تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {يا بني آدم ... الآية}، الخطاب في هذه الآية لجميع العالم. و «إن» الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة. ولذلك جاز دخول النون الثقيلة على الفعل، وإذا لم تكن «ما» لم يجز دخول النون الثقيلة. وقرأ أبي بن كعب والأعرج «تأتينكم» على لفظ الرسل. «وجاء يقصون» على المعنى. وكأنه هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم ومتحصل منه لحاضري محمد عليه السلام أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه. ويأتينّكم مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا على مراعاة وقت نزول الآية.
وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي، قال: إن الله تعالى جعل آدم وذريته في كفه، فقال: يا بني آدم إمّا يأتينّكم رسلٌ منكم الآية، قال: ثم نظر إلى الرسل، فقال: {يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليمٌ وإنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً وأنا ربّكم فاتّقون} [المؤمنون: 52] ثم بثهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل وقيل المراد بالرسل محمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: من حيث لا نبي بعده، فكأن المخاطبين هم المراد ببني آدم لا غير، إذ غيرهم لم ينله الخطاب، ذكره النقاش. ويقصّون معناه يسردون ويوردون. و «الآيات» لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، وقوله: فمن اتّقى وأصلح يصح أن تكون «من» شرطية وجوابه فلا خوفٌ عليهم وهذه الجملة هي في جواب الشرط الأول الذي هو إمّا يأتينّكم. ويصح أن تكون «من» في قوله: فمن اتّقى موصولة، وكأنه قصد بالكلام تقسيم الناس فجعل القسم الأول: فمن اتّقى. والقسم الثاني: والّذين كذّبوا بآياتنا. وجاء هذا التقسيم بجملته جوابا للشرط في قوله إمّا يأتينّكم. فكأنه قال: إن أتتكم رسل فالمتقون لا خوف عليهم، والمكذبون أصحاب النار، أي هذا هو الثمرة وفائدة الرسالة: {فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذباً} [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15] أي ليس ثم نفع للمفتري ولا غرض دنياوي. فالآية تبرية للنبي [صلى الله عليه وسلم]، من الافتراء، وتوبيخ للمفترين من الكفار. ولا في قوله: فلا خوفٌ بمعنى ليس، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» دون تنوين، ووجهه إما أن يحذف التنوين لكثرة الاستعمال وإما حملا على حذفه مع «لا». وهي تبرية ناصبة تشبه حالة الرفع في البناء بحالة النصب، وقيل: إن المراد فلا الخوف، ثم حذفت الألف واللام وبقيت الفاء على حالها لتدل على المحذوف، ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها، ويشبه أن يكون الخوف لما يستقبل من الأمور والحزن لما مضى منها). [المحرر الوجيز: 3/ 556-557]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : ({والّذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا}؛ هذه حالتان تعم جميع من يصد عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده وإما أن يستكبر فكذب وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا نحو الكفر عنادا). [المحرر الوجيز: 3/ 557]
تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذباً أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلّوا عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37)}
هذه آية وعيد واستفهام على جهة التقرير، أي لا أحد أظلم منه، وافترى معناه اختلق، وهذه وإن كانت متصلة بما قبلها أي كيف يجعلون الرسل مفترين ولا أحد أظلم ممن افترى ولا حظ للرسل إلا أن يرحم من اهتدى ويعذب من كفر، فهي أيضا مشيرة بالمعنى إلى كل مفترق إلى من تقدم ذكره من الذين قالوا واللّه أمرنا بها وقوله: أو كذّب بآياته إشارة إلى جميع الكفرة، وقوله: من الكتاب قال الحسن والسدي وأبو صالح معناه من المقرر في اللوح المحفوظ، فالكتاب عبارة عن اللوح المحفوظ، وقد تقرر في الشرع أن حظهم فيه العذاب والسخط، وقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد: قوله: من الكتاب يريد من الشقاء والسعادة التي كتبت له وعليه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويؤيد هذا القول الحديث المشهور الذي يتضمن أن الملك يأتي إذا خلق الجنين في الرحم فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة والضحاك، الكتاب يراد به الذي تكتبه الملائكة من أعمال الخليقة من خير وشر فينال هؤلاء نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك من الكتاب يراد به من القرآن، وحظهم فيه أن وجوههم تسود يوم القيامة، وقال الربيع بن أنس ومحمد بن كعب وابن زيد المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق وعمر وخير وشر في الدنيا، ورجح الطبري هذا واحتج له بقوله بعد ذلك حتّى إذا جاءتهم رسلنا أي عند انقضاء ذلك فكان معنى الآية على هذا التأويل أولئك يتمتعون ويتصرفون من الدنيا بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم، وهذا تأويل جماعة في مجيء الرسل للتوفي، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري الذي تقدم، وقالت فرقة رسلنا يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة، ويتوفّونهم معناه يستوفونهم عددا في السوق إلى جهنم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويترتب هذا التأويل مع التأويلات المتقدمة في قوله: نصيبهم من الكتاب لأن «النصيب» على تلك التأويلات إنما ينالهم في الآخرة، وقد قضى مجيء رسل الموت، وقوله حكاية عن الرسل أين ما كنتم تدعون استفهام تقرير وتوبيخ وتوقيف على خزي وهو إشارة إلى الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله. وتدعون معناه تعبدون وتؤملون، وقولهم ضلّوا معناه هلكوا وتلفوا وفقدوا. ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله: وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين وهذه الآية وما شاكلها تعارض في الظاهر، قوله تعالى: {حكاية عنهم واللّه ربّنا ما كنّا مشركين} [الأنعام: 23] واجتماعهما إما أن يكون في طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة يقولون في حال كذا وحال كذا). [المحرر الوجيز: 3/ 557-559]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النّار قال لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}
هذه حكاية ما يقول الله لهم يوم القيامة بوساطة ملائكة العذاب وعبر عن يقول. ب قال لتحقق وقوع ذلك وصدق القصة، وهذا كثير، وقوله: {في أممٍ} متعلق ب {ادخلوا}، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره كائنين أو ثابتين في أمم، فيكون في موضع الحال من الضمير في ادخلوا وقيل في بمعنى مع. وقيل هي على بابها وهو أصوب، وقوله قد خلت صفة ل أممٍ. وقوله: في النّار يصح تعلقه ب ادخلوا ويصح أن يتعلق ب أممٍ أي في أمم ثابتة أو مستقرة، ويصح تعلقه بالذكر الذي في خلت. ومعنى قد خلت على هذا التعلق أي قد تقدمت ومضى عليها الزمن وعرفها فيما تطاول من الآباد، وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت إذ أصلها فيمن مات من الناس أي صاروا إلى خلاء من الأرض، وعلى التعليقين الأولين لقوله في النّار فإنما خلت حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة، وقدم ذكر الجن لأنهم أعرق في الكفر، وإبليس أصل الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة لأنهم عقلاء مكلفون مبعوث إليهم آمنوا وصدقوا، وقد بوب البخاري رحمه الله- باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم- وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون ترابا كالبهائم، وذكر في ذلك حديثا مجهولا وما أراه يصح، والله أعلم.
والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة. قال السدي: يتلاعن آخرها وأولها، وادّاركوا معناه تلاحقوا ووزنه تفاعلوا أصله تداركوا أدغم فجلبت ألف الوصل، وقرأ أبو عمرو «اداركوا» بقطع ألف الوصل، قال أبو الفتح: هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالا فذلك إنما يجيء شاذا في ضرورة الشعر في الاسم أيضا لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال «أدركوا» بفتح الراء وبحذف الألف بعد الدال بمعنى أدرك بعضهم بعضا، وقرأ حميد «أدركوا» بضم الهمزة وكسر الراء أي أدخلوا في إدراكها. وقال مكي في قراءة مجاهد إنها «ادّاركوا» بشد الدال المفتوحة وفتح الراء، قال: وأصله إذ تركوا وزنها افتعلوا، وقرأ ابن مسعود والأعمش «تداركوا» ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الجمهور «حتى إذ اداركوا» بحذف ألف «إذا» لالتقاء الساكنين.
وقوله تعالى: {قالت أخراهم لأولاهم}؛ معناه قالت الأمة الأخيرة التي وجدت ضلالات مقررة وسننا كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك وافترت على الله وسلكت سبيل الضلال ابتداء، ربنا هؤلاء طرقوا طرق الضلال وسببوا ضلالنا فآتهم عذابا مضاعفا أي ثانيا زائدا على عذابنا إذ هم كافرون ومسببون كفرنا، وتقول ضاعفت كذا إذا جعلته مثل الأول، واللام في قوله لأولاهم كأنها لام سبب إذ القول إنما هو للرب، ثم قال عز وجل مخبرا لهم لكلٍّ ضعفٌ أي العذاب مشدد على الأول والآخر ولكن لا تعلمون أي المقادير وصور التضعيف، وهذا رد لكلام هؤلاء، إذ ليس لهم كرامة فيظهر إسعافهم.
وأما المعنى الذي دعوا فيه فظاهر حديث النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه حاصل وأن كل من سن كفرا أو معصية فعليه كفل من جهة كل من عمل بذلك بعده، ومنه حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من داع دعا إلى ضلالة إلا كان عليه وزره ووزر من اتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» الحديث، ذكره الليث بن سعد من آخر الجزء الرابع من حديثه، وذكره مالك في الموطأ غير مسند موصل، ومنه قوله «ما تقتل نسمة ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها»، أما أن هؤلاء عينوا في دعائهم الضعف وقد يكون الكفل أقل أو أكثر، وعن ابن مسعود أن «الضعف» هاهنا الأفاعي والحيات، وقرأ جميع السبعة غير عاصم في رواية أبي بكر «ولكن لا تعلمون» بالتاء ويحتمل ذلك أن يكون مخاطبة لهذه الأمة الأخيرة متصلة بقوله لهم لكلٍّ ضعفٌ ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد.
وأمته، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «ولكن لا يعلمون»، وروى حفص عن عاصم مثل قراءة الجماعة، وهذه مخاطبة لأمة محمد وإخبار عن الأمة الأخيرة التي طلبت أن يشدد العذاب على أولاها، ويحتمل أن يكون خبرا عن الطائفتين حملا على لفظة «كل»، أي لا يعلم أحد منهم قدر ما أعد لهم من عذاب الله). [المحرر الوجيز: 3/ 559-562]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله عز وجل: {وقالت أولاهم لأخراهم ... الآية}، المعنى وقالت الأمة الأولى المبتدعة للأمة الأخيرة المتبعة أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم النذر والرسل، بل دمتم في كفركم وتركتم النظر واستوت حالنا وحالكم فذوقوا العذاب باجترامكم، هذا قول السدي وأبي مجلز وغيرهما، فقوله: {فذوقوا} على هذا من كلام الأمة المتقدمة للأمة المتأخرة، وقيل قوله: {فذوقوا} هو من كلام الله عز وجل لجميعهم، وقال مجاهد: ومعنى قوله من فضلٍ أي «من» التخفيف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: معناه أنه لما قال الله لكلٍّ ضعفٌ قال الأولون للآخرين لم تبلغوا أملا في أن يكون عذابكم أخف من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف والنص عليه). [المحرر الوجيز: 3/ 562]