قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("كم" "كم": على وجهين: خبرية بمعنى كثير، واستفهامية بمعنى "أي" عدد،
ويشتركان في خمسة أمور: الاسمية، والإبهام، والافتقار إلى التّمييز، والبناء، ولزوم التصدير.
وأما قول بعضهم في: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون}، أبدلت "أن" وصلتها من "كم"، فمردود بأن عامل البدل هو عامل المبدل منه، فإن قدر عامل ال مبدل من يروا "فكم" لها الصّدر فلا يعمل فيها ما قبلها، وإن قدر أهلكنا فلا تسلط له في المعنى على البدل.
والصّواب أن "كم" مفعول لأهلكنا، والجملة إمّا معمولة ليروا على أنه علق عن العمل في اللّفظ، و"أن" وصلتها مفعول لأجله، وإمّا معترضة بين {يروا}، وما سد مسد مفعولية، وهو "أن" وصلتها.
وكذلك قول ابن عصفور في: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا}، إن "كم" فاعل مردود بأن "كم" لها الصّدر، وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم، أنه يقول: ملكت "كم" عبيد، فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم، إذ خرج كلام الله سبحانه على هذه اللّغة، وإنّما الفاعل ضمير اسم الله سبحانه، أو ضمير العلم، أو الهدى المدلول عليه بالفعل، أو جملة {أهلكنا} على القول بأن الفاعل يكون جملة إمّا مطلقًا، أو بشرط كونها مقترنة بما يعلق عن العمل، والفعل قلبي نحو: ظهر لي أقام زيد، وجوز أبو البقاء كونه ضمير الإهلاك المفهوم من الجملة، وليس هذا من المواطن الّتي يعود الضّمير فيها على المتأخر.
ويفترقان في خمسة أمور:
أحدها: أن الكلام مع الخبرية محتمل للتصديق والتكذيب بخلافه مع الاستفهامية.
الثّاني: أن المتكلّم بالخبرية لا يستدعي من مخاطبة جوابا؛ لأنّه مخبر والمتكلم بالاستفهامية يستدعيه لأنّه مستخبر.
الثّالث: أن الاسم المبدل من الخبرية لا يقترن "بالهمزة"، بخلاف المبدل من الاستفهامية، يقال في الخبرية: "كم" عبيد لي خمسون بل ستّون، وفي الاستفهامية: "كم" مالك أعشرون أم ثلاثون.
الرّابع: أن تمييز "كم" الخبرية مفرد أو مجموع، تقول: "كم" عبيد ملكت، و"كم" عبد ملكت قال:
(كم ملوك باد ملكهم ... ونعيم سوقة بادوا)
وقال الفرزدق:
(كم عمّة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت عليّ عشاري)
ولا يكون تمييز الاستفهامية إلّا مفردا خلافًا للكوفيين.
الخامس: أن تمييز الخبرية واجب الخفض، وتمييز الاستفهامية منصوب ولا يجوز جرّه مطلقًا، خلافًا للفراء والزجاج وابن السراج وآخرين، بل بشرط أن تجر "كم" بحرف جر، فحينئذٍ يجوز في التّمييز وجهان: النصب وهو الكثير، والجر خلافًا لبعضهم، وهو "بمن" مضمرة وجوبا، لا بالإضافة خلافًا للزجاج.
وتلخص أن في جر تمييزها أقوالا الجواز والمنع والتّفصيل، فإن جرت هي بحرف جر نحو: "بكم" درهم اشتريت جاز وإلّا فلا.
وزعم قوم أن لغة تميم جواز نصب تمييز "كم" الخبرية، إذا كان الخبر مفردا، وروي قول الفرزدق:
(كم عمّة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت عليّ عشاري)
بالخفض على قياس تمييز الخبرية، وبالنّصب على اللّغة التميمية أو على تقديرها استفهامية استفهام تهكم، أي: أخبرني بعدد عمّاتك وخالاتك اللّاتي كن يخدمنني، فقد نسيته وعليهما "فكم" مبتدأ خبره قد حلبت، وأفرد الضّمير حملا على لفظ "كم" وبالرفع على أنه مبتدأ، وإن كان نكرة لكونه قد وصف بـ لك، وبـ فدعاء محذوفة مدلول عليها بالمذكورة، إذ ليس المراد تخصيص الخالة بوصفها بالفدع ،كما حذف لك من صفة خالة استدلالا عليها بـ لك الأولى، والخبر قد حلبت، ولا بد من تقدير قد حلبت أخرى؛ لأن المخبر
عنه في هذا الوجه متعدد لفظا، ومعنى ونظيره زينب وهند قامت، و"كم" على هذا الوجه ظرف أو مصدر، والتمييز محذوف، أي: "كم" وقت أو حلبة). [مغني اللبيب: 3 / 41 - 49]