تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وهو الّذي يرسل الرّياح بشراً بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلدٍ ميّتٍ فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون (57) والبلد الطّيّب يخرج نباته بإذن ربّه والّذي خبث لا يخرج إلاّ نكداً كذلك نصرّف الآيات لقومٍ يشكرون (58)}
هذه آية اعتبار واستدلال، وقرأ نافع وأبو عمرو «الرياح» بالجمع «نشرا» بضم النون والشين، قال أبو حاتم: وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء، واختلف عنهم الأعرج، وأبي جعفر ونافع وأبي عمرو وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين، وقرأ ابن كثير «الريح» واحدة «نشرا» بضمها أيضا، وقرأ ابن عامر «الرياح» جمعا «نشرا» بضم النون وسكون الشين، قال أبو حاتم: ورويت عن الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء وقتادة وأبي عمرو، وقرأ حمزة والكسائي، «الريح» واحدة، «نشرا» بفتح النون وسكون الشين، قال أبو حاتم وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش وابن وثاب وإبراهيم وطلحة والأعمش ومسروق بن الأجدع، وقرأ ابن جني قراءة مسروق «نشرا» بفتح النون والشين، وقرأ عاصم «الرياح» جماعة «بشرا» بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه «بشرا» بضم الباء والشين، وقرأ بها ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة. وقرأ محمد بن السميفع وأبو قطيب «بشرى» على وزن فعلى بضم الباء، ورويت عن أبي يحيى وأبي نوفل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «بشرا» بفتح الباء وسكون الشين، قال الزهراوي: ورويت هذه عن عاصم.
ومن جمع الريح في هذه الآية فهو أسعد، وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة كقوله: {ومن آياته أن يرسل الرّياح مبشّراتٍ} [الروم: 45]، وقوله: {وأرسلنا الرّياح لواقح} [الحجر: 22] وقوله: {اللّه الّذي يرسل الرّياح فتثير سحاباً} [الروم: 48] وأكثر ذكر الريح مفردة، إنما هو بقرينة عذاب، كقوله: {وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الرّيح العقيم} [الذاريات: 41] وقوله: {وأمّا عادٌ فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ} [الحاقة: 6] وقوله: {بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ تدمّر كلّ شيءٍ بأمر ربّها}[الأحقاف: 24] نحا هذا المنحى يحيى بن يعمر وأبو عمرو بن العلاء وعاصم، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح يقول: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والمعنى في هذا كله بين، وذلك أن ريح السقيا والمطر أنها هي منتشرة لينة تجيء من هاهنا وتتفرق فيحسن من حيث هي منفصلة الأجزاء متغايرة المهب يسيرا أن يقال لها رياح، وتوصف بالكثرة ريح الصر والعذاب، عاصفة صرصر جسد واحد شديدة المر مهلكة بقوتها وبما تحمله أحيانا من الصر المحرق، فيحسن من حيث هي شديدة الاتصال أن تسمى ريحا مفردة، وكذلك أفردت الريح في قوله تعالى: {وجرين بهم بريحٍ طيّبةٍ} [يونس: 22] من حيث جري السفن إنما جرت بريح متصلة كأنها شيء واحد فأفردت لذلك ووصفت بالطيب إزالة الاشتراك بينها وبين الريح المكروهة، وكذلك ريح سليمان عليه السلام إنما كانت تجري بأمره أو تعصف في حقوله وهي متصلة، وبعد فمن قرأ في هذه الآية الريح بالإفراد فإنما يريد به اسم الجنس، وأيضا فتقييدها ب «نشر» يزيل الاشتراك.
والإرسال في الريح هو بمعنى والإجراء والإطلاق والإسالة ومنه الحديث فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، والريح تجمع في القليل أرواح وفي الكثير رياح لأن العين من الريح واو انقلبت في الواحد ياء للكسر الذي قبلها، وكذلك في الجمع الكثير، وصحت في القليل لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال، وأما «نشرا» بضم النون والشين فيحتمل أن يكون جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي أو نشور من الحياة، ويحتمل «نشرا» أن يكون جمع نشور بفتح النون وضم الشين كرسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر، ويحتمل «نشرا» أن يكون كالمفعول بمعنى منشور كركوب بمعنى مركوب، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل لأنها تنشر الحساب، وأما مثال الأول في قولنا ناشر ونشر فشاهد وشهد ونازل ونزل، كما قال الشاعر:
... ... ... ... ....... أو تنزلون فإنّا معشر نزل
وقاتل وقتل ومنه قول الأعشى: [البسيط]
... ... ... ... ....... إنا لمثلكم يا قومنا قتل
وأما من قرأ «نشرا» بضم النون وسكون الشين فإنما خفف الشين من قوله نشراً وأما من قرأ «نشرا» بفتح النون وسكون الشين فهو مصدر في موضع الحال من الريح، ويحتمل في المعنى أن يراد به من النشر الذي هو خلاف الطيّ كل بقاء الريح دون هبوب طيّ، ويحتمل أن يكون من أن النشر الذي هو الإحياء كما قال الأعشى: [السريع]
... ... ... ... ....... يا عجبا للميّت الناشر
وأما من قرأ «نشرا» بفتح النون والشين وهي قراءة شاذة فهو اسم وهو على النسب، قال أبو الفتح أي ذوات نشر، والنّشر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى، فشبه السحاب، في انتشاره وعمومه بذلك، وأما «بشرا» بضم الباء والشين فجمع بشير كنذير ونذر، و «بشرا» بسكون الشين مخفف منه و «بشرا» بفتح الباء وسكون الشين مصدر و «بشرى» مصدر أيضا في موضع الحال. و «الرحمة» في هذه الآية المطر، وبين يدي أي أمام رحمته وقدامها وهي هنا استعارة وهي حقيقة فيما بين يدي الإنسان من الأجرام.
وأقلّت معناه: رفعت من الأرض واستقلت بها، ومنه القلة وكأن المقل يرد ما رفع قليلا إذا قدر عليه، وثقالًا معناه من الماء، والعرب تصف السحاب بالثقل والدلح، ومنه قول قيس بن الخطيم:
[المتقارب]
بأحسن منها ولا مزنة ....... دلوح تكشف أدجانها
والريح تسوق السحاب من ورائها فهو سوق حقيقة، والضمير في سقناه عائد على السحاب، واستند الفعل إلى ضمير اسم الله تعالى من حيث هو إنعام، وصفة البلد بالموت استعارة بسبب سعته وجدوبته وتصويح نباته، وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش: «لبلد ميت» بسكون الياء وشدها الباقون، والضمير في قوله: {فأنزلنا به} يحتمل أن يعود على الحساب أي منه، ويحتمل أن يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الماء وهو أظهرها، وقال السدي في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرق السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه من ثم ثم تنشره فتبسطه في السماء ثم تفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى كذلك نخرج الموتى يحتمل مقصدين أحدهما أن يراد كهذه القدرة العظيمة في إنزال الماء وإخراج الثمرات به من الأرض المجدبة هي القدرة على إحياء الموتى من الأجداث وهذه مثال لها، ويحتمل أن يراد أن هكذا يصنع بالأموات من نزول المطر عليهم حتى يحيوا به فيكون الكلام خبرا لا مثلا، وهذا التأويل إنما يستند إلى الحديث الذي ذكره الطبري عن أبي هريرة:«أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى مطر عليهم مطر من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع، فإذا كملت أجسادهم نفخ فيهم الروح، ثم تلقى عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم، فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون»). [المحرر الوجيز: 3/ 584-588]
تفسير قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {والبلد الطّيّب يخرج نباته ... آية} متممة للمعنى الأول في الآية قبلها معرفة بعادة الله تعالى في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مثالا لقلب المؤمن وقلب الكافر فذلك كله مرتب، لكن ألفاظ الآية لا تقتضي أن المثال قصد بذلك والتمثيل بذلك حكاه الطبري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وقال النحاس: هو مثال للفهيم وللبليد، والطّيّب: هو الجيد التراب الكريم الأرض، وخص بإذن ربه مدحا وتشريفا، وهذا كما تقول لمن تغض منه، أنت كما شاء الله فهي عبارة تعطي مبالغة في مدح أو ذم ومن هذا قوله تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى اللّه} [البقرة: 275] على بعض التأويلات، والخبيث هو السباخ ونحوها من رديء الأرض، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر «يخرج نباته» بضم الياء وكسر الراء ونصب التاء، و «النكد» العسير القليل، ومنه قول الشاعر: [المنسرح]
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ....... أعطيت أعطيت تافها نكدا
ونكد الرجل إذا سأل إلحافا وأخجل ومنه قول الشاعر: [السريع]
وأعط ما أعطيته طيبا ....... لا خير في المنكود والناكد
وقرأ جمهور الناس وجميع السبعة «نكدا» بفتح النون وكسر الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف «نكدا» بتخفيف الكاف وفتح النون، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «نَكَدًا» بفتح النون والكاف، وقال الزجّاج: وهي قراءة أهل المدينة كذلك نصرّف الآيات أي هكذا نبين الأمور، ويشكرون معناه يؤمنون ويثنون بآلاء الله). [المحرر الوجيز: 3/ 589-590]