تفسير قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ومثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللّه وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّةٍ بربوةٍ أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابلٌ فطلٌّ واللّه بما تعملون بصيرٌ (265)}
من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكر نقيض ما يتقدم ذكره لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن، فلما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع فضرب لها مثلا، وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة، لأن المراد بذكر الجنة غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله، كأنه قال: كمثل غارس جنة، وابتغاء معناه طلب، وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال. وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله. لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو وتثبيتاً عليه. ولا يصح في تثبيتاً أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. وقال مكي في المشكل: «كلاهما مفعول من أجله وهو مردود بما بيناه، ومرضات مصدر من رضي يرضى»، وقال الشعبي والسدي وقتادة وابن زيد وأبو صالح: «وتثبيتاً معناه وتيقنا، أي إن نفوسهم لها بصائر متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتا»، وقال مجاهد والحسن: معنى قوله: «وتثبيتاً أي إنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم؟» وقال الحسن: «كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك»، والقول الأول أصوب.
لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته وتثبتا، فإن قال محتج إن هذا من المصادر التي خرجت على غير المصدر كقوله تعالى: {وتبتّل إليه تبتيلًا} [المزمل: 8]، وكقوله: {أنبتكم من الأرض نباتاً} [نوح: 17] فالجواب لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول أحمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت، وقال قتادة: «وتثبيتاً معناه وإحسانا من أنفسهم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا نحو القول الأول»، والجنة البستان وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض، فهي من لفظ الجن والجنن والجنة وجن الليل، والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيرا معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه، وما كان كذلك فنباته أحسن، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال له الحزن، وقل ما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: زوجي كليل تهامة، وقال ابن عباس: «الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا إنما أراد به هذه الربوة المذكورة في كتاب الله، لأن قوله تعالى: {أصابها وابلٌ} إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار»، ولم يرد ابن عباس أن جنس الربا لا يجري فيها ماء، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين، والمعروف في كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر، وقال الحسن: «الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء»، وهذا أيضا أراد أنها ليست كالجبل والضرب ونحوه، وقال الخليل أرض مرتفعة طيبة وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث هي العرف في بلاد العرب فمثل لهم بما يحسونه كثيرا، وقال السدي: «بربوةٍ أي برباوة وهو ما انخفض من الأرض»، قال أبو محمد: وهذه عبارة قلقة ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد، يقال «ربوة» بضم الراء وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو.
ويقال «ربوة» بفتح الراء وبها قرأ عاصم وابن عامر، وكذلك خلافهم في سورة المؤمنين، ويقال ربوة بكسر الراء وبها قرأ ابن عباس فيما حكي عنه. ويقال رباوة بفتح الراء والباء وألف بعدها، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن، ويقال رباوة بكسر الراء وبها قرأ الأشهب العقيلي، وآتت معناه أعطت، و «الأكل» بضم الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل، والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أكلها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل أكل خمط فثقل أبو عمرو ذلك، وخففاه، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال أكل وأكل بمعنى، وهو من أكل بمنزلة الطعمة من طعم، أي الشيء الذي يطعم ويؤكل، وضعفين معناه: اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها، ثم أكد تعالى مدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابلٌ فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل، وذلك لكرم الأرض، والطل المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة، وقال قوم الطل الندى، وهذا تجوز وتشبيه، وقد روي ذلك عن ابن عباس. قال المبرد: «تقديره فطلٌّ يكفيها». وقال غيره التقدير فالذي أصابهم طل، فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا، وفي قوله تعالى: {واللّه بما تعملون بصيرٌ} وعد ووعيد، وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع. أو يريد المنفقين فقط فهو وعد محض). [المحرر الوجيز: 2/ 65-68]
تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ الثّمرات وأصابه الكبر وله ذرّيّةٌ ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (266)}
حكى الطبري عن السدي: «أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء»، ورجح هو هذا القول، وحكى عن ابن زيد: «أنه قرأ قول الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} [البقرة: 264]، قال ثم ضرب في ذلك مثلا فقال: أيودّ أحدكم الآية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء»، هذا هو مقتضى سياق الكلام، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعا، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا:« الله ورسوله أعلم، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فرضي ذلك عمر»، وروى ابن أبي مليكة: «أن عمر تلا هذه الآية: أيودّ أحدكم، وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمل عمل السوء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها»، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم، وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ الحسن «جنات» بالجمع، وقوله من تحتها هو تحت بالنسبة إلى الشجر، والواو في قوله :{وأصابه} واو الحال، وكذلك في قوله: {وله} وضعفاء جمع ضعيف وكذلك ضعاف، وال إعصارٌ الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم، وإن النار اشتكت إلى ربها»، الحديث بكماله، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها، قال السدي: «الإعصار الريح، والنار السموم»، وقال ابن عباس: «ريح فيها سموم شديدة»، وقال ابن مسعود: «إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «يريد من نار الآخرة»، وقال الحسن بن أبي الحسن: «إعصارٌ فيه نارٌ ريح فيها صر، برد»، وقاله الضحاك، وفي المثل: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده: «أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب»، وقال الزجاج: «الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة»، قال المهدوي: «قيل لها إعصارٌ لأنها تلتف كالثوب إذا عصر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا ضعيف»، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة، ولعلّكم ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلا له. وقال ابن عباس: «تتفكّرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها» ). [المحرر الوجيز: 2/ 69-71]