قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): (
"إن" حرف، له قسمان:
الأول: أن يكون حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر. نحو: "إن" زيداً ذاهب. خلافاً للكوفيين، في قولهم: إنها لم تعمل في الخبر شيئاً، بل هو باق على رفعه قبل دخولها.
وأجاز بعض الكوفيين نصب الاسم والخبر معاً، "بإن"وأخواتها. وأجازه الفراء في ليت خاصة. ونقل ابن أصبغ عنه أنه أجاز في لعل أيضاً. قال ابن عصفور: وممن ذهب إلى جواز ذلك، في "إن" وأخواتها، ابن سلام في طبقات الشعراء. وزعم أنها لغة رؤية وقومه. وقال ابن السيد: نصب خبر "إن" وأخواتها لغة قوم من العرب. وإلى ذلك ذهب ابن الطراوة. والجمهور على أن ذلك لا يجوز. ومن شواهد نصب خبر "إن" قول عمر بن أبي ربيعة: إذا اسود جنح الليل فلتأت، ولتكن ... خطاك خفافاً، إن حراسنا أسدا
وأوله المانعون على أنه حال، والخبر محذوف، أي: تلقاهم أسداً. أو خبر كان محذوفة، أي: كانوا أسداً.
ومن أحكام "إن" أنها قد تخفف، كما تقدم في باب الثنائي، خلافاً للكوفيين. "فإن" المخففة عندهم نافية، وهي حرف ثنائي الوضع، و"اللام" بعدها بمعنى "إلا". و"إن" المشددة لا تخفف عندهم. ويبطل قولهم أن من العرب من يعملها، بعد التخفيف، عملها وهي مشددة. فيقول: "إن" عمراً لمنطلق. حكاه سيبويه.
ومن أحكامها أنها قد تتصل بها "ما" الزائدة، فيبطل عملها، ويليها الجملتان: الأسمية والفعلية، فتكون "ما" كافة لها عن العمل، ومهيئة لدخولها على الأفعال. والجمهور على أن إعمالها، عند اتصال "ما"، غير مسموع. ثم اختلفوا في جوازه قياساً. وذهب قوم إلى منعه، وهو مذهب سيبويه، فإنه لا يجيز أن يعمل عنده، من هذه الأحرف، أعني "إن" وأخواتها، إذا لحقتها "ما"، إلا "ليت" وحدها وذكر ابن مالك أن الإعمال قد سمع في "إنما" وهو قليل. وذكر أن الكسائي، والأحفش، روياه عن العرب.
مسألة
اشتهر في كلام المتأخرين، من أهل النحو، أن "إنما" للحصر. قال الشيخ أبو حيان: والذي تقرر، في علم النحو، أن "ما" الداخلة
على "إن" وأخواتها كافة لها عن العمل، فإن فهم حصر فمن سياق الكلام، لا منها. ولو أفادت الحصر لأفادته أخواتها المكفوفة بما.
وقال ابن عطية: "إنَّما" لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع. ويصلح، مع ذلك، للحصر. فإذا دخل في قصة، وساعد معناها على الأنحصار، صح ذلك وترتب. كقوله تعالى: {أنما آلهكم إله واحد}، وغير ذلك من الأمثلة. وإذا كانت القصة لا تتأنى للإنحصار بقيت "إنما" للمبالغة فقط، كقوله عليه السلام "إنما" الربا في النسيئة.
واحتج من ذهب إلى أنها تفيد الحصر بوجهين:
أحدهما لفظي، وهو أن العرب أجرت عليها حكم النفي وإلا ففصلت الضمير بعدها، كقول الفرزدق:
أنا الذائد، الحامي الذمار، وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا، أو مثلي
لما كان غرضه أن يحصر المدافع لا المدافع عنه فصل الضمير. ولو قال وإنما أدافع عن أحسابهم لأفهم غير المراد. فدل ذلك على أن العرب ضمنت "إنما" معنى "ما" و"إلا".
والثاني معنوي، وهو وجه يسند إلى علي بن عيسى الربعي، وهو من أكابر نحاة بغداد، أنه لما كانت كلمة "إن" لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها "ما" الزائدة المؤكدة، ناسب أن تضمن معنى الحصر لأن الحصر ليس إلا تأكيد على تأكيد. فإن قولك: زيد جاء "لا" عمرو، لمن يردد المجيء الواقع بينهما، يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحاً، وفي الآخر ضمناً.
واستدل الإمام فخر الدين، على أنها للحصر، بأن "إن" للإثبات، و"ما" للنفي، فإن لإثبات المذكور، و"ما" لنفي ما عداه. ورد بأنه قول من لا وقوف له على علم النحو، وهو ظاهر الفساد، لوجوه:
منها: أن فيه إخراج "ما" النافية عما تستحقه، من وقوعها صدراً. ومنها أن فيه الجمع بين حرف نفي وحرف إثبات، بلا فاصل. ومنها أنه لو كانت نافية لجاز أن تعمل، فيقال: "إنما" زيد قائماً. ذكر بعضهم هذه الأوجه. ولا يحتاج، في بيان فساد هذا القول، إلى ذلك. فإنه لا يخفى فساده.
قلت: ذكر القرافي في شرح المحصول أن أبا علي الفارسي نقل في مسائله الشيرازيات أن ما في "إنما" للنفي والله أعلم.
القسم الثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى "نعم". ذكر ذلك سيبويه، والأخفش. وحمل المبرد، على ذلك، قراءة من قرأ {إن هذان لساحران}. وأنكر أبو عبيدة أن تكون "إن" بمعنى "نعم". ومن شواهدها قول الراد، حين قال القائل: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: "إن" وراكبها، أي: "نعم" ولعن راكبها.
ويبطل كون "إن" في هذا الكلام هي المؤكدة، من وجهين: أحدهما عطف جملة الدعاء على جملة الخبر. والثاني أنه لم يوجد حذف اسم "إن" وخبرها في غير هذا الكلام.
قلت: وقد صحح بعض النحويين جواز عطف الطلب على الخبر، وقال: هو مذهب سيبويه.
وأما قول الشاعر:
ويقلن: شيب قد علا ... ك، وقد كبرت، فقلت: إنه
فيحتمل أن تكون "إن" فيه بمعنى "نعم"، كما قال الأخفش. ويحتمل "أن" تكون المؤكدة و"الهاء" اسمها، والخبر محذوف، كما قال أبو عبيدة. وإذا جعلت بمعنى "نعم" "فالهاء" للسكت.
فائدة
ذكر بعض النحويين لإن في الكلام عشرة أنحاء:
الأول: أن تكون حرف توكيد.
والثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى "نعم". وقد تقدم الكلام على هذين.
والثالث: أن تكون أمراً للواحد المذكر، من الأنين. نحو: "إن"، بازيد.
والرابع: أن تكون فعلاً ماضياً، مبنياً لما لم يسم فاعله، من الأنين، على لغة رد، بالكسر. نحو: "إن" في الدار.
والخامس: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، من الأين، وهو التعب. نحو: "إن"، يا نساء، أي: تعبن.
والسادس: أن تكون فعلاً ماضياً، خبراً عن جماعة الإناث، من ألأين أيضاً. نحو: النساء "إن"، أي: تعبن.
والسابع: أن تكون أمراً، "من" و"أي" بمعنى: وعد، للمؤنثة. كقول بعض المتأخرين:
إن هند، الجميلة، الحسناء ... وأي من أضمرت لخل، وفاء
فإن فعل أمر مؤكد "بنون" التوكيد الشديدة. وكان أصله قبل لحاق "النون" إي "بياء" المخاطبة، لأنه أمر للمؤنث. فلما لحقته "النون" حذفت "الياء"، لالتقاء الساكنين. وهند في البيت منادى، تقديره: "يا" هند. والجميلة الحسناء: نعت لهند على المحل، كقوله: "يا" عمر، الجوادا وأجاز بعضهم أن تكون الجميلة مفعولاً لفعل الأمر الذي هو "إن". وقوله وأي مصدر منصوب "بإن".
والثامن: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، "من": آن يئين، أي: قرب. فتقول: "إن" يا نساء، أي اقربن.
والتاسع: أن تكون ماضياً، خبراً عن الإناث، من "آن" أيضاً. نحو: النساء "إن"، أي: قربن.
والعاشر: أن تكون مركبة من "إن" النافية وأنا كقول العرب: "إن" قائم. يريدون: "إن" أنا قائم. فنقلوا حركة "الهمزة" إلى "نون" "إن"، وحذفوا "الهمزة"، وأدغموا. ونظيره قوله {لكنا هو الله ربي}. وسمع من بعضهم: "إن" قائماً، بالنصب، على إعمال "إن" عمل "ما" الحجازية. والله أعلم). [الجنى الداني:393 - 402]
"أن" المفتوحة "الهمزة"
قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): (
"أن" المفتوحة "الهمزة" لها قسمان:
الأول: أن تكون حرف توكيد، تنصب الاسم، وترفع الخبر، مثل "إن" المكسورة التي تقدم ذكرها. و"أن" المفتوحة من الأحرف المصدريات. ونص النحويون على أنها تفيد التوكيد "كإن" المكسورة. واستشكله بعضهم. قال: لأنك لو صحرت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيداً. وليس هذا الإشكال بشيء.
واختلف في المفتوحة "الهمزة"، فقيل: هي فرع المكسورة. وهو مذهب سيبويه، والمبرد في المقتضب، وابن السراج في الأصول. ولذلك قال هؤلاء في "إن" وأخواتها: الأحرف الخمسة. ولم يعدوا "أن" المفتوحة، لأنها فرع. وهو مذهب الفراء وقيل: "إن" المفتوحة أصل للمكسورة وقيل: هما أصلان.
والأول هو الصحيح، ويدل على صحته أوجه:
الأول: أن الكلام مع المكسورة جملة غير مؤولة بمفرد، بخلاف المفتوحة. والأصل أن يكون لمنطوق به جملة من كل وجه، أو مفرداً من كل وجه.
الثاني: "أن" المكسورة مستغنية بمعموليها عن زيادة، بخلاف المفتوحة.
الثالث: "أن" المفتوحة تصير مكسورة، بحذف ما تتعلق به.
كقولك في عرفت "أنك" بر: "إنك" بر. ولا تصير المكسورة مفتوحة، إلا بزيادة. والمرجوع إليه بحذف أصل.
الرابع: "أن" المكسورة تفيد معنى واحداً، وهو التوكيد. والمفتوحة تفيده، وتعلق ما بعدها بما قبلها. فكانت فرعاً.
الخامس: "أن" المكسورة أشبه بالفعل، لأنها عاملة غير معمولة، كما هو أصل الفعل.
السادس: "أن" المكسورة كلمة مستقلة، والمفتوحة كبعض اسم.
إذا تقرر هذا فاعلم أن "أن" لها أحوال: تارة يجب كسرها، وتارة يجب فتحها، وتارة يجوز الوجهان.
فيجب كسرها في كل موضع، يمتنع فيه تأويلها مع اسمها وخبرها بمصدر.
وذلك في ثمانية مواضع:
الأول: ابتداء الكلام حقيقة، نحو {إنا أعطيناك الكوثر}، أو حكماً، نحو {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
الثاني: صلة الموصول، نحو {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء}. "فإن" و"ما" دخلت عليه صلة "ما". فإن لم تكن صلة بل جزء صلة فتحت، نحو: جاء الذي في ظني أنه فاضل. وإذا وردت مفتوحة بعد الموصول جعلت الصلة محذوفة، وأن معمولة لذلك المحذوف، كقولهم: لا أكلمه "ما" "أن" في السماء نجماً، أي: "ما" ثبت "أن".
الثالث: جواب القسم نحو {والعصر، إن الإنسان لفي خسر} فإن كان في جملتها "اللام"، كالآية، فلا خاف في وجوب كسرها. وإن لم يكن ففيه خلاف، سيأتي.
الرابع: إذا حكيت بالقول، نحو {قال الله: إني معكم}.
فلو وقعت بعد القول، غير محكية، فتحت، نحو: أتقول "أنك" فاضل. لأن القول، في هذا، عامل عمل الظن.
الخامس: أن تقع موقع الحال مصاحبة "لواو" الحال، نحو {وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون}، أو غير مصاحبة، نحو {إلا إنهم ليأكلون الطعام}.
السادس: أن تكون قبل "لام" معلقة، نحو {والله يعلم إنك لرسوله}. فهذه "لولا" "اللام" لفتحت.
السابع: أن تكون واقعة موقع خبر اسم عين، نحو: زيد "إنه" قائم. ومنه قوله تعالى: {إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصائبين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم}. وكذا الواقعة موقع المفعول الثاني في باب ظن، لأنه خبر في الأصل. كقول الشاعر: منا الأناة، وبعض القوم يحسبنا ... إنا بطاء، وفي إبطائنا سرع
فإن قلت: فهل يجوز فتح "إن" إذا وقعت خبر اسم عين، وتجعل من باب الإخبار بالمعنى عن العين، مبالغة، فيقال: زيد "أنه" قائم، كما يقال: زيد قيام؟ قلت: الحرف المصدري أضعف من صريح المصدر، فلا يلزم أن يجوز فيه ما جاز في المصدر الصريح. وقد نص ابن مالك، على أن الحرف المصدري لا يؤكد به فعل، ولا يقع نعتاً، ولا حالاً.
الثامن: أن تقع بعد "حيث" نحو: من حيث "إنه" فاضل. قال بعض النحويين: وقد أولع عوام الفقهاء بفتح "أن" بعدها قلت: يلزم من أجاز إضافة حيث إلى المفرد، وهو الكسائي، أن يجيز فتح "أن" بعدها.
ويجب فتح: "أن" في كل موضع، يلزم فيه تأويلها، مع اسمها وخبرها، بمصدر.
وذلك في ثمانية مواضع:
الأول: أن تقع في موضع فاعل، نحو {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب}.
الثاني: أن تقع في موضع نائبة، نحو {قل: أوحي إلي أنه استمع}.
الثالث: أن تقع في موضع مبتدأ، نحو: في ظني "أنك" فاضل. ويجب تقديم خبرها، لأن المفتوحة لا تقع في ابتداء الكلام، خلافاً لبعضهم، ما لم تكن بعد "أما" فيجوز التقديم والتأخير، نحو "أما" "أنك" فاضل ففي ظني.
الرابع: أن تقع اسم "كان"، نحو: "كان"، في ظني "أنك" فاضل.
الخامس: أن تقع اسم "إن" مفصولة بالخبر، نحو: "إن" عندي "أنك" فاضل. وكذا باقي أخواتها. وقد تتصل "بليت" سادة مسد اسمها وخبرها، عند سيبويه. وقال الأخفش: بل مسد الاسم فقط، والخبر محذوف. كقول الشاعر:
فيا ليت أن الظاعنين تلفتوا ... فيعلم ما بي، من جوى، وغرام
وأجاز الأخفش ذلك في "لعل"، قياساً على "ليت". وعنه أنه أجازه في "لكن" أيضاً.
وأجازه الفراء، وهشام، دخول "إن" المكسورة على "أن" المفتوحة، نحو: "إن" "أنك" قائم يعجبني. والصحيح المنع، وهو مذهب سيبويه.
السادس: أن تكون خبر اسم معنى، نحو: أمرك "أنك" ذاهب.
السابع: أن تقع في موضع منصوب، غير خبر، نحو قوله تعالى: {ولا تخافون أنكم أشر كتم الله}. وإنما احترزت عن الخبر، والمراد به ثاني مفعولي ظن فإنه خبر في الأصل، لأنها يجب كسرها فيه، بعد اسم عين، كما تقدم.
الثامن: أن تقع في موضع مجرور، بحرف، نحو {ذلك بأن الله هو الحق}. وإما أن تقع في موضع مجرور بإضافة، نحو {إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}.
وهذه المواضع الثمانية ترجع إلى ثلاثة أشياء:
أولها: أن تقع في موضع مصدر مرفوع.
وثانيها: أن تقع في موضع مصدر منصوب.
وثالثها: أن تقع في موضع مصدر مجرور.
وزاد بعضهم، في مواضع وجوب فتحها: أن تقع بعد "لولا" و"لو" و"ما" التوقيتية. نحو {فلولا أنه كان من المسبحين}، {ولو أنهم صبروا}، وحكى ابن السكيت: لا أكلمك "ما" "أن" في السماء نجماً. وهذه المواضع الثلاثة راجعة إلى ما تقدم، لأنها بعد "لولا" في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، على الصحيح. وبعد "لو" في موضع رفع على الفاعلية، بفعل مقدر، أي: و"لو" ثبت "أن". وهو مذهب الكوفيين، والمبرد، والزجاج، والزمخشري. أو على الابتداء، والخبر محذوف، وهو مذهب سيبويه. وقيل: لا حذف، لأنها سدت مسد الجزءين. وبعد "ما" التوقيتية في موضع رفع بفعل مقدر، تقديره: "ما" ثبت "أن" في السماء نجماً.
ويجوز الفتح والكسر في كل موضع، يجوز فيه تأويلها بمصدر وعدم تأويلها به.
وذلك في ثمانية مواضع:
الأول: "في" نحو: أول قولي "إني" أحمد الله. فالكسر على تقدير: أول قولي هذا الكلام المفتتح "بإني". والفتح على تقدير: أول قولي حمد الله. وفي هذه المسألة أقوال، لا يحتمل هذا الموضع ذكرها.
الثاني: بعد "إذا" الفجائية، كقول الشاعر:
وكنت أرى زيداً، كما قيل، سيداً ... إذا أنه عبد القفا، واللهازم
يروى بالكسر، على عدم التأويل، والتقدير: "إذا" هو عبد. وبالفتح، على تقدير: "فإذا" عبوديته. فعبوديته مبتدأ، و"إذا" الفجائية خبره، عند من جعلها ظرفاً. وأما من جعلها حرفاً فالخبر عنده محذوف، تقديره: حاصلة.
الثالث: بعد "فاء" الجواب، كقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءاً، بجهالة، ثم تاب من بعده، وأصلح، فإنه غفور رحيم}. قرئ بالوجهين. فالكسر على جعل ما بعدها جملة تامة، أي: فهو غفور. والفتح على تقديرها بمصدر مبتدأ والخبر محذوف، أو خبر والمبتدأ محذوف، والتقدير: فغفرانه حاصل، أو: فجزاؤه الغفران.
الرابع: بعد "أما"، نحو: "أما" "أنك" ذاهب. رواه سيبويه بالكسر والفتح فالكسر على جعل "أما" حرف استفتاح. والفتح على جعلها بمعنى "حقاً". وقد تقدم بيان ذلك.
الخامس: بعد القسم، إذا لم توجد "اللام"، بشرط تقدم فعل القسم، نحو: أحلف بالله "أن" زيداً قائم. فالكسر على جعلها جواباً للقسم. والفتح على تقدير على وتكون متعلقة بفعل القسم. وقد روى بالوجهين قول الشاعر:
أو تحلفي بربك، العلي ... أني أبو ذيالك الصبي
وأجاز الكوفيون فتح "أن" إذا وقعت جواب القسم، دون "لام"، نحو: والله "أن" زيداً قائم. والصحيح وجوب الكسر، وهو مذهب البصريين. وقال ابن خروف: لم يسمع فتحها بعد اليمين، ولا وجه له. قلت: وهو كما قال وقد أوضحت ذلك، في غير هذا الكتاب.
السادس: بعد "حتى"، نحو: عرفت أمورك "حتى" "أنك" فاضل. إن جعلت حتى جاره أو عاطفة فتحت "أن". وإن جعلت حتى ابتدائية كسرت، كقولهم: مرض "حتى" "إنه" لا يرجى، بالكسر.
السابع: بعد "لا" جرم. المشهور بعدها فتح "أن"، كقوله تعالى: {لا جرم أن لهم النار}. ومذهب سيبويه أن "لا" نافية، وهي رد لما قبلها، متما يدل عليه سياق الكلام وجرم فعل ماض بمعنى: حق. وأن مع صلتها في موضع رفع بالفاعلية. وقال بعضهم: جرم بمعنى كسب، وفاعلها ضمير مستتر، وأن مع صلتها في موصع نصب بالمفعولية. والتقدير: كسب لهم كفرهم "أن" لهم النار. قال الشاعر:
نصبنا رأسه، في رأس جذع ... بما جرمت يداه، وما اعتدينا
أي: بما كسبت.
وقال الكوفيون: "لا" نافية، وجرم اسم "لا"، وهي بمعنى: "لا بد"، ولا محالة، وأن على تقدير من، أي: "لا" جرم من "أن" لهم النار. فجرم عند الكوفيين اسم. قال الزمخشري: من الجرم، وهو القطع، كما يقال إن بداً من التبديد، وهو التفريق. فكما أن معنى "لا بد" "أنك" تفعل كذا بمعنى: "لا بد" من فعله، فكذلك "لا" جرم "أن" لهم النار أي: "لا" قطع لذلك. بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار، ولا انقطاع لاستحقاقهم. وروى عن العرب: "لا" جرم "أنه" يفعل، بضم "الجيم" وسكون "الراء"، بزنة: بد. وفعل وفعل أخوان، كرشد ورشد.
وأما وجه الكسر بعد "لا" جرم فهو ما حكاه الفراء. قال: العرب تقول: "لا" جرم لآتينك، و"لا" جرم لقد أحسنت. فتراها بمنزلة اليمين. قال ابن مالك: ولإجرائها مجرى اليمين حكي عن العرب كسر "إن" بعدها. قلت: والظاهر أن "إن" إذا كسرت بعدها فهي جواب قسم، مقدر بعد "لا" جرم. وهو ظاهر قول ابن مالك التسهيل: وربما أغنت "لا" جرم عن لفظ القسم، مراداً. ويؤيد ذلك أن بعض العرب صرح بالقسم بعدها، فقال: "لا" جرم، والله لافارقتك.
الثامن: بعد "أما"، إذا جاء بعدها ظرف، أو مجرور، نحو، "أما" في الدار "فإن" زيداً قائم، فيجوز الكسر على تقدير: فزيد قائم، ويتعلق المجرور بما في "أما" من معنى الفعل. ويجوز الفتح على تقدير: فقيامه، والمجرور في موضع الخبر.
وزاد بعضهم موضعاً آخر، وهو أن تقع بعد مذ ومنذ. قلت: "أما" الفتح بعدهما فمتفق عليه. و"أما" الكسر فلم يذكره سيبويه، وصرح بعضهم بامتناعه، وصرح الأخفش بجوازه.
واعلم أن بسط الكلام على هذه المواضع يستدعي تطويلاً. فلذلك اختصرت الكلام عليها.
مسألة
إذا كفت "أن" المفتوحة بما بطل عملها. وأجاز بعضهم إعمالها قياساً، ولم يسمع. وذهب الزمخشري إلى أن "إن" المكسورة و"أن" المفتوحة، كليهما، إذا كفا بما يفيدان الحصر، كقوله تعالى: {قل: إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد}. ورده الشيخ أبو حيان، في تفسيره بأن "ما" مع "إن" كهي مع "كأن" و"لعل". فكما لا تفيد الحصر، في التشبيه، والترجي، فكذا لا تفيده مع "إن" المكسورة. وأما جعله "أنما" المفتوحة للحصر فشيء انفرد به، ولا يعلم الخلاف إلا في المكسورة. ثم إن الحصر يقتضي أنه لم يوح إليه إلا التوحيد، وهو باطل. انتهى.
وانتصر بعض الناس للزمخشري بأن قال: "إن" المفتوحة هي فرع المكسورة، بدليل أن سيبويه عدها خمسة، واستغنى "بإن" المكسورة عن المفتوحة. فلا فرق بينهما في الحصر، وعدمه. وقوله: ثم "إن" الحصر الخ، جوابه أن الحصر، عند القائلين به، باعتبار المقام. وهو هنا خطاب للمشركين، والموحي إليه في حقهم أولا، هو التوحيد. والله أعلم.
القسم الثاني: أن تكون بمعنى "لعل"، كقول العرب: ائت السوق "أنك" تشتري لنا شيئاً. حكاه الخليل، ومنه قراءة من فتح "الهمزة"،فيقوله تعالى: {وما يشعر كم أنها إذا جاءت لا يؤمنون}، أي: "لعلها". و"أن" هذه إحدى لغات "لعل". وسيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى). [الجنى الداني:402 - 418]