تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقول: {ملأ فرعون أتذر موسى وقومه}؛ مقالة تتضمن إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم أو تغيير ما بهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون، ومعنى أتذر موسى: أتترك، وقرأ جمهور الناس «ويذرك» بفتح الراء، ونصبه على معنيين: أحدهما أن يقدر «وأن يذرك» فهي واو الصرف فكأنهم قالوا أتذره، وأن يذرك أي أتتركه وتركك، والمعنى الآخر أن يعطف على قوله: {ليفسدوا}، وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه: «ويذرك» بالرفع عطفا على قولهم أتذر، وقرأ الأشهب العقيلي «ويذرك» بإسكان الراء وهذا على التحقيق من يذرك، وقرأ أنس بن مالك: «وينذرك» بالنون ورفع الفعل على معنى توعد منهم أو على معنى إخبار أن الأمر يؤول إلى هذا، وقرأ أبي بن كعب وعبد الله: «في الأرض» وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك»، قال أبو حاتم وقرأ الأعمش «وقد تركك وآلهتك»، وقرأ السبعة وجمهور من العلماء «وآلهتك» على الجمع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على ما روي أن فرعون كان في زمنه للناس آلهة من بقر وأصنام وغير ذلك، وكان فرعون قد شرع ذلك وجعل نفسه الإله الأعلى، فقوله على هذا أنا ربكم الأعلى، إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه من المعبودات.
وقيل: إن فرعون كان يعبد حجرا كان يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها، قال الحسن: كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها، وقال سليمان التيمي: بلغني أنه كان يعبد البقر، ذكره أبو حاتم وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس بن مالك وجماعة وغيرهم، وآلهتك أي وعبادتك والتذلل لك، وزعمت هذه الفرقة: أن فرعون لم يبح عبادة شيء سواه وأنه في قوله: الأعلى إنما أراد: الأعظم والأكبر دون مناسبة.
قال ابن عباس: كان فرعون يعبد ولا يعبد، وقرأ ابن كثير «سنقتل» بالتخفيف و «يقتّلون» بالتشديد وخففهما جميعا نافع وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «يقتّلون» و «سنقتّل» بالتشديد على المبالغة، والمعنى سنستمر على ما كنا عليه من تعذيبهم وقطعهم.
وقوله تعالى: {وإنّا فوقهم قاهرون}؛ يريد في المنزلة والتمكن من الدنيا، وقاهرون يقتضي تحقير أمرهم أي هم أقل من أن يهتم بهم). [المحرر الوجيز: 4/ 23-24]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال موسى لقومه استعينوا باللّه واصبروا إنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين (128) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون (129) ولقد أخذنا آل فرعون بالسّنين ونقصٍ من الثّمرات لعلّهم يذّكّرون (130)}
لما قال فرعون سنقتل أبناءهم وتوعدهم قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل يثبتهم ويعدهم عند الله استعينوا باللّه واصبروا وظاهر هذا الكلام كله وعد بغيب فكأن قوته تقتضي أنه من عند الله وليس في اللفظ شيء من ذلك والأرض أرض الدنيا وهو الأظهر، وقيل المراد هنا أرض الجنة، وأما في الثانية فأرض الدنيا لا غير، وقرأت فرقة «يورثها» بفتح الراء، وقرأ السبعة «يورثها» ساكنة الواو خفيفة الراء مكسورة، وروى حفص عن عاصم وهي قراءة الحسن «يورّثها» بتشديد الراء على المبالغة، والصبر في هذه الآية يعم الانتظار الذي هو عبادة والصبر في المناجزات). [المحرر الوجيز: 4/ 25]
تفسير قوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقولهم: {من قبل أن تأتينا} يعنون به الذبح الذي كان فالمدة التي كان فرعون يتخوف فيها أن يولد المولود الذي يخرب ملكه، والذي من بعد مجيئه يعنون به وعيد فرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم، وقال السدي وابن عباس رضي الله عنه: إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة حين اتبعهم فرعون واضطرهم إلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحرا أمامهم وعدوا كثيفا وراءهم فقالوا هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبالجملة هو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدين واستعطاف موسى لهم بقوله: عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدل على أنه يستدعي نفوسا نافرة، ويقوي هذا الظن في بني إسرائيل سلوكهم هذه السبيل في غير قصة، وحكى النقاش أنهم قالوا ذلك بمصر حين كلفهم فرعون من العمل ما لا يطيقون، وروي أنه كان يكلفهم عمل الطوب ويمنعهم التبن ليشق عليهم عمله، وقوله تعالى: فينظر كيف تعملون تنبيه وحض على الاستقامة، وإن قدر هذا الوعد أنه من عند الله فيتخرج عليه قول الحسن بن أبي الحسن: عسى من الله واجبة، وقد استخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان، وقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع). [المحرر الوجيز: 4/ 25-26]