حرف "النّون"
"النّون" المفردة
قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): (حرف "النّون" "النّون" المفردة
"النّون" المفردة تأتي على أربعة أوجه:
1 - أحدها: "نون" التوكيد، وهي خفيفة وثقيلة، وقد اجتمعتا في قوله تعالى:{ليسجنن وليكونن}، وهما أصلان عند البصريين، وقال الكوفيّون: الثّقيلة أصل، ومعناهما التوكيد. قال الخليل: والتوكيد بالثقيلة أبلغ، ويختصان بالفعل، وأما قوله:
... أقائلن أحضروا الشهودا
فضرورة سوغها شبه الوصف بالفعل، ويؤكد بهما صيغ الأمر مطلقًا، ولو كان دعائيا، كقوله:
... فأنزلن سكينة علينا
إلّا أفعل في التّعجّب؛ لأن معناه كمعنى الفعل الماضي، وشذ قوله:
... فأحر به بطول فقر وأحريا
ولا يؤكد بهما الماضي مطلقًا، وشذ قوله:
دامن سعدك لو رحمت متيما ... لولاك لم يك للصبابة جانحا
والّذي سهله أنه بمعنى افعل.
وأما المضارع فإن كان حالا لم يؤكد بهما، وإن كان مستقبلا أكد بهما وجوبا، في نحو قوله تعالى:{وتالله لأكيدن أصنامكم}، وقريبا من
الوجوب بعد إمّا في نحو:{وإمّا تخافن من قوم}،{وإمّا ينزغنك}.
وذكر ابن جني أنه قرئ:{فإمّا ترين} "بباء" ساكنة بعدها "نون" الرّفع على حد قوله:
... يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
ففيها شذوذان: ترك "نون" التوكيد، وإثبات "نون" الرّفع مع الجازم، وجوازا كثيرا بعد الطّلب، نحو:{ولا تحسبن الله غافلا}، وقليلا في مواضع، كقولهم:
... ومن عضة ما ينبتن شكيرها
2 - الثّاني: التّنوين، وهو "نون" زائدة ساكنة تلحق الآخر لغير توكيد، فخرج "نون" حسن لأنّها أصل، و"نون" ضيفن للطفيلي لأنّها متحركة، و"نون" منكسر وانكسر لأنّها غير آخر، و"نون"{لنسفعا} لأنّها للتوكيد.
وأقسامه خمسة:
1- تنوين التّمكين: وهو اللّاحق للاسم المعرب المنصرف إعلاما ببقائه على أصله، وأنه لم يشبه الحرف فيبنى، ولا الفعل فيمنع الصّرف، ويسمى تنوين الأمكنية أيضا، وتنوين الصّرف، وذلك كزيد ورجل ورجال.
2- وتنوين التنكير: وهو اللّاحق لبعض الأسماء المبنية فرقا بين معرفتها ونكرتها، ويقع في باب اسم الفعل بالسّماع "كصه" و"مه" و"إيه"، وفي العلم المختوم بويه بقياس، نحو: جاءني سيبويه، وسيبويه آخر، وأما تنوين رجل ونحوه من المعربات فتنوين تمكين لا تنوين تنكير، كما قد يتوهّم بعض الطّلبة، ولهذا لو سميت به رجلا بقي ذلك التّنوين بعينه مع زوال التنكير.
3- وتنوين المقابلة: وهو اللّاحق لنحو: مسلمات، جعل في مقابلة "النّون" في مسلمين، وقيل هو عوض عن الفتحة نصبا، ولو كان كذلك لم يوجد في الرّفع والجر، ثمّ الفتحة قد عوض عنها الكسرة، فما هذا العوض الثّاني، وقيل هو تنوين التّمكين، ويرده ثبوته مع التّسمية به كعرفات، كما تبقى "نون" مسلمين مسمّى به، وتنوين التّمكين لا يجامع العلتين، ولهذا لو سمي بمسلمة أو عرفة زال تنوينهما.
وزعم الزّمخشريّ أن عرفات مصروف؛ لأن "تاءه" ليست للتأنيث، وإنّما هي و"الألف" للجمع، قال ولا يصح أن يقدر فيه "تاء" غيرها؛ لأن هذه "التّاء" لاختصاصها بجمع المؤنّث تأبى ذلك، كما لا تقدر "التّاء" في بنت مع أن "التّاء" المذكورة مبدلة من "الواو"، ولكن اختصاصها بالمؤنث يأبى ذلك.
وقال ابن مالك اعتبار "تاء" نحو: عرفات في منع الصّرف أولى من اعتبار "تاء" نحو: عرفة ومسلمة؛ لأنّها لتأنيث معه جمعية، ولأنّها علامة لا تتغيّر في وصل ولا وقف.
وتنوين العوض: وهو اللّاحق عوضا من حرف أصلّي، أو زائد، أو مضاف إليه مفردا، أو جملة.
فالأول: كجوار وغواش، فإنّه عوض من "الياء" وفاقا لسيبويه، والجمهور لا عوض من ضمة "الياء"، وفتحتها النائبة عن الكسرة خلافًا للمبرد، إذ لو صحّ لعوض عن حركات، نحو: حبلى، ولا هو تنوين التّمكين، والاسم منصرف خلافًا للأخفش.
وقوله لما حذفت "الياء" التحق الجمع بأوزان الآحاد كسلام وكلام، فصرف مردود لأن حذفها عارض للتّخفيف وهي منوية، بدليل أن الحرف الّذي بقي أخيرا لم يحرك بحسب العوامل، وقد وافق على أنه لو سمي بكتف المرأة ثمّ سكن تخفيفًا لم يجز صرفه، كما جاز صرف هند، وأنه إذا قيل في جيأل علما لرجل جيل بالنّقل لم ينصرف انصراف قدم علما لرجل؛ لأن حركة "تاء" كتف و"همزة" جيل منويا الثّبوت، ولهذا لم تقلب "ياء" جيل "ألفا" لتحركها وانفتاح ما قبلها.
والثّاني: كجندل، فإن تنوينه عوض من "ألف" جنادل قاله ابن مالك، والّذي يظهر خلافه، وأنه تنوين الصّرف، ولهذا يجر بالكسرة وليس ذهاب "الألف" الّتي هي علم الجمعية، كذهاب "الياء" من نحو جوار وغواش.
والثّالث: تنوين "كل" و"بعض" إذا قطعتا عن الإضافة، نحو:{وكلا ضربنا له الأمثال}،{فضلنا بعضهم على بعض}، وقيل هو تنوين التّمكين رجع لزوال الإضافة الّتي كانت تعارضه.
والرّابع: اللّاحق "لإذ" في نحو:{وانشقت السّماء فهي يومئذٍ واهية}، والأصل: فهي يوم "إذ" انشقت واهية، ثمّ حذفت الجملة المضاف
إليها للعلم بها، وجيء بالتّنوين عوضا عنها، وكسرت "الذّال" للساكنين، وقال الأخفش التّنوين تنوين التّمكين، والكسرة إعراب المضاف إليه.
وتنوين الترنم: وهو اللّاحق للقوافي المطلقة بدلا من حرف الإطلاق، وهو "الألف" "الواو" و"الياء"، وذلك في إنشاد بني تميم، وظاهر قولهم أنه تنوين محصل للترنم، وقد صرح بذلك ابن يعيش كما سيأتي.
والّذي صرح به سيبويه وغيره من المحقّقين أنه جيء به لقطع الترنم.
وأن الترنم وهو التّغنّي، يحصل بأحرف الإطلاق لقبولها لمد الصّوت فيها، فإذا أنشدوا ولم يترنموا جاؤوا "بالنّون" في مكانها، ولا يختص هذا التّنوين بالاسم، بدليل قوله:
... وقولي إن أصبت لقد أصابن
وقوله:
... لما تزل برحالنا وكأن قدن
وزاد الأخفش والعروضيون تنوينا سادسا: وسموه الغالي، وهو اللّاحق لآخر القوافي المقيدة، كقوله رؤية:
وقاتم الأعماق خاوي المخترقن ... مشتبه الأعلام لماع الخفقن
وسمي غاليا لتجاوزه حد الوزن، ويسمى الأخفش الحركة الّتي قبله علوا، وفائدته الفرق بين الوقف والوصل، وجعله ابن يعيش من نوع تنوين الترنم، زاعما أن الترنم يحصل "بالنّون" نفسها؛ لأنّها حرف أغن، قال وإنّما سمي المغني مغنيا لأنّه يغنن صوته، أي: يجعل فيه غنة، والأصل عنده مغنن بثلاث "نونات"، فأبدلت الأخيرة "ياء" تخفيفًا.
وأنكر الزّجاج والسرافي ثبوت هذا التّنوين البتّة؛ لأنّه يكسر الوزن، وقالا لعلّ الشّاعر كان يزيد "إن" في آخر كل بيت، فضعف صوته "بالهمزة" فتوهم السّامع أن "النّون" تنوين، واختار هذا القول ابن مالك.
وزعم أبو الحجّاج ابن معزوز أن ظاهر كلام سيبويه في المسمّى تنوين الترنم أنه "نون" عوض من المدّة، وليس بتنوين.
وزعم ابن مالك في التّحفة أن تسمية اللّاحق للقوافي المطلقة والقوافي المقيدة تنوينا مجاز، وإنّما هو "نون" أخرى زائدة، ولهذا لا يختص بالاسم، ويجامع "الألف" و"اللّام"، ويثبت في الوقف.
وزاد بعضهم تنوينا سابعا: وهو تنوين الضّرورة، وهو اللّاحق لما لا ينصرف، كقوله:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ...
وللمنادى المضموم، كقوله:
سلام الله يا مطر عليها ...
وبقوله أقول في الثّاني دون الأول؛ لأن الأول تنوين التّمكين؛ لأن الضّرورة أباحت الصّرف، وأما الثّاني فليس تنوين تمكين؛ لأن الاسم مبنيّ على الضّم.
وثامنا: وهو التّنوين الشاذ، كقول بعضهم هؤلاء قومك حكاه أبو زيد، وفائدته مجرّد تكثير اللّفظ، كما قيل في "ألف" قبعثرى.
وقال ابن مالك: الصّحيح أن هذا "نون" زيدت في آخر الاسم "كنون" ضيقن، وليس بتنوين.
وفيما قاله نظر؛ لأن الّذي حكاه سمّاه تنوينا، فهذا دليل منه على أنه سمعه في الوصل دون الوقف، و"نون" ضيفن ليست كذلك.
وذكر ابن الخباز في شرح الجزولية أن أقسام التّنوين عشرة، وجعل كلا من تنوين المنادى، وتنوين صرف مالا ينصرف قسما برأسه، قال والعاشر تنوين الحكاية، مثل أن تسمي رجلا بعاقلة لبيبة، فإنّك تحكي اللّفظ المسمّى به، وهذا اعتراف منه بأنّه تنوين الصّرف؛ لأن الّذي كان قبل التّسمية حكي بعدها.
3 - الثّالث: "نون" الإناث، وهي اسم في نحو: النسوة يذهبن خلافًا للمازني، وحرف في نحو: يذهبن النسوة في لغة من قال أكلوني البراغيث، خلافًا لمن زعم أنّها اسم، وما بعدها بدل منها، أو مبتدأ مؤخر، والجملة قبله خبره.
4 - الرّابع: "نون" الوقاية، وتسمى "نون" العماد أيضا، وتلحق قبل "ياء" المتكلّم المنتصبة بواحد من ثلاثة:
أحدها: الفعل متصرفا كان، نحو: أكرمني، أو جامدا، نحو: عساني، وقاموا ما خلاني، وما عداني، وحاشاني إن قدرت فعلا.
وأما قوله:
... إذ ذهب القوم الكرام ليسي
فضرورة.
ونحو:{تأمروني} يجوز فيه الفك والإدغام، والنطق "بنون" واحدة، وقد قرئ بهن في السّبع وعلى الأخيرة، فقيل "النّون" الباقية "نون" الرّفع، وقيل "نون" الوقاية وهو الصّحيح.
الثّاني: اسم الفعل، نحو: دراكني، وتراكني، وعليكني بمعنى: أدركني، واتركني، والزمني.
الثّالث: الحرف، نحو: "إنّني"، وهي جائزة الحذف مع "إن" و"أن" و"لكن" و"كأن"، وغالبة الحذف مع "لعلّ"، وقليلته مع "ليت"،
وتلحق أيضا قبل "الياء" المخفوضة "بمن" و"عن" إلّا في الضّرورة، وقبل المضاف إليها "لدن" أو "قد" أو "قطّ" إلّا في قليل من الكلام، وقد تلحق في غير ذلك شذوذا، كقولهم: بجلني، بمعنى: حسبي، وقوله:
... أمسلمني إلى قومي شراحي
يريد: شراحيل.
وزعم هشام أن الّذي في أمسلمني ونحوه تنوين لا "نون"، وبنى ذلك على قوله في ضاربني: إن "الياء" منصوبة، ويرده قول الشّاعر:
وليس الموافيني ليرفد خائبا ...
وفي الحديث: غير الدّجّال أخوفني عليكم.
والتنوين لا يجامع "الألف" و"اللّام"، ولا اسم التّفضيل لكونه غير منصرف، وما لا ينصرف لا تنوين فيه، وفي الصّحاح أنه يقال: بجلي، ولا يقال: بجلني، وليس كذلك). [مغني اللبيب: 4 / 255 - 293]