حرف "الفاء"
"الفاء" المفردة قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): (حرف "الفاء"
"الفاء" المفردة
"الفاء" المفردة: حرف مهمل خلافًا لبعض الكوفيّين في قولهم: إنّها ناصبة "في" نحو: ما تأتينا فتحدثنا، وللمبرد في قوله: إنّها خافضة "في" نحو:(فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع)
"في" "من" جر مثلا، والمعطوف والصّحيح أن النصب "بأن" مضمرة كما سيأتي، وأن الجرّ "بربّ" مضمرة كما مر.
وترد على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون عاطفة وتفيد ثلاثة أمور:
أحدها: التّرتيب، وهو نوعان: معنوي كما في قام زيد فعمرو وذكري، وهو عطف مفصل على مجمل نحو: {فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه}، ونحو: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}، ونحو: {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي} الآية، ونحو: توضّأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه.
وقال الفراء: إنّها لا تفيد التّرتيب مطلقًا، وهذا مع قوله إن "الواو" تفيد التّرتيب غريب، واحتج بقوله تعالى: {أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون}، وأجيب بأن المعنى أردنا إهلاكها أو بأنّها للتّرتيب الذكري.
وقال الجرمي: لا تفيد "الفاء" التّرتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل قوله:
( ... بين الدّخول فحومل)
وقولهم مطرنا مكان كذا، فمكان كذا وإن كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد.
الأمر الثّاني: التعقيب، وهو في كل شيء بحسبه ألا ترى أنه يقال: تزوج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما إلّا مدّة الحمل وإن كانت متطاولة، ودخلت البصرة فبغداد إذا لم تقم في البصرة ولا بين البلدين، وقال الله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السّماء ماء فتصبح الأرض مخضرة}، وقيل "الفاء" في هذه الآية للسّببيّة و"فاء" السّببيّة لا تستلزم التعقيب، بدليل صحة قولك: إن يسلم فهو يدخل الجنّة، ومعلوم ما بينهما من المهلة، وقيل تقع "الفاء" تارة بمعنى "ثمّ" ومنه الآية وقوله تعالى: {ثمّ خلقنا النّطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحمًا}،"فالفاءات" في: {فخلقنا العلقة}، وفي: {فخلقنا المضغة}، وفي: {فكسونا} بمعنى "ثمّ " لتراخي معطوفاتها، وتارة بمعنى "الواو" كقوله:
( ... بين الدّخول فحومل)
وزعم الأصمعي أن الصّواب روايته "بالواو"؛ لأنّه لا يجوز جلست بين زيد فعمرو، وأجيب بأن التّقدير "بين" مواضع الدّخول، فمواضع حومل كما يجوز جلست "بين" العلماء فالزهاد، وقال بعض البغداديين الأصل ما بين فحذف ما دون "بين" كما عكس ذلك من قال:
(يا أحسن النّاس ما قرنا إلى قدم ... )
أصله ما "بين" قرن، فحذف "بين"، وأقام قرنا مقامها، ومثله: {ما بعوضة فما فوقها}، قال: و"الفاء" نائبة عن "إلى" ويحتاج على هذا القول "إلى" أن يقال، وصحت إضافة "بين" إلى الدّخول لاشتماله على مواضع "أو" لأن التّقدير "بين" مواضع الدّخول وكون "الفاء" للغاية بمنزلة "إلى" غريب، وقد يستأنس له عندي بمجيء عكسه في نحو قوله:
(وأنت الّتي حببت شغبا إلى بدا ... إليّ وأوطاني بلاد سواهما)
إذ المعنى شغبا فبدا وهما موضعان، ويدل على إرادة التّرتيب قوله بعده:
(حللت بهذا حلّة ثمّ حلّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما)
وهذا معنى غريب لـ "إلى" لم أر من ذكره.
والأمر الثّالث: السّببيّة، وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة؛ فالأول نحو: {فوكزه موسى فقضى عليه}، ونحو: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه}، والثّاني نحو: {لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم}، وقد تجيء في ذلك لمجرّد التّرتيب نحو: {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم}، ونحو: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك}، ونحو: {فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها}، ونحو: {فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا}.
وقال الزّمخشريّ "للفاء" مع الصّفات ثلاثة أحوال:
أحدها: أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله:
(يا لهف زيابة للحارث الصابح ... فالغانم فالآيب)
أي: الّذي صبح فغنم فآب.
والثّاني: أن تدل على ترتيبها في التّفاوت من بعض الوجوه نحو قولك: خذ الأكمل فالأفضل، واعمل الأحسن فالأجمل.
والثّالث: أن تدل على ترتيب موصوفاتها في ذلك نحو: رحم الله المحلقين فالمقصرين. انتهى.
والبيت لابن زيابة يقول: يا لهف أمّي على الحارث إذ صبح قومي بالغارة فغنم فآب سليما ألا أكون لقيته فقتلته، وذلك لأنّه يريد يا لهف نفسي.
والثّاني من أوجه "الفاء": أن تكون رابطة للجواب، وذلك حيث لا يصلح لأن يكون شرطا، وهو منحصر في ستّ مسائل:
إحداها: أن يكون الجواب جملة اسمية، نحو: {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير}، ونحو: {إن تعذبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم}.
الثّانية: أن تكون فعلية كالاسمية، وهي الّتي فعلها جامد، نحو: {إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربّي أن يؤتين}،{إن تبدوا الصّدقات فنعما هي}،{ومن يكن الشّيطان له قرينا فساء قرينا}،{ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}.
الثّالثة: أن يكون فعلها إنشائيا، نحو: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، ونحو: {فإن شهدوا فلا تشهد معهم}، ونحو: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين}، فيه أمران الاسمية والإنشائية، ونحو: إن قام زيد فواللّه لأقومن، ونحو: إن لم يتب زيد فيا خسره رجلا.
والرّابعة: أن يكون فعلها ماضيا لفظا ومعنى،
إمّا حقيقة: نحو: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}، ونحو: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصّادقين}، وقد هنا مقدرة.
وإمّا مجازًا: نحو: {ومن جاء بالسّيّئة فكبت وجوههم في النّار}، نزل هذا الفعل لتحقّق وقوعه منزلة ما وقع.
والخامسة: أن تقترن بحرف استقبال، نحو: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبّونه}، ونحو: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه}.
السّادسة: أن تقترن بحرف له الصّدر، كقوله:
(فإن أهلك فذي لهب لظاه ... عليّ تكاد تلتهب التهابا)
لما عرفت من أن "رب" مقدرة، وأنّها لها الصّدر، وإنّما دخلت في نحو: {ومن عاد فينتقم الله منه}، لتقدير الفعل خبرا لمحذوف، فالجملة اسمية.
وقد مر أن "إذا" الفجائية قد تنوب عن "الفاء"، نحو: {وإن تصبهم سيّئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون}، وأن "الفاء" قد تحذف للضّرورة كقوله:
(من يفعل الحسنات الله يشكرها ... )
وعن المبرد أنه منع ذلك حتّى في الشّعر وزعم أن الرّواية:
(من يفعل الخير فالرحمن يشكره ... )
وعن الأخفش أن ذلك واقع في النثر الصّحيح، وأن منه قوله تعالى: {إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين}، وتقدم تأويله.
وقال ابن مالك يجوز في النثر نادرا، ومنه حديث اللّقطة فإن جاء صاحبها وإلّا استمتع بها.
تنبيه
كما تربط "الفاء" الجواب بشرطه، كذلك تربط شبه الجواب بشبه الشّرط، وذلك في نحو: الّذي يأتيني فله درهم، وبدخولها فهم ما أراده المتكلّم من ترتّب لزوم الدّرهم على الإتيان، ولو لم تدخل احتمل ذلك وغيره.
وهذه "الفاء" بمنزلة "لام" التوطئة في نحو: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم}، في إيذانها بما أراده المتكلّم من معنى القسم، وقد قرئ بالإثبات والحذف قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}.
الثّالث: أن تكون زائدة دخولها في الكلام كخروجها، وهذا لا يثبته سيبويه، وأجاز الأخفش زيادتها في الخبر مطلقًا، وحكى أخوك فوجد، وقيد الفراء، والأعلم، وجماعة الجواز بكون الخبر أمرا أو نهيا فالأمر، كقوله:
(وقائله خولان فانكح فتاتهم ... )
وقوله:
(أرواح مودع أم بكور ... أنت فانظر لأي ذاك تصير)
وحمل عليه الزّجاج {هذا فليذوقوه حميم وغساق}.
والنّهي نحو: زيد فلا تضربه.
وقال ابن برهان: تزاد "الفاء" عند أصحابنا جميعًا، كقوله:
( ... فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي)
انتهى.
وتأول المانعون قوله: خولان فانكح، على أن التّقدير هذه خولان، وقوله: أنت فانظر، على أن التّقدير انظر فانظر، "ثمّ" حذف انظر الأول وحده فبرز ضميره، فقيل: أنت فانظر، والبيت الثّالث ضرورة، وأما الآية فالخبر حميم، وما بينهما معترض، أو هذا منصوب بمحذوف يفسره فليذوقوه، مثل: {وإياي فارهبون}، وعلى هذا فحميم بتقدير هو حميم، ومن زيادتها قوله:
(لما اتّقى بيد عظيم جرمها ... فتركت ضاحي جلدها يتذبذب)
لأن "الفاء" لا تدخل في جواب "لما" خلافًا لابن مالك، وأما قوله تعالى: {فلمّا نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}، فالجواب محذوف، أي: انقسموا قسمين: فمنهم مقتصد، ومنهم غير ذلك.
وأما قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}، فقيل جواب "لما" الأولى "لما" الثّانية وجوابها، وهذا مردود لاقترانه "بالفاء"، وقيل:{كفروا به}، جواب لهما؛ لأن الثّانية تكرير للأولى، وقيل جواب الأولى محذوف، أي: أنكروه.
مسألة
"الفاء" في نحو: {بل الله فاعبد}، جواب لأما مقدرة عند بعضهم وفيه إجحاف، وزائدة عند الفارسي وفيه بعد، وعاطفة عند غيره،
والأصل تنبه فاعبد الله، "ثمّ " حذف تنبه، وقدم المنصوب على "الفاء" إصلاحا للفظ؛ كيلا تقع "الفاء" صدرا ،كما قال الجميع في "الفاء" في نحو: أما زيدا فاضرب، إذ الأصل مهما يكن من شيء فاضرب زيدا، وقد مضى شرحه في حرف "الهمزة".
مسألة
"الفاء" في نحو: خرجت فإذا الأسد، زائدة لازمه عند الفارسي والمازني وجماعة، وعاطفة عند مبرمان وأبي الفتح، وللسببية المحضة "كفاء" الجواب عند أبي إسحاق، ويجب عندي أن يحمل على ذلك مثل: {إنّا أعطيناك الكوثر فصل لربّك}، ونحو: ائتني فإنّي أكرمك، إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر ولا العكس، ولا يحسن إسقاطها ليسهل دعوى زيادتها.
مسألة
{أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه}، قدر أنهم قالوا بعد الاستفهام لا، فقيل لهم: فهذا كرهتموه يعني والغيبة مثله فاكرهوها، "ثمّ" حذف المبتدأ، وهو هذا.
وقال الفارسي: التّقدير فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة. وضعفه ابن الشجري بأن فيه حذف الموصول، وهو "ما" المصدرية دون صلتها وذلك رديء.
وجملة {واتّقوا الله} عطف على {ولا يغتب بعضكم بعضًا} على التّقدير الأول، وعلى فاكرهوا الغيبة على تقدير الفارسي وبعد، فعندي أن ابن الشجري لم يتأمّل كلام الفارسي، فإنّه قال: كأنّهم قالوا: في الجواب لا، فقيل لهم فكرهتموه فاكرهوا الغيبة، واتّقوا الله، فاتّقوا عطف على فاكرهوا، وإن لم يذكر كما في: {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت}، والمعنى: فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة، وإن لم تكن كما مذكورة، كما أن ما تأتينا فتحدثنا، معناه: فكيف تحدثنا وإن لم تكن كيف مذكورة. انتهى.
وهذا يقتضي أن "كما" ليست محذوفة، بل أن المعنى يعطيها، فهو تفسير معنى لا تفسير إعراب.
تنبيه
قيل "الفاء" تكون للاستئناف كقوله:
(ألم تسأل الرّبع القواء فينطق ... )
أي: فهو ينطق؛ لأنّها لو كانت للعطف لجزم ما بعدها، ولو كانت للسّببيّة لنصب، ومثله:{فإنّما يقول له كن فيكون}، بالرّفع، أي: فهو يكون حينئذٍ، وقوله:
(الشّعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الّذي لا يعلمه)
(زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه)
أي: فهو يعجمه، ولا يجوز نصبه بالعطف؛ لأنّه لا يريد أن يعجمه.
والتّحقيق أن "الفاء" في ذلك كله للعطف، وأن المعتمد بالعطف الجملة لا الفعل، والمعطوف عليه في هذا الشّعر قوله: يريد، وإنّما يقدر النحويون كلمة هو ليبينوا أن الفعل ليس المعتمد بالعطف). [مغني اللبيب: 2 / 473 - 512]