تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وكتب معناه فرض، وقد تقدم مثله، وهذا هو فرض الجهاد، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل».
وقال عطاء بن أبي رباح: «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية»، وقال جمهور الأمة: «أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام، فهو حينئذ فرض عين»، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: «الجهاد تطوع». وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد. فقيل له: ذلك تطوع وال كرهٌ بضم الكاف الاسم، وفتحها المصدر.
وقال قوم «الكره» بفتح الكاف ما أكره المرء عليه، و «الكره» ما كرهه هو.
وقال قوم: هما بمعنى واحد.
وقوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً} الآية، قال قوم عسى من الله واجبة، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خيرٌ لكم في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبّوا الدعة وترك القتال وهو شرٌّ لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم، وفي قوله تعالى واللّه يعلم الآية قوة أمر).[المحرر الوجيز: 1/ 519-520]
تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {يسألونك عن الشّهر الحرام} الآية، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره. والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم، وفر نوفل فأعجزهم، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم، فقالت قريش: محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذلك، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم»، فنزلت هذه الآية».
وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية: «أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت»، وهذا تخليط من المهدوي. وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة، وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت، لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين.
وقتالٍ بدل عند سيبويه، وهو بدل الاشتمال.
وقال الفراء: هو خفض بتقدير عن.
وقال أبو عبيدة «هو خفض على الجوار»، وقوله هذا خطأ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه» بتكرير عن، وكذلك قرأها الربيع والأعمش، وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل» دون ألف فيهما، والشّهر في الآية اسم الجنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشّهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وروى جابر بن عبد الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى، فذلك قوله تعالى: {قل قتالٌ فيه كبيرٌ}»، وصدٌّ مبتدأ مقطوع مما قبله، والخبر أكبر، والمسجد معطوف على سبيل اللّه، وهذا هو الصحيح.
وقال الفراء: صدٌّ عطف على كبيرٌ، وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله وكفرٌ به عطف أيضا على كبيرٌ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده، ومعنى الآية على قول الجمهور: «إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد عنه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله».
وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: «قوله قل قتالٌ فيه كبيرٌ منسوخ بقوله: {وقاتلوا المشركين كافّةً} [التوبة: 36]، وبقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]».
وقال عطاء: «لم تنسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم»، وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} المعنى عند جمهور المفسرين، والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام، وقيل: المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا.
وقال مجاهد وغيره: «الفتنة هنا الكفر أي كفركم أشد من قتلنا أولئك».
قوله عز وجل: {ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (217) إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمت اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ (218) يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (219)}
قوله تعالى: {ولا يزالون} ابتداء خبر من الله- عز وجل- وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة، ويردّوكم نصب ب حتّى لأنها غاية مجردة، وقوله تعالى: {ومن يرتدد} أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، قالت طائفة من العلماء: يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.
وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن- على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه: «يقتل دون أن يستتاب»، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين: راجع، فإن أبى ذلك قتل»، وقال عطاء ابن أبي رباح: «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين»، واختلف القائلون بالاستتابة: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يستتاب ثلاثة أيام». وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه.
وقال الزهري: «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل».
وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله، وقال النخعي والثوري: «يستتاب محبوسا أبدا»، قال ابن المنذر: «واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة، وحبط العمل إذا انفسد في آخره فبطل»، وقرأ أبو السمال «حبطت» بفتح الباء في جميع القرآن.
وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: «ميراث المرتد لورثته من المسلمين»، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور: «ميراثه في بيت المال»، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلا شذوذا، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه). [المحرر الوجيز: 1/ 520-525]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا} الآية، قال جندب بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما: «لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام، ثم بذكرهم والإشارة إليهم في قوله: {إنّ الّذين آمنوا}، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكر الله عز وجل».
وهاجر الرجل إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، وهي مفاعلة من هجر، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله، وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، ويرجون معناه يطمعون ويستقربون، والرجاء تنعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء، وقد يتجوز أحيانا ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف، كما قال الهذلي:
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ....... وحالفها في بيت نوب عوامل
وقال الأصمعي: «إذا اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف»، كهذا البيت، وكقوله عز وجل: {لا يرجون لقاءنا} [سورة يونس: الآيات: 7- 11- 15، سورة الفرقان: الآية 21]، المعنى لا يخافون، وقد قيل: إن الرجاء في الآية على بابه، أي لا يرجون الثواب في لقائنا، وبإزاء ذلك خوف العقاب، وقال قوم: اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين، وليس هذا بجيد، وقال الجاحظ في كتاب البلدان: «إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله، فهو يصبر عليه»، وباقي الآية وعد). [المحرر الوجيز: 1/ 525-526]