تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {واصطنعتك لنفسي} أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولا لنفسي، أي: كما أريد وأشاء.
وقال البخاريّ عند تفسيرها: حدّثنا الصّلت بن محمّدٍ، حدّثنا مهديّ بن ميمونٍ، حدّثنا محمّد ابن سيرين عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "التقى آدم وموسى، فقال موسى: أنت الّذي أشقيت النّاس وأخرجتهم من الجنّة؟ فقال آدم: وأنت الّذي اصطفاك اللّه برسالته واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التّوراة؟ قال: نعم. قال: فوجدته قد كتب عليّ قبل أن يخلقني؟ قال: نعم. فحجّ آدم موسى" أخرجاه). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 294]
تفسير قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({اذهب أنت وأخوك بآياتي} أي: بحججي وبراهيني ومعجزاتي، {ولا تنيا في ذكري} قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: لا تبطئا.
وقال مجاهدٌ، عن ابن عبّاسٍ: لا تضعفا.
والمراد أنّهما لا يفتران في ذكر اللّه، بل يذكران اللّه في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر اللّه عونًا لهما عليه، وقوّةً لهما وسلطانًا كاسرًا له، كما جاء في الحديث: "إنّ عبدي كلّ عبدي للّذي يذكرني وهو مناجز قرنه").[تفسير القرآن العظيم: 5/ 294]
تفسير قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({اذهبا إلى فرعون إنّه طغى} أي: تمرّد وعتا وتجهرم على اللّه وعصاه). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 294]
تفسير قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فقولا له قولا ليّنًا لعلّه يتذكّر أو يخشى} هذه الآية فيها عبرةٌ عظيمةٌ، وهو أنّ فرعون في غاية العتوّ والاستكبار، وموسى صفوة اللّه من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألّا يخاطب فرعون إلّا بالملاطفة واللّين، كما قال يزيد الرّقاشيّ عند قوله: {فقولا له قولا ليّنًا}: يا من يتحبّب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولّاه ويناديه؟
وقال وهب بن منبه: قولا له: إنّي إلى العفو والمغفرة أقرب منّي إلى الغضب والعقوبة.
وعن عكرمة في قوله: {فقولا له قولا ليّنًا} قال: لا إله إلّا اللّه، وقال عمرو بن عبيدٍ، عن الحسن البصريّ: {فقولا له قولا ليّنًا} أعذرا إليه، قولا له: إنّ لك ربًّا ولك معادًا، وإنّ بين يديك جنّةً ونارًا.
وقال بقيّة، عن عليّ بن هارون، عن رجلٍ، عن الضّحّاك بن مزاحم، عن النّزّال بن سبرة، عن عليٍّ في قوله: {فقولا له قولا ليّنًا} قال: كنّه.
وكذا روي عن سفيان الثوري: كنّه بأبي مرّة.
والحاصل من أقوالهم أنّ دعوتهما له تكون بكلامٍ رقيقٍ ليّنٍ قريبٍ سهلٍ، ليكون أوقع في النّفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن} الآية [النّحل: 125].
[قوله] {لعلّه يتذكّر أو يخشى} أي: لعلّه يرجع عمّا هو فيه من الضّلال والهلكة، {أو يخشى} أي: يوجد طاعةً من خشية ربّه، كما قال تعالى:
{لمن أراد أن يذّكّر أو يخشى} فالتّذكّر: الرّجوع عن المحذور، والخشية: تحصيل الطّاعة.
وقال الحسن البصريّ [في قوله] {لعلّه يتذكّر أو يخشى} يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون: أهلكه قبل أن أعذر إليه.
وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيلٍ، ويروى لأميّة بن أبي الصّلت فيما ذكره ابن إسحاق:
وأنت الّذي من فضل منٍّ ورحمةٍ = بعثت إلى موسى رسولًا مناديًا
فقلت له يا اذهب وهارون فادعوا = إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له هل أنت سوّيت هذه = بلا وتدٍ حتّى استقلّت كما هيا
وقولا له أأنت رفّعت هذه = بلا عمد? أرفق إذن بك بانيا
وقولا له آأنت سوّيت وسطها = منيرًا إذا ما جنّه اللّيل هاديا
وقولا له من يخرج الشّمس بكرةً = فيصبح ما مسّت من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحبّ في الثّرى = فيصبح منه البقل يهتزّ رابيا
ويخرج منه حبّه في رءوسه ففي ذاك آياتٌ لمن كان واعيا). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 294-295]
تفسير قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قالا ربّنا إنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45) قال لا تخافا إنّني معكما أسمع وأرى (46) فأتياه فقولا إنّا رسولا ربّك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم قد جئناك بآيةٍ من ربّك والسّلام على من اتّبع الهدى (47) إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى (48)}
يقول تعالى إخبارًا عن موسى وهارون، عليهما السّلام، أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: {إنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبةٍ، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقّان منه ذلك.
قال عبد الرّحمن بن زيدٍ: {أن يفرط} يعجل.
وقال مجاهدٌ: يبسط علينا.
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {أو أن يطغى}: يعتدي). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 295-296]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قال لا تخافا إنّني معكما أسمع وأرى} أي: لا تخافا منه، فإنّني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيءٌ، واعلما أنّ ناصيته بيدي، فلا يتكلّم ولا يتنفّس ولا يبطش إلّا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسيّ، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه قال: لـمّا بعث الله عزّ وجلّ موسى إلى فرعون قال: ربّ، أيّ شيءٍ أقول؟ قال قل: هيا شراهيا. قال الأعمش: فسّر ذلك: الحيّ قبل كلّ شيءٍ، والحيّ بعد كلّ شيءٍ.
إسنادٌ جيّدٌ، وشيءٌ غريبٌ). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 296]
تفسير قوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فأتياه فقولا إنّا رسولا ربّك}، قد تقدّم في حديث "الفتون" عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: مكثا على بابه حينًا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديدٍ.
وذكر محمّد بن إسحاق بن يسارٍ: أنّ موسى وأخاه هارون خرجا، فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه وهما يقولان: إنّا رسل ربّ العالمين، فآذنوا بنا هذا الرّجل، فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان، لا يعلم بهما ولا يجترئ أحدٌ على أن يخبره بشأنهما، حتّى دخل عليه بطّال له يلاعبه ويضحكه، فقال له: أيّها الملك، إنّ على بابك رجلًا يقول قولًا عجيبًا، يزعم أنّ له إلهًا غيرك أرسله إليك. قال: ببابي؟ قال: نعم. قال: أدخلوه، فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه، فلمّا وقف على فرعون قال: إنّي رسول ربّ العالمين. فعرفه فرعون.
وذكر السّدّيّ أنّه لمّا قدم بلاد مصر، ضاف أمّه وأخاه وهما لا يعرفانه، وكان طعامهما ليلتئذٍ الطّعثلل وهو اللّفت، ثمّ عرفاه وسلّما عليه، فقال له موسى: يا هارون، إنّ ربّي قد أمرني أن آتي هذا الرّجل فرعون فأدعوه إلى اللّه، وأمر أن تعاونني. قال: افعل ما أمرك ربّك. فذهبا، وكان ذلك ليلًا فضرب موسى باب القصر بعصاه، فسمع فرعون فغضب وقال من يجترئ على هذا الصّنيع؟ فأخبره السّدنة والبوّابون بأنّ هاهنا رجلًا مجنونًا يقول: إنّه رسول اللّه. فقال: عليّ به. فلمّا وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر اللّه في كتابه.
وقوله: {قد جئناك بآيةٍ من ربّك} أي: بدلالةٍ ومعجزةٍ من ربّك، {والسّلام على من اتّبع الهدى} أي: والسّلام عليك إن اتّبعت الهدى.
ولهذا لـمّا كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى هرقل عظيم الرّوم [كتابًا، كان أوّله: "بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، من محمّدٍ رسول اللّه إلى هرقل عظيم الرّوم] سلامٌ على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، [فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام] فأسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين".
وكذلك لمّا كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا صورته: "من مسيلمة رسول اللّه إلى محمّدٍ رسول اللّه، سلامٌ عليك. أمّا بعد، فإنّي قد أشركت في الأمر معك، فلك المدر ولي الوبر، ولكن قريشٌ قومٌ يعتدون". فكتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من محمّدٍ رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب، سلامٌ على من اتّبع الهدى، أمّا بعد، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين".
ولهذا قال موسى وهارون، عليهما السّلام، لفرعون: {والسّلام على من اتّبع الهدى * إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى} أي: قد أخبرنا اللّه فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متحمض لمن كذّب بآيات اللّه وتولّى عن طاعته، كما قال تعالى: {فأمّا من طغى * وآثر الحياة الدّنيا * فإنّ الجحيم هي المأوى} [النّازعات: 37 -39] وقال تعالى: {فأنذرتكم نارًا تلظّى * لا يصلاها إلا الأشقى * الّذي كذّب وتولّى} [اللّيل: 14 -16] وقال تعالى: {فلا صدّق ولا صلّى * ولكن كذّب وتولّى} [القيامة: 31، 32]. أي: كذّب بقلبه وتولّى بفعله). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 296-297]