تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وحدثني من سمع عبد الله بن عمر بن حفص يحدث قال: لما أنزلت {تبت يدا أبي لهبٍ}، أقبلت امرأة أبي لهب حتى دخلت المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ فلما نظر إليها أبو بكر قال: يا رسول الله، هذه فلانة، لو تنحيت عنها، فإني أخشى أن تؤذيك، فقال رسول الله: إني سأقرأ آية من كتاب الله فلا تراني، فأقبلت حتى وقفت عليهما، فقالت لأبي بكر: أين صاحبك هذا الذي يهجونا، فقال لها أبو بكر: لا، ورب هذه البنية، ما يهجوكم، قالت: بلى، بلغني أنه يهجونا، فقال لها أبو بكر مثل ذلك؛ فقال أبو بكر: فلما تولت عنا قلت: يا رسول الله، أي شيء قرأت به حتى لم ترك، قال: قرأت: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا}). [الجامع في علوم القرآن: 3/34] (م)
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (قال أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى حجابا مستورا قال هي الأكنة). [تفسير عبد الرزاق: 1/379]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الّذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا}.
يقول تعالى ذكره: وإذا قرأت يا محمّد القرآن على هؤلاء المشركين الّذين لا يصدّقون بالبعث، ولا يقرّون بالثّواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابًا، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرّوه عليهم، فينتفعوا به عقوبةً منّا لهم على كفرهم. والحجاب هاهنا: هو السّاتر كما:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الّذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا} الحجاب المستور أكنّةً على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشّيطان فاستحوذ عليهم
- حدّثنا محمّدٌ، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة {حجابًا مستورًا} قال: هي الأكنّة
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الّذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا} قال: قال أبي: لا يفقهونه، وقرأ: {وجعلنا على قلوبهم أكنّةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا} لا يخلص ذلك إليهم.
وكان بعض نحويّي أهل البصرة يقول: معنى قوله حجابًا مستورًا حجابًا ساترًا، ولكنّه أخرج وهو فاعلٌ في لفظ المفعول، كما يقال: إنّك مشئومٌ علينا وميمونٌ، وإنّما هو شائمٌ ويامنٌ؛ لأنّه من شأمهم ويمنهم. قال: والحجاب ههنا: هو السّاتر. وقال: مستورًا.
وكان غيره من أهل العربيّة يقول: معنى ذلك: حجابًا مستورًا عن العباد فلا يرونه.
وهذا القول الثّاني أظهر بمعنى الكلام أن يكون المستور هو الحجاب، فيكون معناه أنّ للّه سترًا عن أبصار النّاس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأوّل وجهٌ مفهومٌ). [جامع البيان: 14/607-609]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنبأ بشر بن موسى حدّثنا الحميديّ، ثنا سفيان، ثنا الوليد بن كثيرٍ، عن ابن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي اللّه عنها، قالت: لمّا نزلت {تبّت يدا أبي لهبٍ} [المسد: 1] أقبلت العوراء أمّ جميل بنت حربٍ ولها ولولةٌ وفي يدها فهرٌ وهي تقول: مذمّمًا أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جالسٌ في المسجد ومعه أبو بكرٍ فلمّا رآها أبو بكرٍ قال: يا رسول اللّه، قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «إنّها لن تراني» وقرأ قرآنًا فاعتصم به كما قال: وقرأ {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الّذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا} [الإسراء: 45] فوقفت على أبي بكرٍ ولم تر رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا أبا بكرٍ، إنّي أخبرت أنّ صاحبك هجاني. فقال: لا وربّ هذا البيت ما هجاك. فولّت وهي تقول: قد علمت قريشٌ أنّي بنت سيّدها «هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه»). [المستدرك: 2/393]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج أبو يعلى، وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت (تبت يدا أبي لهب) (المسد آية 1) أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا * ودينه قلينا * وأمره عصينا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني وقرأ قرآنا اعتصم به، كما قال تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} فجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه: فلم تر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها). [الدر المنثور: 9/366-367]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أن أم جميل دخلت على أبي بكر وعنده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا ابن أبي قحافة ما شأن صاحبك ينشد في الشعر فقال: والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر، فقالت: أليس قد قال: (في جيدها حبل من مسد) (المسد آية 5) فما يدريه ما في جيدي فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قل لها: هل ترين عندي أحدا فإنها لن تراني جعل بيني وبينها حجاب فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: فقالت: أتهزأ بي والله ما أرى عندك أحدا). [الدر المنثور: 9/367]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن مردويه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند المقام ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل الكعبة بين يدي إذ جاءت أم جميل بنت حرب بن أمية زوجة أبي لهب ومعها فهران فقالت: أين الذي هجاني وهجا زوجي والله لئن رأيته لأرضن أنثييه بهذين الفهرين، وذلك عند نزول (تبت يدا أبي لهب) قال أبو بكر رضي الله عنه: فقلت له: يا أم جميل ما هجاك ولا هجا زوجك، قالت: والله ما أنت بكذاب وإن الناس ليقولون ذلك ثم ولت ذاهبة، فقلت: يا رسول الله إنها لم ترك فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: حال بيني وبينها جبريل). [الدر المنثور: 9/367-368]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني في الأفراد وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (تبت يدا أبي لهب) جاءت امرأة أبي لهب فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو تنحيت عنها فإنها امرأة بذية فقال: إنه سيحال بيني وبينها فلا تراني فقال: يا أبا بكر هجانا صاحبك قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، فقال: إنك لمصدق فاندفعت راجعة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله ما رأتك قال: كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحه حتى ذهبت). [الدر المنثور: 9/368-369]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر عن ابن شهاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا القرآن على مشركي قريش ودعاهم إلى الله قالوا: يهزؤون به (قلوبنا في أكنة بما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) (السجدة آية 5) فأنزل الله في ذلك من قولهم {وإذا قرأت القرآن} الآيات). [الدر المنثور: 9/369]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن عساكر وولده القاسم في كتاب آيات الحرز عن العباس بن محمد المنقري رضي الله عنه قال: قدم حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المدينة حاجا فاحتجنا إلى أن نوجه رسولا وكان في الخوف فأبى الرسول أن يخرج وخاف على نفسه من الطريق فقال الحسين رضي الله عنه: أنا أكتب لك رقعة فيها حرز لن يضرك شيء إن شاء الله تعالى فكتب له رقعة وجعلها الرسول في صورته فذهب الرسول فلم يلبث أن جاء سالما فقال: مررت بالأعراب يمينا وشمالا فما هيجني منهم أحد والحرز عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب وإن هذا الحرز كان الأنبياء يتحرزون به من الفراعنة: (بسم الله الرحمن الرحيم) (قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون) (المؤمنون آية 109) (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) (مريم آية 18) أخذت بسمع الله وبصره وقوته على أسماعكم وأبصاركم وقوتكم يا معشر الجن والإنس والشياطين والأعراب والسباع والهوام واللصوص مما يخاف ويحذر فلان بن فلان سترت بينه وبينكم بستر النبوة التي استتروا بها من سطوات الفراعنة جبريل عن أيمانكم وميكائيل عن شمائاكم ومحمد صلى الله عليه وسلم أمامكم والله سبحانه وتعالى من فوقكم يمنعكم من فلان بن فلان في نفسه وولده وأهله وشعره وبشره وماله وما عليه وما معه وما تحته وما فوقه، {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} {وجعلنا على قلوبهم أكنة} إلى قوله {نفورا} وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا). [الدر المنثور: 9/369-370]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم). [الدر المنثور: 9/370]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد وإذا قرأت القرآن الآية قال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على المشركين بمكة سمعوا صوته ولا يرونه). [الدر المنثور: 9/370]
تفسير قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنّةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورًا}.
يقول تعالى ذكره: وجعلنا على قلوب هؤلاء الّذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنّةً، وهي جمع كنانٍ، وذلك ما يتغشّاها من خذلان اللّه إيّاهم عن فهم ما يتلى عليهم {وفي آذانهم وقرًا} يقول: وجعلنا في آذانهم وقرًا عن سماعه، وصممًا. والوقر بالفتح في الأذن: الثّقل. والوقر بالكسر: الحمل.
وقوله: {وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده} يقول: وإذا قلت: لا إله إلاّ اللّه في القرآن وأنت تتلوه {ولّوا على أدبارهم نفورًا} يقول: انفضّوا، فذهبوا عنك نفورًا من قولك استكبارًا له واستعظامًا من أن يوحّد اللّه تعالى.
وبما قلنا في ذلك، قال بعض أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا} وإنّ المسلمين لمّا قالوا: لا إله إلاّ اللّه، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، فصافّها إبليس وجنوده، فأبى اللّه إلاّ أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها، إنّها كلمةٌ من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنّما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، الّتي يقطعها الرّاكب في ليالٍ قلائل ويسير الدّهر في فئامٍ من النّاس لا يعرفونها ولا يقرّون بها
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورًا} قال: بغضًا لما تكلّم به لئلاّ يسمعوه، كما كان قوم نوحٍ يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلاّ يسمعوا ما يأمرهم به من الاستغفار والتّوبة، ويستغشون ثيابهم، قال: يلتفّون بثيابهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم لئلاّ يسمعوا ولا ينظر إليهم.
وقال آخرون: إنّما عنى بقوله {ولّوا على أدبارهم نفورًا} الشّياطين، وإنّها تهرب من قراءة القرآن، وذكر اللّه
ذكر من قال ذلك
- حدّثني الحسين بن محمّدٍ الذّارع، قال: حدّثنا روح بن المسيّب أبو رجاءٍ الكليبيّ، قال: حدّثنا عمرو بن مالكٍ، عن أبي الجوزاء، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورًا} هم الشّياطين.
والقول الّذي قلنا في ذلك أشبه بما دلّ عليه ظاهر التّنزيل، وذلك أنّ اللّه تعالى أتبع ذلك قوله {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الّذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا} فأن يكون ذلك خبرًا عنهم أولى إذ كان بخبرهم متّصلاً من أن يكون خبرًا عمّن لم يجز له ذكرٌ.
وأمّا النّفور، فإنّها جمع نافرٍ، كما القعود جمع قاعدٍ، والجلوس جمع جالسٍ، وجائزٌ أن يكون مصدرًا أخرج من غير لفظه، إذ كان قوله {ولّوا} بمعنى: نفروا، فيكون معنى الكلام: نفروا نفورًا، كما قال امرؤ القيس:
ورضت فذلّت صعبةٌ أيّ إذلال
إذا كان رضت بمعنى: أذللت، فأخرج الإذلال من معناه، لا من لفظه). [جامع البيان: 14/609-611]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده} [الإسراء: 46].
- عن ابن عبّاسٍ {وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورًا} [الإسراء: 46] قال: الشّياطين.
رواه الطّبرانيّ، وفيه روح بن المسيّب. قال ابن معينٍ: صويلحٌ وضعّفه، وقال ابن حبّان: لا تحلّ الرّواية عنه، وبقيّة رجاله ثقاتٌ). [مجمع الزوائد: 7/50]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} قال: بغضا لما تتكلم به لئلا يسمعوه كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ما يأمرهم به من الاستغفار والتوبة). [الدر المنثور: 9/371]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} قال: الشياطين). [الدر المنثور: 9/371]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي جعفر محمد بن علي علي أنه قال: لم كتمتم (بسم الله الرحمن الرحيم) فنعم الاسم والله كتموا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر (ببسم الله الرحمن الرحيم) ويرفع صوته بها فتولي قريش فرارا فأنزل الله {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا}). [الدر المنثور: 9/371]
تفسير قوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({وإذ هم نجوى} [الإسراء: 47] : " مصدرٌ من ناجيت، فوصفهم بها، والمعنى: يتناجون "). [صحيح البخاري: 6/83]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله وإذ هم نجوى مصدرٌ من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون كذا فيه وقال أبو عبيدة في قوله إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى هو مصدر ناجيت أو اسمٌ منها فوصف بها القوم كقولهم هم عذابٌ فجاءت نجوى في موضع متناجين انتهى ويحتمل أن يكون على حذف مضافٍ أي وهو ذوو نجوى أو هو جمع نجيٍّ كقتيلٍ وقتلى). [فتح الباري: 8/390]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (وإذ هم نجوى مصدرٌ من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون
أشار به إلى قوله تعالى: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} (الإسراء: 47)
الآية. قوله: (إذ يستمعون إليك) ، نصب بقوله: أعلم، أي: إعلم وقت استماعهم بما به يستمعون. قوله: (وإذ هم نجوى) ، أي: وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى، يعني: يتناجون في أمرك، بعضهم يقول: هو مجنون، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: شاعر. قوله: (مصدر من ناجيت) الأظهر أنه إسم غير مصدر، وقال الجوهري: قوله تعالى: {وإذ هم نجوى} فجعلهم هم النّجوى، وإنّما النّجوى فعلهم، كما تقول: قوم رضا، وإنّما الرّضا فعلهم. انتهى. وقيل: يجوز أن يكون نجوى جمع نجي: كقتلى جمع قتيل). [عمدة القاري: 19/21]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({وإذ هم نجوى} مصدر من ناجيت فوصفهم بها) أي بالنجوى فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة أو على حذف مضاف أي ذو نجوى ويجوز أن يكون جمع نجيٌّ كقتيل وقتلى. (والمعنى يتناجون) ). [إرشاد الساري: 7/199]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا}.
يقول تعالى ذكره: نحن أعلم يا محمّد بما يستمع به هؤلاء الّذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قومك، إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ كتاب اللّه {وإذ هم نجوى}.
وكان بعض أهل العربيّة من أهل البصرة يقول: النّجوى: فعلهم، فجعلهم هم النّجوى، كما يقول: هم قومٌ رضًا، وإنّما رضًا: فعلهم
وقوله {إذ يقول الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا} يقول: حين يقول المشركون باللّه ما تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا.
وعنى فيما ذكر بالنّجوى: الّذين تشاوروا في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في دار النّدوة.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {إذ يستمعون إليك} قال: هي مثل قيل الوليد بن المغيرة ومن معه في دار النّدوة.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، نحوه.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظّالمون}.. الآية، ونجواهم أن زعموا أنّه مجنونٌ. وأنّه ساحرٌ، وقالوا: {أساطير الأوّلين}.
وكان بعض أهل العربيّة من أهل البصرة يذهب بقوله: {إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا} إلى معنى: ما تتّبعون إلاّ رجلاً له سحرٌ: أي له رئةٌ، والعرب تسمّي الرّئة سحرًا، والمسحّر من قولهم للرّجل إذا جبن: قد انتفخ سحره، وكذلك يقال لكلّ ما أكل أو شرب من آدميٍّ وغيره: مسحور ومسحّرٌ، كما قال لبيدٌ:
فإن تسألينا فيم نحن فإنّنا = عصافير من هذا الأنام المسحّر
وقال:
ونسحر بالطّعام وبالشّراب
أي نغذّى بهما. فكأنّ معناه عنده كان: إن تتّبعون إلاّ رجلاً له رئةٌ، يأكل الطّعام، ويشرب الشّراب، لا ملكًا لا حاجةٌ به إلى الطّعام والشّراب، والّذي قال من ذلك غير بعيدٍ من الصّواب). [جامع البيان: 14/611-613]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إذ يستمعون إليك} قال: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل). [الدر المنثور: 9/371]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {إذ يستمعون إليك} قال: هي في مثل الوليد بن المغيرة ومن معه في دار الندوة وفي قوله: {فلا يستطيعون سبيلا} قال: مخرجا يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك الوليد بن المغيرة وأصحابه). [الدر المنثور: 9/372]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن الزهري رضي الله عنه قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كان الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل واحد منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد، قال: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد قال: ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الأخنس وتركه والله أعلم). [الدر المنثور: 9/372-373]
تفسير قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلاً}.
يقول تعالى ذكره: انظر يا محمّد بعين قلبك فاعتبر كيف مثّلوا لك الأمثال، وشبّهوا لك الأشباه، بقولهم: هو مسحورٌ، وهو شاعرٌ، وهو مجنونٌ {فضلّوا} يقول: فجاروا عن قصد السّبيل بقيلهم ما قالوا {فلا يستطيعون سبيلاً} يقول: فلا يهتدون لطريق الحقّ لضلالهم عنه وبعدهم منه، وأنّ اللّه قد خذلهم عن إصابته، فهم لا يقدرون على المخرج ممّا هم فيه من كفرهم بربهم إلى الإيمان به، كما:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {فلا يستطيعون سبيلاً} قال: مخرجًا، الوليد بن المغيرة وأصحابه أيضًا.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلاً} مخرجًا، الوليد بن المغيرة وأصحابه). [جامع البيان: 14/613-614]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد فلا يستطيعون سبيلا يقول لا يستطيعون مخرجا مما قالوا يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه). [تفسير مجاهد: 363]