قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("مهما"
"مهما": اسم لعود الضّمير إليها في: {مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها}، وقال الزّمخشريّ وغيره عاد عليها ضمير به، وضمير {بها} حملا على اللّفظ وعلى المعنى انتهى، والأولى أن يعود ضمير {بها} لآية.
وزعم السّهيلي أنّها تأتي حرفا بدليل قول زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم
قال فهي هنا حرف بمنزلة "إن"؛ بدليل أنّها لا محل لها، وتبعه ابن يسعون، واستدلّ بقوله:
قد أوبيت كل ماء فهي ضاوية ... مهما تصب أفقا من بارق تشم
قال إذ لا تكون مبتدأ لعدم الرابط من الخبر، وهو فعل الشّرط، ولا مفعولا لاستيفاء فعل الشّرط مفعوله، ولا سبيل إلى غيرهما فتعين أنّها لا موضع لها.
والجواب: أنّها في الأول إمّا خبر تكن وخليقة اسمها، و"من" زائدة؛ لأن الشّرط غير موجب عند أبي عليّ، وإمّا مبتدأ واسم تكن ضمير راجع إليها، والظرف خبر، وأنث ضميرها؛ لأنّها الخليقة في المعنى، ومثله "ما" جاءت حاجتك فيمن نصب حاجتك، ومن خليقة تفسير للضمير كقوله:
... لما نسجتها من جنوب وشمأل
وفي الثّاني مفعول تصب، وأفقا ظرف، ومن بارق تفسير "لمهما" أو متعلقا بتصب، فمعناها التّبعيض، والمعنى أي شيء تصب في أفق من البوارق تشم.
وقال بعضهم "مهما" ظرف زمان، والمعنى: أي وقت تصب بارقا من أفق، فقلب الكلام أو في أفق بارقا، فزاد "من" واستعمل أفقا ظرفا انتهى. وسيأتي أن "مهما" لا تستعمل ظرفا، وهي بسيطة لا مركبة من "مه" و"ما" الشّرطيّة، ولا من "ما" الشّرطيّة و"ما" الزّائدة، ثمّ أبدلت "الهاء" من "الألف" الأولى دفعا للتكرار خلافًا لزاعمي ذلك.
ولها ثلاثة معان:
أحدها: مالا يعقل غير الزّمان مع تضمن معنى الشّرط، ومنه الآية، ولهذا فسرت بقوله تعالى: {من آية}، وهي فيها مبتدأ، أو منصوبة على الاشتغال، فيقدر لها عامل متعدٍّ، كما في زيدا مررت به، متأخّرًا عنها لأن لها الصّدر، أي: "مهما" تحضرنا تأتنا به.
الثّاني: الزّمان والشّرط، فتكون ظرفا لفعل الشّرط، ذكره ابن مالك، وزعم أن النّحويين أهملوه، وأنشد لحاتم: وإنّك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذّم أجمعا
وأبياتا أخر ولا دليل في ذلك، لجواز كونها للمصدر، بمعنى أي: إعطاء كثيرا أو قليلا، وهذه المقالة سبق إليها ابن مالك غيره.
وشدد الزّمخشريّ الإنكار على من قال بها، فقال هذه الكلمة في عداد الكلمات الّتي يحرفها من لا يد له في علم العربيّة، فيضعها في غير موضعها، ويظنها بمعنى "متى"، ويقول "مهما" جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربيّة، ثمّ يذهب فيفسر بها الآية فيلحد في آيات الله انتهى. والقول بذلك في الآية ممتنع، ولو صحّ ثبوته في غيرها لتفسيرها بـ {من آية}.
الثّالث: الاستفهام، ذكره جماعة منهم ابن مالك واستدلّوا عليه بقوله:
مهما لي اللّيلة مهما ليه ... أودى بنعلي وسرباليه
فزعموا أن "مهما" مبتدأ، ولي الخبر، وأعيدت الجملة توكيدا، وأودى بمعنى: هلك، ونعلي فاعل، و"اللباء" زائدة، مثلها في: {كفى باللّه شهيدا} ولا دليل في البيت لاحتمال أن التّقدير: "مه" اسم فعل بمعنى: اكفف، ثمّ استأنف استفهاما بـ "ما" وحدها.
تنبيه
من المشكل قول الشاطبي رحمه الله:
ومهما تصلها أو بدأت براءة ...
ونقول فيه لا يجوز في "مهما" أن تكون مفعولا به، لتصل لاستيفائه مفعوله، ولا مبتدأ لعدم الرابط.
فإن قيل قدر "مهما" واقعة على براءة، فيكون ضمير تصلها راجعا إلى براءة، وحينئذٍ فـ "مهما" مبتدأ، أو مفعول لمحذوف يفسره تصل، قلنا اسم الشّرط عام، وبراءة اسم خاص، فضميرها كذلك، فلا يرجع إلى العام، وبالوجه الّذي بطل به ابتدائية "مهما" يبطل كونها مشتغلا عنها العامل بالضمير.
وهذه بخلافها في قوله:
ومهما تصلها مع أواخر سورة ...
فإنّها هناك واقعة على البسملة الّتي في أول كل سورة في عامّة فيصح فيها الابتداء، أو النصب بفعل يفسره تصل "أي"، و"أي" بسملة تصل تصلها، والظرفية بمعنى و"أي" وقت تصل البسملة على القول بجواز ظرفيتها.
وأما هنا فيتعيّن كونها ظرفا لتصل بتقدير، و"أي" وقت تصل براءة أو مفعولا به حذف عامله، "أي" و"مهما" تفعل، ويكون تصل، وبدأت بدل تفصيل من ذلك الفعل، وأما ضمير تصلها فلك أن تعيده على اسم مظهر قبله محذوفا، "أي" و"مهما" تفعل في براءة تصلها، أو بدأت بها وحذف بها، ولما خفي المعنى بحذف مرجع الضّمير ذكر براءة بيانا له، إمّا على أنه بدل منه، أو على إضمار، أعني ولك أن تعيده على ما بعده وهو براءة، إمّا على أنه بدل منه، مثل: رأيته زيدا، فمفعول بدأت محذوف، أو على أن الفعلين تنازعاها، فأعمل الثّاني متسعا فيه بإسقاط "الباء"، وأضمر الفضلة في الأول على حد قوله:
إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب ... جهازا فكن في الغيب أحفظ للود ).
[مغني اللبيب: 4 / 214 - 231]