سورة يوسف
[ من الآية (11) إلى الآية (14) ]
{ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)}
قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (6- وقوله تعالى: {مالك لا تأمنا} [11].
قرأ القراءُ السبعة بفتح الميم وتشديد النون وتشمها الضم اتفاقًا. وإما ذكرته، لأن الأعمش قرأ {تأمننا} بالإظهار، أتى بالكلمة على أصلها.
والباقون أدغموا كراهة اجتماع حرفين متجانسين.
وقرأ أبو جعفر أيضًا: {تأمنا} مدغما غير أنه لم يشم النون الضمة، لأن كل حرف مدغم يسكن ثم يدغم.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/302]
وقرأ يحيى بن وثاب: {تيمنا} بكسر التاء، هي لغة، يقولون في كل فعل كان الماضي منه على فعل بكسر أول المضارع نحو علمت تعلم وأمنت تيمن.
حدثني أحمد بن عبدان قالك رأيت أعرابيًا يطوف بالبيت وهو يقول «رب اغفر لي وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم». وأنشدني ابن مجاهد:
لو قلت ما في قومها لم تيثم = يفضلها في حسب وميسم
وذكر سيبويه رضي الله عنه أن من كسر التاء والنون والهمزة في تعلم ونعلم وأنا اعلم لم يقل: زيد يعلم استثقالاً للكسرة على اليا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/303]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: وكلّهم قرأ: لا تأمنا [يوسف/ 11]، بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضمّ اتفاقا.
وجهه: أن الحرف المدغم بمنزلة الحرف الموقوف عليه من حيث جمعها السكون، فمن حيث أشمّوا الحرف الموقوف
[الحجة للقراء السبعة: 4/400]
عليه إذا كان مرفوعا في الإدراج أشمّوا النون المدغمة في تأمنا وليس ذلك بصوت خارج إلى اللفظ، إنّما تهيئة العضو لإخراج ذلك الصوت به، ليعلم بالتهيئة أنه يريد ذلك المتهيّئ له، ويدلّك على أنه يجري مجرى الوقف أن الهمزة إذا كان قبلها ساكن حذفت حذفا، ولم تخفف بأن تجعل بين بين كما أنّها إذا ابتدئت لا تخفف، لأن التخفيف تقريب من الساكن، فكما لا يبتدأ بالساكن، كذلك لا يبتدأ بالمقرّب منه، ولو رام الحركة فيها لم يجز مع الإدغام، كما جاز الإشمام مع الإدغام لأن روم الحركة حركة، وإن كان الصوت قد أضعف بها، ألا ترى أنهم قالوا: إن روم الحركة يفصل به بين المذكر والمؤنث، نحو:
رأيتك، ورأيتك، وإذا كان كذلك، فالحركة تفصل بين المدغم والمدغم فيه، فلا يجوز الإدغام مع الحركة، وإن كانت قد أضعفت، لأن اللسان لا يرتفع عن الحرفين ارتفاعة واحدة، كما لا يرتفع إذا فصل بينهما حرف لانفكاك الإدغام بالحركة إذا دخلت بين المثلين أو المتقاربين، كانفكاكه بالحرف إذا دخل بينهما، وتضعيف الصوت بالحركة لا يمنع أن تكون الحركة مع تضعيفها في الفصل، كما أنّ الفصل بالحرف الضعيف القليل الجرس يجري مجرى الفصل بالحرف الزائد الصوت، ألا ترى أن الفصل بالنون التي هي من الخياشيم كالفصل بالصاد في منع المثلين من الإدغام، فكذلك الحركة التي قد أضعفت الصوت بها تفصل كما تفصل الحركة أشبعت ومططت، فهذا وجه الإدغام، والإشارة بالضم إلى الحرف المدغم.
وقد يجوز في ذلك وجه آخر في العربية؛ وهو أن تبيّن
[الحجة للقراء السبعة: 4/401]
ولا تدغم، ولكنك تخفي الحركة، وإخفاؤها هو أن لا تشبعها بالتمطيط، ولكنك تختلسها اختلاسا، وجاز الإدغام والبيان جميعا، لأن الحرفين ليسا يلزمان، فلمّا لم يلزما صار بمنزلة:
اقتتلوا* في جواز البيان فيه والإدغام جميعا، ومثل ذلك: نعما يعظكم به [النساء/ 58]، فيمن أسكن العين، فالذي أسكن العين لم يدغم، كما يجوز أن يدغم من كسر العين، والذي كسر العين لم يحرك الساكن من أجل الإدغام، لأن تحريك ما قبل الحرف المدغم لا يجوز في الإدغام، إذا كان المدغم منفصلا من المدغم فيه، ولكن: نعم* على لغة من حرك العين قبل الإدغام، ولو حرّكه وألقى حركة المدغم عليه لوجب أن يكون مفتوحا أو يجوز فيه التحريك بالفتح، لأن حركة المدغم الفتحة من حيث كان آخر المثال الماضي). [الحجة للقراء السبعة: 4/402]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (6- {لَا تَأْمَنَّا} [آية/ 11]:
اتفق القراء الثمانية على فتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية وإشمام الضمة في النون الأولى، وهو إشارة إلى الضمة من غير إمحاض.
ووجه ذلك أن أصله لا تأمننا بنونين على تفعلنا، فأُدغمت النون الأولى في الثانية، فبقي تأمنا بنون مدغمة، ثم أُشمت النون الأولى المدغمة الضمة التي كان لها قبل الإدغام، كما يُشم الحرف الموقوف عليه الحركة في حال الوقف، نحو قولك: هذا فرج بإشمام الجيم الضمة.
وإنما فعلوا ذلك لحرصهم على إبانة ما للحرف من الحركة.
وليس هذا الإشمام بصوتٍ، إنما هو تهيئة العضو لإخراج ذلك الصوت ليُعلم أن الذي يُتهيأ له مراد.
ورُوي عن نافع أنه ترك الإشمام.
والوجه أنه هو الأصل؛ لأنه إذا أدغم أحد الحرفين في الآخر أسكن الأول لا محالة، وليس الإشمام بواجب، إنما هو زيادة في التبيين، فهو دلالة على الحركة). [الموضح: 671]
قوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (7- وقوله تعالى: {يرتع ويلعب} [12].
قرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون جميعًا وإسكان الباء والعين. فمعنى نرتع، أي: نتسع في الخصب، مأخوذ من الرتعة. ونلعب: نُسرُّ. فقيل لأبي عمرو: وكيف يلعبون وهم أنبياء الله؟ قال: إذ ذاك لم يكونوا بأنبياء بعد. يقال: رتع يرتع رتعا ورتوعا فهو راتع، قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/303]
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت = فإنما هي إقبال وإدبار
وقرأ مجاهد {نرتع} بضم النون، جعله من أرتع يرتع، ومن كسر العين جعله ارتعيت أرتعى ارتعاء، أنشدني ابن دريد رضي الله عنه:
إذا أحس نبأة ريع وإن = تطامنت عنه تمادى ولها
نهال للشيء الذي يروعنا = ونرتعي في غفلة إذا انقضى
نحن ولا كفران لله كمن = قد قيل في السارب أخلى فارتعى
وقال آخر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/304]
رأيت غزالاً يرتعى وسط روضة = فقلت أرى ليلى تلس به زهرا
معنى تلس، أي: تتناول النبات بفيها، وإنما كسر نافع العين؛ لأن الأصل: نرتعي ونلعب فسقطت الياء للجزم، وإنما انجزم، لأنه جواب الأمر {أرسله معنا ... نرتع}.
وقرأ ابن كثير بالنون مثل أبي عمرو. وقرأ بالكسر مثل نافع.
وقرأ الباقون: {يرتع ويلعب} بالياء جميعًا وإسكان العين والياء، والعلة فيه أيضًا ما تقدم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/305]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: نرتع ونلعب [يوسف/ 12].
فقرأ ابن كثير: نرتع ونلعب بفتح النون فيهما وكسر العين في نرتع من ارتعيت. وحدثني عبيد الله بن علي قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا أبو بكر البكراوي عن إسماعيل المكي قال: سمعت ابن كثير يقرأ: نرتع ويلعب نرتع بالنون وكسر العين، ويلعب بالياء وجزم الباء.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر: نرتع ونلعب بالنون فيهما وتسكين الباء والعين.
[الحجة للقراء السبعة: 4/402]
وقرأ نافع: يرتع ويلعب مثل ابن كثير في كسر العين وهي بياء، ويلعب بالياء وجزم الباء.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: يرتع ويلعب بالياء فيهما وجزم العين والباء.
قراءة ابن كثير: نرتع ويلعب بالياء أحسن، لأنه جعل الارتعاء والقيام على المال لمن بلغ وجاوز الصّغر، وأسند اللعب إلى يوسف لصغره، ولا لوم على الصغير في اللعب ولا ذمّ، والدليل على صغر يوسف، قول إخوته: وإنا له لحافظون [يوسف/ 12]، ولو كان كبيرا لم يحتج إلى حفظهم، ويدلّ على ذلك أيضا قول يعقوب: وأخاف أن يأكله الذئب [يوسف/ 13]، ولو لم يكن صغيرا قاوم الذئب، وإنما يخاف الذئب على من لا دفاع فيه ولا ممانعة عنده من شيخ فان وصبيّ صغير، وعلى هذا قال:
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا... أملك رأس البعير إن نفرا
[الحجة للقراء السبعة: 4/403]
والذئب أخشاه إن مررت به... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا
وفي المثل: «بما لا أخشى الذئب».
وأما اللعب فمما لا ينبغي أن ينسب إلى أهل النسك والصلاح، ألا ترى قوله: أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين [الأنبياء/ 55] فقوبل اللعب بالحق، فدلّ أنه خلافه، وقال:
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب [التوبة/ 65]، وقال: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا [الأعراف/ 51].
فأما الارتعاء: فهو افتعال من رعيت مثل: شويت واشتويت، وكل واحد منهما متعدّ إلى مفعول به، قال الأعشى:
ترتعي السّفح فالكثيب فذاقا... ر فروض القطا فذات الرّئال
وقال الآخر:
رعى بارض البهمى جميما وبسرة... وصمعاء حتّى آنفته نصالها
[الحجة للقراء السبعة: 4/404]
وقد يستقيم أن يقال: نرتع وترتع إبلهم فيما قال أبو عبيدة، ووجه ذلك أنه كان الأصل: ترتع إبلنا، ثم حذف المضاف، وأسند الفعل إلى المتكلمين فصار نرتع، وكذلك نرتعي على: ترتعي إبلنا، ثم يحذف المضاف فيكون: نرتعي.
وقال أبو عبيدة: نرتع: نلهو، وقد تكون هذه الكلمة على غير معنى اللهو، ولكن على معنى النّيل من الشيء، كقولهم: «القيد والرّتعة»، وكان هذا على النيل
والتناول مما يحتاج إليه الحيوان، وقد قال الأعشى:
صدر النهار تراعي ثيرة رتعا
[الحجة للقراء السبعة: 4/405]
وعلى هذا قالوا: رأيت مرتع إبلك، لمرادها الذي ترعى فيه، فهذا لا يكون على اللهو، لأنه جمع ثور راتع أو رتوع.
وأما قراءة أبي عمرو وابن عامر: نرتع ونلعب فيكون:
نرتع على: ترتع إبلنا، أو على أنّنا ننال مما نحتاج إليه وتنال معنا.
فأمّا نلعب فحكي أنّ أبا عمرو قيل له: كيف يقولون:
نلعب وهم أنبياء؟! فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، فلو صحّت هذه الحكاية عن أبي عمرو، وصحّ عنده هذا التاريخ فذاك وإلا... فقد قال الشاعر:
جدّت جذاذ بلاعب وتقشّعت... غمرات قالب لبسة حيران
فكأنّ اللاعب هنا الذي يشمّر في أمره فدخله بعض الهوينى، فهذا أسهل من الوجه الذي قوبل به الحق، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لجابر: «فهلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك»
فهذا كأنه يتشاغل بمباح وتنفيس وجمام من الجدّ وتعمّل لما يتقوّى به عمل النظر في العلم والعبادة، وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا أكثر النظر في مسائل الفقه قال: «أحمضوا»، وروي: «إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن
[الحجة للقراء السبعة: 4/406]
المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»
وليس هذا اللعب كاللعب في قوله: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب [التوبة/ 65].
فأما قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ يرتع ويلعب جميعا بالياء، فإن كان يرتع من اللهو، كما فسّره أبو عبيدة، فلا يمتنع أن يخبر به عن يوسف لصغره، كما لا يمتنع أن ينسب إليه اللعب لذلك، فإن كان يرتع من النيل من الشيء، فذلك لا يمتنع عليه أيضا فوجهه بيّن، وهذا أبين من قول من قال:
ونلعب بالنون، لأنهم إنما سألوا إرساله ليتنفس بلعبه، ولم يسألوا إرساله ليلعبوا هم). [الحجة للقراء السبعة: 4/407]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة العلاء بن سيابة: [يَرْتَعِ] بالياء وكسر العين، و[يَلْعَبُ] رفعًا، وقرأ: [يُرْتِعْ وَيَلْعَبْ] أبو رجاء.
قال أبو الفتح: أما [يَرْتَعِ] فجزم؛ لأنه جواب [أرسله]، و"يلعب" مرفوع لأنه جعله استئنافًا؛ أي: هو ممن يعلب، كقولك: زرني أُحسنُ إليك؛ أي: أنا ممن يحسن إليك، إلا أن الرفع في "أُحسن" هنا يُضعف الضمان، ألا ترى أن معناه: أنا كذلك، وليس فيه قوة معنى الإحسان إليه مع الجزم؟
وأما [يُرْتِعْ وَيَلْعَبْ] فمجزومان لأنهما جوابان؛ أحدهما: معطوف على صاحبه، وهو على حذف المفعول؛ أي: يُرْتِعْ مطيته، فحذف المفعول.
وعلى ذكر حذف المفعول فما أعرَبه وأعذَبه في الكلام! ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} أي: تذودان إبلهما، ولو نطق بالمفعول لما كان في عذوبة حذفه ولا في علوه. وأنشدنا أبو علي للحطيئة:
منعَّمةٌ تصون إليك منها ... كَصَونِك من رداءٍ شَرْعَبِيِّ
[المحتسب: 1/333]
أي: تصون الحديث وتَخزُنه، فهو كقول الشَّنْفَرَى:
كأن لها في الأرض نِسْيًا تَقُصُّهُ ... على أمها وإن تخاطبك تَبْلِتِ
أي: تقطع حديثها حياء وخفرًا. واعتدل في هذا الموضع ذو الرمة، قال:
لها بشَر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هُرَاء ولا نَزْرُ
وما أظرف قوله: رخيم الحواشي؛ أي: لا تنتشر حواشيه فتهرأ فيه، ولا يضيق عما يُحتاج من مثلها إليه للسماع والفكاهة؛ لكنه على اعتدال، وكما يُستحسن ويستعذب من التِّقال، ألا ترى إلى قول الآخر:
ولما قضينا من مِنى كل حاجة ... ومَسَّحَ بالأركان مَن هو ماسحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
ومنه:
وحديث أَلَذُّه هو مما ... تشتهيه النفوس يُوزَن وزْنا
مَنطِقٌ صائب وتلحَن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لَحْنَا
أي: تارة تورد القول صائبًا مسددًا، وأخرى تُحرف فيه وتلحن؛ أي: تعدل عن الجهة الواضحة معتمدة لذلك تلعُّبا بالقول، وهو من قوله عليه السلام: "فلعل أحدكم يكون ألحن
[المحتسب: 1/334]
بحجته"؛ أي: أنهض بها وأحسن تصرفًا فيها. وليس من اللحن الذي هو إفساد الإعراب، ذلك حديث غير هذا، وقد تقصيت هذا المذهب في الخصائص، فليُطلب هناك). [المحتسب: 1/335]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({أرسله معنا غدا يرتع ويلعب}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (نرتع ونلعب) بالنّون أخبر الإخوة عن أنفسهم وحجتهم ذكرها الزيدي قال وتصديقها قوله بعدها {إنّا ذهبنا نستبق} فكأن اليزيدي ذهب إلى أنهم أسندوا جميع ذلك إلى جماعتهم إذ أسندوا الاستباق قيل لأبي عمرو
[حجة القراءات: 355]
فكيف يلعبون وهم أنبياء الله فقال إذ ذاك لم يكونوا أنبياء الله
وقرأ أهل المدينة والكوفة {يرتع ويلعب} بالياء إخبارًا عن يوسف وبذلك جاء تأويل أهل التّأويل في ذلك قال ابن عبّاس {يرتع ويلعب} أي يلهو وينشط ويسعى وحجتهم في ذلك أن القوم إنّما كان قولهم ذلك ليعقوب اختداعا منهم إيّاه عن يوسف إذ سألوه أن يرسله معهم لينشط يوسف لخروجه إلى الصّحراء ويلعب هناك لا أنهم أرادوا إعلامه بما لهم من الرّفق والفائدة لخروجه
قرأ نافع وابن كثير (نرتع) بكسر العين أي يرعى ماشيته ويرعى المال كما يرعاه الرّاعي وهو يفتعل من الرّعاية تقول ارتعى القوم إذا تحارسوا ورعى بعضهم بعضًا وحفظ بعضهم بعضًا ويقال رعاك الله أي حفظك والأصل نرتعي فسقطت الياء للجزم لأنّه جواب الأمر
وقرأ الباقون {يرتع} بجزم العين أي يأكل يقال رتعت الإبل وأنا أرتعتها إذا تركتها ترعى كيف شاءت قال الشّاعر:
ترتع ما رتعت حتّى إذا ادكرت ... فإنّما هي إقبال وإدبار
وكذلك الإنسان يقال رتع يرتع رتعا فهو راتع
وعلامة الجزم سكون العين في هذه القراءة وإنّما انجزم لأنّه جواب الأمر المعنى أرسله إن ترسله يرتع ويلعب). [حجة القراءات: 356]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (7- قوله: {يرتع ويلعب} قرأ الكوفيون ونافع
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/5]
بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالنون، وكسر الحرميان العين من {يرتع}، وأسكنها الباقون وعن ابن كثير أنه قرأ «نرتع» بالنون وكسر العين، و«يلعب» بالياء.
وحجة من قرأ بالياء أنه أسند الفعل إلى يوسف لتقدم ذكره، وحسن الاختيار عنه باللعب لصغره؛ لأن ذلك مرفوع عنه في اللوم.
8- وحجة من قرأ بالنون أنه حمله على الإخبار من أخوة يوسف عن أنفسهم بذلك إذ لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت، واللعب في غير الباطل جائز، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: «فهلا بكرا تلاعبها أو تلاعبك» فلا نقص عليهم في إضافتهم اللعب إلى أنفسهم على هذا المعنى.
9- وحجة من قرأ «نرتع» بالنون و«يلعب» بالياء أنه أخبر عن أخوة يوسف بـ «نرتع» لجواز ذلك عليهم؛ لأن المعنى: نرتع إبلنا، وأضاف «يلعب» إلى يوسف؛ لجواز اللعب عليه لصغر سنه.
10- وحجة من قرأ بإسكان العين أنه جعله من «رتع يرتع» إذا
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/6]
رعى، فأسكن العين للجزم لأنه جواب الطلب في يقوله: {أرسله معنا}.
11- وحجة من كسر العين أنه جعله من «رعى يرعى» وهو مثل «رتع» في المعنى، إلا أن من جعله من «رعى» فإن لامه ياء، فحذفها علم الجزم، ومن جعله من «رتع» فلامه عين، فسكونها علم الجزم، وقد قيل: معنى نرتع نلهو، فتحسن القراءة بالياء لإضافة اللهو إلى يوسف، إذ لام ذم عليه في ذلك لصغره، ويعد في القراءة بالنون لإضافة اللهو إلى أخوة يوسف، وهم كبار، وقد ذكرنا همز «الذئب» فيما تقدم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/7]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (7- {نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ} [آية/ 12] بالنون فيهما، وبإسكان العين من {نَرتَعْ}:
قرأهما أبو عمرو وابن عامر.
[الموضح: 671]
وابن كثير يوافقهما في النون فيهما إلا أنه يكسر العين من {نَرْتَعِ}.
وقنبل يلحق به ياء، والبزي لا يلحقها.
والوجه أن {نَرْتَعْ} بسكون العين مضارع رتعنا، وهو جزم؛ لأنه جواب الأمر وهو {أَرْسِلْهُ}.
وأما {نَرتَعِ} بكسر العين، فإنه نفتعل من الرعي، وهو مضارع ارتعينا، وهو جزم أيضًا؛ لأنه جواب الأمر، فلهذا حذف منه الياء من حذف، وكان الأصل نرتعي، والمعنى في نرتعْ ونرتعِ: ترتعْ إبلنا أو ترتعِ إبلنا، فحُذف المضاف وأُسند الفعل إلى المضاف إليه.
والمراد بقوله {نَلعَبْ} بالنون هو تشاغل منهم بإجمام النفس من الجد بمباح يحصل به تنفيسٌ وقوة على العلم والعبادة، وليس هو كاللعب في قوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
وحُكي عن أبي عمرو أنه سئُل عن هذا، وقيل له: كيف قالوا نلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذٍ أنبياء، فإن صحّ هذا فهو وجهٌ.
وقرأ نافع {يَرْتَعِ ويلعبْ} بالياء فيهما، وكسر العين من {يرتعِ}.
وقرأ الكوفيون ويعقوب {يرتَعْ ويلعَبْ} بالياء فيهما، وإسكان العين من {يَرْتَعْ}.
والوجه أن الرتع أو الارتعاء (في هذه القراءة، إنما) هما مسندان إلى
[الموضح: 672]
يوسف، والمعنى ينال ما يحتاج إليه من رعي المواشي ويلعب كما (يلعب) الصبيان؛ لأن يوسف كان صغيرًا، يدل على صغره حينئذٍ قول أبيه {أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} وقول إخوته {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
وروى –يل- عن ابن كثير {نَرْتَعِ} بالنون وكسر العين، و{يَلْعَبْ} بالياء.
والوجه أنه جعل رَعي المواشي والقيام على المال مسندًا إلى البالغين، واللعب مسندًا إلى يوسف وهو صغير في ذلك الوقت). [الموضح: 673]
قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)}
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وأخاف أن يأكله الذّئب وأنتم عنه غافلون}
[حجة القراءات: 356]
قرأ أبو عمرو والكسائيّ وورش عن نافع (الذيب) بغير همز وقرأ الباقون بالهمز وهو الأصل لأنّه مأخوذ من تذاء بت الرّيح إذا أتت من كل ناحية فكأنّه شبه من خفته وسرعة حركته بالرّيح). [حجة القراءات: 357]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (8- {الذئبُ} [آية/ 13 و14 و17] بالهمز:
قرأها ابن كثير، ونافع –يل-، وأبو عمرو إذا لم يُدْرِج، وعاصمٌ، وابن عامر، وحمزة إذا لم يقف.
وقرأ الكسائي، و-ياش- عن عاصم، و-ش- عن نافع، وأبو عمرو في الدرج، وحمزة في الوقف {الذيب} بترك الهمز.
[الموضح: 673]
والوجه في الهمز أنه هو الأصل؛ لأنه من قولهم تذأبت الريح إذا جاءت من كل وجه، ويجمع الذئب أذؤبًا بالهمز وذئابًا، ومنه المثل: استذأب النقد، أي صار ذئبًا، يضرب للذليل يصير عزيزًا.
فهذا كاه يدل على أن أصل الذئب الهمز.
والوجه في ترك الهمز أن الهمزة خُففت فقُلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وكل همزة سكنت وتحركت ما قبلها فتخفيفها أن تُقلب حرفًا من جنس حركة ما قبلها). [الموضح: 674] (م)
قوله تعالى: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {لئن أكله الذئب} [14].
قرأ الكسائي وحده بغير همز.
وقرأ الباقون مهموزًا، وهو الأصل؛ لأنه مأخوذ من تذأبت الريح: إذا أتت من كل ناحية.
وجمع الذئب: أذؤب وذئاب وذؤبان، [وذؤبان] العرب: لصوصهم مشبهة بالذئب؛ لأن الذئب لص، ويقال للص: الطمل، ويقال للذئب: الطمل. ومن ترك الهمزة فتخفيفًا كما تركت الهمزة من البئر. وهمزها آخرون قال ذو الرمة:
فبات يشئزه ثأد ويسهره = تذاؤب الريح والوسواس والهضب
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/305]
يشئزه: يقلقه. والثأد: الندى. والوسواس: الحركة. والهضب: الأمطار). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/306]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في همز الذئب وتركه. [13 - 14].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة: بالهمز.
وقرأ الكسائيّ وحده بغير همز.
حدثني عبيد الله عن نصر عن أبيه قال: سمعت أبا عمرو يقرأ: فأكله الذيب لا يهمز.
قال: وأهل الحجاز يهمزون.
وروى عباس بن الفضل عن أبي عمرو أنه لا يهمز.
وروى ورش عن نافع أنه لم يهمز، وقال ابن جمّاز:
[الحجة للقراء السبعة: 4/407]
أبو جعفر، وشيبة ونافع: لا يهمزون الذيب. قال أبو بكر: وهذا وهم، إنما هو أبو جعفر وشيبة لا يهمزانه، ونافع يهمز. كذا قال إسماعيل بن جعفر عنهم، وروى المسيّبي وأبو بكر بن أبي أويس وقالون، وإسماعيل ويعقوب ابنا جعفر بن أبي كثير عن نافع أنه همز. وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد الحارثي البصري كريزان عن الأصمعي قال: سألت نافعا عن الذئب والبئر، فقال: إن كانت العرب تهمزها فاهمزها.
قال أبو علي: الذئب مهموز في الأصل، وقالوا: تذاءبت الرّيح إذا جاءت من كلّ جهة، كأن المعنى أنها أتت كما يأتي الذئب. قال:
غدا كأنّ به جنّا تذاء به... من كلّ أقطاره يخشى ويرتقب
أي: يأتيه من جميع جهاته فإذا خفّفت الهمزة منه قلبت ياء، وكذلك البير، ولو وقعت في ردف لقلبتها قلبا إلى الياء، كما تقلب ألف رال في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 4/408]
كأنّ مكان الرّدف منه على رال وقد جمعوا فقالوا في العدد القليل: أذؤب، وقالوا: ذئب وذؤبان، كما قالوا زقّ وزقّان. قال:
وأزور يمطو في بلاد بعيدة... تعاوى به ذؤبانه
وثعالبه وقالوا: ذئاب، قال:
ولكنّما أهلي بواد أنيسه... ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد
فإن خفّفت الهمزة أبدلت منها الياء فقلت: دياب). [الحجة للقراء السبعة: 4/409]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (8- {الذئبُ} [آية/ 13 و14 و17] بالهمز:
قرأها ابن كثير، ونافع –يل-، وأبو عمرو إذا لم يُدْرِج، وعاصمٌ، وابن عامر، وحمزة إذا لم يقف.
وقرأ الكسائي، و-ياش- عن عاصم، و-ش- عن نافع، وأبو عمرو في الدرج، وحمزة في الوقف {الذيب} بترك الهمز.
[الموضح: 673]
والوجه في الهمز أنه هو الأصل؛ لأنه من قولهم تذأبت الريح إذا جاءت من كل وجه، ويجمع الذئب أذؤبًا بالهمز وذئابًا، ومنه المثل: استذأب النقد، أي صار ذئبًا، يضرب للذليل يصير عزيزًا.
فهذا كاه يدل على أن أصل الذئب الهمز.
والوجه في ترك الهمز أن الهمزة خُففت فقُلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وكل همزة سكنت وتحركت ما قبلها فتخفيفها أن تُقلب حرفًا من جنس حركة ما قبلها). [الموضح: 674] (م)
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين