{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) }
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (قوله عز وجل: {تلقون إليهم بالمودّة...}.دخول الباء في: المودة، وسقوطها سواء، هذا بمنزلة قولك: أظن أنك قائم، وأظن بأنك قائم، وأريد بأن تذهب، وأريد بأن تقوم. وقد قال الله جلّ وعز: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} فأدخل الباء، والمعنى: ومن يرد فيه إلحادا. أنشدني أبو الجراح:
فلمّا رجت بالشّرب هزّلها العصا = شحيحٌ له عند الإزاء نهيم
معناه: فلما رجت أن تشرب.
ونزلت هذه السورة في حاطب بن أبي بلتعة، لما أراد رسول الله صلى الله عليه أن يغزو أهل مكة، قدمت عليه امرأة من موالي بني المطلب، فوصلها المسلمون، فلما أرادت الرجوع أتاها حاطب بن أبي بلتعة، فقال: إني معطيك عشرة دنانير، وكاسيك بردا على أن تبلغي أهل مكة كتابا، فكتب معها، ومضت تريد مكة، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليهما بالخبر، فأرسل عليًّا والزبير في إثرها، فقال: إن دفعت إليكما الكتاب [وإلا فاضربا] عنقها فلحقاها، فقالت: تنحيا عني، فإني أعلم أنكما لن تصدقاني حتى تفتشاني، قال: فأخذت الكتاب، فجعلته بين قرنين من قرونها، ففتشاها، فلم يريا شيئا، فانصرفا راجعين، فقال علي للزبير: ماذا صنعنا؟ يخبرنا رسول الله أن معها كتابا ونصدقها؟ فكرّا عليها، فقالا: لتخرجنّ كتابك أو لنضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجت الكتاب. وكان فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم مع أشياء كتب بها، فدعا رسول الله صلى الله عليه بحاطب، فأقرّ له، وقال: حملني على ذلك أن أهلي بمكة وليس من أصحابك [أحد] إلا وله بمكة من يذب عن أهله، فأحببت أن أتقرّب إليهم ليحفظوني في عيالي، ولقد علمت أن لن ينفعهم كتابي، وأن الله بالغ فيهم أمره، فقال عمر بن الخطاب: دعني فأضرب عنقه، قال: فسكت النبي صلى الله عليه، ثم قال: وما يدريك لعل الله قد نظر إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم... حدثني بهذا حبان بإسناده.
وقوله: {تلقون إليهم بالمودّة...} من صلة الأولياء، كقولك: لا تتخذنّه رجلا تلقي إليه كلّ ما عندك.
وقوله: {يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا...}. إن آمنتم ولإن آمنتم، ثم قال عز وجل: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي...} فلا تتخذونهم أولياء). [معاني القرآن: 3/147-149]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({تلقون إليهم بالمودّة} مجازها: المودة، {تسرّون إليهم بالمودّة} مثلها). [مجاز القرآن: 2/257]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({تلقون إليهم بالمودّة}: أي تلقون إليهم المودة. وكذلك: {تسرّون إليهم بالمودّة}). [تفسير غريب القرآن: 461]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (والباء تزاد في الكلام، والمعنى إلقاؤها.
كقوله سبحانه: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}، وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اسم ربك، و{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي يشربها، و{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أي هزّي جذع، وقال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أي أيكم المفتون.
وقال الأعشى:
ضَمِنَتْ برزق عيالنا أرماحُنا
وقال الآخر:
نضربُ بالسَّيفِ ونرجو بالفرج
وقال امرؤ القيس:
هصرتُ بغُصْن ذِي شماريخَ ميَّال
أي: غصنا.
وقال أمية بن أبي الصّلت:
إذ يَسُفُّون بالدقيق وكانوا = قبلُ لا يأكلون شيئاً فَطِيرا
وقال: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}). [تأويل مشكل القرآن: 248-250](م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
ذكر المفسرون: أنّها أنزلت في حاطب بن أبي بلتعة وكان كتب إلى المشركين بمكة يخبرهم بمسير الرسول، صلّى الله عليه وسلم إليهم، لأنّ عياله كانوا بمكة، ولم يكن له بها عشيرة تمنع منهم، فأراد أن يتقرب إليهم ليكفوا عن عياله فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي تخبرونهم بما يخبر بمثله الرجل أهل مودّته، وتنصحون لهم وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ، مع النبي، صلّى الله عليه وسلم يخرجون الرّسول وإيّاكم تمّ الكلام، يعني من مكة أن تؤمنوا بالله ربّكم، أي أخرجوا الرسول وأخرجوكم، لأن آمنتم بالله وحده إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، يريد. فلا تلقوا إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي طالبين رضاي.
ثم قال: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ}، أي كيف تستترون بمودّتكم لهم منّي وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟.
ثم ضرب لهم إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، مثلا حين تبرّأ من قومه ونابذهم وباغضهم، إلى قوله سبحانه: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا}، يريد أنّ إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه: لأستغفرنّ لك). [تأويل مشكل القرآن: 356-357]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا باللّه ربّكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرّون إليهم بالمودّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السّبيل} قيل المعنى: تلقون إليهم المودّة، والمعنى -واللّه أعلم- يلقون إليهم أخبار النبي عليه السلام وسرّه بالمودة التي بينكم وبينهم، ودليل هذا القول: {تسرّون إليهم} ما يستره النبي عليه السلام بالمودة.
ويروى أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى أهل مكة يتنصح لهم، فكتب إليهم أن رسول الله يريد أن يغزوكم فخذوا حذركم فأطلع اللّه نبيه على ذلك، وكان كتب إليهم كتابا ووجه به مع امرأة يقال إنها كانت مولاة بني هاشم، فوجّه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعلي والزبير خلفها فلحقاها فسألاها عن الكتاب فأنكرت، ففتشا ما معها فلم يجدا شيئا، فقال علي رضوان اللّه عليه: إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكذبنا فأقسم عليّ عليها لتخرجن الكتاب أو ليضربنها بالسيف، فقالت لهما: ولّيا وجوهكما وأخرجت الكتاب من قرن من قرون شعرها، فجاء بالكتاب إلى النبي عليه السلام فعرضه على حاطب فاعترف به وقال إن لي بمكة أهلا ومالا فأردت أن أتقرب منهم، ولن يرد اللّه بأسه عنهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم} الآية إلى آخر القصة.
وأما قوله: {إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي} هذا شرط جوابه تقدّم. المعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
و(جهادا)، و(ابتغاء) منصوبان لأنهما مفعولان لهما، المعنى: إن كنتم خرجتم لجهاد وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء). [معاني القرآن: 5/155-156]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ((بالمودة) أي: بالكتب). [ياقوتة الصراط: 511]
تفسير قوله تعالى:{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (ثم أعلمهم تعالى أنه ليس ينفعهم التقرب إليهم بنقل أخبار النبي عليه السلام فقال: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسّوء وودّوا لو تكفرون} معنى "يثقفوكم": يلقوكم.
{ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسّوء} ). [معاني القرآن: 5/156]
تفسير قوله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {يوم القيامة يفصل بينكم...} قرأها يحيى بن وثاب: يفصّل بينكم، قال: وكذلك يقرأ أبو زكريا، وقرأها عاصم والحسن يفصل، وقرأها أهل المدينة: يفصل). [معاني القرآن: 3/149]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (ثم أعلمهم أن أهلهم وأولادهم لا ينفعونهم شيئا في القيامة فقال: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم واللّه بما تعملون بصير} قرئت (يفصل) على أربعة أوجه:
- (يَفْصِل بينَكُمْ) على معنى: يفصل اللّه بينكم.
- و(يُفْصَلُ بينكم) على ما لم يسمّ فاعله، والمعنى راجع إلى الله عزّ وجلّ.
- و(يُفَصِّل بينكم) بتشديد الصاد وفتحها وضم الياء على ما لم يسمّ فاعله.
- وقرئت (يفصِّلْ بينكم).
ويجوز نَفْصِّل بينكم ونُفَصِّل بينكم - بالنون.. فهذه ستة أوجه). [معاني القرآن: 5/156]
تفسير قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ...} يعني حاطبا، "فيهم" في إبراهيم. يقول: في فعل إبراهيم، والذين معه إذا تبرءوا من قومهم. يقول: ألا تأسيت يا حاطب بإبراهيم؛ فتبرأ من أهلك كما برئ إبراهيم؟ ثم قال: {إلاّ قول إبراهيم لأبيه} أي: قد كانت لكم أسوة في أفاعيلهم إلاّ في قول إبراهيم: {لأستغفرن}؛ فإنه ليس لكم فيه أسوة). [معاني القرآن: 3/149]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّا برءاؤا مّنكم...}. إن تركت الهمز من براء أشرت إليه بصدرك، فقلت: براء. وقال الفراء: مدّة، وإشارة إلى الهمز، وليس يضبط إلاّ بالسمع، [معاني القرآن: 3/149]
[ولم يجرها]. ومن العرب من يقول: إنا براءٌ منكم، فيجري، ولو قرئت كذلك كان وجها). [معاني القرآن: 3/150]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {رّبّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا...} أي: فقولوا هذا القول أنتم، ويقال: إنه من قيل إبراهيم عليه السلام وقومه). [معاني القرآن: 3/150]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم} ثم استثنى " إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك "). [مجاز القرآن: 2/257]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء مّنكم وممّا تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتّى تؤمنوا باللّه وحده إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من اللّه من شيءٍ رّبّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير}[قال] {إلاّ قول إبراهيم} استثناء خارج من أول الكلام). [معاني القرآن: 4/30]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ}... أي عبرة وائتمام.{إلّا قول إبراهيم لأبيه}... قال قتادة: «ائتسوا بأمر إبراهيم كلّه، إلا في استغفاره لأبيه: فلا تأتسوا به في ذلك، لأنه كان عن موعدة منه له»). [تفسير غريب القرآن: 461]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
ذكر المفسرون: أنّها أنزلت في حاطب بن أبي بلتعة وكان كتب إلى المشركين بمكة يخبرهم بمسير الرسول، صلّى الله عليه وسلم إليهم، لأنّ عياله كانوا بمكة، ولم يكن له بها عشيرة تمنع منهم، فأراد أن يتقرب إليهم ليكفوا عن عياله فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي تخبرونهم بما يخبر بمثله الرجل أهل مودّته، وتنصحون لهم وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ، مع النبي، صلّى الله عليه وسلم يخرجون الرّسول وإيّاكم تمّ الكلام، يعني من مكة أن تؤمنوا بالله ربّكم، أي أخرجوا الرسول وأخرجوكم، لأن آمنتم بالله وحده إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، يريد. فلا تلقوا إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي طالبين رضاي.
ثم قال: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ}، أي كيف تستترون بمودّتكم لهم منّي وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟.
ثم ضرب لهم إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، مثلا حين تبرّأ من قومه ونابذهم وباغضهم، إلى قوله سبحانه: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا}، يريد أنّ إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه: لأستغفرنّ لك). [تأويل مشكل القرآن: 356-357](م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم وممّا تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتّى تؤمنوا باللّه وحده إلّا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من اللّه من شيء ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير}
{قد كانت لكم أسوة} ويجوز أسوة بضم الهمزة.
{في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم وممّا تعبدون من دون اللّه} فأعلم اللّه - عزّ وجلّ - أن أصحاب إبراهيم صلوات اللّه عليه تبرأوا من قومهم وعادوهم، فأمر أصحاب النبي عليه السلام أن يتأسّوا بهم وبقولهم.
وقوله: {إلّا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك} فإن ذلك عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له إقامته على الكفر تبرّأ منه.فأمّا ما يجوز في " برءاء منكم " فأربعة أوجه:أجودها برءاء على فعلاء، مثل ظريف وظرفاء، وشريك وشركاء، وكذلك بري. وبرءاء، ويجوز براء منكم وبرآء منكم جميعا بالمد فمن قال براء بالمد فهو بمنزلة ظريف وظراف.
ومن قال براء بالضم - أبدل الضم من الكسرة كما قالوا رخلة ورخال وقال بعضهم: رخال بضم الراء وقالوا: شاة ربى وغنم ربات ورباب - بضم الراء وكسرها - وهي الحديثة النتاج، أي الحديثة الولادة.ويجوز براء منكم بفتح الباء، لأن العرب تقول: أنا البراء منك ويقول الاثنان والثلاثة: نحن البراء منك، وكذلك تقول المرأة: أنا البراء منك.فلا تقرأ من هذه الأوجه إلا بما قرأ به من توجد عنه القراءة). [معاني القرآن: 5/156-157]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أُسْوَةٌ} أي عبرة وائتمام). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 267]
تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {ربّنا لا تجعلنا فتنةً...}. لا تظهرنّ علينا الكفار فيروا أنهم على حق، وأنّا على باطل). [معاني القرآن: 3/150]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {ربّنا لا تجعلنا فتنة للّذين كفروا واغفر لنا ربّنا إنّك أنت العزيز الحكيم} معناه لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك). [معاني القرآن: 5/157]
تفسير قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الّذين عاديتم مّنهم مّودّةً...}.يقول: عسى أن ترجع عداوة بينكم إلى المودة، فتزوج النبي صلى الله عليه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فكانت المصاهرة مودة). [معاني القرآن: 3/150]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الّذين عاديتم منهم مودّة واللّه قدير واللّه غفور رحيم}
{عسى} واجبة من اللّه.جاء في التفسير أنه يعني بهذا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فهذه هي المودة وقيل إنه يعني به من أسلم منهم فيكون بينكم وبينهم مودّة). [معاني القرآن: 5/157]
تفسير قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {لاّ ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين...} هؤلاء خزاعة كانوا عاقدوا النبي صلى الله عليه ألا يقاتلوه، ولا يخرجوه، فأمر النبي صلى الله عليه ببرهم، والوفاء لهم إلى مدة أجلهم). [معاني القرآن: 3/150]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ اللّه يحبّ المقسطين}
"أن" في موضع جر بدل من "الذين" المعنى لا ينهاكم أن تبروا الّذين لم يقاتلوكم في الدّين. وهذا يدل على أن المعنى: لا ينهاكم الله عن برّ الذين بينكم وبينهم عهد ودليل ذلك قوله: {وتقسطوا إليهم} أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم، من الوفاء بالعهد، يقال أقسط الرجل فهو مقسط إذا عدل، وقسط فهو قاسط إذا جار، وقيل إنه يعني به النساء والصبيان). [معاني القرآن: 5/157-158]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ((القاسط): الجائر. (الْمُقْسِطِ): العادل). [العمدة في غريب القرآن: 304]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (ثم قال:{إنّما ينهاكم اللّه عن الّذين قاتلوكم في الدّين وأخرجوكم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم...} أن تنصروهم، يعني الباقين من أهل مكة). [معاني القرآن: 3/150]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {إنّما ينهاكم اللّه عن الّذين قاتلوكم في الدّين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظّالمون}
{ظاهروا على إخراجكم} أي عاونوا على إخراجكم.
{أن تولّوهم} "أن" في موضع جر أيضا على البدل.المعنى إنّما ينهاكم اللّه عن أن تتولوا هؤلاء الذين قاتلوكم في الدّين لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسره النبي عليه السلام موالاة). [معاني القرآن: 5/158]