما أخرجوه، نزلت {وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام... } الآية [الأنفال: 34] أخرجه البخاري ومسلم). [جامع الأصول: 2/146-147]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 32 - 34
أخرج البخاري، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو جهل بن هشام {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: ذكر لنا أنها أنزلت في أبي جهل بن هشام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} قال: نزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: (إن كان هذا هو الحق من عندك): قول النضر بن الحارث بن كلدة .
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: نزلت في النضر {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} ص الآية 16، (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) (الأنعام الآية 94) و(سأل سائل بعذاب واقع) (المعارج الآية 1) قال عطاء رضي الله عنه: لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله.
وأخرج ابن مروديه عن بريدة رضي الله عنه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا على فرس يوم أحد وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي). [الدر المنثور: 7/103-104]

تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال في الأنفال: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}؛
فنسختها الآية التي تليها: {وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنت تكفرون}؛ فقتلوا بمكة وأصابهم الجوع والحصار). [الجامع في علوم القرآن: 3/74]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الكلبي في قوله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال لو أراد الله أن يعذبهم أخرجك من بين أظهرهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول ما كان الله معذبهم وهم لا يزال رجل منهم يتوب ويدخل الإسلام). [تفسير عبد الرزاق: 1/259]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [الآيتان (33 و 34) : قوله تعالى: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألّا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد... } الآية]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خالد بن عبد اللّه، عن حصين، عن أبي مالكٍ - في قوله عزّ وجلّ: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون} -، قال: هذه للمسلمين: - {وما لهم ألّا يعذّبهم الله} -، قال: هذه للمشركين). [سنن سعيد بن منصور: 5/212-213]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم، وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}. [الأنفال: 33]
- حدّثنا محمّد بن النّضر، حدّثنا عبيد اللّه بن معاذٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا شعبة، عن عبد الحميد، صاحب الزّياديّ، سمع أنس بن مالكٍ، قال: قال أبو جهلٍ: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء، أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ، " فنزلت: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم، وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون، وما لهم أن لا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} " الآية). [صحيح البخاري: 6/62]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله عن عبد الحميد صاحب الزّياديّ هو عبد الحميد بن دينارٍ تابعيّ صغير ويقال له بن كرديدٍ بضمّ الكاف وسكون الرّاء وكسر الدّال المهملة ثمّ تحتانيّةٍ ساكنةٍ ثمّ دالٍ أخرى ووقع كذلك في بعض النّسخ والزّياديّ الّذي نسب إليه من ولد زيادٍ الّذي يقال له بن أبي سفيان قوله قال أبو جهلٍ اللّهمّ إن كان هذا إلخ ظاهرٌ في أنّه القائل ذلك وإن كان هذا القول نسب إلى جماعةٍ فلعلّه بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم وقد روى الطّبرانيّ من طريق بن عبّاسٍ أنّ القائل ذلك هو النّضر بن الحارث قال فأنزل اللّه تعالى سأل سائلٌ بعذاب واقع وكذا قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسّدّيّ ولا ينافي ذلك ما في الصّحيح لاحتمال أن يكونا قالاه ولكنّ نسبته إلى أبي جهلٍ أولى وعن قتادة قال قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها وروى بن جريرٍ من طريق يزيد بن رومان أنّهم قالوا ذلك ثمّ لمّا أمسوا ندموا فقالوا غفرانك اللّهمّ فأنزل اللّه وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون وروى بن أبي حاتمٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاس أن معنى قوله وهم يستغفرون أي من سبق له من اللّه أنّه سيؤمن وقيل المراد من كان بين أظهرهم حينئذٍ من المؤمنين قاله الضّحّاك وأبو مالكٍ ويؤيّده ما أخرجه الطّبريّ من طريق بن أبزى قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة فأنزل اللّه تعالى وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم ثمّ خرج إلى المدينة فأنزل اللّه وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وكان من بقي من المسلمين بمكّة يستغفرون فلمّا خرجوا أنزل الله وما لهم أن لا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام الآية فأذن اللّه في فتح مكّة فهو العذاب الّذي وعدهم اللّه تعالى وروى التّرمذيّ من حديث أبي موسى رفعه قال أنزل اللّه على أمّتي أمانين فذكر هذه الآية قال فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار وهو يقوّي القول الأوّل والحمل عليه أولى وأنّ العذاب حلّ بهم لمّا تركوا النّدم على ما وقع منهم وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم وصدّهم عن المسجد الحرام واللّه أعلم.
(قوله باب قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم)
تقدم شرحه في الّذي قبله). [فتح الباري: 8/309]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون} (الأنفال: 33)
أي: هذا باب في قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم} الآية. وذكر هذا الباب مع ذكر هذا الحديث ترجمة ليس لها زيادة فائدة لأن الآية بعينها مذكورة فيما قبلها، وكذلك الحديث بعينه مذكور بالإسناد المذكور بعينه غير أن شيخه هناك أحمد بن النّضر، وشيخه هنا أخوه محمّد بن النّضر، وإنّما وضع الباب للتّرجمة وذكر الحديث بعينه ليعلم أنه روى هذا الحديث عن شيخين وهما أخوان، وبدون هذا كان يعلم ما قصده، وقال الحاكم: بلغني أن البخاريّ كان ينزل عليهما أو يكثر السّكون عندهما إذا قدم نيسابور.
- حدّثنا محمّد بن النضر حدّثنا عبيد الله بن معاذٍ حدّثنا أبي حدّثنا شعبة عن عبد الحميد صاحب الزّياديّ سمع أنس بن مالكٍ قال: قال أبو جهلٍ اللّهمّ إن كان هاذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ فنزلت {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون وما لهم أن لا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام} الآية.
مر الكلام فيه عن قريب). [عمدة القاري: 18/250]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33]
(باب قوله) تعالى: ({وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}) اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال، والنبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة خارج عن عادته تعالى في قضائه. قال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة: ما كان الله ليعذب قومًا وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ({وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}) في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، أو ما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف من المستضعفين أو من أولادهم من يستغفر أو يريد إسلام بعضهم أو استغفار الكفار إذ كانوا يقولون بعد التلبية غفرانك وفيه أن الاستغفار أمان من العذاب.
وفي حديث فضالة بن عبيد الله عند الإمام أحمد مرفوعًا: العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل. وتأملوا علوّ مرتبة الاستغفار وعظم موقعه كيف قرن حصوله مع وجود سيد العالمين في استدفاع البلاء. وعن ابن عباس ما رواه ابن أبي حاتم أن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم، فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم ثم تلا الآية. وروى ابن جرير أنهم لما قالوا ما قالوا ثم أمسوا ندموا فقالوا: غفرانك اللهم فأنزل الله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} وسقط لغير أبي ذر قوله: باب قوله وثبت له.
- حدّثنا محمّد بن النّضر، حدّثنا عبيد اللّه بن معاذٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا شعبة عن عبد الحميد صاحب الزّياديّ، سمع أنس بن مالكٍ قال: قال أبو جهلٍ: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} فنزلت: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون * وما لهم أن لا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} الآية.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن النضر) بن عبد الوهاب أخو أحمد السابق قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (عبيد الله بن معاذ) بتصغير عبد قال: (حدّثنا أبي) معاذ العنبري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الحميد) بن دينار (صاحب الزيادي) أنه (سمع أنس بن مالك قال: قال أبو جهل): لما قال النضر بن الحارث إن هذا إلا أساطير الأولين ({اللهم إن كان هذا}) يريد القرآن ({هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}) فنزلت: ({وما كان ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}) وليس المراد نفي مطلق العذاب عنهم بل هم بصدده إذا هاجر عليه الصلاة والسلام عنهم كما يدل له قوله: ({وما لهم}) استفهام بمعنى التقرير ({أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} الآية) "ما" في وما لهم استفهام بمعنى التقرير و"أن" في أن لا يعذبهم الظاهر أنها مصدرية وموضعها نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر والتقدير في أن لا يعذبهم وهذا الجار يتعلق بما تعلق به لهم من الاستقرار والمعنى، وأي مانع فيهم من العذاب وسببه واقع وهو صدهم المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية وإخراجهم الرسول والمؤمنين إلى الهجرة فالعذاب واقع لا محالة بهم، فلما خرج الرسول -صلّى اللّه عليه وسلّم- من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم وأسر سراتهم). [إرشاد الساري: 7/135-136]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن نميرٍ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن عبّاد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: أنزل اللّه عليّ أمانين لأمّتي {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
هذا حديثٌ غريبٌ، وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجرٍ يضعّف في الحديث). [سنن الترمذي: 5/121]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} أي: وأنت مقيمٌ بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو مقيمٌ بمكّة. قال: ثمّ خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: ثمّ خرج أولئك البقيّة من المسلمين من بينهم، فعذّب الكفّار.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: فكان أولئك البقيّة من المسلمين الّذين بقوا فيها يستغفرون، يعني بمكّة؛ فلمّا خرجوا أنزل اللّه عليه: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه} قال: فأذن اللّه له في فتح مكّة، فهو العذاب الّذي وعدهم.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا حصينٌ، عن أبي مالكٍ، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يعني النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: من بها من المسلمين. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} يعني مكّة، وفيها الكفّار.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ قال: أخبرنا هشيمٌ، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ، في قول اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم} يعني: أهل مكّة. {وما كان اللّه معذّبهم} وفيهم المؤمنون، يستغفرون؛ يغفر لمن فيهم من المسلمين.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا إسحاق بن إسماعيل الرّازيّ وأبو داود الحفريّ، عن يعقوب، عن جعفرٍ، عن ابن أبزى: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: بقيّة من بقي من المسلمين منهم، فلمّا خرجوا قال: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه}.
- قال: حدّثنا عمران بن عيينة، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: أهل مكّة.
- وأخبرنا أبي، عن سلمة بن نبيطٍ، عن الضّحّاك: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: المؤمنون من أهل مكّة. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} قال: المشركون من أهل مكّة.
- قال: حدّثنا أبو خالدٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: المؤمنون يستغفرون بين ظهرانيهم.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: الّذين آمنوا معك يستغفرون بمكّة، حتّى أخرجك والّذين آمنوا معك.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ قال: قال ابن جريجٍ قال ابن عبّاسٍ: لم يعذّب قريةً حتّى يخرج النّبيّ منها والّذين آمنوا معه ويلحقه بحيث أمر. {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني المؤمنين. ثمّ أعاد إلى المشركين، فقال: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه}.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: يعني أهل مكّة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّب هؤلاء المشركين من قريشٍ بمكّة وأنت فيهم يا محمّد، حتّى أخرجك من بينهم. {وما كان اللّه معذّبهم} وهؤلاء المشركون يقولون: يا ربّ غفرانك وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} في الآخرة.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أحمد بن منصورٍ الرّماديّ، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا عكرمة، عن أبي زميلٍ، عن ابن عبّاسٍ: إنّ المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون: لبّيك لا شريك لك لبّيك، فيقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: قد قد فيقولون: لا شريك لك إلاّ شريكٌ هو لك تملكه وما ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك. فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فقال ابن عبّاسٍ: كان فيهم أمانان: نبيّ اللّه والاستغفار قال: فذهب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبقي الاستغفار. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون} قال: فهذا عذاب الآخرة قال: وذاك عذاب الدّنيا.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا أبو معشرٍ، عن يزيد بن رومان، ومحمّد بن قيسٍ، قالا: قالت قريشٌ بعضها لبعضٍ: محمّد أكرمه اللّه من بيننا {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا} الآية؛ فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللّهمّ، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} إلى قوله: {لا يعلمون}.
- حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانوا يقولون يعني المشركين: واللّه إنّ اللّه لا يعذّبنا ونحن نستغفر، ولا يعذّب أمّةً ونبيّها معها حتّى يخرجه عنها، وذلك من قوله ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرهم، فقال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم يذكر له جهالتهم وغرّتهم واستفتاحهم على أنفسهم؛ إذ قالوا {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء} كما أمطرتها على قوم لوطٍ، وقال حين نعى عليهم سوء أعمالهم: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}، أي: بقولهم، وإن كانوا يستغفرون كما قال: {وهم يصدّون عن المسجد الحرام} من آمن باللّه وعبده، أي: أنت ومن تبعك.
- حدّثنا الحسن بن الصّبّاح البزّار، قال: حدّثنا أبو بردة، عن أبي موسى، قال: إنّه كان فيكم أمانان: قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: أمّا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقد مضى، وأمّا الاستغفار فهو دائرٌ فيكم إلى يوم القيامة.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن عامرٍ أبي الخطّاب الثّوريّ، قال: سمعت أبا العلاء، يقول: كان لأمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم أمنتان: فذهبت إحداهما، وبقيت الأخرى: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمّد، وما كان اللّه معذّب المشركين وهم يستغفرون، أي: لو استغفروا. قالوا: ولم يكونوا يستغفرون، فقال جلّ ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: إنّ القوم لم يكونوا يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون ما عذّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان أنزلهما اللّه، فأمّا أحدهما فمضى نبيّ اللّه، وأمّا الآخر فأبقاه اللّه رحمةً بين أظهركم، الاستغفار والتّوبة.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: قال اللّه لرسوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: ما كنت أعذّبهم وهم يستغفرون، ولو استغفروا وأقرّوا بالذّنوب لكانوا مؤمنين، وكيف لا أعذّبهم وهم لا يستغفرون، وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن محمّدٍ وعن المسجد الحرام.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: يقول: لو استغفروا لم أعذّبهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّبهم وهم يسلمون. قالوا: واستغفارهم كان في هذا الموضع إسلامهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا سوّار بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عبد الملك بن الصّبّاح، قال: حدّثنا عمران بن حديرٍ، عن عكرمة، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: سألوا العذاب، فقال: لم يكن ليعذّبهم وأنت فيهم، ولم يكن ليعذّبهم وهم يدخلون في الإسلام.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {وأنت فيهم} قال: بين أظهرهم. وقوله: {وهم يستغفرون} قال: يسلمون.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} بين أظهرهم {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: وهم يسلمون. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا محمّد بن عبيد اللّه، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: بين أظهرهم. {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: دخولهم في الإسلام.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من اللّه الدّخول في الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يقول: ما كان اللّه سبحانه يعذّب قومًا وأنبياؤهم بين أظهرهم حتّى يخرجهم. ثمّ قال: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: ومنهم من قد سبق له من اللّه الدّخول في الإيمان، وهو الاستغفار، ثمّ قال: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} فعذّبهم يوم بدرٍ بالسّيف.
وقال آخرون: بل معناه: وما كان اللّه معذّبهم وهم يصلّون.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: يصلّون، يعني بهذا أهل مكّة.
- حدّثني موسى بن عبد الرّحمن المسروقيّ، قال: حدّثنا حسينٌ الجعفيّ، عن زائدة، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: يصلّون.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك بن مزاحمٍ، يقول في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يعني: أهل مكّة، يقول: لم أكن لأعذّبكم وفيكم محمّدٌ. ثمّ قال: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: يؤمنون ويصلّون.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: وهم يصلّون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّب المشركين وهم يستغفرون. قالوا: ثمّ نسخ ذلك بقوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين بن واقدٍ، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، والحسن البصريّ، قالا: قال في الأنفال: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فنسختها الآية الّتي تليها: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} إلى قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فقوتلوا بمكّة، وأصابهم فيها الجوع والحصر.
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصّواب قول من قال: تأويله: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمّد وبين أظهرهم مقيمٌ، حتّى أخرجك من بين أظهرهم؛ لأنّي لا أهلك قريةً وفيها نبيّها. وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنّهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرّون عليه، فهم للعذاب مستحقّون، كما يقال: ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ، يراد بذلك: لا أحسن إليك إذا أسأت إليّ ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنّك لا تسيء إليّ، وكذلك ذلك. ثمّ قيل: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} بمعنى: وما شأنهم وما يمنعهم أن يعذّبهم اللّه وهم لا يستغفرون اللّه من كفرهم فيؤمنوا به، وهم يصدّون المؤمنين باللّه ورسوله عن المسجد الحرام.
وإنّما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصّواب؛ لأنّ القوم أعني مشركي مكّة كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: اللّهمّ إن كان ما جاء به محمّدٌ هو الحقّ، فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ، فقال اللّه لنبيّه: ما كنت لأعذّبهم وأنت فيهم وما كنت لأعذّبهم لو استغفروا، وكيف لا أعذّبهم بعد إخراجك منهم وهم يصدّون عن المسجد الحرام، فأعلمه جلّ ثناؤه أنّ الّذين استعجلوا العذاب حائقٌ بهم ونازلٌ، وأعلمهم حال نزوله بهم، وذلك بعد إخراجه إيّاه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذاب في الآخرة، وهم مستعجلوه في العاجل، ولا شكّ أنّهم في الآخرة إلى العذاب صائرون، بل في تعجيل اللّه لهم ذلك يوم بدرٍ الدّليل الواضح على أنّ القول في ذلك ما قلنا.
وكذلك لا وجه لقول من وجّه قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} إلى أنّه عنى به المؤمنين، وهو في سياق الخبر عنهم وعمّا اللّه فاعلٌ بهم، ولا دليل على أنّ الخبر عنهم قد تقضّى، وعلى أنّ ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله من أهله موجودٌ.
وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخٌ بقوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} الآية؛ لأنّ قوله جلّ ثناؤه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} خبرٌ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخٌ، وإنّما يكون النّسخ للأمر والنّهي.
واختلف أهل العربيّة في وجه دخول أن في قوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} فقال بعض نحويّي البصرة: هي زائدةٌ هاهنا، وقد عملت كما عملت لا وهي زائدةٌ، وجاء في الشّعر:
لو لم تكن غطفانٌ لا ذنوب لها = إليّ لام ذوو أحسابها عمرا
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربيّة، وقال: لم تدخل أن إلاّ لمعنًى صحيحٍ؛ لأنّ معنى {وما لهم} ما يمنعهم من أن يعذّبوا، قال: فدخلت أن لهذا المعنى، وأخرج بـ لا، ليعلم أنّه بمعنى الجحد؛ لأنّ المنع جحدٌ. قال: ولا في البيت صحيحٌ معناها؛ لأنّ الجحد إذا وقع عليه جحدٌ صار خبرًا. وقال: ألا ترى إلى قولك: ما زيدٌ ليس قائمًا، فقد أوجبت القيام؟ قال: وكذلك لا في هذا البيت). [جامع البيان: 11/147-159]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33)
قوله تعالى: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم
- حدّثنا أبو زرعة ثنا المثنّى بن معاذٍ العنبريّ ثنا أبي عن شعبة عن عبد الحميد صاحب الزّياديّ سمع أنس بن مالكٍ قال: قال أبو جهلٍ: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ فنزلت وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم الآية.
- حدّثنا أبي ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعودٍ ثنا عكرمة بن عمّارٍ عن أبي زميلٍ سماك الحنفيّ عن ابن عبّاسٍ قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون:
لبّيك اللّهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك، ويقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: قد قد، ويقولون: لا شريك لك إلا شريكٌ هو لك تملكه وما ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك فأنزل اللّه تعالى وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون فقال ابن عبّاسٍ: كان فيهم أمانان: نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والاستغفار، فذهب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبقي الاستغفار.
- حدّثنا أبي ثنا عبيد اللّه بن موسى أنبأ سلمة بن نبيطٍ عن الضّحّاك في قوله: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم قال: يعني النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثنا محمّد بن عمّارٍ ثنا محمّد بن عبيدٍ الطّنافسيّ ثنا سلمة بن نبيطٍ عن الضّحّاك في قوله: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم قال: المشركون الّذين بمكّة.
قوله تعالى: وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم يقول: ما كان اللّه سبحانه ليعذّب قومًا وأنبباؤهم بين أظهرهم حتّى يخرجهم، ثمّ قال: وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون يقول: وفيهم من قد سبق له من اللّه الدّخول في الإيمان وهو الاستغفار فيستغفرون، يعني يصلّون يعني بهذا أهل مكّة.
- وروي عن مجاهدٍ قولان أحدهما: وهم يستغفرون يصلّون، والآخر يستغفرون: مسلمون.
وروي عن عكرمة وهم يدخلون في الإسلام.
- حدّثنا أبي ثنا عليّ بن الجعد ثنا فضيل بن مرزوقٍ عن عطيّة في قوله: وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون يعني: المؤمنين.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون قال: قال اللّه تعالى لرسوله، ما كنت معذّبهم وهم يستغفرون يقول: لو استغفروا وأقرّوا بالذّنوب لكانوا مؤمنين.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا يزيد بن عبد العزيز ثنا سليمان بن حسّان الشّاميّ عن ابن لهيعة عن عطاء بن دينارٍ قال: سئل سعيد بن جبيرٍ عن الاستغفار فقال: قال اللّه عزّ وجلّ: وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون يقول: يعملون على الغفران، وعلمت أنّ ناسًا سيدخلون جهنّم ممّن يستغفرون بألسنتهم ممّن يدّعي الإسلام وسائر الملل.
وروي عن الضّحّاك وأبي مالكٍ وهم يستغفرون يعني: المؤمنين الّذين كانوا بمكّة.
- حدّثنا أبي ثنا عبد الغفّار بن داود ثنا النّظر بن عربيٍّ قال: قال ابن عبّاسٍ أنّ اللّه عزّ وجلّ جعل في هذه الأمّة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ماداما بين أظهرهم، فأمانٌ قبضه اللّه إليه، وأمانٌ بقي فيكم قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون قال أبو صالحٍ عبد الغفّار: حدّثني بعض أصحابنا أنّ النّضر بن عربيٍّ حدّثه هذا الحديث مجاهدٌ عن ابن عبّاسٍ.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أي طلحة عن ابن عبّاسٍ وما لهم ألا يعذّبهم اللّه فعذّبهم يوم بدرٍ بالسّيف.
- حدّثنا أبي ثنا يحيى بن عبد الحميد الحمّانيّ ثنا يعقوب القمّيّ عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن عبد الرّحمن بن أبزى قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة فأنزل اللّه وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة فأنزل اللّه وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون فكانت بقيّةٌ من المسلمين بقوا بمكّة، فلمّا خرجوا أنزل اللّه عليه وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام الآية، إلى قوله: المتّقون فأذن له في فتح مكّة وهو العذاب الّذي كان وعدهم، وهو قوله: وما لهم ألا يعذّبهم اللّه
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن مفضّلٍ حدّثنا أسباطٌ عن السّدّيّ وما لهم ألا يعذّبهم اللّه يقول: وكيف لا أعذّبهم وهم لا يستغفرون؟
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا حجّاج بن محمّدٍ عن ابن جريجٍ وعثمان بن عطاءٍ عن عطاءٍ عن ابن عبّاسٍ، وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون ثمّ استثنى أهل الشّرك فقال: وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن إسماعيل بن أبي ضرارٍ ثنا أبو تميلة عن الحسين بن واقدٍ عن يزيد النّحويّ عن عكرمة والحسن في قوله: وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون فنسختها الآية الّتي تليها وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام فقوتلوا بمكّة، فأصابهم فيها الجوع والحصر. وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 5/1691-1693]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وهم يستغفرون قال وهم يسلمون). [تفسير مجاهد: 261-262]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا شيبان عن منصور عن مجاهد وهم يستغفرون قال وهم يصلون). [تفسير مجاهد: 262]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ م) أنس بن مالك - رضي الله عنه -: قال: قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء... } الآية [الأنفال: 32] فنزلت {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم... } الآية [الأنفال: 33] فلما أخرجوه، نزلت {وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام... } الآية [الأنفال: 34] أخرجه البخاري ومسلم). [جامع الأصول: 2/146-147] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 32 - 34
أخرج البخاري، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو جهل بن هشام {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: ذكر لنا أنها أنزلت في أبي جهل بن هشام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} قال: نزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: (إن كان هذا هو الحق من عندك): قول النضر بن الحارث بن كلدة .
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: نزلت في النضر {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} ص الآية 16، (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) (الأنعام الآية 94) و(سأل سائل بعذاب واقع) (المعارج الآية 1) قال عطاء رضي الله عنه: لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله.
وأخرج ابن مروديه عن بريدة رضي الله عنه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا على فرس يوم أحد وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي). [الدر المنثور: 7/103-104] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 32 - 34
أخرج البخاري، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو جهل بن هشام {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: ذكر لنا أنها أنزلت في أبي جهل بن هشام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} قال: نزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: (إن كان هذا هو الحق من عندك): قول النضر بن الحارث بن كلدة .
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: نزلت في النضر {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} ص الآية 16، (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) (الأنعام الآية 94) و(سأل سائل بعذاب واقع) (المعارج الآية 1) قال عطاء رضي الله عنه: لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله.
وأخرج ابن مروديه عن بريدة رضي الله عنه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا على فرس يوم أحد وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك لا شريك لك لبيك، فيقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قد قد، ويقولون: لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنه: كان فيهم أمانان النّبيّ صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار {وما لهم ألا يعذبهم الله} قال: هو عذاب الآخرة وذلك عذاب الدنيا.
وأخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد صلى الله عليه وسلم أكرمه الله من بيننا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الآية، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللهم، فأنزل الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} إلى قوله {لا يعلمون}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن أبزي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأنزل الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فلما خرجوا أنزل الله {وما لهم ألا يعذبهم الله} الآية فأذن في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطية رضي الله عنه في قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} يعني المشركين حتى يخرجك منهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال: يعني المؤمنين ثم أعاد المشركين فقال {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: لو استغفروا وأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وفي قوله {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} يقول: وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال: بين أظهرهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: وما كان الله معذبهم وهو لا يزال الرجل منهم يدخل في الإسلام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال: وهم يدخلون في الإسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار رضي الله عنه قال: سئل سعيد بن جبير رضي الله عنه عن الاستغفار فقال: قال الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: يعملون على الغفران وعلمت أن ناسا سيدخلون جهنم ممن يستغفرون بألسنتهم ممن يدعي الإسلام وسائر الملل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن رضي الله عنهما في قوله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قالا: نسختها الآية التي تليها {وما لهم ألا يعذبهم الله} فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والحصر.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه، مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن أبي مالك رضي الله عنه {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} يعني أهل مكة {وما كان الله معذبهم} وفيهم المؤمنون يستغفرون، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة رضي الله عنه قال: إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم أما داءكم فذنوبكم وأما دواؤكم فالاستغفار.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن كعب رضي الله عنه قال: إن العبد ليذنب الذنب الصغير فيحتقره ولا يندم عليه ولا يستغفر منه فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود ويذنب الذنب فيندم عليه ويستغفر منه فيصغر عند الله عز وجل حتى يعفو له.
وأخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله علي أمانين لأمتي {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
وأخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم فأمان قبضه الله تعالى إليه وأمان بقي فيكم قوله {وما كان الله ليعذبهم} الآية
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني، وابن مردويه والحاكم، وابن عساكر عن أبي موسى رضي الله عنه قال: إنه قد كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بسبيله وأما الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في هذه الأمة أمانان: رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب أمان - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبقي أمان يعني الاستغفار.
وأخرج أحمد عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله.
وأخرج أحمد والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني
وأخرج أبو داود والنسائي، وابن ماجة، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النّبيّ قال: من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والنسائي، وابن ماجة عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا.
وأخرج الحكيم الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن استطعتم أن تكثروا من الاستغفار فافعلوا فإنه ليس شيء أنجح عند الله ولا أحب إليه منه.
وأخرج أحمد في الزهد عن مغيث بن أسماء رضي الله عنه قال: كان رجل ممن كان قبلكم يعمل بالمعاصي فبينما هو ذات يوم يسير إذ تفكر فيما سلف منه فقال: اللهم غفرانك، فأدركه الموت على تلك الحال فغفر له.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: طوبى لمن وجد في صحيفته بندا من الاستغفار.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه خمس مرات غفر له وإن كان عليه مثل زبد البحر.
وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله فصلى رسول الله فقام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك، ففرغ رسول الله من صلاته وقد انمخصت الشمس.
وأخرج الديلمي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله في الأرض أمانا: أنا أمان والاستغفار أمان وأنا مذهوب بي ويبقى أمان الاستغفار فعليكم بالاستغفار عند كل حدث وذنب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال: ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان: وهو الاستغفار، وقال للكافر {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}) (آل عمران الآية 179) فيميز الله أهل السعادة من أهل الشقاوة {وما لهم ألا يعذبهم الله} فعذبهم يوم بدر بالسيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ثم استثنى أهل الشرك فقال {وما لهم ألا يعذبهم الله}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير والنحاس وأبو الشيخ عن الضحاك {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال: المشركين الذين بمكة {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال: المؤمنين بمكة {وما لهم ألا يعذبهم الله} قال: كفار مكة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله {وما لهم ألا يعذبهم الله} قال: عذابهم فتح مكة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير رضي اله عنه {وما لهم ألا يعذبهم الله} وهم يجحدون آيات الله ويكذبون رسله وإن كان فيهم ما يدعون.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير رضي الله عنه في قوله {وهم يصدون عن المسجد الحرام} أي من آمن بالله وعبده أنت ومن اتبعك، {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده أي أنت ومن آمن بك). [الدر المنثور: 7/103-113] (م)

تفسير قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال في الأنفال: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}؛
فنسختها الآية التي تليها: {وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنت تكفرون}؛ فقتلوا بمكة وأصابهم الجوع والحصار). [الجامع في علوم القرآن: 3/74] (م)
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [الآيتان (33 و 34) : قوله تعالى: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألّا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد... } الآية]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خالد بن عبد اللّه، عن حصين، عن أبي مالكٍ - في قوله عزّ وجلّ: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون} -، قال: هذه للمسلمين: - {وما لهم ألّا يعذّبهم الله} -، قال: هذه للمشركين). [سنن سعيد بن منصور: 5/212-213] (م)
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (حدّثني أحمد، حدّثنا عبيد اللّه بن معاذٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا شعبة، عن عبد الحميد هو ابن كرديدٍ صاحب الزّياديّ، سمع أنس بن مالكٍ رضي اللّه عنه، قال أبو جهلٍ: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ، " فنزلت: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم، وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون. وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 34] " الآية). [صحيح البخاري: 6/62]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله حدّثني أحمد كذا في جميع الرّوايات غير منسوبٍ وجزم الحاكمان أبو أحمد وأبو عبد اللّه أنّه بن النّضر بن عبد الوهّاب النّيسابوريّ وقد روى البخاريّ الحديث المذكور بعينه عقب هذا عن محمّد بن النّضر أخي أحمد هذا قال الحاكم بلغني أنّ البخاريّ كان ينزل عليهما ويكثر الكمون عندهما إذا قدم نيسابور قلت وهما من طبقة مسلمٍ وغيره من تلامذة البخاريّ وإن شاركوه في بعض شيوخه وقد أخرج مسلمٌ هذا الحديث بعينه عن شيخهما عبيد اللّه بن معاذٍ نفسه وعبيد اللّه بن معاذٍ المذكور من الطّبقة الوسطى من شيوخ البخاريّ فنزل في هذا الإسناد درجتين لأنّ عنده الكثير عن أصحاب شعبة بواسطة واحدة بينه وبين شعبة قال الحاكم أحمد بن النّضر يكنّى أبا الفضل وكان من أركان الحديث انتهى وليس له في البخاريّ ولا لأخيه سوى هذا الموضع وقد روى البخاريّ عن أحمد في التّاريخ الصّغير ونسبه). [فتح الباري: 8/308-309]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (حدّثني أحمد حدثنا عبيد الله بن معاذٍ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد الحميد هو ابن كرديدٍ صاحب الزّياديّ سمع أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال أبو جهلٍ اللّهمّ إن كان هاذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ. فنزلت: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون وما لهم أن لا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام} (الأنفال: 33-34) .
مطابقته للتّرجمة ظاهرة. وأحمد هذا ذكر كذا غير منسوب في جميع الرّوايات، وقد جزم الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد الله أنه ابن النّضر بن عبد الوهّاب النّيسابوري، وقال الحافظ المزي أيضا هو أحمد بن النّضر أخو محمّد وهما من نيسابور. قلت: الآن يأتي في عقيب الحديث المذكور رواية البخاريّ عن محمّد بن النّضر هذا وهما من تلامذة البخاريّ وإن شاركوه في بعض شيوخه وليس لهما في البخاريّ إلاّ هذا الموضع، وعبيد الله بن معاذ يروي عن أبيه معاذ بن معاذ بن حسان أبو عمر العنبري التّميمي البصريّ، وعبد الحميد بن دينار والبصري. وقال عمرو بن عليّ هو عبد الحميد بن واصل وهو تابعيّ صغير وقد وقع في نسختنا عبد الحميد بن كرديد، بضم الكاف وكسرها وسكون الرّاء وكسر الدّال المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال أخرى، ولم أر أحدا ذكره ولا التزم أنا بصحّته، والزيادي، بكسر الزّاي وتخفيف الياء آخر الحروف نسبة إلى زياد بن أبي سفيان.
والحديث أخرجه مسلم في ذكر المنافقين والكفّار عن عبيد الله نفسه عن أبيه عن شعبة، والبخاريّ أنزل درجة منه.
قوله: (قال أبو جهل) ، اسمه عمرو بن هشام المخزومي وظاهر الكلام أن القائل بقوله اللّهمّ إلى آخره هو أبو جهل، وروى الطّبرانيّ من طريق ابن عبّاس أن القائل بهذا هو النّضر بن الحارث، وكذا قاله مجاهد وعطاء والسّديّ، ولا منافاة في ذلك لاحتمال أن يكون الاثنان قد قالاه، وقال بعضهم: نسبته إلى أبي جهل أولى. قلت: لا دليل على دعوى الأولويّة بل لقائل أن يقول: نسبته إلى النّضر بن الحارث أولى، ويؤيّده أنه كان ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد بعثه الله وهو يتلو على النّاس القرآن. فكان إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلس جلس فيه النّضر فيحدثهم من أخبار أولئك ثمّ يقول: أيّنا أحسن قصصا أنا أو محمّد، ولهذا لما أمكن الله صلى الله عليه وسلم منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ففعل ذلك، وكان الّذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه. قوله: (إن كان هذا هو الحق) اختلف أهل العربيّة في وجه دخول هو في الكلام فقال بعض البصريين: هو صلة في الكلام للتوكيد، والحق، منصوب لأنّه خبر كان، وقال بعضهم: الحق مرفوع لأنّه خبر هو وقال الزّمخشريّ: وقرأ الأعمش: هو الحق، بالرّفع على أن هو مبتدأ غير فصل، وهو في القراءة الأولى فصل. قوله: (فنزلت) {وما كان الله ليعذبهم} الآية إنّما قال: فنزلت، بالفاء لأنّها نزلت عقيب قولهم: إن كان هذا هو الحق وذلك أنهم لما قالوا ذلك ندموا على ما قالوا، فقالوا غفرانك اللّهمّ، فأنزل الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الآية. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس: في هذه الآية ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتّى يخرجهم، وقال ابن عبّاس: كان فيهم أمانان النّبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، فذهب النّبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. قوله: (ليعذبهم) أي: لأن يعذبهم. قوله: (وأنت فيهم) . الواو وفيه للحال وكذا الواو في: وهم يستغفرون. قوله: (وما لهم أن لا يعذبهم الله) الآية. قال ابن جرير بإسناده إلى أن ابن أبزى. قال: كان النّبي صلى الله عليه وسلم، بمكّة فأنزل الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال: فخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة فأنزل الله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال وكان أولئك البقيّة من المسلمين الّذين بقوافيها مستضعفين يعني بمكّة ولما خرجوا أنزل الله: {وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى عطاء عن ابن عبّاس: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ثمّ استثنى أهل الشّرك. فقال: {وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} (الأنفال: 33) أي: وكيف لا يعذبهم الله أي الّذين بمكّة وهم يصدون المؤمنين الّذين هم أهله عن الصّلاة عنده والطّواف؟ ولهذا قال: {وما كانوا أولياءه} (الأنفال: 34) أي: هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنّما أهله النّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه قوله: {إن أولياؤه إلاّ المتقون} أي: إلاّ الّذين اتّقوا. قال عروة والسّديّ ومحمّد بن إسحاق هم النّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضي الله تعالى عنهم. وقال مجاهد: المتقون من كانوا وحيث كانوا). [عمدة القاري: 18/249-250]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (حدّثني أحمد حدّثنا عبيد اللّه بن معاذٍ، حدّثنا أبي حدّثنا شعبة، عن عبد الحميد - هو ابن كرديدٍ صاحب الزّياديّ - سمع أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- قال أبو جهلٍ: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} فنزلت: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون * وما لهم أن لا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} الآية. [الحديث 4648 - أطرافه في: 4649].
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (أحمد) غير منسوب وقد جزم الحاكمان أبو أحمد وأبو عبد الله أنه ابن النضر بن عبد الوهاب النيسابوري قال: (حدّثنا عبيد الله بن معاذ) بضم العين وفتح الموحدة مصغرًا قال: (حدّثنا أبي) معاذ بن معاذ بن حسان العنبري التميمي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الحميد) بن دينار تابعي صغير زاد غير أبي ذر هو ابن كرديد بكاف مضمومة فراء ساكنة فدالين الأولى مكسورة بينهما تحتية ساكنة (صاحب الزيادي) بكسر الزاي وتخفيف التحتية أنه (سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه-) يقول (قال أبو جهل): لعنه الله ({اللهم إن كان هذا هو الحق}) نصب خبرًا عن الكون وهو فصل وقرئ بالرفع على أن هو مبتدأ غير فصل والحق خبره ({من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}) قال أبو عبيدة: كل شيء أمطرت فهو من العذاب وما كان من الرحمة فهو مطرف (فنزلت: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} [الأنفال: 33، 34] الآية). وسقط لأبي ذر {وما كان الله معذبهم}) إلى {يصدّون} ويقول إلى عن المسجد الحرام، وقد أورد ابن المنير في تفسيره هنا سؤالًا كما نقله عنه في المصابيح فقال قد حكى الله عنهم هذا الكلام في هذه الآية أي قوله: اللهم إن كان هذا هو الحق الآية. وهو من جنس نظم القرآن فقد وجد فيه بعض التكلم ببعض القرآن فكيف يتم نفي المعراضة بالكلية وقد وجد بعضها ومنها حكاية الله عنهم في الإسراء وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا. وأجاب: بأن الإتيان بمثل هذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة لأن هذا المقدار قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة. قال العلامة البدر الدماميني: وهذا الجواب إنما يتمشى على القول بأن التحدي إنما وقع بالسورة الطويلة التي يظهر منها قوة الكلام.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في ذكر المنافقين والكفار). [إرشاد الساري: 7/135]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} أي: وأنت مقيمٌ بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو مقيمٌ بمكّة. قال: ثمّ خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: ثمّ خرج أولئك البقيّة من المسلمين من بينهم، فعذّب الكفّار.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: فكان أولئك البقيّة من المسلمين الّذين بقوا فيها يستغفرون، يعني بمكّة؛ فلمّا خرجوا أنزل اللّه عليه: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه} قال: فأذن اللّه له في فتح مكّة، فهو العذاب الّذي وعدهم.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا حصينٌ، عن أبي مالكٍ، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يعني النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: من بها من المسلمين. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} يعني مكّة، وفيها الكفّار.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ قال: أخبرنا هشيمٌ، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ، في قول اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم} يعني: أهل مكّة. {وما كان اللّه معذّبهم} وفيهم المؤمنون، يستغفرون؛ يغفر لمن فيهم من المسلمين.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا إسحاق بن إسماعيل الرّازيّ وأبو داود الحفريّ، عن يعقوب، عن جعفرٍ، عن ابن أبزى: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: بقيّة من بقي من المسلمين منهم، فلمّا خرجوا قال: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه}.
- قال: حدّثنا عمران بن عيينة، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: أهل مكّة.
- وأخبرنا أبي، عن سلمة بن نبيطٍ، عن الضّحّاك: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: المؤمنون من أهل مكّة. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} قال: المشركون من أهل مكّة.
- قال: حدّثنا أبو خالدٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: المؤمنون يستغفرون بين ظهرانيهم.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: الّذين آمنوا معك يستغفرون بمكّة، حتّى أخرجك والّذين آمنوا معك.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ قال: قال ابن جريجٍ قال ابن عبّاسٍ: لم يعذّب قريةً حتّى يخرج النّبيّ منها والّذين آمنوا معه ويلحقه بحيث أمر. {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني المؤمنين. ثمّ أعاد إلى المشركين، فقال: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه}.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: يعني أهل مكّة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّب هؤلاء المشركين من قريشٍ بمكّة وأنت فيهم يا محمّد، حتّى أخرجك من بينهم. {وما كان اللّه معذّبهم} وهؤلاء المشركون يقولون: يا ربّ غفرانك وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} في الآخرة.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أحمد بن منصورٍ الرّماديّ، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا عكرمة، عن أبي زميلٍ، عن ابن عبّاسٍ: إنّ المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون: لبّيك لا شريك لك لبّيك، فيقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: قد قد فيقولون: لا شريك لك إلاّ شريكٌ هو لك تملكه وما ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك. فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فقال ابن عبّاسٍ: كان فيهم أمانان: نبيّ اللّه والاستغفار قال: فذهب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبقي الاستغفار. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون} قال: فهذا عذاب الآخرة قال: وذاك عذاب الدّنيا.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا أبو معشرٍ، عن يزيد بن رومان، ومحمّد بن قيسٍ، قالا: قالت قريشٌ بعضها لبعضٍ: محمّد أكرمه اللّه من بيننا {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا} الآية؛ فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللّهمّ، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} إلى قوله: {لا يعلمون}.
- حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانوا يقولون يعني المشركين: واللّه إنّ اللّه لا يعذّبنا ونحن نستغفر، ولا يعذّب أمّةً ونبيّها معها حتّى يخرجه عنها، وذلك من قوله ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرهم، فقال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم يذكر له جهالتهم وغرّتهم واستفتاحهم على أنفسهم؛ إذ قالوا {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء} كما أمطرتها على قوم لوطٍ، وقال حين نعى عليهم سوء أعمالهم: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}، أي: بقولهم، وإن كانوا يستغفرون كما قال: {وهم يصدّون عن المسجد الحرام} من آمن باللّه وعبده، أي: أنت ومن تبعك.
- حدّثنا الحسن بن الصّبّاح البزّار، قال: حدّثنا أبو بردة، عن أبي موسى، قال: إنّه كان فيكم أمانان: قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: أمّا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقد مضى، وأمّا الاستغفار فهو دائرٌ فيكم إلى يوم القيامة.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن عامرٍ أبي الخطّاب الثّوريّ، قال: سمعت أبا العلاء، يقول: كان لأمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم أمنتان: فذهبت إحداهما، وبقيت الأخرى: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمّد، وما كان اللّه معذّب المشركين وهم يستغفرون، أي: لو استغفروا. قالوا: ولم يكونوا يستغفرون، فقال جلّ ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: إنّ القوم لم يكونوا يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون ما عذّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان أنزلهما اللّه، فأمّا أحدهما فمضى نبيّ اللّه، وأمّا الآخر فأبقاه اللّه رحمةً بين أظهركم، الاستغفار والتّوبة.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: قال اللّه لرسوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: ما كنت أعذّبهم وهم يستغفرون، ولو استغفروا وأقرّوا بالذّنوب لكانوا مؤمنين، وكيف لا أعذّبهم وهم لا يستغفرون، وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن محمّدٍ وعن المسجد الحرام.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: يقول: لو استغفروا لم أعذّبهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّبهم وهم يسلمون. قالوا: واستغفارهم كان في هذا الموضع إسلامهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا سوّار بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عبد الملك بن الصّبّاح، قال: حدّثنا عمران بن حديرٍ، عن عكرمة، في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: سألوا العذاب، فقال: لم يكن ليعذّبهم وأنت فيهم، ولم يكن ليعذّبهم وهم يدخلون في الإسلام.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {وأنت فيهم} قال: بين أظهرهم. وقوله: {وهم يستغفرون} قال: يسلمون.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} بين أظهرهم {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: وهم يسلمون. {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا محمّد بن عبيد اللّه، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: بين أظهرهم. {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: دخولهم في الإسلام.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من اللّه الدّخول في الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يقول: ما كان اللّه سبحانه يعذّب قومًا وأنبياؤهم بين أظهرهم حتّى يخرجهم. ثمّ قال: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: ومنهم من قد سبق له من اللّه الدّخول في الإيمان، وهو الاستغفار، ثمّ قال: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} فعذّبهم يوم بدرٍ بالسّيف.
وقال آخرون: بل معناه: وما كان اللّه معذّبهم وهم يصلّون.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: يصلّون، يعني بهذا أهل مكّة.
- حدّثني موسى بن عبد الرّحمن المسروقيّ، قال: حدّثنا حسينٌ الجعفيّ، عن زائدة، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: يصلّون.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك بن مزاحمٍ، يقول في قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يعني: أهل مكّة، يقول: لم أكن لأعذّبكم وفيكم محمّدٌ. ثمّ قال: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: يؤمنون ويصلّون.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: وهم يصلّون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان اللّه ليعذّب المشركين وهم يستغفرون. قالوا: ثمّ نسخ ذلك بقوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين بن واقدٍ، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، والحسن البصريّ، قالا: قال في الأنفال: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فنسختها الآية الّتي تليها: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} إلى قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فقوتلوا بمكّة، وأصابهم فيها الجوع والحصر.
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصّواب قول من قال: تأويله: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمّد وبين أظهرهم مقيمٌ، حتّى أخرجك من بين أظهرهم؛ لأنّي لا أهلك قريةً وفيها نبيّها. وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنّهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرّون عليه، فهم للعذاب مستحقّون، كما يقال: ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ، يراد بذلك: لا أحسن إليك إذا أسأت إليّ ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنّك لا تسيء إليّ، وكذلك ذلك. ثمّ قيل: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} بمعنى: وما شأنهم وما يمنعهم أن يعذّبهم اللّه وهم لا يستغفرون اللّه من كفرهم فيؤمنوا به، وهم يصدّون المؤمنين باللّه ورسوله عن المسجد الحرام.
وإنّما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصّواب؛ لأنّ القوم أعني مشركي مكّة كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: اللّهمّ إن كان ما جاء به محمّدٌ هو الحقّ، فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ، فقال اللّه لنبيّه: ما كنت لأعذّبهم وأنت فيهم وما كنت لأعذّبهم لو استغفروا، وكيف لا أعذّبهم بعد إخراجك منهم وهم يصدّون عن المسجد الحرام، فأعلمه جلّ ثناؤه أنّ الّذين استعجلوا العذاب حائقٌ بهم ونازلٌ، وأعلمهم حال نزوله بهم، وذلك بعد إخراجه إيّاه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذاب في الآخرة، وهم مستعجلوه في العاجل، ولا شكّ أنّهم في الآخرة إلى العذاب صائرون، بل في تعجيل اللّه لهم ذلك يوم بدرٍ الدّليل الواضح على أنّ القول في ذلك ما قلنا.
وكذلك لا وجه لقول من وجّه قوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} إلى أنّه عنى به المؤمنين، وهو في سياق الخبر عنهم وعمّا اللّه فاعلٌ بهم، ولا دليل على أنّ الخبر عنهم قد تقضّى، وعلى أنّ ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله من أهله موجودٌ.
وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخٌ بقوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام} الآية؛ لأنّ قوله جلّ ثناؤه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} خبرٌ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخٌ، وإنّما يكون النّسخ للأمر والنّهي.
واختلف أهل العربيّة في وجه دخول أن في قوله: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} فقال بعض نحويّي البصرة: هي زائدةٌ هاهنا، وقد عملت كما عملت لا وهي زائدةٌ، وجاء في الشّعر:
لو لم تكن غطفانٌ لا ذنوب لها = إليّ لام ذوو أحسابها عمرا
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربيّة، وقال: لم تدخل أن إلاّ لمعنًى صحيحٍ؛ لأنّ معنى {وما لهم} ما يمنعهم من أن يعذّبوا، قال: فدخلت أن لهذا المعنى، وأخرج بـ لا، ليعلم أنّه بمعنى الجحد؛ لأنّ المنع جحدٌ. قال: ولا في البيت صحيحٌ معناها؛ لأنّ الجحد إذا وقع عليه جحدٌ صار خبرًا. وقال: ألا ترى إلى قولك: ما زيدٌ ليس قائمًا، فقد أوجبت القيام؟ قال: وكذلك لا في هذا البيت). [جامع البيان: 11/147-159] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون}.
يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء اللّه {إن أولياؤه} يقول: ما أولياء اللّه إلاّ المتّقون، يعني: الّذين يتّقون اللّه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} يقول: ولكنّ أكثر المشركين لا يعلمون أنّ أولياء اللّه المتّقون، بل يحسبون أنّهم أولياء اللّه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون} هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {إن أولياؤه إلاّ المتّقون} من كانوا وحيث كانوا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون} الّذين يخرجون منه، ويقيمون الصّلاة عنده، أي: أنت يعني النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ومن آمن بك). [جامع البيان: 11/159-160]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلّا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34)
قوله تعالى وهم يصدّون عن المسجد الحرام
- حدّثنا أبي حدّثنا عبيد اللّه بن موسى أخبرنا سلمة بن نبيطٍ عن الضّحّاك في قوله: وهم يصدّون عن المسجد الحرام يعني به: المشركين.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل حدّثنا أسباط عن السّدّيّ قوله: وهم يصدّون محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم عن المسجد الحرام.
- حدّثنا أبي ثنا الحسن بن الرّبيع ثنا ابن إدريس عن ابن إسحاق حدّثني يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير عن أبيه وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يجحدون آيات اللّه ويكذّبون رسله، وإن كان فيهم ما يدعون وهم يصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام.
- حدّثنا محمّد بن العبّاس ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة بن الفضل عن محمّد بن إسحاق حدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير عن عروة بن الزّبير قوله: وهم يصدّون عن المسجد الحرام أي من آمن باللّه وعبده، أنت ومن اتّبعك
قوله تعالى: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة بن سوّارٍ ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قوله: إن أولياؤه إلا المتّقون من كانوا حيث كانوا.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون هم أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ورضي عنهم.
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ ثنا أبو غسّان محمّد بن عمرٍو حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق حدّثنا محمّد بن جعفر بن الزّبير عن عروة بن الزبير وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون الّذين يخرجون منه ويقيمون الصّلاة عنده، أي: أنت ومن آمن بك.
قوله تعالى: ولكنّ أكثرهم لا يعلمون
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا محمّد بن العلاء ثنا عثمان بن سعيدٍ ثنا بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون يقول: لا يعقلون). [تفسير القرآن العظيم: 5/1694-1695]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو بكرٍ محمّد بن إبراهيم الشّافعيّ، ثنا إسحاق بن الحسن بن ميمونٍ، ثنا أبو حذيفة، ثنا سفيان، عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيمٍ، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جدّه، قال: جمع رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قريشًا فقال: «هل فيكم من غيركم؟» قالوا: فينا ابن أختنا، وفينا حليفنا، وفينا مولانا " فقال: «حليفنا منّا وابن أختنا منّا ومولانا منّا، إنّ أوليائي منكم المتّقون» هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه "). [المستدرك: 2/358]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ م) أنس بن مالك - رضي الله عنه -: قال: قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء... } الآية [الأنفال: 32] فنزلت {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم... } الآية [الأنفال: 33] فلما أخرجوه، نزلت {وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام... } الآية [الأنفال: 34] أخرجه البخاري ومسلم). [جامع الأصول: 2/146-147] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 32 - 34
أخرج البخاري، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو جهل بن هشام {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: ذكر لنا أنها أنزلت في أبي جهل بن هشام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} قال: نزلت في النضر بن الحارث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: (إن كان هذا هو الحق من عندك): قول النضر بن الحارث بن كلدة .
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: نزلت في النضر {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} ص الآية 16، (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) (الأنعام الآية 94) و(سأل سائل بعذاب واقع) (المعارج الآية 1) قال عطاء رضي الله عنه: لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله.
وأخرج ابن مروديه عن بريدة رضي الله عنه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا على فرس يوم أحد وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك لا شريك لك لبيك، فيقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قد قد، ويقولون: لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ويقولون: غفرانك غفرانك، فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنه: كان فيهم أمانان النّبيّ صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار {وما لهم ألا يعذبهم الله} قال: هو عذاب الآخرة وذلك عذاب الدنيا.
وأخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد صلى الله عليه وسلم أكرمه الله من بيننا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الآية، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللهم، فأنزل الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} إلى قوله {لا يعلمون}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن أبزي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأنزل الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فلما خرجوا أنزل الله {وما لهم ألا يعذبهم الله} الآية فأذن في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطية رضي الله عنه في قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} يعني المشركين حتى يخرجك منهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال: يعني المؤمنين ثم أعاد المشركين فقال {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: لو استغفروا وأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وفي قوله {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} يقول: وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال: بين أظهرهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: وما كان الله معذبهم وهو لا يزال الرجل منهم يدخل في الإسلام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال: وهم يدخلون في الإسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار رضي الله عنه قال: سئل سعيد بن جبير رضي الله عنه عن الاستغفار فقال: قال الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: يعملون على الغفران وعلمت أن ناسا سيدخلون جهنم ممن يستغفرون بألسنتهم ممن يدعي الإسلام وسائر الملل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن رضي الله عنهما في قوله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قالا: نسختها الآية التي تليها {وما لهم ألا يعذبهم الله} فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والحصر.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه، مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن أبي مالك رضي الله عنه {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} يعني أهل مكة {وما كان الله معذبهم} وفيهم المؤمنون يستغفرون، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة رضي الله عنه قال: إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم أما داءكم فذنوبكم وأما دواؤكم فالاستغفار.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن كعب رضي الله عنه قال: إن العبد ليذنب الذنب الصغير فيحتقره ولا يندم عليه ولا يستغفر منه فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود ويذنب الذنب فيندم عليه ويستغفر منه فيصغر عند الله عز وجل حتى يعفو له.
وأخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله علي أمانين لأمتي {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
وأخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم فأمان قبضه الله تعالى إليه وأمان بقي فيكم قوله {وما كان الله ليعذبهم} الآية
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني، وابن مردويه والحاكم، وابن عساكر عن أبي موسى رضي الله عنه قال: إنه قد كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بسبيله وأما الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في هذه الأمة أمانان: رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب أمان - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبقي أمان يعني الاستغفار.
وأخرج أحمد عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله.
وأخرج أحمد والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني
وأخرج أبو داود والنسائي، وابن ماجة، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النّبيّ قال: من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والنسائي، وابن ماجة عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا.
وأخرج الحكيم الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن استطعتم أن تكثروا من الاستغفار فافعلوا فإنه ليس شيء أنجح عند الله ولا أحب إليه منه.
وأخرج أحمد في الزهد عن مغيث بن أسماء رضي الله عنه قال: كان رجل ممن كان قبلكم يعمل بالمعاصي فبينما هو ذات يوم يسير إذ تفكر فيما سلف منه فقال: اللهم غفرانك، فأدركه الموت على تلك الحال فغفر له.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: طوبى لمن وجد في صحيفته بندا من الاستغفار.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه خمس مرات غفر له وإن كان عليه مثل زبد البحر.
وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله فصلى رسول الله فقام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك، ففرغ رسول الله من صلاته وقد انمخصت الشمس.
وأخرج الديلمي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله في الأرض أمانا: أنا أمان والاستغفار أمان وأنا مذهوب بي ويبقى أمان الاستغفار فعليكم بالاستغفار عند كل حدث وذنب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال: ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان: وهو الاستغفار، وقال للكافر {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}) (آل عمران الآية 179) فيميز الله أهل السعادة من أهل الشقاوة {وما لهم ألا يعذبهم الله} فعذبهم يوم بدر بالسيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ثم استثنى أهل الشرك فقال {وما لهم ألا يعذبهم الله}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير والنحاس وأبو الشيخ عن الضحاك {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} قال: المشركين الذين بمكة {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال: المؤمنين بمكة {وما لهم ألا يعذبهم الله} قال: كفار مكة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله {وما لهم ألا يعذبهم الله} قال: عذابهم فتح مكة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير رضي اله عنه {وما لهم ألا يعذبهم الله} وهم يجحدون آيات الله ويكذبون رسله وإن كان فيهم ما يدعون.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير رضي الله عنه في قوله {وهم يصدون عن المسجد الحرام} أي من آمن بالله وعبده أنت ومن اتبعك، {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده أي أنت ومن آمن بك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {إن أولياؤه إلا المتقون} قال: من كانوا حيث كانوا.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد والطبراني والحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: اجمع لي قومك فجمعهم فلما حضروا باب النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عمر رضي الله عنه عليه فقال: قد جمعت لك قومي، فسمع ذلك الأنصار فقالوا: قد نزل في قريش وحي، فجاء المستمع والناظر ما يقال لهم فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقام بين أظهرهم فقال: هل فيكم من غيركم قالوا: نعم فينا حليفنا، وابن أختنا وموالينا، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: حليفنا منا، وابن أختنا منا ومولانا منا أنتم تسمعون أن أوليائي منكم إلا المتقون فإن كنتم أولئك فذلك وإلا فانظروا ألا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالأثقال فيعرض عنكم.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أوليائي يوم القيامة المتقون وإن كان نسب أقرب من نسب فلا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم فأقول هكذا وهكذا إلا وأعرض في كل عطفيه.
وأخرج ابن مردويه والطبراني والبيهقي في "سننه" عن أنس رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلك فقال: كل تقي وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن أولياؤه إلا المتقون}.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن آل فلان ليسوا لي بأولياء وإنما وليي الله وصالح المؤمنين.
وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا). [الدر المنثور: 7/103-115]

تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وأخبرني عبد العزيز بن محمد عن ابن أخي ابن شهاب، عن ابن شهاب في قول الله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}، قال: المكاء مكاؤهم في أيديهم، والتصدية صغيرهم حين يستهزؤون بالمؤمنين وهم يصلون، فذكر الله أنها لم تكن صلاة الكفار عند البيت إلا مكاء وتصديةً حين يستهزؤون بالمؤمنين). [الجامع في علوم القرآن: 1/144]
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (حدثني بكر عن جعفر بن ربيعة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}، قال بكر: فجمع لي جعفر كفيه، ثم نفخ فيهما صفيرا، كما قال له أبو سلمة بن عبد الرحمن). [الجامع في علوم القرآن: 2/112-113]
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال في الأنفال: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}؛
فنسختها الآية التي تليها: {وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنت تكفرون}؛ فقتلوا بمكة وأصابهم الجوع والحصار). [الجامع في علوم القرآن: 3/74] (م)
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} قال المكاء التصفير والتصدية التصفيق). [تفسير عبد الرزاق: 1/259]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (وقال مجاهدٌ: {مكاءً} [الأنفال: 35] : «إدخال أصابعهم في أفواههم». {وتصديةً} [الأنفال: 35]: «الصّفير»). [صحيح البخاري: 6/61]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله وقال مجاهدٌ مكاءً إدخالهم أصابعهم في أفواههم وصله عبد بن حميد والفريابي من طريق بن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ. قوله وتصديةً الصّفير وصله عبد بن حميدٍ أيضًا كذلك تنبيهٌ وقع هذا في رواية أبي ذرٍّ متراخيًا عن الّذي قبله وعند غيره بعقبه وهو أولى وقد قال الفريابيّ حدّثنا ورقاء عن بن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ في قوله وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاء قال إدخالهم أصابعهم في أفواههم وتصديةً الصّفير يخلطون على محمّدٍ صلاته وقال أبو عبيدة المكاء الصفير والتصدية صفق الأكف ووصله ابن مردويه من حديث بن عمر مثله من قوله). [فتح الباري: 8/306-307]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
وقال مجاهد مكاء إدخال أصابعهم في أفواههم وتصدية الصفير ليثبتوك ليحبسوك
قال الفريابيّ ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله 25 الأنفال {وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاء} قال ادخالهم أصابعهم في أفواههم وتصدية الصفير يخلطون بذلك على محمّد صلاته). [تغليق التعليق: 4/216]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (وقال مجاهدٌ مكاءً إدخال أصابعهم في أفواههم: وتصدية الصّفير
أشار به إلى قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} (الأنفال: 35) وفسّر: المكاء، بقوله: إدخال أصابهم في أفواههم، قاله عبد الله بن عمرو ابن عبّاس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمّد بن كعب القرظيّ وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط وقتادة بن زيد بن أسلم: المكاء، الصفير وزاد مجاهد: وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم، والتصدية فسرها البخاريّ بقوله: الصفير، وكذا فسرها مجاهد رواه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه، وفسره أبو عبيدة بالتصفيق حيث قال: التصدية صفق الأكف، وقال ابن جرير بإسناده عن ابن عمر: المكاء الصفير والتصدية التصفيق، وقال ابن أبي حاتم بإسناده إلى ابن عبّاس في هذه الآية: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق). [عمدة القاري: 18/246]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (وقال مجاهد): في قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ} ({مكاء}) [الأنفال: 35] هو (إدخال أصابعهم في أفواههم، وتصدية الصفير}) كذا رواه عبد بن حميد عن مجاهد، وعن ابن عمر مما رواه ابن جرير المكاء الصفير والتصدية التصفيق، وعن ابن عباس مما رواه ابن أبي حاتم كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق). [إرشاد الساري: 7/133]
- قال محمدُ بنُ عبدِ الهادي السِّنْديُّ (ت: 1136هـ) : (باب قوله: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}
قوله: (وتصدية الصفير) وهو الصوت بالفم والشفتين، كذا في "المجمع" اهـ سندي). [حاشية السندي على البخاري: 3/51-52]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.
يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام الّذي يصلّون للّه فيه ويعبدونه، ولم يكونوا للّه أولياء، بل أولياؤه الّذين يصدّونهم عن المسجد الحرام وهم لا يصلّون في المسجد الحرام.
{وما كان صلاتهم عند البيت} يعني: بيت اللّه العتيق {إلاّ مكاءً} وهو الصّفير، يقال منه: مكا يمكو مكوًا ومكاءً، وقد قيل: إنّ المكو: أن يجمع الرّجل يديه ثمّ يدخلهما في فيه ثمّ يصيح، ويقال منه: مكت است الدّابّة مكاءً: إذا نفخت بالرّيح، ويقال: إنّه لا يمكو إلاّ استٌ مكشوفةٌ، ولذلك قيل للاست المكوة، سمّيت بذلك، ومن ذلك قول عنترة:
وحليل غانيةٍ تركت مجدّلاً = تمكو فريصته كشدق الأعلم
وقول الطّرمّاح:
فنحا لأولاها بطعنة محفظٍ = تمكو جوانبها من الإنهار
بمعنى: تصوّت.
وأمّا التّصدية فإنّها التّصفيق، يقال منه: صدّى يصدّي تصديةً، وصفّق وصفّح بمعنًى واحدٍ.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن موسى بن قيسٍ، عن حجر بن عنبسٍ: {إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: التّصفير، والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} المكاء: التّصفير، والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} يقول: كانت صلاة المشركين عند البيت مكاءً يعني التّصفير، وتصديةً يقول: التّصفيق.
- حدّثني محمّد بن عمارة الأسديّ، قال: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا فضيلٌ، عن عطيّة: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: التّصفيق والصّفير.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن قرّة بن خالدٍ، عن عطيّة، عن ابن عمر، قال: المكاء: التّصفيق، والتّصدية: الصّفير. قال: وأمال ابن عمر خدّه إلى جانبٍ.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن قرّة بن خالدٍ، عن عطيّة، عن ابن عمر: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: المكاء والتّصدية: الصّفير والتّصفيق.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا القاسم، قال سمعت محمّد بن الحسين يحدّث عن قرّة بن خالدٍ، عن عطيّة العوفيّ، عن ابن عمر، قال: المكاء: الصّفير، والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو عامرٍ، قال: حدّثنا قرّة، عن عطيّة، عن ابن عمر، في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: الصّفير، والتّصدية: التّصفيق. وقال قرّة: وحكى لنا عطيّة فعل ابن عمر، فصفّر وأمال خدّه وصفّق بيديه.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني بكر بن مضرٍ، عن جعفر بن ربيعة، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن بن عوفٍ، يقول في قول اللّه: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال بكرٌ: فجمع لي جعفرٌ كفّيه، ثمّ نفخ فيهما صفيرًا، كما قال له أبو سلمة.
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: المكاء: الصّفير، والتّصدية: التّصفيق.
- قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سلمة بن سابور، عن عطيّة، عن ابن عمر: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: تصفيرٌ وتصفيقٌ.
- قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة، عن ابن عمر مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا حبّويه أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: كانت قريشٌ يطوفون بالبيت وهم عراةٌ يصفّرون ويصفّقون، فأنزل اللّه: {قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده} فأمروا بالثّياب.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحمّانيّ، قال: حدّثنا شريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ، قال: كانت قريشٌ يعارضون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الطّواف يستهزئون به، يصفّرون به ويصفّقون، فنزلت: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً}.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ: {إلاّ مكاءً} قال: كانوا ينفخون في أيديهم، والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: إدخال أصابعهم في أفواههم، والتّصدية: التّصفيق، يخلطون بذلك على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله، إلاّ أنّه لم يقل صلاته.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: المكاء: إدخال أصابعهم في أفواههم، والتّصدية: التّصفيق. قال نفرٌ من بني عبد الدّار كانوا يخلطون بذلك كلّه على محمّدٍ صلاته.
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا طلحة بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: من بين الأصابع. قال أحمد: سقط عليّ حرفٌ وما أراه إلاّ الخذف والنّفخ والصّفير منها، وأراني سعيد بن جبيرٍ حيث كانوا يمكون من ناحية أبي قبيسٍ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق بن سليمان، قال: أخبرنا طلحة بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: كانوا يشبّكون بين أصابعهم ويصفّرون بها، فذلك المكاء. قال: وأراني سعيد بن جبيرٍ المكان الّذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قبيسٍ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا محمّد بن حربٍ، قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، في قوله: {مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: النّفخ، وأشار بكفّه قبل فيه، والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا المحاربيّ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قال: المكاء: الصّفير، والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، مثله.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: كنّا نحدّث أنّ المكاء التّصفيق بالأيدي، والتّصدية صياحٌ كانوا يعارضون به القرآن.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة: {مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: التّصفير، والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} والمكاء: الصّفير، على نحو طيرٍ أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز والتّصدية: التّصفيق.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: صفيرٌ كان أهل الجاهليّة يعلنون به. قال: وقال في المكاء أيضًا: صفيرٌ في أيديهم ولعبٌ.
وقد قيل في التّصدية: إنّها الصدّ عن بيت اللّه الحرام. وذلك قولٌ لا وجه له لأنّ التّصدية مصدرٌ من قول القائل: صدّيت تصديةً. وأمّا الصّدّ فلا يقال منه: صدّيت، إنّما يقال منه صددت، فإن شدّدت منها الدّال على معنى تكرير الفعل، قيل: صدّدت تصديدًا، إلاّ أن يكون صاحب هذا القول وجّه التّصدية إلى أنّه من صدّدت، ثمّ قلبت إحدى داليه ياءً، كما يقال: تظنّيت من ظنّنت، وكما قال الرّاجز:
تقضّي البازي إذا البازي كسر
يعني: تقضّض البازي، فقلب إحدى ضاديه ياءً، فيكون ذلك وجهًا يوجّه إليه.
ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل التّصدية:
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا طلحة بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} صدّهم عن بيت اللّه الحرام.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق بن سليمان، قال: أخبرنا طلحة بن عمرٍو، عن سعيد بن جبير: {وتصديةً} قال: التّصدية: صدّهم النّاس عن البيت الحرام.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وتصديةً} قال: التّصدية عن سبيل اللّه، وصدّهم عن الصّلاة وعن دين اللّه.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً} قال: ما كان صلاتهم الّتي يزعمون أنّها يدرأ بها عنهم إلاّ مكاءً وتصديةً، وذلك ما لا يرضى اللّه ولا يحبّ، ولا ما افترض عليهم ولا ما أمرهم به.
وأمّا قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فإنّه يعني العذاب الّذي وعدهم به بالسّيف يوم بدرٍ، يقول للمشركين الّذين قالوا: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء} الآية، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب: ذوقوا: أي اطعموا، وليس بذوقٍ بفمٍ، ولكنّه ذوقٌ بالحسّ، ووجود طعم ألمه بالقلوب. يقول لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون أنّ اللّه معذّبكم به على جحودكم توحيد ربّكم ورسالة نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي ما أوقع اللّه بهم يوم بدرٍ من القتل.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قال: هؤلاء أهل بدرٍ يوم عذّبهم اللّه.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} يعني أهل بدرٍ عذّبهم اللّه يوم بدرٍ بالقتل والأسر). [جامع البيان: 11/160-169]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
قوله تعالى: وما كان صلاتهم عند البيت
- حدّثنا أبي ثنا الحسين بن الرّبيع ثنا ابن إدريس عن ابن إسحاق وما كان صلاتهم عند البيت التي يدعون أنه يدفع بها عنهم إلا مكاءً وتصديةً وذلك ما لا يرضي اللّه.
قوله تعالى: إلا مكاء
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا أبو أسامة عن إدريس الأوديّ عن عطيّة عن ابن عمر قال: المكاء: الصّفير. وروي عن ابن عبّاسٍ ونبيط بن شريطٍ الأشجعيّ ومجاهدٍ في أحد قوليه، وسعيد بن جبيرٍ في أحد قوليه، وأبي رجاءٍ العطارديّ وحجر بن عنبس وقتادة ومحمّد بن كعبٍ وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ إلا مكاءً والمكاء: الصّفير على نحو طيرٍ أبيضٍ يقال له: المكاء، يكون بأرض الحجاز.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قوله: مكاءً إدخال أصابعهم في أفواههم.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو عبد اللّه الطّهرانيّ أنبأ حفص بن عمر ثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً قال: المكاء: مثل نفخ الصور.
- حدّثنا أبو هارون محمّد بن خالدٍ الخرّاز ثنا إسحاق بن سليمان ثنا طلحة بن عمرٍو عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً قال: كانوا يشبّكون أصابعهم قال: وأراني سعيد بن جبير المكان الذين يمكّون فيه في ناحية أبي قبيسٍ.
قوله تعالى: وتصدية
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو خلادٍ سليمان بن خلادٍ ثنا يونس بن محمّد المؤدّب ثنا يعقوب يعني: ابن عبد اللّه الأشعريّ حدّثنا جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ في قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً قال: كانت قريشٌ تطوف بالكعبة عراةً تصفر وتصفّق، والمكاء: الصّفير وإنّما شبّهوا بصفير الطّير وتصديةً التّصفيق.
وروي عن ابن عمر ومجاهدٍ في إحدى الرّوايات وابن أبزى ومحمّد بن كعبٍ وحجر بن عنبس وعطيّة العوفيّ: أنّهم قالوا: التصدية: التّصفيق.
وحكى ابن عمر: أنّهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفّقون ويصفّرون.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا الحجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قوله: التصدية قال: الصّفير، يخلطون بذلك كلّه على محمّدٍ- صلّى اللّه عليه وسلّم- صلاته.
- قرئ على يونس بن بن عبد الأعلى أنبأ ابن وهبٍ أخبرني عبد العزيز بن محمّدٍ عن أبي أخي ابن شهابٍ عن ابن شهابٍ وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاءً وتصديةً والتصدية: صفيرهم حين يستهزئون بالمؤمنين وهم يصلّون، فذكر اللّه تبارك وتعالى أنّها لم تكن صلاة الكفّار عند البيت إلا مكاءً وتصديةً، حين يستهزئون بالمؤمنين وهم يصلّون.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن حمّادٍ الطّهرانيّ ثنا حفص بن عمر ثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله: وتصديةً قال: طوافهم بالبيت على الشمال.
الوجه الرّابع:
- حدّثنا أبو هارون محمّد بن خلادٍ الخرّاز ثنا إسحاق بن سليمان ثنا طلحة بن عمرٍو عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: وتصديةً قال: صدّهم النّاس.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ- فيما كتب إليّ- ثنا أصبغ بن الفرج قال سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله: مكاءً وتصديةً قال: تصديةً عن سبيل اللّه، وصدّهم عن الصّلاة وعن دين اللّه.
قوله تعالى: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
- حدّثنا أبي ثنا عبد العزيز بن منيبٍ ثنا أبو معاذٍ عن عبيد بن سليمان عن الضّحّاك في قوله: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون يعني: أهل بدرٍ عذّبهم اللّه بالقتل والأسر.
- حدّثنا أبي ثنا ابن أبي عمر العدنيّ ثنا سفيان عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قال: عذاب أهل الإقرار بالسّيف، وعذاب أهل التّكذيب بالصّيحة والزّلزلة). [تفسير القرآن العظيم: 5/1695-1697]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله إلا مكاء قال هو إدخالهم أصابعهم في أفواههم يعني التصفير والتصدية التصفيق يخلطون بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته). [تفسير مجاهد: 262]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 35.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: كانت قريش يعارضون النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزءون ويصفرون ويصفقون فنزلت {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}.
وأخرج أبو الشيخ عن نبيط - وكان من الصحابة رضي الله عنه - في قوله {وما كان صلاتهم عند البيت} الآية، قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام وهم يصفرون.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والضياء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة تصفر وتصفق فأنزل الله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} قال: والمكاء الصفير وإنما شبهوا بصفير الطير وتصدية التصفيق وأنزل فيهم (قل من حرم زينة الله) (الأعراف الآية 32) الآية.
وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل {إلا مكاء وتصدية} قال: المكاء صوت القنبرة، والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة كان يصلي قائما بين الحجر والركن اليماني فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته، قال: وهل تعرف العرب ذلك ققال: نعم أما سمعت حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه يقول:
نقوم إلى الصلاة إذا دعينا * وهمتك التصدي والمكاء
وقال آخر من الشعراء في التصدية:
حتى تنبهنا سحيرا * قبل تصدية العصافير.
وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: المكاء الصفير، كان أحدهما يضع يده على الأخرى ثم يصفر.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {إلا مكاء وتصدية} قال: المكاء الصفير والتصدية التصفيق.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: المكاء الصفير والتصدية التصفيق.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه قال: المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم، والتصدية الصفير يخلطون بذلك كله على محمد صلى الله عليه وسلم صلاته.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه قال: المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز والتصدية التصفيق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله {إلا مكاء} قال: كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهن {وتصدية} قال: صدهم الناس.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال: كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال وهو قوله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} فالمكاء مثل نفخ البوق، والتصدية طوافهم على الشمال.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قال: يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر). [الدر المنثور: 7/115-118]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27 ربيع الثاني 1434هـ/9-03-2013م, 11:09 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي

التفسير اللغوي

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}


تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) )

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك...}
اجتمع نفر من قريش فقالوا: ما ترون في محمد (صلى الله عليه وسلم) ويدخل إبليس عليهم في صورة رجل من أهل نجد، فقال عمرو بن هشام: أرى أن تحبسوه في بيت وتطيّنوه عليه وتفتحوا له كوّة وتضيّقوا عليه حتى يموت. فأبى ذلك إبليس وقال: بئس الرأي رأيك، وقال أبو البختري بن هشام: أرى أن يحمل على بعير ثم يطرد به حتى يهلك أو يكفيكموه بعض العرب، فقال إبليس: بئس الرأي! أتخرجون عنكم رجلا قد أفسد عامّتكم فيقع إلى غيركم! فعلّه يغزوكم بهم. قال الفاسق أبو جهل: أرى أن نمشي إليه برجل من كل فخذ من قريش فنضربه بأسيافنا، فقال إبليس: الرأي ما رأى هذا الفتى، وأتى جبريل عليه السلام إلى
[معاني القرآن: 1/408]
النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، فخرج من مكّة هو وأبو بكر. فقوله {ليثبتوك}: ليحبسوك في البيت. {أو يخرجوك} على البعير {أو يقتلوك} ). [معاني القرآن: 1/409]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {ليثبتوك} فإن ابن عباس كان يقول: يحبسوك في بيت، يصير ذلك من الثباب في المكان). [معاني القرآن لقطرب: 621]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} أي يحبسوك. ومنه يقال: فلان مثبت وجعا: إذا لم يقدر على الحركة وكانوا أرادوا أن يحبسوه في بيت ويسدوا عليه بابه، ويجعلوا له خرقا يدخل عليه منه طعامه وشرابه. أو يقتلوه بأجمعهم قتلة رجل واحد. أو ينفوه.
و(المكاء): الصّفير. يقال: مكا يمكو. ومنه قيل للطائر: مكاء لأنه يمكو. أي يصفر.
و(التّصدية) : التصفيق. يقال: صدي إذا صفق بيده، قال الراجز:
ضنّت بخدّ وثنت بخدّ وإنّي من غرو والهوى أصدّي الغرو: العجب. يقال: لا غرو ممن كذا وكذا: أي لا عجب منه). [تفسير غريب القرآن: 179]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين}
المعنى: واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا. فأذكره اللّه جل ثناؤه نعمة ما أنعم عليه من النّصر والظفر يوم بدر ذلك فقال {وإذ يمكر بك الّذين كفروا} أي اذكر تلك الخلال.
{ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين}
لأن مكر الله إنما هو مجازاة ونصر للمؤمنين، فاللّه خير الماكرين). [معاني القرآن: 2/410]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [آية: 30]
يقال أثبته إذا حبسته
قال مجاهد أراد الكفار أن يفعلوا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه من مكة
وقال غيره اجتمعوا فقالوا نحبسه في بيت ونطعمه ونسقيه فيه أو نقتله جميعا قتل رجل واحد أو نخرجه فتكون بليته على غيرنا فعصمه الله عز وجل منهم
[معاني القرآن: 3/148]
وفي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس ليثبتوك هي ليوثقوك ح). [معاني القرآن: 3/149]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {لِيُثْبِتُوكَ} أي يحبسوك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 92]

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) )
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : ( {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلّا أساطير الأوّلين}
وقد دعوا بأن يأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن فلم يأتوا.
وقوله: {إن هذا إلّا أساطير الأوّلين}.
واحدتها أسطورة، يعنون ما سطّرة الأولون من الأكاذيب.
ثم قالوا:
{اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم (32) }). [معاني القرآن: 2/411]

تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك...}
في {الحق} النصب والرفع؛ إن جعلت {هو} اسما رفعت الحق بهو. وإن جعلتها عمادا بمنزلة الصلة نصبت الحق. وكذلك فافعل في أخوات كان، وأظنّ وأخواتها؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} تنصب الحق لأن {رأيت} من أخوات ظننت. وكل موضع صلحت فيه يفعل أو فعل مكان الفعل المنصوب ففيه العماد ونصب الفعل. وفيه رفعه بهو على أن تجعلها اسما، ولا بدّ من الألف واللام إذا وجدت إليهما السبيل. فإذا قلت: وجدت عبد الله هو خيرا منك وشرا منك أو أفضل منك، ففيما أشبه هذا الفعل النصب والرفع. النصب على أن ينوى الألف واللام، وإن لم يكن إدخالهما. والرفع على أن تجعل {هو} اسما؛ فتقول: ظننت أخاك هو أصغر منك وهو أصغر منك. وإذا جئت إلى الأسماء الموضوعة مثل عمرو، ومحمد، أو المضافة مثل أبيك، وأخيك رفعتها، فقلت: أظنّ زيدا هو أخوك، وأظنّ أخاك هو زيد، فرفعت؛ إذا لم تأت بعلامة المردود، وأتيت بهو التي هي علامة الاسم، وعلامة المردود أن يرجع كل فعل لم تكن فيه ألف ولام بألف ولام ويرجع على الاسم فيكون {هو}
[معاني القرآن: 1/409]
عمادا للاسم و(الألف واللام) عماد للفعل. فلمّا لم يقدر على الألف واللام ولم يصلح أن تنويا في زيد لأنه فلان، ولا في الأخ لأنه مضاف، آثروا الرفع؛ وصلح في (أفضل منك) لأنك تلقى (من) فتقول: رأيتك أنت الأفضل، ولا يصلح ذلك في (زيد) ولا في (الأخ) أن تنوى فيهما ألفا ولاما. وكان الكسائيّ يجيز ذلك فيقول: رأيت أخاك هو زيدا، ورأيت زيدا هو أخاك. وهو جائز كما جاز في (أفضل) للنية نية الألف واللام. وكذلك جاز في زيد، وأخيك. وإذا أمكنتك الألف واللام ثم لم تأت بهما فارفع؛ فتقول: رأيت زيدا هو قائم ورأيت عمرا هو جالس. وقال الشاعر:
أجدّك لن تزال نجي همّ =تبيت الليل أنت له ضجيع
ويجوز النصب في (ليت) بالعماد، والرفع لمن قال: ليتك قائما. أنشدني الكسائيّ:
ليت الشباب هو الرجيع على الفتى =والشيب كان هو البدئ الأوّل
ونصب في (ليت) على العماد ورفع في كان على الاسم. والمعرفة والنكرة في هذا سواء). [معاني القرآن: 1/410]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فأمطر علينا حجارةً من السّماء} مجازه أن كل شيء من العذاب فهو أمطرت بالألف وإن كان من الرحمة فهو مطرت.
[مجاز القرآن: 1/245]
{مكاءً وتصديةً}المكاء الصفير قال رجل يعني امرأته:
ومكابها فكأنما يمكو بأعصم عاقل
{وتصديهً} أي تصفيق بالأكف، قال: تصدية بالكف أي تصفيق، التصفيق والتصفيح والتصدية شئ واحد). [مجاز القرآن: 1/246]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً مّن السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ}
وقال: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} فنصب {الحقّ} لأن {هو} - والله أعلم - جعلت ههنا صلة في الكلام زائدة توكيدا كزيادة {ما}. ولا تزاد إلا في كل فعل لا يستغنى عن خبر، وليست {هو} بصفة لـ{هذا} لأنك لو قلت: "رأيت هذا هو" لم يكن كلاما ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة ولكنها تكون من صفة المضمرة في نحو قوله: {ولكن كانوا هم الظّالمين} و{تجدوه عند اللّه هو خيراً وأعظم أجراً} لأنك تقول "وجدته هو" و"أتاني هو" فتكون صفة، وقد تكون في هذا المعنى أيضاً غير صفة ولكنها تكون زائدة كما كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم فيرفع ما بعده إن كان ما قبله ظاهرا أو مضمرا في لغة لبني تميم في قوله: {إن كان هذا هو الحقّ} و{ولكن كانوا هم الظّالمون} و{تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظم أجرا} كما تقول "كانوا آباؤهم الظالمون" وإنما جعلوا هذا المضمر نحو قولهم "هو" و"هما" و"أنت" زائدا في هذا المكان ولم يجعل في مواضع الصفة لأنه فصل أراد أن يبين به أنه ليس بصفة ما بعده لما قبله ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر). [معاني القرآن: 2/26]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {فأمطر علينا حجارة} فإنهم يقولون: أمطرت السماء، ومطرت). [معاني القرآن لقطرب: 621]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : ( {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم}
القراءة على نصب {الحقّ} على خبر " كان " ودخلت " هو " للفصل.
وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب.
واعلم أن {هو} لا موضع لها في قولنا، وأنها بمنزلة " ما " المؤكدة.
ودخلت ليعلم أن الحق ليس بصفة لهذا أو أنه خبر، ويجوز هو الحق من عندك ولا أعلم أحدا قرأ بها.
ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها ولكن القراءة سنّة لا يقرأ فيها إلا بقراءة مروية.
وقوله: {فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم}.
المعنى: واذكر إذ قالوا هذا القول، وقالوا على وجه الدفع له وقالوه والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم. فأعلم الله إنّه لم يكن ليعذبهم ورسوله بين أظهرهم.
فقال:
({وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33) }). [معاني القرآن: 2/411- 412]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [آية: 32]
قال مجاهد الذي قال هذا النضر بن الحارث بن كلدة
ويروى أن هذا قيل بمكة ويدل على هذا قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}
قيل في هذه الآية أقوال"
روي عن ابن عباس أن النضر بن الحارث قال هذا يريد أهلكنا ومحمدا ومن معه عامة فأنزل الله: {وما كان ليعذبهم وأنت فيهم} إلى: {وهم يستغفرون} أي ومنهم قوم يستغفرون يعني المسلمين وما لهم ألا يعذبهم الله خاصة فعذبهم بالسيف بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وفي ذلك نزلت {سأل سائل بعذاب واقع}
[معاني القرآن: 3/149]
وروى الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن المستفتح يوم بدر أبو جهل وأنه قال اللهم اخز أقطعنا للرحم فهذا استفتاحه
وقال عطية في قوله جل وعز: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} يعني المشركين حتى يخرجه عنهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يعني المؤمنين قال ثم رجع إلى الكفار فقال وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام
قال أبو جعفر وهذا قول حسن ومعناه وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله وأنت بين أظهرهم
[معاني القرآن: 3/150]
وكذلك سنته في الأمم). [معاني القرآن: 3/151]

تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) )
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : ( {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون})
أي: وما كان اللّه ليعذبهم ومنهم من يؤول أمره إلى الإسلام). [معاني القرآن: 2/411-412 ]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( ثم قال جل وعز: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [آية: 33]
وعاد الضمير على من آمن منهم ح). [معاني القرآن: 3/151]

تفسير قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) )
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون}
[معاني القرآن: 2/26]
وقال: {وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه} فـ{أن} ههنا زائدة - والله أعلم - وقد عملت وقد جاء في الشعر:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها = إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا
). [معاني القرآن: 2/27]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (قال: ({وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلّا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون})
المعنى: أي شيء لهم في ترك العذاب، أي في دفعه عنهم.
{وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه}).
المعنى: وهم يصدّون عن المسجد الحرام أولياءه وما كانوا أولياءه.
{إن أولياؤه إلّا المتّقون}.
المعنى: ما أولياؤه إلا المتقون.
فأعلم الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه لم يكن ليعذبهم بالعذاب الذي وقع بهم من القتل والسبي وهو بين أظهرهم، ولا ليوقع ذلك العذاب بمن يؤول أمره إلى الإسلام منهم، وأعلمه إنّه لا يدفع العذاب عن جملتهم الذي أوقعه بهم، ثم أعلم أنهم ما كانوا مع صدّهم أولياء المسجد الحرام وأولياء اللّه، إنهم إنما كان تقربهم إلى الله جلّ وعزّ بالصفير والتصفيق فقال جلّ وعزّ: ( {وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون})
ف{المكاء}: الصفير، و{التصدية}: التصفيق). [معاني القرآن: 2/412]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {وما لهم ألا يعذبهم الله} [آية: 34]
أي إذا خرجت من بين أظهرهم
ويجوز أن يكون معناه وما لهم ألا يعذبهم الله في القيامة
وقيل معناه وما كان الله معذبهم لو استغفروه على غير إيجاب لهم كما تقول لا أغضب عليك أبدا وأنت تطيعني أي لو أطعتني لم أغضب عليك على غير إيجاب منك لطاعته
وقال مجاهد معناه وما كان الله عذبهم وهم مسلمون
قال أبو جعفر ومعنى هذا وما كان الله معذبهم ومنهم من يؤول أمره إلى الإسلام
وروي عنه وفي أصلابهم من يستغفر). [معاني القرآن: 3/151]

تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) )
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فذوقوا} مجازه: فجرّبوا وليس من ذوق الفم). [مجاز القرآن: 1/246]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}
وقال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصديةً} نصب على خبر {كان} ). [معاني القرآن: 2/27]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {إلا مكاء وتصدية} فإنهم يقولون: مكا يمكو مكاء، وهو أن يدخل يديه في فمه جميعًا ثم يصيح؛ ويقال: مكت است الدابة: إذا نفخت بالريح، ولا يقال: تمكوا إلا لاست مفتوحة مكشوفة؛ وتسمى الاست: المكوة، من الدابة وغيرها.
وقال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا = تمكو فريصته كشدق الأعلم
تمكوا: يخرج منها الريح.
وقال الأخر:
ومكا بها وكأنما يمكو بأعصم عاقل
وقال الطرماح:
[معاني القرآن لقطرب: 621]
فنحا لأولها بطعنة محفظ = تمكو جوانبها من الإنبهار
وقال الراجز:
يا أير عير لازق بباب = تمكو استه من حذر الغراب
أي تصوت.
وكان ابن عباس رحمه الله يقول في {مكاء وتصدية} قال: كان أحدهم يصفر كما يصفر المكاء، ثم يضع يده عند فمه ثم يصفر فيسمع صوته بحراء.
وأما التصدية: فالتصفيق باليدين في قول ابن عباس رحمه الله.
وقالوا: التصدية أن تصدي الرجل فيصفر ويصفق معًا). [معاني القرآن لقطرب: 622]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {مكاء وتصدية}: {المكاء}: فيما ذكروا الصفير و{التصدية}: التصفيق). [غريب القرآن وتفسيره: 158]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : ( {وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}
فالمكاء الصفير، والتصدية التصفيق). [معاني القرآن: 2/412]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} [آية: 35]
روى عطية عن ابن عمر أنه قال المكاء الصفير والتصدية التصفيق
قال ابن شهاب يستهزئون بالمؤمنين
وروى ابن أبي جريج وابن أبي نجيح أنه قال المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواهم والتصدية الصفير يريدون أن يشغلوا بذلك محمدا عن الصلاة
قال أبو جعفر والمعروف في اللغة ما روي عن ابن عمر
حكى أبو عبيدة وغيره انه يقال مكا يمكو ومكاء إذا صفر وصدى يصدي تصدية إذا صفق
[معاني القرآن: 3/152]
قال أبو جعفر ويبعد قول ابن زيد التصدية صدهم عن دين الله لأن الفعل من هذا صددت إلا أن تقلب إحدى داليه ياء مثل تظنيت من ظننت وكذا ما روي عن سعيد بن جبير التصدية صدهم عن بيت الله). [معاني القرآن: 3/153]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( {إلا مكاء وتصدية}قال: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق). [ياقوتة الصراط: 237]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {المُكاء} الصفير، والمُكَاء: طائر.
و{التصديَة} التصفيق). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 92]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {المُكَاء}: الصفير
{التَصْدِيَة}: التصفيق). [العمدة في غريب القرآن: 143]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 07:30 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }


تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قال أبو فَيدٍ مُؤَرِّجُ بنُ عمروٍ السَّدُوسِيُّ (ت: 195هـ) : (وإخوة عبد مناف بن قُصي:
...
ومنهم: النَّضر بن الحَارث بن عَلقمة بن كلدة، الرَّهينة التَّي رضيت بها قَيْس من دمائها، قتل يوم بدر كافرا، ضرب النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنقه بالصَّفراء. وكان ذا قدر في قُريش، فيه نزلت هذه الآية: {إِنْ كَانَ هَذْا هُوْ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [سورة الأنفال: 32] ). [حَذْفٍ مِنْ نَسَبِ قُرَيْشٍ: 48]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (واعلم أن هاهنا حروفاً تنتصب بعدها الأفعال وليست الناصبة، وإنما أن بعدها مضمرةٌ. فالفعل منتصب بأن وهذه الحروف عوضٌ منها، ودالةٌ عليها.
فمن هذه الحروف الفاء، والواو، وأو، وحتى، واللام المكسورة.
فأما اللام فلها موضعان: أحدهما نفي، والآخر إيجاب. وذلك قوله: جئتك لأكرمك وقوله عز وجل: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. فهذا موضع الإيجاب.
وموضع النفي: ما كان زيد ليقوم. وكذلك قوله تبارك وتعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين} {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} ). [المقتضب: 2/6-7] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ({وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} قال: في الدنيا. مثل {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}.
{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} قال: سلقه وأج.. واحد.
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} قال: الإحسان أن يأتي بالأمر على ما أمر به). [مجالس ثعلب: 106-107]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( ومن الأضداد أيضا قول العرب للرجل: ما ظلمتك وأنت تنصفني، يحتمل معنيين متضادين: أحدهما ما ظلمتك وأنت أيضا لم تظلمني؛ بل مذهبك إنصافي، واستعمال ما أستعمله من ترك الظلم لك، والجنف عليك. والمعنى الآخر: ما ظلمتك لو أنصفتني؛ فأما إذ لم تنصفني فإني أكافئك بمثل فعلك؛ وقول الله عز وجل: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}، يفسر تفسيرين متضادين: أحدهما: وما كان الله معذبهم وأولادهم يستغفرون؛ أي قد وقع له في علمه جل وعز أنه يكون لهم ذرية تعبده وتستغفر لهم، فلم يكن ليوقع بهم عذابا يجتث أصلهم؛ إذ علم ما علم من صلاح أولادهم، وعبادتهم له جل وعلا. والتفسير الآخر: وما كان الله معذبهم لو كانوا يستغفرن؛ فأما إذ كانوا لا يستغفرون؛ فإنهم مستحقون لضروب العذاب التي لا يقع معها البوار والاصطلام، بل
تكون كما وقع بهم من عذاب الجدب في السنين التي لحقتهم، فأكلوا فيها الجيف والعلهز. وكعذاب السيف والأسر الذي لحقهم يوم بدر وغيره، والله أعلم بحقيقة ذلك كله وأحكم). [كتاب الأضداد: 261-262]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) }
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ( (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ).
قال: قال الكسائي: هذا استثناء يعرض. قال: ومعنى يعرض استثناء منقطع. ومن قال ظلم قال: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} وهو الذي منع القرى فرخص له أن يذكر مظلمته.
وقوله عز وجل: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} قال: من تدخل في الجحد على النكرة في الابتداء، ولا تدخل في المعارف، وكأنه قال: أن نتخذ من دونك أولياء. دخولها وخروجها واحد. ومن قال أن نتخذ،
ثم أدخلها على المفعول الثاني فهو قبيح، وهو جائز، ما كان ينبغي لآبائنا ولأوليائنا أن يفعلوا هذا.
وقوله عز وجل: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ} الآية. قال: هذا ستر ستره الله على الإسلام، أنه لا يقبل في الزنى إلا أربعة. ويقول بعضهم: لأن الحد يقام على اثنين: على الرجل والمرأة.
وفي قوله عز وجل: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} يوم القيامة وهم قد كفروا في الدنيا، ما لهم ألا يقع بهم العذاب. وموضع أن رفع.
{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} يقولون: لا صلة. ويقول الفراء: ما ينبغي لنا. فجاء بها على المعنى، لأنه معنى ينبغي). [مجالس ثعلب: 101-102] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ( {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} قال: في الدنيا. مثل {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}.
{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} قال: سلقه وأج.. واحد.
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} قال: الإحسان أن يأتي بالأمر على ما أمر به). [مجالس ثعلب: 106-107] (م)

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قال أبو فَيدٍ مُؤَرِّجُ بنُ عمروٍ السَّدُوسِيُّ (ت: 195هـ) : (حُلَفَاءُ بَنِي هَاشِم
...
ومنهم: قَيْسُ بن مخرَمة بن عبد المُطَّلب بن عبد منافٍ، وهو الَّذي كان يمكُو ويُصفق حول البيت فيسمع من حراء. فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية: {وَمَا كان صَلاَتُهُمْ عِنْدَ البَيْت إِلاَّ مُكَاءَ وَتَصْدِيَةً} ). [حَذْفٍ مِنْ نَسَبِ قُرَيْشٍ: 27]
قال محمد بن المستنير البصري (قطرب) (ت:206هـ): (ويقال: مكت است الدابة تمكو مكاء بالريح، ولا تمكو إلا مفتوحة، قال الراجز:
يا أير عير لازق بباب
تمكو استه من حذر الغراب
أي: تصوت.
وقال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا = تمكو فريصته كشدق الأعلم
وقال الله تعالى: {إلا مكاء وتصدية}، المكاء: ضرب من التصفير، كانوا يفعلونه في الجاهلية). [الفرق في اللغة: 67-68]
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وما كان من الأصوات اسما موضوعا فأكثر ما جاء ممدودا مضموما أوله وربما كسر، من ذلك الدعاء والرغاء والبكاء والمكاء وهو الصفير). [المقصور والممدود: 7]
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (والمكاء وهو الصفير). [المقصور والممدود: 89]
قال أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني (ت: 213هـ): (قال مَعْروفٌ: مَكَت تَمْكُو مُكاء.
وهو الصَّفِير، وهو قول عَنْتَرَة:
.........تَمْكُو فَرِيصَتُه). [كتاب الجيم: 3/243]
قال عبدُ الملكِ بنُ قُرَيبٍ الأصمعيُّ (ت: 216هـ) : (ويقال: مكت است الدابة: إذا صوتت، والمكاء: الصفير). [كتاب الفَرْق: 78]

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (أبو عبيدة: التصدية التصفيق والصوت. وفعلت منه صددت أصد ومنه قوله تبارك وتعالى: {إذا قومك منه يصدون} أي يعجون ويضجون، فحول إحدى الدالين ياء. وقال أيضًا: {إلا مكاء وتصدية} ). [الغريب المصنف: 3/656]
قالَ يعقوبُ بنُ إسحاقَ ابنِ السِّكِّيتِ البَغْدَادِيُّ (ت: 244هـ) : (ويقال مكا يمكو مكوا ومكاء إذا جمع يديه ثم صفر فيهما قال الله جل وعز: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} وقد مكيت يده تمكى مكى إذا مجلت من العمل ويقال مجلت تمجل ومجلت تمجل قال وسمعتها من الكلابي). [إصلاح المنطق: 203]

قال أبو عليًّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القَالِي (ت: 356هـ) : (الكلام على قلب آخر المضاعف إلى الياء
وقال أبو عبيدة: العرب تقلب حروف المضاعف إلى الياء فيقولون: تظنّيت، وإنما هو تظنّنت، قال العجاج:
تقضى البازي إذا البازي كسر
وإنما هو تقضّض من الانقضاض، وقال الأصمعي، هو تفعّل من الانقضاض فقلب إلى الياء كما قالوا سرّيّة من تسرّرت، وقال أبو عبيدة: رجل ملب وإنما هو من ألببت، قال المضرّب بن كعب:
فقلت لها فيئي إليك فإنّني = حرامٌ وإنّي بعد ذاك لبيب
بعد ذاك أي مع ذاك، ولبيب: مقيم، وقوله عز وجل: {وقد خاب من دسّاها} [الشمس: 10] إنما هو من دسّست، وقال يعقوب: سمعت أبا عمرو، يقول: لم يتسنّ: لم يتغيّر، وهو من قوله: {من حمإٍ مسنونٍ} [الحجر: 26] فقلت لم يتسنّ من ذوات الياء، ومسنون من ذوات التضعيف، فقال: هو مثل تظنيت، وقال أبو عبيدة: التّصدية: التصفيق، وفعلت منه: صددت، قال الله عز وجل: {إذا قومك منه يصدّون} [الزخرف: 57] أي يعجّون وقال أيضًا: {إلا مكاء وتصّديةً} وقال العتابي: قصيت أظفاري بمعنى قصصتها). [الأمالي: 2/171] (م)

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذ يمكر بك الّذين كفروا الآية، يشبه أن يكون قوله وإذ معطوفا على قوله إذ أنتم قليلٌ [الأنفال: 26]، وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله رسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم، الحديث المشهور، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية، والمكر المخاتلة والتداهي، تقول: فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلا وتسترا بما يريد، ويقال أصل المكر الفتل، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم: ممكورة، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديما من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكرا وما استسروا به هو المكر، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك، قال: يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟
قال: ربي، قال: إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو يا عم يستوصي بي خيرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى
اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلدا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى، هذا الرأي لا أرى غيره. فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيثورون به، فلما قام رأوا عليا فقالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدري. وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون، قالوا محمدا، قال إني رأيته الآن جائيا من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليا فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار،
ومعنى ليثبتوك ليسجنوك فتثبت، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ليوثقوك، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك.
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني «ليثّبتوك» وهذه أيضا تعدية بالتضعيف، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «ليبيتوك» من البيات، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة، وقال أبو حاتم معنى ليثبتوك أي بالجراحة، كما يقال أثبتته الجراحة، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحدا، وقوله تعالى: ويمكر اللّه معناه يفعل أفعالا منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب، وقوله خير الماكرين أي أقدرهم وأعزهم جانبا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو أحد). [المحرر الوجيز: 4/ 171-173]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين (31) وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ (32)
الضمير في عليهم عائد على الكفار، و «الآيات» هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله تتلى، وقد سمعنا يريد وقد سمعنا هذا المتلو لو نشاء لقلنا مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم، أي قصصهم المكتوبة المسطورة، وأساطير جمع أسطورة، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري، لأنه كان يجيء أساطر دون ياء، هذا هو قانون الباب، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صياريف، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيه آيات من كتاب الله، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل وكان أسره المقداد، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أغن المقداد من فضلك»، فقال المقداد: هذا الذي أردت، فضرب عنق النضر، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبرا ثلاثة نفر، المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا وهم عظيم في خبر المطعم، فقد كان مات قبل يوم بدر، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له يعني أسرى بدر). [المحرر الوجيز: 4/ 174-175]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك الآية، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره، وفيه نزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم، لأن النضر كان فيهم موسوما بالنبل والفهم مسكونا إلى قوله، فكان إذا قال قولا قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبدا بعلمائهم وفقهائهم، والمشار إليه بـ«هذا» هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة، وعميت بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل، ويجوز في العربية رفع الحقّ على أنه خبر هو والجملة خبر كان، قال الزجّاج: ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقّ» على أن يكون خبر «كان» ويكون هو فصلا، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بأن الذي بعده خبر ليس بصفة. وفأمطر إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويعارض هذه قوله هذا عارضٌ ممطرنا [الأحقاف: 24] لأنهم ظنوها سحابة رحمة، وقولهم من السّماء مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّه ويمنه). [المحرر الوجيز: 4/ 175-176]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34)
قالت فرقة: نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى، وقال ابن أبزى: نزل قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم بمكة إثر قولهم أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ [الأنفال: 32] ونزل قوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله وما لهم إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم، أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم، قال: أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم» بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن، واختلفوا في معنى قوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله معذّبهم يعود على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضا ما مقتضاه: أن يقال الضميران عائدان على الكفار، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك، ويقولون لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين، كون
الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة، وقال قتادة: الضمير للكفار، وقوله وهم يستغفرون، جملة في موضع الحال أن لو كانت، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وقال الزجّاج ما معناه، إن الضمير في قوله وهم عائد على الكفار.
والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر، فالمعنى: وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وحكاه الطبري عن ابن عباس.
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي: المراد بقوله وهم يستغفرون ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين، فالمعنى: وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون، فنسب الاستغفار إليهم، إذ ذريتهم منهم، وذكره مكي ولم ينسبه، وفي الطبري عن فرقة أن معنى يستغفرون يصلون، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة،
وقوله عز وجل: وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه توعد بعذاب الدنيا، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن» في موضع نصب، وقال الطبري: تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا، والظاهر في قوله وما أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة، ويصح أن تكون ما نافية ويكون القول إخبارا، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون، وقوله وهم يصدّون على التأويلين جملة في موضع الحال، ويصدّون في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم، فهو متعدّ كما قال الشاعر: [الوافر]
صددت الكأس عنا أمّ عمرو
وقد تجيء صد عير متعدّ كما أنشد أبو علي: [البسيط]
صدت خليدة عنّا ما تكلّمنا
والضمير في قوله أولياؤه عائد على الله عز وجل من قوله يعذّبهم اللّه، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، روي الأخير عن الحسن، والضمير الآخر تابع للأول، وقوله ولكنّ أكثرهم لا يعلمون معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه، وقوله أكثرهم ونحن نجد كلهم بهذه الصفة، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه حكى سيبويه من قولهم: قل من يقول ذلك، وهم يريدون لا يقوله أحد.
وإما أن يقول: إنه أراد بقوله أكثرهم أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوما قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله أكثرهم وكذلك كانت حال مكة وأهلها، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن: إن قوله وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه، ناسخ لقوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ). [المحرر الوجيز: 4/ 177-180]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
قرأ الجمهور «وما كان صلاتهم» بالرفع «عند البيت إلا مكاء» بالنصب «وتصدية» كذلك، وروي عن عاصم أنه قرأ: «صلاتهم» بالنصب «إلا مكاء وتصدية» بالرفع، ورويت عن سليمان الأعمش بخلاف عنه فيما حكى أبو حاتم، وذكر أبو علي عن الأعمش أنه قال في قراءة عاصم: أفإن لحن عاصم تلحن أنت؟
قال أبو الفتح: وقد روي الحرف كذلك عن أبان بن تغلب، قال قوم: وهذه القراءة خطأ لأنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة، قال أبو حاتم: فإن قيل إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس معرفا ومنكرا واحد في التعريف، قيل إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، كما قال حسان: [الوافر].
كأنّ سبيئة من بيت رأس = يكون مزاجها عسل وماء
ولا يقاس على ذلك، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي: وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء، وأخطأ في ذلك، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث، ومنه قوله تعالى: وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود: 67] وقوله فانظر كيف كان عاقبة مكرهم [النمل: 51] وكيف كان عاقبة المفسدين [الأعراف: 86- 103، النمل: 14] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور،
فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر، ومنه قول عنترة: [الكامل]
وخليل غانية تركت مجدلا = تمكو فريصته كشدق الأعلم
ومنه قول الشاعر:
فكأنما يمكو بأعصم عاقل = ... ... ... ...
يصف رجلا فر به حيوان ومنه قول الطرماح: [الكامل]
فنحا لأولاها بطعنة محفظ = تمكو جوانبها من الإنهار
ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي: فالهمزة في مكاءً منقلبة عن واو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده، ووزنه فعّال بشد
العين كخطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «إلا مكا» بالقصر، و «التصدية» عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق، وقتادة بأنه الضجيج والصياح، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع، ومن قال التصفيق قال: إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، و «التصدية» يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت، ومنه قول الطرماح يصف الأروية: [الطويل]
لها كلما ريعت صداة وركدة = بمصران أعلى ابني شمام البوائن
فيلتئم على هذا الاشتقاق قول من قال: هو التصفيق، وقول من قال الضجيج، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه، ويمكن أن تكون «التصدية» من صد يصد استعمل الفعل مضعفا للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف، وذلك نحو قوله وغلّقت الأبواب [يوسف: 23] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلا وتكملة وغير ذلك، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل، مثل قول الشاعر: [الرجز] بات ينزي دلوه تنزّيا وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء «تصدية»، فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضا على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى: إذا قومك منه يصدّون [الزخرف: 57] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن «المكاء والتصدية» إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقطع عليه وعلى المؤمنين قراءتهم وصلاتهم ويخلط عليهم، فكان المصلي إذا قام يقرأ من المؤمنين اكتنفه من الكفار عن يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته).[المحرر الوجيز: 4/ 180-185]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:06 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:06 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين (30)}
قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وقتادة: {ليثبتوك} [أي]: ليقيّدوك.
وقال عطاءٌ، وابن زيدٍ: ليحبسوك.
وقال السّدّيّ: "الإثبات". هو الحبس والوثاق.
وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء، وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوءٍ.
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريج، قال عطاءٌ: سمعت عبيد بن عمير يقول: لمّا ائتمروا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له عمّه أبو طالبٍ: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: "يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني"، فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربّي"، قال: نعم الرّبّ ربّك، استوص به خيرًا فقال: "أنا أستوصي به؟ ! بل هو يستوصي بي"
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثني محمّد بن إسماعيل البصريّ، المعروف بالوساوسيّ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي روّاد عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن عبيد بن عميرٍ، عن المطّلب بن أبي وداعة، أنّ أبا طالبٍ قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ما يأتمر بك قومك؟ قال: "يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني". فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربّي"، قال: نعم الرّبّ ربّك، فاستوص به خيرًا، "قال: أنا أستوصي به؟! بل هو يستوصي بي". قال: فنزلت: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الآية
وذكر أبي طالبٍ في هذا، غريبٌ جدًّا، بل منكرٌ؛ لأنّ هذه الآية مدنيّةٌ، ثمّ إنّ هذه القصّة واجتماع قريشٍ على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النّفي أو القتل، إنّما كان ليلة الهجرة سواءً، وكان ذلك بعد موت أبي طالبٍ بنحوٍ من ثلاث سنين لمّا تمكّنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمّه أبي طالبٍ، الّذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه. والدّليل على صحّة ما قلنا: ما رواه الإمام محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب "المغازي" عن عبد اللّه بن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: وحدّثني الكلبيّ، عن باذان مولى أمّ هانئٍ، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ نفرًا من قريشٍ من أشراف كلّ قبيلةٍ، اجتمعوا ليدخلوا دار النّدوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخٍ جليلٍ، فلمّا رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخٌ من نجدٍ، سمعت أنّكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل، ادخل فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرّجل، واللّه ليوشكنّ أن يواثبكم في أمركم بأمره. قال: فقال قائلٌ منهم: احبسوه في وثاقٍ، ثمّ تربّصوا به ريب المنون، حتّى يهلك كما هلك من كان قبله من الشّعراء: زهيرٌ والنّابغةٌ، إنّما هو كأحدهم، قال: فصرخ عدوّ اللّه الشّيخ النّجديّ فقال: واللّه ما هذا لكم برأيٍ، واللّه ليخرجنّه ربّه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكنّ أن يثبوا عليه حتّى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم. قال: فانظروا في غير هذا.
قال: فقال قائلٌ منهم: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنّه إذا خرج لن يضرّكم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشّيخ النّجديّ: واللّه ما هذا لكم برأيٍ، ألم تروا حلاوة [قوله] وطلاوة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ واللّه لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب، ليجتمعنّ عليكم ثمّ ليأتينّ إليكم حتّى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق واللّه، فانظروا بابًا غير هذا.
قال: فقال أبو جهلٍ، لعنه اللّه: واللّه لأشيرنّ عليكم برأيٍ ما أراكم تصرمونه بعد، ما أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كلّ قبيلةٍ غلامًا شابًّا وسيطًا نهدًا، ثمّ يعطى كلّ غلامٍ منهم سيفًا صارمًا، ثمّ يضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل [كلّها] فلا أظنّ هذا الحيّ من بني هاشمٍ يقوون على حرب قريشٍ كلّها. فإنّهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا وقطعنا عنّا أذاه.
قال: فقال الشّيخ النّجديّ: هذا واللّه الرّأي. القول ما قال الفتى لا رأي غيره، قال: فتفرّقوا على ذلك وهم مجمعون له
فأتى جبريل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمره ألّا يبيت في مضجعه الّذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم. فلم يبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بيته تلك اللّيلة، وأذن اللّه له عند ذلك بالخروج، وأنزل اللّه عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال" يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين} وأنزل [اللّه] في قولهم: "تربّصوا به ريب المنون، حتّى يهلك كما هلك من كان قبله من الشّعراء"، {أم يقولون شاعرٌ نتربّص به ريب المنون} [الطّور: 30] وكان ذلك اليوم يسمّى "يوم الزّحمة" للّذي اجتمعوا عليه من الرّأي
وعن السّدّيّ نحو هذا السّياق، وأنزل اللّه في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذًا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} [الإسراء: 76].
وكذا روى العوفي، عن ابن عبّاسٍ. وروي عن مجاهدٍ، وعروة بن الزّبير، وموسى بن عقبة، وقتادة، ومقسم، وغير واحدٍ، نحو ذلك.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينتظر أمر اللّه، حتّى إذا اجتمعت قريشٌ فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل، عليه السّلام، فأمره ألّا يبيت في مكانه الّذي كان يبيت فيه فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عليّ بن أبي طالبٍ، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجّى ببرد له أخضر، ففعل. ثمّ خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنةٍ من ترابٍ، فجعل يذرها على رؤوسهم، وأخذ اللّه بأبصارهم عن نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يقرأ: {يس والقرآن الحكيم} إلى قوله: {فأغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس: 1-9].
وقال الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ: روي عن عكرمة ما يؤكّد هذا
وقد روى [أبو حاتم] ابن حبّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد اللّه بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: دخلت فاطمة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك يا بنيّة؟ " قالت: يا أبت، [و] ما لي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريشٍ في الحجر يتعاقدون باللّات والعزّى ومناة الثّالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلّا من قد عرف نصيبه من دمك. فقال: "يا بنيّة، ائتني بوضوء". فتوضّأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ خرج إلى المسجد. فلمّا رأوه قالوا: إنّما هو ذا فطأطؤوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم. فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبضةً من ترابٍ فحصبهم بها، وقال: "شاهت الوجوه". فما أصاب رجلًا منهم حصاة من حصياته إلّا قتل يوم بدرٍ كافرًا.
ثمّ قال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه، ولا أعرف له علة
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري، عن مقسم مولى ابن عبّاسٍ أخبره عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} قال: تشاورت قريشٌ ليلةً بمكّة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، فبات عليٌّ رضي اللّه عنه على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه، فلمّا رأوا عليًّا ردّ اللّه تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصّا أثره، فلمّا بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن جعفر بن الزّبير، عن عروة بن الزّبير في قوله: {ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين} أي: فمكرت بهم بكيدي المتين، حتّى خلّصتك منهم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 43-46]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأوّلين (31) وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ (32) وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33)}
يخبر تعالى عن كفر قريشٍ وعتوّهم وتمرّدهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته حين تتلى عليهم أنّهم يقولون: {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} وهذا منهم قولٌ لا فعلٌ، وإلّا فقد تحدّوا غير ما مرّةٍ أن يأتوا بسورةٍ من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلًا. وإنّما هذا قولٌ منهم يغرّون به أنفسهم ومن اتّبعهم على باطلهم.
وقد قيل: إنّ القائل لذلك هو النّضر بن الحارث -لعنه اللّه -كما قد نصّ على ذلك سعيد بن جبير، والسّدّيّ، وابن جريج وغيرهم؛ فإنّه -لعنه اللّه -كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلّم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار، ولمّا قدم وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد بعثه اللّه، وهو يتلو على النّاس القرآن، فكان إذا قام صلّى اللّه عليه وسلّم من مجلسٍ، جلس فيه النّضر فيحدّثهم من أخبار أولئك، ثمّ يقول: باللّه أيّهما أحسن قصصًا؟ أنا أو محمّدٌ؟ ولهذا لمّا أمكن اللّه تعالى منه يوم بدرٍ ووقع في الأسارى، أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن تضرب رقبته صبرًا بين يديه، ففعل ذلك، وللّه الحمد. وكان الّذي أسره المقداد بن الأسود، رضي اللّه عنه، كما قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم بدرٍ صبرًا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي، والنّضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النّضر، فلمّا أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول اللّه، أسيري. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " إنّه كان يقول في كتاب اللّه، عزّ وجلّ، ما يقول". فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقتله، فقال المقداد: يا رسول اللّه، أسيري. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ أغن المقداد من فضلك". فقال المقداد: هذا الّذي أردت. قال: وفيه أنزلت هذه الآية: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأوّلين}
وكذا رواه هشيم، عن أبي بشرٍ جعفر بن أبي وحشيّة، عن سعيد بن جبير؛ أنّه قال: "المطعم بن عديٍّ" "بدل طعيمة" وهو غلطٌ؛ لأنّ المطعم بن عديٍّ لم يكن حيًّا يوم بدرٍ؛ ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذٍ: "لو كان المطعم حيًّا، ثمّ سألني في هؤلاء النّتنى لوهبتهم له" -يعني: الأسارى -لأنّه كان قد أجار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم رجع من الطّائف.
ومعنى: {أساطير الأوّلين} وهو جمع أسطورةٍ، أي: كتبهم اقتبسها، فهو يتعلّم منها ويتلوها على النّاس. وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر اللّه عنهم في الآية الأخرى: {وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلا قل أنزله الّذي يعلم السّرّ في السّماوات والأرض إنّه كان غفورًا رحيمًا} [الفرقان: 5، 6].أي: لمن تاب إليه وأناب؛ فإنّه يتقبّل منه ويصفح عنه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 46-47]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} هذا من كثرة جهلهم وعتوّهم وعنادهم وشدّة تكذيبهم، وهذا ممّا عيبوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا: "اللّهمّ، إن كان هذا هو الحقّ من عندك، فاهدنا له، ووفّقنا لاتّباعه". ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب، وتقديم العقوبة كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجلٌ مسمًّى لجاءهم العذاب وليأتينّهم بغتةً وهم لا يشعرون} [العنكبوت:53]، {وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب} [ص:16]، {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين ليس له دافعٌ من اللّه ذي المعارج} [المعارج: 1-3]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السّالفة، كما قال قوم شعيبٍ له: {فأسقط علينا كسفًا من السّماء إن كنت من الصّادقين} [الشّعراء: 187]، وقال هؤلاء: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ}
قال شعبة، عن عبد الحميد، صاحب الزّياديّ، عن أنس بن مالكٍ قال: هو أبو جهل بن هشامٍ قال: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أوائتنا بعذابٍ أليمٍ} فنزلت {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} الآية.
رواه البخاريّ عن أحمد ومحمّد بن النّضر، كلاهما عن عبيد اللّه بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، به
وأحمد هذا هو: أحمد بن النّضر بن عبد الوهّاب. قاله الحاكم أبو أحمد، والحاكم أبو عبد اللّه النّيسابوريّ، واللّه أعلم.
وقال الأعمش، عن رجلٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} قال: هو النّضر بن الحارث بن كلدة، قال: فأنزل اللّه: {سأل سائلٌ بعذابٍ واقع * للكافرين ليس له دافع} [المعارج: 1-2] وكذا قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، وسعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ: إنّه النّضر بن الحارث -زاد عطاءٌ: فقال اللّه تعالى: {وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا قبل يومالحساب} [ص: 16] وقال {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّةٍ} [الأنعام: 94] وقال {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين ليس له دافعٌ} [المعارج: 1، 2]، قال عطاءٌ: ولقد أنزل فيه بضع عشرة آيةً من كتاب اللّه، عزّ وجلّ.
وقال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن إبراهيم، حدّثنا الحسن بن أحمد بن اللّيث، حدّثنا أبو غسّان حدّثنا أبو تميلة، حدّثنا الحسين، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفًا يوم أحد على فرسٍ، وهو يقول: اللّهمّ، إن كان ما يقول محمّدٌ حقًّا، فاخسف بي وبفرسي".
وقال قتادة في قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} الآية، قال: قال ذلك سفهة هذه الأمّة وجهلتها فعاد اللّه بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمّة وجهلتها). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 47-48]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو حذيفة موسى بن مسعودٍ، حدّثنا عكرمة بن عمّارٍ، عن أبي زميل سماك الحنفيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك فيقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "قد قد"! ويقولون: لا شريك لك، إلّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. ويقولون: غفرانك، غفرانك، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال ابن عبّاسٍ: كان فيهم أمانان: النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، والاستغفار، فذهب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبقي الاستغفار
وقال ابن جريرٍ: حدّثني الحارث، حدّثنا عبد العزيز، حدّثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان ومحمّد بن قيسٍ قالا قالت قريشٌ بعضها لبعضٍ: محمّدٌ أكرمه اللّه من بيننا: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللّهمّ! فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {وما كان اللّه [ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه] معذّبهم وهم يستغفرون} إلى قوله: {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} [الأنفال:34].
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يقول: ما كان اللّه ليعذّب قومًا وأنبياؤهم بين أظهرهم حتّى يخرجهم، ثمّ قال: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: وفيهم من قد سبق له من اللّه الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار -يستغفرون، يعني: يصلّون -يعني بهذا أهل مكّة.
وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطيّة العوفي، وسعيد بن جبير، والسّدّيّ نحو ذلك.
وقال الضّحّاك وأبو مالكٍ: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: المؤمنين الّذين كانوا بمكّة.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد الغفّار بن داود، حدّثنا النّضر بن عربي [قال] قال ابن عبّاسٍ: إنّ اللّه جعل في هذه الأمّة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم: فأمانٌ قبضه اللّه إليه، وأمانٌ بقي فيكم، قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}
قال أبو صالحٍ عبد الغفّار: حدّثني بعض أصحابنا، أنّ النّضر بن عربيٍّ حدّثه هذا الحديث، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ.
وروى ابن مردويه وابن جريرٍ، عن أبي موسى الأشعريّ نحوًا من هذا وكذا روي عن قتادة وأبي العلاء النّحويّ المقرئ.
وقال التّرمذيّ: حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن عبّاد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنزل اللّه عليّ أمانين لأمّتي: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت، تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة"
ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد اللّه بن وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "إنّ الشّيطان قال: وعزّتك يا ربّ، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرّبّ: وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني".
ثمّ قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه
وقال الإمام أحمد: حدّثنا معاوية بن عمرٍو، حدّثنا رشدين -هو ابن سعدٍ -حدّثني معاوية بن سعدٍ التّجيبي، عمّن حدّثه، عن فضالة بن عبيد، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "العبد آمنٌ من عذاب اللّه ما استغفر الله، عز وجل"). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 48-50]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)}
يخبر تعالى أنّهم أهلٌ لأن يعذّبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرهم؛ ولهذا لمّا خرج من بين أظهرهم، أوقع اللّه بهم بأسه يوم بدرٍ، فقتل صناديدهم وأسرت سراتهم. وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذّنوب، الّتي هم متلبّسون بها من الشّرك والفساد.
قال قتادة والسّدّي وغيرهما: لم يكن القوم يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون لما عذّبوا.
واختاره ابن جريرٍ، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين، لأوقع بهم البأس الّذي لا يردّ، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال تعالى في يوم الحديبية: {هم الّذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفًا أن يبلغ محلّه ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرّةٌ بغير علمٍ ليدخل اللّه في رحمته من يشاء لو تزيّلوا لعذّبنا الّذين كفروا منهم عذابًا أليمًا} [الفتح:25].
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: وكان أولئك البقيّة من المؤمنين الّذين بقوا فيها يستغفرون -يعني بمكّة- فلمّا خرجوا، أنزل اللّه: {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه} قال: فأذن اللّه في فتح مكّة، فهو العذاب الّذي وعدهم.
وروي عن ابن عبّاسٍ، وأبي مالكٍ والضّحّاك، وغير واحدٍ نحو هذا.
وقد قيل: إنّ هذه الآية ناسخةٌ لقوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين بن واقدٍ، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة والحسن البصريّ قالا قال في "الأنفال": {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فنسختها الآية الّتي تليها: {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه} إلى قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فقوتلوا بمكّة، فأصابهم فيها الجوع والضّرّ.
وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ من حديث أبي تميلة يحيى بن واضحٍ
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا حجّاج بن محمّدٍ، عن ابن جريج وعثمان بن عطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} ثمّ استثنى أهل الشّرك فقال [تعالى] {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}
وقوله: {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أي: وكيف لا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام أي الّذي ببكّة، يصدّون المؤمنين الّذين هم أهله عن الصّلاة عنده والطّواف به؛ ولهذا قال: {وما كانوا أولياءه} أي: هم ليسوا أهل المسجد الحرام، وإنّما أهله النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، كما قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النّار هم خالدون إنّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة ولم يخش إلا اللّه فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التّوبة: 17، 18]،وقال تعالى: {وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه [والفتنة أكبر من القتل]} الآية [البقرة: 217]..
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: حدّثنا سليمان بن أحمد -هو الطّبرانيّ-حدّثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصريّ، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ، عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من آلك؟ قال كلّ تقيٍّ"، وتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {إن أولياؤه إلا المتّقون}
وقال الحاكم في مستدركه: حدّثنا أبو بكرٍ الشّافعيّ، حدّثنا إسحاق بن الحسن، حدّثنا أبو حذيفة، حدّثنا سفيان، عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جدّه قال: جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قريشًا فقال: "هل فيكم من غيركم؟ " قالوا: فينا ابن أختنا وفينا حليفنا، وفينا مولانا. فقال: "حليفنا منّا، وابن أختنا منّا، ومولانا منّا، إنّ أوليائي منكم المتّقون".
ثمّ قال: هذا [حديثٌ] صحيحٌ، ولم يخرجاه
وقال عروة، والسّدّي، ومحمّد بن إسحاق في قوله تعالى: {إن أولياؤه إلا المتّقون} قال: هم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، رضي اللّه عنهم.
وقال مجاهدٌ: هم المجاهدون، من كانوا، وحيث كانوا). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 50-52]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام، وما كانوا يعاملونه به، فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً} قال عبد اللّه بن عمر، وابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاءٍ العطارديّ، ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ، وحجر بن عنبس، ونبيط بن شريط، وقتادة، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: هو الصّفير -وزاد مجاهدٌ: وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم.
وقال السّدّيّ: المكاء: الصّفير على نحو طيرٍ أبيض يقال له: "المكاء"، ويكون بأرض الحجاز.
والتّصدية: التّصفيق.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو خلاد سليمان بن خلّادٍ، حدّثنا يونس بن محمّدٍ المؤدّب، حدّثنا يعقوب -يعني ابن عبد اللّه الأشعريّ -حدّثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً} قال: كانت قريشٌ تطوف بالكعبة عراةً تصفّر وتصفّق. والمكاء: الصّفير، وإنّما شبّهوا بصفير الطّير وتصدية التّصفيق.
وهكذا روى عليّ بن أبي طلحة والعوفي، عن ابن عبّاسٍ. وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهدٍ، ومحمّد بن كعبٍ، وأبي سلمة بن عبد الرّحمن، والضّحّاك، وقتادة، وعطيّة العوفيّ، وحجر بن عنبس، وابن أبزى نحو هذا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا أبو عمر، حدّثنا قرّة، عن عطيّة، عن ابن عمر في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: الصّفير. والتّصدية: التّصفيق. قال قرّة: وحكى لنا عطيّة فعل ابن عمر، فصفّر ابن عمر، وأمال خدّه، وصفّق بيديه.
وعن ابن عمر أيضًا أنّه قال: كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفّقون ويصفّرون. رواه ابن أبي حاتمٍ في تفسيره بسنده عنه.
وقال عكرمة: كانوا يطوفون بالبيت على الشّمال.
قال مجاهدٌ: وإنّما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلاته.
وقال الزّهريّ: يستهزئون بالمؤمنين.
وعن سعيد بن جبير وعبد الرّحمن بن زيدٍ: {وتصدية} قال: صدّهم النّاس عن سبيل اللّه، عزّ وجل.
قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قال الضّحّاك، وابن جريج، ومحمّد بن إسحاق: هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسّبي. واختاره ابن جريرٍ، ولم يحك غيره.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قال: عذاب أهل الإقرار بالسّيف، وعذاب أهل التّكذيب بالصّيحة والزّلزلة). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 52-53]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:33 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة