(فصل) "ما"، و"ماذا"
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): ((فصل) "ما"، و"ماذا"أما "ما" فإنها تأتي اسمًا وتأتي حرفًا، وسترى ذلك مفصلًا إن شاء الله تعالى ولها تسعة معان، وعشرة استعمالات:
الأول: تكون معرفة ناقصة بمعنى "الذي"، ولا تقع إلا على ما لا يعلم، وأما قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى}، وقوله تعالى: {والسماء وما بناها}، فمنهم من أولها بالمصدر، ومنهم من أوقعها على من يعلم، وزعم أنها لغة أهل مكة، وأنهم إذا سمعوا الرعد يقولون: سبحان "ما" سبحت له، وتلزمها الصلة والعائد ومعناه: الخبر، كقولك: "ما" أكلت الخبزُ و"ما" شربت الماء، أي: "الذي" أكلته الخبز و"الذي" شربته الماء، والعائد محذوف، ومنه قوله تعالى: {إنما صنعوا كيد ساحرٍ}، و{إن ما توعدون لآتٍ}، المعنى: إن "الذي" صنعوه و"الذي" توعدونه، ومنه قوله تعالى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}، أي: "كالذي" هو لهم آلهة، ذكره الأخفش في كتاب المسائل.
وأنشد:
وجدنا الحُمر من شر المطايا ..... كما الحبطات شر بني تميم
قال: معناه "كالذي" هم الحبطات شربني تميم، هذا على رواية: رفع الحبطات.
الثاني: تكون مع الفعل بتأويل المصدر، كقولك: بلغني "ما" صنع زيد، أي: بلغني صنيع زيد، ومنه قوله تعالى: {حافظات للغيب بما حفظ الله}، أي: بحفظ الله، وقوله تعالى: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون}، المعنى: كنسيانهم لقاء يومهم هذا، وكونهم بآياتنا يجحدون، ومنه قول الشاعر:
يا رُب ركب أناخوا بعدما نصبوا ..... من الكلال فما حلُّوا وما رحلوا
الماآت كلها بتأويل مصدر، ومنه عند الكسائي قوله تعالى: {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي}، فقال الكسائي: بمغفرة ربي، وقال أهل التفسير أو بعضهم: بأي شيء غفر لي ربي؟ فيجعلون "ما" استفهامًا.
واحتج بأنها لو كانت استفهامًا لحذفت "الألف" لاتصالها بحرف الجر كما قال تعالى: {عم يتساءلون}، {فبم تبشرون}، {لم تؤذونني}، وما أشبه ذلك.
واحتج للمفسرين بأن إثبات "الألف" لغة، قال حسان:
على ما قام يشتمنا لئيم ..... كخنزير تمرغ في رماد
معناه: على أي شيء؟ وقال آخر:
إن قتلنا بقتلانا سراتكم ..... أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ورد بأن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلا يجوز تنزيل القرآن عليه، والمعنى الفارق بين المصدرية والموصولة، أن المصدرية لا تحتاج إلى عائد بخلاف الموصولة، فمتى افتقرت إلى العائد فهي موصولة وإلا فهي مصدرية.
الثالث: تكون استفهامًا عن الأجناس مطلقًا، كقولك: "ما" اسمك؟ و"ما" عندك؟ ومعنى "ما" ها هنا أي شيء؟ ومنه قول الله سبحانه: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم}، وقوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى}، وقد يصحبه التفخيم بحسب اقتضاء المقام ذلك، كقوله عز وجل: {الحاقة ما الحاقة}، وقد يصحبه التحقير كقولك: "ما" هذا؟
الرابع: تكون شرطًا وجزاء، كقولك: "ما" تصنع أصنع، وتنقسم إلى زمانية، كقوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}، وإلى غير زمانية ومنه قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}، وقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها}.
الخامس: تكون نكرة ناقصة بمعنى "شيء"، ويلزمها النعت كقولك: رأيت "ما" معجبًا لك، قال الشاعر:
لما نافعٍ يسعى اللبيب فلا تكن ..... لشيء بعيدٍ نفعه الدهر ساعيًا
وقال آخر:
رُب ما تكره النفوس من الأمـــ ..... ـــر له فرجة كحل العقال
أي: رب "شيء" نافع، ورب "شيء" تكرهه النفوس، ومنه قوله تعالى: {نعما يعظكم به}، وقوله تعالى: {إن تبدوا ا لصدقات فنعما هي}، أي: نعم "شيئًا" يعظكم به، ونعم "شيئًا" هي، هذا تقدير الأكثرين، وقدرها سيبويه: معرفة تامة، أي: فنعم "الشيء" هي.
الاستعمال السادس: تكون نكرة تامة، ولها معنيان:
أحدهما: وهو المعنى الرابع، التعجب، كقولك: "ما" أحسن زيدًا، و"ما" أكرم عمرًا، المعنى: "شيء" حسن زيدًا، ومنه قوله تعالى: {قُتل الإنسان ما أكفره}.
ثانيهما: وهو خامس المعاني، المبالغة كقولك: إن زيدًا "مما" أن يكتب، أي: إنه مخلوق من أمر، ذلك الأمر هو الكتابة، بمنزلة قوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}، جعل لكثرة عجلته كأنه خلق منها، فـ "ما" بمعنى "شيء"، وأن صلتها في موضع خفض بدلًا منها.
وزعم السيرافي وابن خروف وتبعهما ابن مالك ونقله عن سيبويه: أنها معرفة تامة بمعنى الشيء أو الأمر، وأن وصلتها مبتدأ وما بعدها خبر، والجملة خبر لأن، قال ابن هشام: ولا يتحصل من الكلام معنى طائل على هذا التقدير.
المعنى السادس: تكون بمعنى "الحين"، كقولك: انتظرني "ما" جلس القاضي، أي: "حين" جلوس القاضي، قال أبو الحسن الهروي: ومنه قوله تعالى: {كلما خبت زدناهم سعيرًا}، وقوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم}.
وقوله تعالى: {كُلما أضاء لهم مشوا فيه}، قال الشاعر:
منا الذي هو ما إن طر شاربه ..... والعانسون ومنا المرد والشيب
بقال ابن السكيت: يريد "حين" طر شاربه، وقال آخر:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته ..... على السن خيرًا لا يزال يزيد
وجعلها بعضهم في ذلك مصدرية، وقسم المصدرية إلى زمانية وغير زمانية، وهي في جميع ما مضى اسم كما تقدم إلا المصدرية ففي اسميتها خلاف.
أما النافية فحرف اتفاقًا وهي السابع معنى واستعمالًا، كقولك: "ما" خرج زيد، فإن دخلت على الجملة الاسمية فأهل الحجاز يرفعون بها الاسم وينصبون بها الخبر كليس بشروط معتبرة عند النحاة، وأهملها التميميون.
ونسب ابن هشام إعمالها إلى الحجازيين والنجديين والتهاميين، ورأيت في صحاح الجوهري: أن أهل نجد يهملونها كبني تميم، وإن نفيت بها الفعل المضارع كان نفيًا للحال عند الجمهور، ورد عليهم ابن مالك بنحو: {قل ما يكون لي أن أبدله}، وأجيب بأنه مشروط بتجرده م القرائن الصارفة له إلى الاستقبال.
الاستعمال الثامن: تكون كافة للعامل عن عمله، سواء كان عامل رفع أو نصب أو جر، ومعناها التوكيد، فالكافة تكف العامل عن عمله وتزيل اختصاصه الذي كان عليه قبل دخولها، "فإن" وأخواتها وحروف الجر لا تدخل إلا على الاسم، فإذ دخلت عليها دخلت على الفعل أيضًا وبطل اختصاصها، ولهذا سميت: الكافة، وسميت المهيئة.
فمثال الداخلة على عامل النصب الداخلة على "إن" وأخواتها، كقوله تعالى: {إنما الله إله واحد}، وقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، وقوله: {كأنما يساقون إلى الموت}، قال الفرزدق:
أعد نظرًا يا عبد قيسٍ لعلما ..... أضاءت لك النار الحمار المقيدا
وهي تفيد التأكيد لمعنى الحرف الذي دخلت عليه، حتى زعم بعض الأصوليين أنها لا تفيد الحصر، وإنما تفيد تأكيد الإثبات، واختاره أبو حيان واشتد بكثرة على من يخالفه، وجمهور الأصوليين وغيرهم على أنها تفيد الحصر، وهو رأي أبي إسحاق الشيرازي والغزالي والكيا الهراسي، والإمام الرازي، واختاره تقي الدين السبكي، وقال: إن المخالف فيه مستمر على لجاج ظاهر، ونُقل عن القاضي أبي بكر، وقال عبد الوهاب السبكي: والذي رأيته في التقريب للقاضي أبي بكر أنها عنده محتملة لتأكيد الإثبات، ومحتملة للحصر، وزعم أن العرب استعملتها لكل من الأمرين.
واحتج المثبتون للحصر بتبادره إلى الفهم كقوله تعالى: {إنما إلهكم الله}، وكقوله تعالى: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين}.
والمعنى: "ما" إلهكم إلا الله، و"إن" تولوا فما عليك إلا البلاغ، ولو لم يكن المعنى كذلك لكان المعنى: الله إلهكم، وهو لم ينازعوا في ذلك، والكلام سيق لنفي الإهية غيره ولكان المعنى: و"إن" تولوا فعليك البلاغ، وهو عليه البلاغ تولوا أو لم يتولوا، وإنما المرتب على توليهم نفي غير البلاغ تسلية له وإعلامًا أن توليهم لا يضره.
واحتج الآخرون بأن قولهم: "إنما" زيد قائم ... والزائد كالمعدوم وليس كما ادعوا، فليس كل زائد كالعدم، بل أقل مراتب الزائد إفادة التأكيد ورب زائد لا يجوز تركه كما تقدم في كتابي هذا، وما اتفق عليه الفريقان من زيادة كلمة "ما" هو الصواب.
وزعم جمع من الأصوليين والبيانيين أنها نافية وأن ذلك: سبب إفادتها للحصر قالوا: لأن "إن" للإثبات و"ما" للنفي فلا يجوز أن يتوجها معًا إلى شيء واحد؛ لأنه تناقض ولا يقال: إن تقتضي ثبوت غير المذكور، وما تنفي المذكور لأنه خلاف الواقع والاتفاق، فتعين أنّ "إنّ" لإثبات المذكور و"ما" لنفي غير المذكور.
قال ابن هشام: وهذا مبني على مقدمتين باطلتين بإجماع النحويين إذ ليست "إن" للإثبات وإنما هي لتوكيد الكلام إثباتًا كان مثل: "إن" زيدًا قائم أو نفيًا مثل: "إن" زيدًا ليس بقائم، وليس "ما" للنفي، بل هي بمنزلتها في أخواتها: "ليتما" و"لعلكما" "لكنما" و"كأنما"، وبعضهم نسب القول بأنها نافية إلى الفارسي في كتاب الشيرازيات ولم يقل ذلك الفارسي في الشيرازيات ولا في غيرها ولا قاله نحوي غيره، وإنما قال في الشيرازيات: إن العرب عاملوا "إنما" معاملة النفي وإلا في فصل الضمير كقول الفرزدق.
.... وإنما ..... يُدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فهذا كقول الآخر:
قد علمت سلمى وجاراتها ..... ما قطر الفارس إلا أنا
وأما الكافة لعمل الرفع لا تتصل إلا بثلاثة أفعال: قل وكثر وطال، قال المرار بن منقذ الأسدي:
صددت فأطولت الصدود وقلما ..... وصالٌ على طول الصدود يدوم
اختلف النحاة فيه فقال سيبويه: هي ضرورة، وقيل وجه الضرورة: أن حقها أن يليها الفعل صريحًا والشاعر أولاها فعلًا مقدرًا مفسرًا بالمذكور، وقيل: وجهها: أنه قدم الفاعل، وقال ابن السيد: والبصريون لا يجوزون تقديمه في شعره ولا نثر وقيل وجهها: أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية، كقوله:
فهلا نفس ليلى شفيعها
وقال المبرد: صلة ملغاة والاسم بعدها مرتفع بـ «قل» كأنه قال: وقل وصال يدوم على طول الصدود.
وقال بعضهم: "ما" في قلما ظرف بمعنى الحين والوقت، كأنه قال: وقل وقت يدوم فيه وصال على طول الصدود.
وقال بعضهم: إن "ما" في هذه الأفعال مصدرية لا كافة.
ومثال دخولها على حرف الجر وإبطال اختصاصها قول الشاعر:
رُبما أوفيت في علمٍ ..... ترفعن ثوبي شمالات
وقول الشاعر في دخولها على المعرفة:
ربما الجامل المؤبل فيهم ..... وعناجيج بينهن المهار
وقال الشاعر في كفها لـ "من":
وإنما لمما نضرب الكبش ضربة ..... على رأسه تُلقي اللسان من الفم
قال ابن هشام: والظاهر أن "ما" مصدرية.
وقال الشاعر في كفها للظرف يخاطب نفسه:
أعلاقةً أم الوليد بعدما ..... أفنان رأسك كالثغام المخلس
وقيل: "ما" مصدرية، قال ابن هشام: وهو الحق لأن فيه إبقاء بعد على أصلها من الإضافة، ولأنها لو لم تكن مضافة لنونت.
الاستعمال التاسع: أن تكون صلة، كقولك: متى "ما" تأتني آتك، ومعناها: التأكيد أيضًا، وبعضهم جعلها نوعًا للزائدة لا قسمًا، وأبى بعض النحويين تسمية هذه صلة، لئلا يظن ظان أنها دخلت لغير معنى البتة.
والفرق بين الصلة والكافة: أن الكافة لا يجوز الغاؤها؛ لأن الغاؤها يخل بالمعنى، وإذا كانت "ما" صلة جاز الغاؤها فإنه لا يخل بالمعنى ولهذا يبقى العامل على عمله، ومنه قول الله سبحانه: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم}، وقوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم}، وقوله تعالى: {جندُ ما هنالك}، وقوله تعالى: {قليلًا ما تؤمنون}، قال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلت له ..... حرمت علي وليتها لم تحرم
ومثله قول الآخر:
كما الحبطات شر بني تميم
على رواية الخفض.
وقال الأعشى:
إمَّا ترينا حفاةً لا نعال لنا ..... إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وقال أمية بن أبي الصلت:
سلعُ ما ومثله عشر ما ..... عائل ما وعالت البيقورا
الماءات كلها زوائد، قال ابن قتيبة في كتاب معاني الشعر: أن الأصمعي ذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: ما أدري ما معنى هذا البيت ولا رأيت أحدًا يحسنه، وقال غيره: كانوا في سنة الجدب يجمعون "ما" يقدرون عليه من البقر ثم يعقدون في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم يعلون بها في جبل وعر ويشعلون فيها النار ويضجعون بالدعاء والتضرع وكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا، والبيقور: البقر بلغة أهل اليمن، ويشد هذا القول ويقويه قول الشاعر:
أجاعلُ أنت بيقورًا مسلعةً ..... ذريعةً لك بين الله والمطر
وزاد بعضهم وجهًا آخر وهو أن تكون مسلطة للعامل على الجزاء، كقولك: "إذ ما" تخرج أخرج، و"كيفما" تصنع أصنع، قال: وليست "ما" زائدة فيها كزيادتها في سائر حروف الجر، والله أعلم.
وأما عمل "ما" غير النافية، فإن كانت للجزاء جزمت الفعلين، وإن كانت استفهامًا رفعت الأول وجزمت الثاني؛ لأنه جواب الاستفهام بغير "فاء"، وإن كانت موصولة رفعت الفعلين جميعًا، وهكذا تفعل في: "متى" و"من". والله أعلم.
الاستعمال العاشر: وهو تاسع المعاني: أن تكون للتعويض عن المحذوف، ومعناها التعليل، كقولك: "أمَّا" أنت منطلقًا انطلقت، والأصل: انطلقت؛ لأن كنت منطلقًا فقدم المفعول له للاختصاص وحذف الجار و"كان" للاختصار وجيء "بما" للتعويض وأدغمت "النون" في "الميم" قال الشاعر:
أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ ..... فإن قومي لم تأكلهم الضبع ).
[مصابيح المغاني: 472 - 488]