شرح ابن القيم (ت:751هـ) [الشرح المطول]
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( ( الإِلَهُ ):
( (( الإلَهُ )): المَعْبُودُ المَحْبُوبُ الذي لا تَصْلُحُ العبادةُ والذُّلُّ وَالخضوعُ والحبُّ إلاَّ لَهُ)([1]) (فإنَّ (( الإلهَ )) هوَ الذي يَأْلَهُهُ العبادُ ذُلاًّ، وَخَوْفاً وَرَجَاءً، وَتَعْظِيماً وطاعةً لهُ، بِمَعْنَى " مَأْلُوهٍ "، وهوَ الذي تَأْلَهُهُ القُلُوبُ؛ أيْ: تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ.
وأصلُ التَّأَلُّهِ التَّعَبُّدُ. والتَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ الحبِّ، يُقَالُ: عَبَّدَهُ الحُبُّ وَتَيَّمَهُ: إذا مَلَّكَهُ وَذلَّـلَهُ لِمَحْبُوبِهِ) ([2]) [فَـ](الإلهُ هوَ المُسْتَحِقُّ لكمالِ الحبِّ بكمالِ التعظيمِ والإجلالِ والذلِّ لهُ والخضوعِ لَهُ)([3])
(وَهـْوَ الإلَهُ الحـَقُّ لا مَعْـُبودَ إلاَّ = وَجـْهــُهُ الأعْـلَى العظيمُ الشَّانِ
بلْ كُلُّ مَـعْـبُـودٍ سـِوَاهُ فَباطِـلٌ = مِنْ عَرْشِهِ حتَّى الحَضِيضِ الدَّانِي
وَعِبَادَةُ الرَّحْمنِ غَايَةُ حُبِّهِ = مَعْ ذُلِّ عَـابِـدِهِ هُـمَا قُطْـبـَانِ
وعليهما فَلَكُ العبادةِ دَائِرٌ = مَـا دارَ حَـتَّـى قَـامَتِ القُطْـبَانِ
ومَدَارُهُ بالأمْرِ أمْرِ رســُولِهِ = لا بِالهَوَى والنفـسِ والشـَّيْطَـانِ
فَـقِيَامُ دِينِ اللهِ بِالإِخْلاصِ وَالـ = إحسَـــانِ إنَّهُـمَا لَهُ أصــلانِ
لـمْ يـَنْجُ مِنْ غَضَبِ الإلَهِ وَنَارِهِ = إلاَّ الـذي قَــامـَتْ بِهِ الأَصْـلانِ
وَالنَّاسُ بَعْدُ فمُشْرِكٌ بِإِلَهِهِ = أوْ ذُو ابْـتِدَاعٍ أَوْ لَــهُ الوَصْـفَانِ
واللهُ لا يَـرْضَـى بِكــَثـْرَةِ فـِعْلِنَا = لَكِنْ بِأحْــسـَنِهِ مـَعَ الإِيـمـَانِ
فالـعـَارِفــُونَ مُـرادُهُمْ إحسَـانُهُ = والجَاهِلُونَ عَمُوا عَنِ الإِحْسَـانِ)([4])
(فهوَ إِلَهُهُم الحَقُّ وَمَعْبُودُهُم الذي لا إِلَهَ لَهُم سِوَاهُ، ولا مَعْبُودَ لهم غَيْرُهُ، فَكَمَا أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ رَبُّهُم وَمَلِيكُهُم لم يَشْرَكْهُ في رُبُوبِيَّتِهِ وَلا في مُلْكِهِ أَحَدٌ فكذلكَ هوَ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُم، فلا يَنْبَغِي أنْ يَجْعَلُوا معهُ شَرِيكاً في إِلَهِيَّتِهِ كَمَا لا شَرِيكَ معهُ في رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ)([5])، (بلْ هوَ الإلهُ الحقُّ، وكلُّ إلهٍ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ، بلْ أَبْطَلُ الباطلِ و…حقيقةُ إِلَهِيَّتِهِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لهُ، و…العبادةُ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَأَثَرُهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ مُتَعَلَّقِ الصِّفَاتِ بالصِّفَاتِ، وكارتباطِ المعلومِ بالعِلْمِ والمقدورِ بالقدرةِ، والأصواتِ بالسمعِ، والإحسانِ بالرحمةِ، والعطاءِ بالجُودِ)([6]).
(فلا أَحَدَ سِوَاهُ يَسْتَحِقُّ أنْ يُؤَلَّهَ وَيُعْبَدَ، وَيُصَلَّى لهُ وَيُسْجَدَ، وَيَسْتَحِقُّ نهايَةَ الحبِّ معَ نهايَةِ الذلِّ، لكمالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فهوَ المُطَاعُ وحدَهُ على الحقيقةِ، والمَأْلُوهُ وَحْدَهُ، ولهُ الحُكْمُ وَحْدَهُ. فكلُّ عُبُودِيَّةٍ لِغَيْرِهِ باطلةٌ وَعَنَاءٌ وَضَلالٌ، وكلُّ مَحَبَّةٍ لِغَيْرِهِ عَذَابٌ لصاحبِهَا، وكلُّ غِنًى لِغَيْرِهِ فَقْرٌ وَفَاقَةٌ، وكلُّ عِزٍّ بِغَيْرِهِ ذُلٌّ وصَغَارٌ، وكلُّ تَكَثُّرٍ بِغَيْرِهِ قِلَّةٌ وذلَّةٌ، فَكَمَا اسْتَحَالَ أنْ يكونَ للخلقِ ربٌّ غَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ استحالَ أنْ يَكُونَ لهم إلهٌ غيرُهُ، فهوَ الذي انْتَهَتْ إليهِ الرَّغَبَاتُ، وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَهُ الطَّلَبَاتُ، وَيَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ معهُ إِلَهٌ آخرُ؛ فإنَّ الإلهَ على الحقيقةِ هوَ الغنيُّ الصمدُ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، الذي حَاجَةُ كلِّ أحدٍ إليهِ ولا حاجةَ بهِ إلى أحدٍ. وقيامُ كلِّ شيءٍ بهِ وليسَ قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ، ومِن المُحَالِ أنْ يَحْصُلَ في الوجودِ اثْنَانِ كذلكَ، وَلَو كَانَ في الوجودِ إِلَهَانِ لَفَسَدَ نِظَامُهُ أَعْظَمَ فَسَادٍ وَاخْتَلَّ أَعْظَمَ اخْتِلالٍ، كما أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ لهُ فاعلانِ مُتَسَاوِيَانِ، كلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بالفعلِ؛ فإنَّ اسْتِقْلالَهُمَا يُنَافِي اسْتِقْلالَهُمَا، وَاسْتِقْلالَ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ رُبُوبِيَّةَ الآخَرِ.
فتوحيدُ الربوبيَّةِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ على توحيدِ الإِلهيَّةِ، ولذلكَ وَقَعَ الاحتجاجُ بهِ في القرآنِ أَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِغَيْرِهِ، لِصِحَّةِ دَلالَتِهِ وَظُهُورِهَا وَقَبُولِ العقولِ والفِطَرِ لَهَا، ولاعْتِرَافِ أهلِ الأرضِ بتوحيدِ الربوبيَّةِ)([7]).
(وَمِمَّا يُقَرِّرُ هَذَا أنَّ اللهَ سبحانَهُ خَلَقَ الخلقَ لعبادتِهِ الجامعةِ لمعرفتِهِ والإنابةِ إليهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالإخلاصِ لهُ، فَبِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم وَبِرُؤْيَتِهِ في الآخرةِ تقَرُّ عُيُونُهُم، ولا شَيْءَ يُعْطِيهِم في الآخرةِ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ من النظرِ إليهِ، ولا شيءَ يُعْطِيهِم في الدنيا أَحَبُّ إِلَيْهِم من الإيمانِ بهِ وَمَحَبَّتِهِم لهُ وَمَعْرِفَتِهِم بهِ. وحَاجَتُهُم إليهِ في عبادتِهِم لهُ وَتَأَلُّهِهِم لهُ كَحَاجَتِهِم إليهِ، بلْ أعظمُ في خلقِهِ لهم وَرُبُوبِيَّتِهِ لهم وَرِزْقِهِ لَهُم، فإنَّ ذلكَ هوَ الغايَةُ المقصودةُ التي بها سَعَادَتُهُم وَفَوْزُهُم، وبها وَلأَجْلِهَا يَصِيرُونَ عَامِلِينَ مُتَحَرِّكِينَ، ولا صَلاحَ لهم ولا فلاحَ ولا نعيمَ ولا لذَّةَ ولا سُرُورَ بدونِ ذلكَ بحالٍ؛ فمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَيَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامةِ أَعْمَى، وَلِهَذَا لا يَغْفِرُ اللهُ لمَنْ يُشْرِكُ بهِ شَيْئاً، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلكَ لمَنْ يشاءُ، ولهذا كانَتْ (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) أَفْضَلَ الحسناتِ. وَكَانَ توحيدُ الإِلهيَّةِ الذي كَلِمَتُهُ (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) رَأْسَ الأمرِ.
فَأَمَّا تَوْحِيدُ الربوبيَّةِ الذي أَقَرَّ بهِ كلُّ المخلوقاتِ فلا يَكْفِي وَحْدَهُ، وإنْ كانَ لا بُدَّ منهُ، وهوَ حُجَّةٌ على مَنْ أَنْكَرَ توحيدَ الألوهيَّةِ، فَحَقُّ اللهِ على العبادِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً، وَحَقُّهُم عليهِ إذا فَعَلُوا ذلكَ أنْ لا يُعَذِّبَهُم وأنْ يُكْرِمَهُم إذا قَدِمُوا عليهِ، وهذا كما أنَّهُ غَايَةُ مَحْبُوبِ العبدِ ومطلوبُهُ، وبهِ سُرُورُهُ ولَذَّتُهُ وَنَعِيمُهُ، فَهُوَ أَيْضاً مَحْبُوبُ الربِّ منْ عَبْدِهِ وَمَطْلُوبُهُ الذي يَرْضَى بهِ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ إذا رَجَعَ إليهِ وإِلَى عُبُودِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ مَنْ وَجَدَ رَاحِلَتَهُ التي عليها طَعَامُهُ وشَرَابُهُ في أرضٍ مَهْلَكةٍ بعدَ أنْ فَقَدَهَا وأَيِسَ منها.
وهذا أعظمُ فَرَحٍ يكونُ، وكذلكَ العبدُ لا فَرَحَ لهُ أعظمُ مِنْ فَرَحِهِ بِوُجُودِ رَبِّهِ، وَأُنْسِهِ بهِ، وَطَاعَتِهِ لهُ، وإقبالِهِ عليهِ، وَطُمَأْنِينَتِهِ بِذِكْرِهِ، وعمارةِ قلبِهِ بمعرفتِهِ، والشوقِ إلى لقائِهِ، فليسَ في الكائناتِ ما يَسْكُنُ العبدُ إليهِ وَيَطْمَئِنُّ بهِ وَيَتَنَعَّمُ بالتَّوَجُّهِ إليهِ إلاَّ اللهُ سُبْحَانَهُ، ومَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وَأَحَبَّهُ – وإنْ حَصَلَ لهُ نوعٌ من اللذَّةِ والموَدَّةِ والسكونِ إليهِ والفرحِ والسرورِ بوجودِهِ – ففسادُهُ بِهِ وَمَضَرَّتُهُ وَعَطَبُهُ أَعْظَمُ منْ فسادِ أكلِ الطعامِ المسمومِ اللذيذِ الشَّهِيِّ الَّذِي هُوَ عَذْبٌ في مَبْدَئِهِ، عَذَابٌ في نهايتِهِ كما قالَ القائلُ:
مَآرِبُ كَانَتْ فِي الشَّبَابِ لأَهْلِهَا = عِذَاباً فَصَارَتْ فِي المَشِيبِ عَذَابَا
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء:22]، فإنَّ قِوامَ السَّمَاواتِ والأرضِ والخليقةِ بأنْ تُؤَلِّهَ الإلَهَ الحَقَّ، فلوْ كانَ فِيهِمَا إِلَهٌ آخَرُ غَيْرُ اللهِ لَمْ يَكُنْ إِلَهاً حَقًّا؛ إذ الإلهُ الحقُّ لا شريكَ لهُ، ولا سَمِيَّ لهُ، ولا مِثْلَ لهُ، فلوْ تَأَلَّهَتْ غَيْرَهُ لَفَسَدَتْ كلَّ الفسادِ بِانْتِفَاءِ ما بِهِ صَلاحُهَا، إذْ صَلاحُهَا بِتَأَلُّهِ الإلهِ الحقِّ، كما أَنَّهَا لا تُوجَدُ إلاَّ باسْتِنَادِهَا إِلَى الرَّبِّ الوَاحِدِ القَهَّارِ، وَيَسْتَحِيلُ أنْ تَسْتَنِدَ في وجودِهَا إلى رَبَّيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ، فكذلكَ يَسْتَحِيلُ أنْ تَسْتَنِدَ في بَقَائِهَا وَصَلاحِهَا إِلَى إِلَهَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ.
إذا عُرِفَ هذا، فَاعْلَمْ أنَّ حاجةَ العبدِ إلى أنْ يَعْبُدَ اللهَ وحدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً في مَحَبَّتِهِ، ولا في خوفِهِ، ولا في رجائِهِ، ولا في التَّوَكُّلِ عليهِ، ولا في العملِ لهُ، ولا في الحَلِفِ بهِ، ولا في النَّذْرِ لهُ، ولا في الخضوعِ لهُ، ولا في التَّذَلُّلِ والتعظيمِ والسجودِ والتَّقَرُّبِ؛ أَعْظَمُ منْ حاجةِ الجسدِ إلى رُوحِهِ، والعينِ إلى نورِهَا، بلْ ليسَ لهذهِ الحاجةِ نَظِيرٌ تُقَاسُ بهِ؛ فإنَّ حقيقةَ العبدِ قَلْبُهُ وَرُوحُهُ، ولا صلاحَ لها إِلاَّ بِإِلَهِهَا الذي لا إِلَهَ إلاَّ هوَ؛ فلا تَطْمَئِنُّ في الدنيا إلاَّ بِذِكْرِهِ، وهيَ كادحةٌ إليهِ كدحاً فَمُلاقِيَتُهُ، وَلا بُدَّ لها مِنْ لِقَائِهِ، ولا صَلاحَ لها إِلاَّ بِمَحَبَّتِهَا وَعُبُودِيَّتِهَا لهُ، وَرِضَاهُ وَإِكْرَامِهِ لها.
ولوْ حَصَلَ للعبدِ من اللَّذَّاتِ والسرورِ بغيرِ اللهِ ما حَصَلَ لم يَدُمْ لهُ ذلكَ، بلْ يَنْتَقِلُ منْ نوعٍ إلى نوعٍ، ومنْ شخصٍ إلى شخصٍ، وَيَتَنَعَّمُ بهذا في وقتٍ ثُمَّ يَتَعَذَّبُ بهِ ولا بُدَّ في وقتٍ آخرَ، وَكَثِيراً ما يَكُونُ ذلكَ الذي يَتَنَعَّمُ بهِ وَيَلْتَذُّ بهِ غَيْرَ مُنَعِّمٍ لهُ ولا مُلِذٍّ، بلْ قَدْ يُؤْذِيهِ اتِّصَالُهُ بِهِ وَوُجُودُهُ عِنْدَهُ وَيَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لهُ بِمُلابَسَتِهِ مِنْ جنسِ ما يَحْصُلُ للجَرِبِ منْ لذَّةِ الأظفارِ التي تَحُكُّهُ، فَهِيَ تُدْمِي الجِلْدَ وَتَخْرِقُهُ وَتَزِيدُ فِي ضَرَرِهِ، وهوَ يُؤْثِرُ ذلكَ لِمَا لهُ في حَكِّهَا مِن اللذَّةِ، وهكذا ما يَتَعَذَّبُ بهِ القلبُ منْ مَحَبَّةِ غيرِ اللهِ هوَ عذابٌ عليهِ، وَمَضَرَّةٌ وأَلَمٌ في الحقيقةِ، لا تَزِيدُ لَذَّتُهُ على لَذَّةِ حَكِّ الجَرَبِ.
والعاقلُ يُوَازِنُ بينَ الأمرَيْنِ وَيُؤْثِرُ أَرْجَحَهُمَا وَأَنْفَعَهُمَا، واللهُ المُوَفِّقُ المُعِينُ، ولهُ الحجَّةُ البالغةُ كما لهُ النعمةُ السابغةُ.
والمقصودُ أنَّ إِلَهَ العبدِ الذي لا بُدَّ لهُ منهُ في كلِّ حالةٍ وكلِّ دقيقةٍ وكلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فهوَ الإلهُ الحقُّ الذي كلُّ ما سِوَاهُ بَاطِلٌ، والذي أَيْنَمَا كَانَ فهوَ مَعَهُ، وَضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ وَحَاجَتُهُ إِلَيْهِ لا تُشْبِهُهَا ضَرُورَةٌ ولا حاجةٌ، بلْ هيَ فوقَ كلِّ ضرورةٍ، وَأَعْظَمُ منْ كلِّ حاجةٍ، ولهذا قالَ إمامُ الحُنَفَاءِ: {لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76)} [الأنعام: 76] واللهُ أَعْلَمُ)([8]).
[فَصْلٌ]:
([إذا تَبَيَّنَ هَذَا فَاعْلَمْ أنَّ] (( الإلَهَ ))... هُوَ الجامعُ لجميعِ صفاتِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ، فَيَدْخُلُ في هذا الاسمِ جَمِيعُ الأسماءِ الحُسْنَى)([9]) [لـ](أنَّ الإلهَ هوَ الذي لهُ الأسماءُ الحُسْنَى، والصِّفَاتُ العُلَى، وَهُوَ الذي يَفْعَلُ بقدرتِهِ ومشيئتِهِ وحكمتِهِ، وهوَ الموصوفُ بالصِّفَاتِ والأفعالِ، المُسَمَّى بالأسماءِ التي قَامَتْ بها حَقَائِقُهَا ومَعَانِيهَا)([10]).
([فَـ]كَوْنُهُ تَعَالَى إِلَهَ الخَلْقِ يَقْتَضِي كمالَ ذاتِهِ وصفاتِهِ وأسمائِهِ وأفعالِهِ ووقوعَ أفعالِهِ على أكملِ الوجوهِ وَأَتَمِّهَا)([11])، (وَلِهَذَا كَانَتْ (( لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ )) أحسنَ الحسناتِ، وكانَ توحيدُ الإِلهيَّةِ رأسَ الأمْرِ)([12])
(فهوَ سُبْحَانَهُ الإلهُ الحقُّ المُبِينُ ((الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ))([13])... الذي يَسْتَحِقُّ أنْ يُؤَلَّهَ مَحَبَّةً، وَتَعْظِيماً، وخشيَةً، وخُضوعاً، وتذلُّلاً، وعبادَةً، ([14]) فهوَ الإلَهُ الحقُّ، ولوْ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ، وهوَ الإلهُ الحقُّ، ولوْ لمْ يَعْبُدُوهُ،
فهوَ المعبودُ حَقًّا، المحمودُ حَقًّا، ولوْ قُدِّرَ أنَّ خَلْقَهُ لَمْ يَعْبُدُوهُ، ولم يَحْمَدُوهُ، ولمْ يَأْلَهُوهُ، فهوَ اللهُ الذي لا إِلَهَ إلاَّ هوَ قبلَ أنْ يَخْلُقَهُم، وبعدَ أنْ خَلَقَهُم، وبعدَ أنْ يُفْنِيَهُم، لم يَسْتَحْدِثْ بِخَلْقِهِ لهم ولا بأمرِهِ إيَّاهُم اسْتِحْقَاقَ الإلهيَّةِ والحمدِ، بل الإلهيَّةُ وَحَمْدُهُ وَمَجْدُهُ وَغِنَاهُ أَوْصَافٌ ذاتيَّةٌ لهُ يَسْتَحِيلُ مُفَارَقَتُهَا لهُ كَحَيَاتِهِ ووجودِهِ وقدرتِهِ وَعِلْمِهِ وسائرِ صفاتِ كمالِهِ.
فَأَوْلِيَاؤُهُ وَخَاصَّتُهُ وَحِزْبُهُ لَمَّا شَهِدَتْ عُقُولُهُم وَفِطَرُهُم أنَّهُ أهلٌ أنْ يُعبَدَ - وإنْ لمْ يُرْسِلْ إليهم رَسُولاً، ولم يُنَزِّلْ عليهم كِتَاباً، ولوْ لم يَخْلُقْ جَنَّةً ولا ناراً - عَلِمُوا أنَّهُ لا شَيْءَ في العُقولِ والفِطَرِ أَحْسَنُ مِنْ عبادتِهِ، ولا أَقْبَحُ من الإعْراضِ عنهُ، وجاءَت الرسلُ، وأُنْزِلَتِ الكُتُبُ لتَقريرِ ما اسْتَوْدَعَ سُبحانَهُ في الفِطَرِ والعُقولِ منْ ذلكَ، وتَكْمِيلِهِ، وتَفْضِيلِهِ، وزيادتِهِ حُسناً إلى حُسْنِهِ، فَاتَّفَقَتْ شَرِيعتُهُ وفِطْرَتُهُ، وَتَطَابَقَا، وَتَوَافَقَا، وَظَهَرَ أنَّهُمَا مِنْ مِشْكَاةٍ واحدَةٍ، فَعَبَدُوهُ وأَحَبُّوهُ وَمَجَّدُوهُ وَحَمِدُوهُ بِدَاعِي الفِطرَةِ، وداعِي الشَّرْعِ، وداعِي العَقلِ، فَاجْتَمَعَت لهم الدَّواعِي وَنَادَتْهُم مِنْ كُلِّ جهَةٍ، ودَعَتْهُم إلى وَلِيِّهم وَإِلَهِهِم وَفَاطِرِهم، فأَقْبَلُوا إليهِ بقلوبٍ سليمَةٍ، لم يُعَارِضْ خَبَرَهُ عندَهَا شُبْهَةٌ تُوجِبُ رِيبَةً وَشَكًّا، ولا أَمْرَهُ شهوَةٌ تُوجِبُ رَغْبَتَهَا عَنْهُ وَإِيثَارَهَا سِوَاهُ، فَأَجَابُوا دَوَاعِيَ المحبَّةِ والطاعَةِ إذْ نَادَتْ بهم: حيَّ على الفلاحِ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهم في مَرْضَاةِ مَوْلاهُم الحقِّ بَذْلَ أَخِي السَّماحِ، وَحَمِدُوا عندَ الوُصولِ إليهِ مَسْرَاهُم، وإنَّمَا يَحْمَدُ القومُ مَسراهُمْ عندَ الصباحِ)([15]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
([1]) بَدَائِعُ الفوائدِ (4/132).
([2]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/27، 28).
([3]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (3/1435).
([4]) القصيدةُ النُّونيَّةُ (64).
([5]) بَدَائِعُ الفوائدِ (2/247).
([6]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/118).
([7]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (44-45).
وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في طريقِ الهجرتينِ (327): (فإنَّ الإلهَ هو المحبوبُ المعبودُ الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بحُبِّها وتَخْضَعُ له وتَذِلُّ له وتَخافُه وتَرجُوهُ وتُنِيبُ إليه في شدائِدِها وتَدعُوهُ في مُهِمَّاتِهَا وتَتوكَّلُ عليه في مَصالِحِها وتَلْجَأُ إليه وتَطْمَئِنُّ بذِكرِه وتَسْكَنُ إلى حُبِّهِ، وليس ذلكَ إلا اللهَ وَحْدَهُ، ولهذا كانتْ [لا إلهَ إلا اللهُ] أَصْدَقَ الكلامِ، وكانَ أهلُها أهلَ اللهِ وحِزْبَهُ، والمنكِرونَ لها أعداؤُه وأهلُ غضَبِه ونِقْمَتِه. فهذهِ المسألةُ قُطبُ رَحَى الدينِ الذي عليه مَدارُه، وإذا صَحَّتْ صَحَّ بها كُلُّ مَسألةٍ وحالٍ وذَوْقٍ، وإذا لم يُصَحِّحْها العبدُ فالفسادُ لازمٌ له في عُلومِه وأعمالِه، وأحوالِه وأقوالِه. ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ).
([8]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (56-58).
([9]) بَدَائِعُ الفوائدِ (2/249).
([10]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/429).
([11]) بَدَائِعُ الفوائدِ (4/ 165).
([12]) إغاثةُ اللهفانِ (1/47).
([13]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (42).
([14]) وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في إغاثةِ اللهفانِ: (1/43، 44): (فإنَّ (الإلهَ) هو الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ: مَحَبَّةً، وإنابةً، وإجلالاً، وإكرامًا، وتعظيمًا، وذُلاًّ، وخُضوعًا، وخَوْفًا، ورجاءً، وتَوَكُّلاً).
([15]) مفتاحُ دارِ السعادةِ (2/504).
وقال رَحِمَهُ اللهُ في بدائعِ الفوائدِ (3/2): (فإنه المَعْبودُ حقًّا والمعبودُ لا بدَّ أن يكونَ مَالِكًا للنفعِ والضُّرِّ ولهذا أنكرَ اللهُ تعالَى على مَن عَبَدَ مِن دُونِه ما لا يَمْلِكُ ضَرًّا ولا نَفْعًا وذلك كثيرٌ في القرآنِ كقولِه تعالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} وقولِه تعالَى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} وقولِه تعالَى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} وقولِهِ تعالَى: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ})، وقال في مَدارجِ السَّالكِينَ (3/428) ( (الإلهُ) هو الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ، مَحبَّةً له واشتياقًا وإنابةً) وقال في بدائعِ الفوائدِ (2/248): (وهو الإلهُ الحقُّ إلهُ الناسِ الذي لا إلهَ لهم سواهُ).