قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("إن"
"إن" المكسورة الخفيفة، ترد على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون شرطيّة،
نحو: {إن ينتهوا يغفر لهم} ، {وإن تعودوا نعد}، وقد تقترن "بلا" النافية، فيظن من لا معرفة له أنّها "إلّا" الاستثنائية، نحو: {إلّا تنصروه فقد نصره الله} ، {إلّا تنفروا يعذبكم} ، {وإلّا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} ، {وإلّا تصرف عني كيدهن أصب إليهنّ}، وقد بلغني أن بعض من يدعي الفضل سأل في {إلّا تفعلوه}، فقال: ما هذا الاستثناء أمتصل أم منقطع؟
الثّاني: أن تكون نافية،
وتدخل على الجملة الاسمية، نحو: {إن الكافرون إلّا في غرور}،{إن أمهاتهم إلّا اللائي ولدنهم}، ومن ذلك: {وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به قبل موته}، أي: و"ما" أحد من أهل الكتاب "إلّا" ليؤمنن به، فحذف المبتدأ وبقيت صفته، ومثله:{وإن منكم إلّا واردها}،وعلى الجملة الفعلية، نحو: {إن أردنا إلّا الحسنى}،{إن يدعون من دونه إلّا إناثًا}،{وتظنون إن لبثتم إلّا قليلا}،{إن يقولون إلّا كذبا}، وقول بعضهم لا تأتي "إن" النافية إلّا وبعدها "إلّا" كهذه الآيات، أو "لما" المشدّدة الّتي بمعناها كقراءة بعض السّبعة: {إن كل نفس لما عليها حافظ} بتشديد "الميم"، أي: "ما" كل نفس "إلّا" عليها حافظ مردود بقوله تعالى: {إن عندكم من سلطان بهذا}،{قل إن أدري أقريب ما توعدون}،{وإن أدري لعلّه فتنة لكم}، وخرج جماعة على "إن" النافية قوله تعالى: {إن كنّا فاعلين}،{قل إن كان للرحمن ولد}، وعلى هذا فالوقف هنا وقوله تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه}، أي في الّذي "ما" مكناكم فيه، وقيل زائدة ويؤيّد الأول {مكناهم في الأرض ما لم نمكن}، وكأنّه إنّما عدل عن "ما" لئلّا يتكرّر فيثقل اللّفظ قيل ولهذا لم زادوا على "ما" الشّرطيّة "ما" قلبوا "ألف" "ما" الأولى "هاء"، فقالوا "مهما"،وقيل بل هي في الآية بمعنى "قد"، و"إن" من ذلك {فذكر إن نفعت الذكرى}، وقيل في هذه الآية "إن" التّقدير و"إن" لم تنفع مثل {سرابيل تقيكم الحر}، أي: والبرد وقيل إنّما قيل ذلك بعد أن عمهم بالتذكير ولزمتهم الحجّة، وقيل ظاهره الشّرط، ومعناه ذمهم، واستبعاد لنفع التّذكير فيهم كقولك: عظ الظّالمين "إن" سمعوا منك، تريد بذلك الاستبعاد "لا" الشّرط، وقد اجتمعت الشّرطيّة والنافية في قوله تعالى:{ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده}، الأولى شرطيّة والثّانية نافية جواب للقسم الّذي أذنت به "اللّام" الدّاخلة على الأولى، وجواب الشّرط محذوف وجوبا، وإذا دخلت على الجملة الاسمية لم تعمل عند سيبويه والفراء، وأجاز الكسائي والمبرد إعمالها عمل "ليس"، وقرأ سعيد بن جبير:{إن الّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} "بنون" مخفّفة مكسورة لالتقاء الساكنين، ونصب {عبادا} و {أمثالكم}، وسمع من أهل العالية "إن" أحد خيرا من أحد "إلّا" بالعافية، و"إن" ذلك نافعك ولا ضارك، وممّا يتخرّج على الإهمال الّذي هو لغة الأكثرين قول بعضهم "إن" قائم، وأصله: "إن" أنا قائم فحذفت "همزة" أنا اعتباطا، وأدغمت "نون" "إن" في "نونها"، وحذفت "ألفها" في الوصل، وسمع "إن" قائما على الإعمال، وقول بعضهم نقلت حركة "الهمزة" إلى "النّون"، ثمّ أسقطت على القياس في التّخفيف بالنّقل ثمّ سكنت "النّون" وأدغمت مردود؛ لأن المحذوف لعلّة كالثّابت، ولهذا تقول هذا قاض بالكسر لا بالرّفع؛ لأن حذف "الياء" لالتقاء الساكنين فهي مقدرة الثّبوت، وحينئذٍ فيمتنع الإدغام لأن "الهمزة" فاصلة في التّقدير، ومثل هذا البحث في قوله تعالى: {لكن هو الله ربّي}.
الثّالث: أن تكون مخفّفة من الثّقيلة،
فتدخل على الجملتين، فإن دخلت على الاسمية جاز إعمالها خلافًا للكوفيين، لنا قراءة الحرميين وأبي بكر: {وإن كلا لما ليوفينهم}، وحكاية سيبويه "إن" عمرا لمنطلق، ويكثر إهمالها نحو: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدّنيا}،{وإن كل لما جميع لدينا محضرون}، وقراءة حفص:{إن هذان لساحران}، وكذا قرأ ابن كثير إلّا أنه شدد "نون" هذان، ومن ذلك:{إن كل نفس لما عليها حافظ} في قراءة من خفف "لما"، وإن دخلت على الفعل أهملت وجوبا، والاكثر كون الفعل ماضيا ناسخا نحو: {وإن كانت لكبيرة}،{وإن كادوا ليفتنونك}،{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}، ودونه أن يكون مضارعا ناسخا نحو: {وإن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك}،{وإن نظنك لمن الكاذبين}، ويقاس على النّوعين اتّفاقًا، ودون هذا أن يكون ماضيا غير ناسخ نحو قوله: شلت يمينك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد
لا يقاس عليه خلافًا للأخفش أجاز "إن" قام لأنا و"إن" قعد لأنت، ودون هذا أن يكون مضارعا غير ناسخ، كقول بعضهم: "إن" يزينك لنفسك و"إن" يشينك لهيه، ولا يقاس عليه إجماعًا، وحيث وجدت "إن" وبعدها "اللّام" المقترحة كما في هذه المسألة فاحكم عليها بأن أصلها التّشديد، وفي هذه "اللّام" خلاف يأتي في باب "اللّام" إن شاء الله تعالى.
الرّابع: أن تكون زائدة كقوله:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ...
وأكثر ما زيدت بعد "ما" النافية، إذا دخلت على جملة فعلية كما في البيت أو اسمية، كقوله:
فما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
وفي هذه الحالة تكف عمل "ما" الحجازية، كما في البيت وأما قوله:
بني غدانة ما إن أنتم ذهبا ... ولا صريفا ولكن أنتم الخزف
في رواية من نصب ذهبا وصريفا فخرج على أنّها نافية مؤكدة لـ "ما" و"قد" تزاد بعد "ما" الموصولة الاسمية، كقوله:
يرجي المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
وبعد "ما" المصدرية، كقوله:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرا لا يزال يزيد
وبعد "ألا" الاستفتاحية، كقوله:
ألا إن سرى ليلي فبت كئيبا ... أحاذر أن تنأى النّوى بغضوبا
وقبل مدّة الإنكار سمع سيبويه رجلا يقال له أتخرج "إن" أخصبت البادية؟ فقال أأنا "إنيه"، منكرا أن يكون رأيه على خلاف ذلك، وزعم ابن الحاجب أنّها تزاد بعد "لما" الإيجابية، وهو سهو، وإنّما تلك "أن" المفتوحة وزيد على هذه المعاني الأربعة معنيان آخران، فزعم قطرب أنّها قد تكون بمعنى "قد" كما مر في: {إن نفعت الذكرى}، وزعم الكوفيّون أنّها تكون بمعنى "إذ" وجعلوا منه:{واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين}، {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين}، وقوله عليه الصّلاة والسّلام: ((وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون))، ونحو ذلك ممّا الفعل فيه محقّق الوقوع وقوله:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ... جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم
قالوا وليست شرطيّة لأن الشّرط مستقبل وهذه القصّة قد مضت وأجاب الجمهور عن قوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين}، بأنّه شرط جيء به للتهييج والإلهاب، كما تقول: لابنك "إن" كنت ابني فلا تفعل كذا، وعن آية المشيئة بأنّه تعليم للعباد كيف يتكلّمون إذا أخبروا عن المستقبل، أو "بأن" أصل ذلك الشّرط، ثمّ صار يذكر للتبرك، أو أن المعنى لتدخلن جميعًا "إن" شاء الله ألا يموت منكم أحد قبل الدّخول، وهذا الجواب لا يدفع السّؤال، أو أن ذلك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين أخبرهم بالمنام، فحكى الله لنا ذلك أو من كلام الملك الّذي أخبره في المنام، وأما البيت فمحمول على وجهين:
أحدهما: أن يكون على إقامة السّبب مقام المسبّب، والأصل أتغضب إن افتخر مفتخر بسبب حز أذني قتيبة، إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ومسببا عن الحز.
الثّاني: أن يكون على معنى التبين، أي: أتغضب إن تبين في المستقبل أن أذني قتيبة حزتا فيما مضى كما قال الآخر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تقري به بدا
أي: يتبيّن أنّي لم تلدني لئيمة، وقال الخليل والمبرد الصّواب أن "أذنا" بفتح "الهمزة" من "أن"، أي لأن "أذنا"، ثمّ هي عند الخليل "أن" الناصبة، وعند المبرد أنّها "أن" المخففة من الثّقيلة، ويرد قول الخليل "أن" الناصبة لا يليها الاسم على إضمار الفعل، وإنّما ذلك "لإن" المكسورة نحو: {وإن أحد من المشركين استجارك} وعلى الوجهين يتخرّج قول الآخر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عارا عليك ورب قتل عار
أي: إن يفتخروا بسبب قتــــــلك أو إن يتبيّن أنهم قتلـــــــوك.
[مغني اللبيب: 1 / 125 - 158]
"أن"
قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("أن"
"أن" المفتوحة "الهمزة" الساكنة "النّون" على وجهين:اسم وحرف.
والاسم على وجهين:
ضمير المتكلّم في قول بعضهم "أن" فعلت بسكون "النّون"، والأكثرون على فتحها وصلا، وعلى الإتيان "بالألف" وقفا.
وضمير المخاطب في قولك: "أنت" و"أنتِ" و"أنتما" و"أنتم" و"أنتن" على قول الجمهور إن الضّمير هو "أن" و"التّاء" حرف خطاب.
والحرف على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون حرفا مصدريا ناصبا للمضارع وتقع في موضعين:
أحدهما: في الابتداء فتكون في موضع رفع نحو: {وأن تصوموا خير لكم}،{وأن تصبروا خير لكم}،{وأن يستعففن خير لهنّ}،{وأن تعفوا أقرب للتقوى}، وزعم الزّجاج أن منه: {أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين النّاس}، أي: خير لكم، فحذف الخبر وقيل التّقدير مخافة "أن" تبروا، وقيل في:{فالله أحق أن تخشوه}، إن {أحق} خبر عمّا بعده، والجملة خبر عن اسم الله سبحانه، وفي:{والله ورسوله أحق أن يرضوه}، كذلك والظّاهر فيهما أن الأصل أحق بكذا.
والثّاني: بعد لفظ "دال" على معنى غير اليقين فتكون في موضع رفع نحو:{ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع} الآية، ونحو يعجبني "أن" تفعل ونصب نحو: {وما كان هذا القرآن أن يفترى}،{يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}،{فأردت أن أعيبها}، وخفض نحو: {أوذينا من قبل أن تأتينا}،{من قبل أن يأتي أحدكم الموت}،{وأمرت لأن أكون}، ومحتملة لهما نحو: {والّذي أطمع أن يغفر لي} أصله في "أن" يغفر لي، ومثله: {أن تبروا} إذا قدر في "أن" تبروا أو "لئلّا" تبروا، وهل المحذوف بعد حذف الجار جر أو نصب فيه خلاف وسيأتي، وقيل التّقدير مخافة "أن" تبروا، واختلف في المحل من نحو: عسى زيد "أن" يقوم، فالمشهور أنه نصب على الخبرية، وقيل على المفعولية، وإن معنى عسيت "أن" تفعل قاربت "أن" تفعل، ونقل عن المبرد وقيل نصب بإسقاط الجار أو بتضمين الفعل معنى قارب نقله ابن مالك عن سيبوية، وإن المعنى دنوت من "أن" تفعل، أو قاربت "أن" تفعل، والتّقدير الأول بعيد إذ لم يذكر هذا الجار في وقت، وقيل رفع على البدل سد مسد الجزأين كما سد في قراءة حمزة:{ولا يحسبن الّذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم}، مسد المفعولين، و"أن" هذه موصول حرفي، وتوصل بالفعل المتصرف مضارعا كان كما مر أو ماضيا نحو: {لولا أن من الله علينا}،{ولولا أن ثبّتناك}، أو أمرا كحكاية سيبويه كتبت إليه "بأن" قم هذا هو الصّحيح.
وقد اختلف من ذلك في أمرين:
أحدهما: كون الموصولة بالماضي والأمر هي الموصولة بالمضارع، والمخالف في ذلك ابن طاهر زعم أنّها غيرها بدليلين:
أحدهما: "أن" الدّاخلة على المضارع تخلصه للاستقبال، فلا تدخل على غيره "كالسين" و"سوف".
والثّاني: أنّها لو كانت الناصبة لحكم على موضعها بالنّصب كما حكم على موضع الماضي بالجزم بعد "إن" الشّرطيّة، ولا قائل به، والجواب عن الأول أنه منتقض "بنون" التوكيد فإنّها تخلص المضارع للاستقبال، وتدخل على الأمر باطراد واتفاق وبأدوات الشّرط فإنّها أيضا تخلصه مع دخولها على الماضي باتّفاق.
وعن الثّاني: أنه إنّما حكم على موضع الماضي بالجزم بعد "إن" الشّرطيّة لأنّها أثرت القلب إلى الاستقبال في معناه فأثرت الجزم في محله، كما أنّها لما أثرت التخليص إلى الاستقبال في معنى المضارع أثرت النصب في لفظه الأمر الثّاني كونها توصل بالأمر، والمخالف في ذلك أبو حيّان زعم أنّها لا توصل به، وأن كل شيء سمع من ذلك فـ "أن" فيه تفسيرية واستدلّ بدليلين:
أحدهما: أنّهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر.
الثّاني: أنّهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا لا يصح أعجبني "أن" قم ولا كرهت "أن" قم، كما يصح ذلك مع الماضي ومع المضارع والجواب عن الأول "أن" فوات معنى الأمرية في الموصولة بالأمر عند التّقدير بالمصدر كفوات معنى المضيّ والاستقبال في الموصولة بالماضي والموصولة بالمضارع عند التّقدير المذكور، ثمّ إنّه يسلم مصدريّة "أن" المخففة من المشدّدة مع لزوم مثل ذلك فيها في نحو: {والخامسة أن غضب الله عليها}، إذ لا يفهم الدّعاء من المصدر "إلّا" إذا كان مفعولا مطلقًا نحو: سقيا ورعيا، وعن الثّاني أنه إنّما امتنع ما ذكره لأنّه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء، لا لما ذكر ثمّ ينبغي له ألا يسلم مصدريّة "كي" لأنّها لا تقع فاعلا ولا مفعولا، وإنّما تقع مخفوضة "بلام" التّعليل ثمّ ممّا يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه كتبت إليه "بأن" قم، وأجاب عنها "بأن" "الباء" محتملة للزّيادة مثلها في قوله:
... لا يقرأن بالسور
وهذا وهم فاحش لأن حروف الجرّ زائدة كانت أو غير زائدة لا تدخل إلّا على الاسم أو ما في تأويله.
تنبيه
ذكر بعض الكوفيّين وأبو عبيدة أن بعضهم يجزم "بأن"، ونقله اللحياني عن بعض بني صباح من ضبة، وأنشدوا عليه قوله:
إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتنا الصّيد نحطب
وقوله:
أحاذر أن تعلم بها فتردها ... فتتركها ثقلا عليّ كما هيا
وفي هذا نظر لأن عطف المنصوب عليه يدل على أنه مسكن للضّرورة لا مجزوم، وقد يرفع الفعل بعدها كقراءة ابن محيصن:{لمن أراد أن يتم الرضاعة}، وقول الشّاعر: أن تقرأ ان على أسماء ويحكما ... مني السّلام وأن لا تشعرا أحدا
وزعم الكوفيّون أن "أن" هذه هي المخففة من الثّقيلة شذّ اتصالها بالفعل، والصّواب قول البصريين إنّها "أن" الناصبة أهملت حملا على ما أختها المصدرية وليس من ذلك قوله:
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
كما زعم بعضهم لأن الخوف هنا يقين "فأن" مخفّفة من الثّقيلة.
2 - الوجه الثّاني: أن تكون مخفّفة من الثّقيلة، فتقع بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته، نحو: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا}،{علم أن سيكون}،{وحسبوا ألا تكون} فيمن رفع تكون وقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا ... أبشر بطول سلامة يا مربع
و"أن" هذه ثلاثية الوضع وهي مصدريّة أيضا وتنصب الاسم وترفع الخبر خلافًا للكوفيين زعموا أنّها لا تعمل شيئا، وشرط اسمها أن يكون ضميرا محذوفا وربما ثبت كقوله:
فلو أنّك في يوم الرخاء سألتني ... طلاقك لم أبخل وأنت صديق
وهو مختصّ بالضّرورة على الأصح، وشرط خبرها أن يكون جملة ولا يجوز إفراده إلّا إذا ذكر الاسم فيجوز الأمران وقد اجتمعا في قوله:
بأنك ربيع وغيث مريع ... وأنّك هناك تكون الثمالا
3 - الثّالث: أن تكون مفسرة بمنزلة "أي" نحو: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك}،{ونودوا أن تلكم الجنّة}،وتحتمل المصدرية بأن يقدر قبلها حرف الجرّ فتكون في الأول "أن" الثنائية لدخولها على الأمر، وفي الثّانية المخففة من الثّقيلة لدخولها على الاسمية، وعن الكوفيّين إنكار "أن" التفسيرية البتّة، وهو عندي متّجه لأنّه إذا قيل كتبت إليه "أن" قم لم يكن قم نفس كتبت كما كان الذّهب نفس العسجد، في قولك هذا عسجد، أي: ذهب، ولهذا لو جئت بـ "أي" مكان أن في المثال لم تجده مقبولًا في الطّبع ولها عند مثبتها شروط:
أحدها: أن تسبق بجملة فلذلك غلط من جعل منها:{وآخر دعواهم أن الحمد لله}.
والثّاني: أن تتأخر عنها جملة، فلا يجوز ذكرت عسجدا "أن" ذهبا، بل يجب الإتيان "بأيّ" أو ترك حرف التّفسير، ولا فرق بين الجملة الفعلية كما مثلنا والاسمية، نحو: كتبت إليه "أن" ما أنت وهذا.
والثّالث: أن يكون في الجملة السّابقة معنى القول كما مر، ومنه:{وانطلق الملأ منهم أن امشوا}، "إذ" ليس المراد بالانطلاق المشي، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف بل الاستمرار على الشّيء، وزعم الزّمخشريّ أن الّتي في قوله تعالى: {أن اتخذي من الجبال بيوتًا} مفسرة، ورده أبو عبد الله الرّازيّ "بأن" قبله:{وأوحى ربك إلى النّحل}، والوحي هنا إلهام باتّفاق وليس في الإلهام معنى القول قال، و"إنّما" هي مصدريّة، أي: باتخاذ الجبال بيوتًا.
والرّابع: ألا يكون في الجملة السّابقة أحرف القول، فلا يقال قلت له "أن" افعل، وفي شرح الجمل الصّغير لابن عصفور أنّها قد تكون مفسرة بعد صريح القول، وذكر الزّمخشريّ في قوله تعالى: {ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا الله} أنه يجوز "أن" تكون مفسرة للقول على تأويله بالأمر، أي: "ما" أمرتهم "إلّا" بما أمرتني به "أن" اعبدوا الله وهو حسن، وعلى هذا فيقال في هذا الضّابط ألا يكون فيها حروف القول إلّا والقول مؤول بغيره، ولا يجوز في الآية "أن" تكون مفسرة لأمرتني لأنّه لا يصح أن يكون {اعبدوا الله ربّي وربكم} مقولا لله تعالى، فلا يصح أن يكون تفسيرا لأمره؛ لأن المفسّر عين تفسيره ولا أن تكون مصدريّة وهي وصلتها عطف بيان على "الهاء" في به، ولا بدلا من "ما".
أما الأول: فلأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النّعت في المشتقات، فكما "أن" الضّمير لا ينعت كذلك لا يعطف عليه عطف بيان، ووهم الزّمخشريّ فأجاز ذلك ذهولا عن هذه النّكتة، وممّن نص عليها من المتأخّرين أبو محمّد ابن السّيّد وابن مالك والقياس معهما في ذلك.
وأما الثّاني: فلأن العبادة لا يعمل فيها فعل القول، نعم إن أول القول بالأمر كما فعل الزّمخشريّ في وجه التفسيرية جاز ولكنه قد فاته هذا الوجه هنا فأطلق المنع، فإن قيل "لعلّ" امتناعه من إجازته لأن أمر لا يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المأمور به إلّا قليلا، فكذا ما أول به قلنا هذا لازم له على توجيهه التفسيرية، ويصح أن يقدر بدلا من "الهاء" في به، ووهم الزّمخشريّ فمنع ذلك ظنا منه أن المبدل منه في قوّة السّاقط، فتبقى الصّلة بلا عائد والعائد موجود حسا فلا مانع.
والخامس: ألا يدخل عليها جار، فلو قلت كتبت إليه "بأن" افعل كانت مصدريّة.
مسألة:
إذا ولي "أن" الصّالحة للتفسير مضارع معه لا نحو: أشرت إليه "أن" لا تفعل جاز رفعه على تقدير "لا" نافية، وجزمه على تقديرها ناهية، وعليهما فـ "أن" مفسرة، ونصبه على تقدير "لا" نافية و"أن" مصدريّة، فإن فقدت لا امتنع الجزم وجاز الرّفع والنّصب.
والوجه الرّابع: أن تكون زائدة، ولها أربعة مواضع:
أحدها: وهو الأكثر أن تقع بعد "لما" التوقيتية، نحو:{ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم}.
والثّاني: أن تقع بين "لو" وفعل القسم مذكورا، كقوله:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشّرّ مظلم
أو متروكا، كقوله:
أما والله أن لو كنت حرا ... وما بالحرّ أنت ولا العتيق
هذا قول سيبويه وغيره وفي مقرب ابن عصفور أنّها في ذلك حرف جيء به لربط الجواب بالقسم، ويبعده أن الأكثر تركها والحروف الرابطة ليست كذلك.
والثّالث: وهو نادر أن تقع بين "الكاف" ومخفوضها، كقوله:
ويوما توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم
وفي رواية من جر الظبية.
والرّابع: بعد "إذا" كقوله:
فأمهله حتّى إذا أن كأنّه ... معاطي يد في لجة الماء غامر
وزعم الأخفش أنّها تزاد في غير ذلك وأنّها تنصب المضارع كما تجر "من" و"الباء" الزائدتان الاسم، وجعل منه:{وما لنا ألا نتوكل على الله}،{وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله}، وقال غيره هي في ذلك مصدريّة ثمّ قيل ضمن "ما لنا" معنى "ما منعنا" وفيه نظر لأنّه لم يثبت إعمال الجار والمجرور في المفعول به، ولأن الأصل ألا تكون "لا" زائدة، والصّواب قول بعضهم إن الأصل: و"ما لنا" في "أن لا" نفعل كذا، وإنّما لم يجز للزائدة أن تعمل لعدم اختصاصها بالأفعال بدليل دخولها على الحرف، وهو "لو"، وكأن في البيتين وعلى الاسم وهو ظبية في البيت السّابق بخلاف حرف الجرّ الزّائد، فإنّه كالحرف المعدي في الاختصاص بالاسم فلذلك عمل فيه.
مسألة:
ولا معنى لـ "أن" الزّائدة غير التوكيد كسائر الزّوائد قال أبو حيّان، وزعم الزّمخشريّ أنه ينجر مع التوكيد معنى آخر فقال في قوله تعالى: {ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم} دخلت "أن" في هذه القصّة، ولم تدخل في قصّة إبراهيم في قوله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما}، تنبيها وتأكيدا على أن الإساءة كانت بعقب المجيء، فهي مؤكدة في قصّة لوط للاتصال واللزوم، ولا كذلك في قصّة إبراهيم إذ ليس الجواب فيها كالأول، وقال الشلوبين لما كانت "أن" للسبب في جئت "أن" أعطي، أي: للإعطاء أفادت هنا "أن" الإساءة كانت لأجل المجيء ويعقبه، وكذلك في قولهم أما والله أن لو فعلت لفعلت أكدت أن "ما" بعد "لو" وهو السّبب في الجواب، وهذا الّذي ذكراه لا يعرفه كبراء النّحويين انتهى، والّذي رأيته في كلام الزّمخشريّ في تفسير سورة العنكبوت ما نصه أن صلة أكدت وجود الفعلين مرتبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنّهما وجدا في جزء واحد من الزّمان، كأنّه قيل لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث انتهى.
والريث: البطء، وليس في كلامه تعرض للفرق بين القصّتين كما نقل عنه، ولا كلامه مخالف لكلام النّحويين لإطباقهم على أن الزّائد يؤكد معنى ما جيء به لتوكيده، ولما تفيد وقوع الفعل الثّاني عقب الأول وترتبه عليه، فالحرف الزّائد يؤكد ذلك، ثمّ إن قصّة الخليل الّتي فيها: {قالوا سلاما} ليست في السّورة الّتي فيها: {سيء بهم} بل في سورة هود، وليس فيها "لما"، ثمّ كيف يتخيل أن التّحيّة تقع بعد المجيء ببطء، وإنّما يحسن اعتقادنا تأخّر الجواب في سورة العنكبوت إذ الجواب فيها:{قالوا إنّا مهلكو أهل هذه القرية}، ثمّ إن التّعبير بـ الإساءة لحن لأن الفعل ثلاثي كما نطق به التّنزيل، والصّواب المساءة وهي عبارة الزّمخشريّ.
وأما ما نقله عن الشلوبين فمعترض من وجهين:
أحدهما: "أن" المفيد للتّعليل في مثاله إنّما هو "لام" العلّة المقدرة لا "أن".
والثّاني: أن "أن" في المثال مصدريّة والبحث في الزّائدة.
تنبيه
وقد ذكر لـ "إن" معان أربعة آخر:
أحدها: الشّرطيّة كإن المكسورة وإليه ذهب الكوفيّون ويرجحه عندي أمور.
أحدها: توارد المفتوحة والمكسورة على المحل الواحد، والأصل التوافق، فقرئ بالوجهين قوله تعالى: {أن تضل إحداهما}،{ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم}،{أفنضرب عنكم الذّكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين}.
وقد مضى أنه روي بالوجهين قوله:
أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا ...
الثّاني: مجيء "الفاء" بعدها كثيرا، كقوله:
أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
الثّالث: عطفها على "إن" المكسورة في قوله:
إمّا أقمت وأما أنت مرتحلا ... فالله يكلأ ما تأتي وما تذر
الرّواية بكسر "إن" الأولى وفتح الثّانية، فلو كانت المفتوحة مصدريّة لزم عطف المفرد على الجملة، وتعسف ابن الحاجب في توجيه ذلك، فقال لما كان معنى قولك: إن جئتني أكرمتك، وقولك أكرمك لإتيانك إيّاي واحدًا صحّ، عطف التّعليل على الشّرط في البيت، ولذلك تقول إن جئتني وأحسنت إليّ أكرمتك، ثمّ تقول: إن جئتني ولإحسانك إليّ أكرمتك، فتجعل الجواب لهما انتهى، وما أظن أن العرب فاهت بذلك يومًا ما.
المعنى الثّاني: النّفي، "كإن" المكسورة أيضا، قاله بعضهم في قوله تعالى: {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم}، وقيل إن المعنى ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب إلّا لمن تبع دينكم، وجملة القول اعتراض.
الثّالث: معنى "إذ" كما تقدم عن بعضهم في بحث "إن" المكسورة، وهذا قاله بعضهم في:{بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم}،{يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا}، وقوله:
أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا ...
والصّواب أنّها في ذلك كله مصدريّة، وقبلها "لام" العلّة مقدرة.
والرّابع: أن تكون بمعنى "لئلّا" قيل به في: {يبين الله لكم أن تضلوا}.
وقوله:
نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا
والصّواب أنّها مصدريّة، والأصل كراهية أن تضلوا، ومخافة أن تشتمونا، وهو قول البصريين، وقيل هو على إضمار "لام" قبل "أن" و"لا" بعدها، وفيه تعسف). [مغني اللبيب: 1 / 159 - 226]