قال أبو إسحاق: وجائزٌ أن يكون منصوبا على التوكيد، المعنى: إنه لحق حقا مثل نطقكم، يعنى أرزاق العباد، ونزولها من السماء). [معاني القراءات وعللها: 3/30]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: لحق مثل ما [23] برفع اللّام. وقرأ الباقون: لحق مثل ما بنصب اللّام، وكذلك حفص بنصب اللّام أيضا.
قال أبو علي: من رفع مثلا في قوله: لحق مثل ما أنكم تنطقون جعل مثلا وصفا لحقّ، وجاز أن يكون مثل وإن كان مضافا إلى معرفة صفة للنكرة، لأنّ مثلا لا يختصّ بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع التماثل بها بين المتماثلين، فلمّا لم تخصّه الإضافة ولم يزل عنه الإبهام والشياع الذي كان فيه قبل الإضافة بقي على تنكيره.
وقالوا: مررت برجل مثلك، وكذلك في الآية لم يتعرّف بالإضافة إلى أنكم تنطقون وإن كان قوله: أنكم تنطقون بمنزلة نطقكم، وما* في قوله: مثل ما أنكم تنطقون زائدة، فإن قلت: فلم لا تكون الّتي بمنزلة أن كالتي في قوله: وما كانوا بآياتنا يجحدون [الأعراف/ 51] فإنّ الّتي في قوله: مثل ما* لا تكون إلّا زائدة ألا ترى أنّه لا فعل معها
فتكون مع الفعل بمنزلة المصدر مثل أن مع الفعل، وقوله: وما كانوا
[الحجة للقراء السبعة: 6/216]
بآياتنا يجحدون موصولة بالفعل الذي هو كانوا، وموضعها جرّ بالعطف على ما جرّه الكاف، التقدير: كنسيان لقاء يومهم، أي: ننساه نسيانا كنسيان يومهم هذا، وككونهم جاحدين بآياتنا، ومثل زيادة ما* هاهنا زيادتها في قوله، مما خطيئاتهم [نوح/ 25] ونحو قوله: فبما رحمة [آل عمران/ 159] وعما قليل ليصبحن نادمين [المؤمنون/ 40] ونحو ذلك.
وأمّا من نصب فقال: مثل ما أنكم فتحتمل ثلاثة أضرب:
أحدهما: أنّه لمّا أضاف مثل إلى مبنيّ، وهو قوله: أنكم بناه كما بني يومئذ في قوله: من خزي يومئذ [هود/ 66] ومن عذاب يومئذ [المعارج/ 11] وقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصّبا وقوله:
لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت فغير في موضع رفع بأنّه فاعل يمنع، وإنما بنيت هذه الأشياء المبهمة نحو: مثل، ويوم، وحين، وغير إذا أضيفت إلى المبنيّ لأنّها تكتسي منه البناء، لأنّ المضاف يكتسي من المضاف إليه ما فيه من
[الحجة للقراء السبعة: 6/217]
التعريف والتنكير، والجزاء والاستفهام، تقول: هذا غلام زيد، وصاحب القاضي، فيتعرف الاسم بالإضافة إلى المعرفة، وتقول: غلام من تضرب؟ فيكون استفهاما كما تقول: صاحب من تضرب أضرب، فيكون جزاء، فمن بنى هذه المبهمة إذا أضافها إلى مبني جعل البناء أحد ما يكتسبه من المضاف إليه، ولا يجوز على هذا: جاءني صاحب خمسة عشر، ولا غلام هذا، لأنّ هذين من الأسماء غير المبهمة، والمبهمة في إبهامها وبعدها من الاختصاص كالحروف التي تدلّ على أمور مبهمة، فلمّا أضيفت إلى المبنيّة، جاز ذلك فيها، والبناء على الفتح في مثل قول سيبويه.
والقول الثاني أن تجعل ما* مع مثل بمنزلة شيء واحد، وتبنيه على الفتح وإن كانت ما* زائدة وهذا قول أبي عثمان، وأنشد أبو عثمان في ذلك قول الشاعر:
وتداعى منخراه بدم مثل ما أثمر حمّاض الجبل فذهب إلى أنّ مثل* مع ما* جعلا بمنزلة شيء واحد، وينبغي أن يكون أثمر صفة لمثل ما، لأنّه لا يخلو من أن يكون صفة له، أو يكون مثل ما مضافا إلى الفعل، فلا يجوز فيه الإضافة، لأنّا لم نعلم مثلا أضيف إلى الفعل في موضع، فكذلك لا يضيفه في هذا الموضع إلى الفعل، فإذا لم يجز الإضافة كان وصفا، وإذا كان وصفا وجب أن يعود منه إلى الموصوف ذكر، فيقدّر ذلك المحذوف بما يتصل بالفعل، فيحذف كما يحذف الذكر العائد من الصّفة إلى الموصوف، وقد يجوز
[الحجة للقراء السبعة: 6/218]
أن لا يقدّر مثل* مع ما* كشيء واحد لكن تجعله مضافا إلى ما مع أثمر، ويكون التّقدير: مثل شيء أثمره حمّاض الجبل، فيبنى مثل على الفتح لإضافتها إلى ما* وهي غير متمكن، ولا يكون لأبي عثمان حينئذ في البيت حجّة على كون مثل* مع ما* بمنزلة شيء واحد، ويجوز أن لا تكون له فيه حجّة من وجه آخر، وهو أن يجعل ما* والفعل بمنزلة المصدر، فيكون: مثل إثمار الحماض، فيكون في ذلك كقوله: وما كانوا بآياتنا يجحدون [الأعراف/ 51] وقوله: ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون [البقرة/ 10] وبقول ابن مقبل:
سل الدار من جنبي حبرّ فواهب إلى ما رأى هضب القليب المضيّح كأنّه قال: إلى رؤية هضب القليب، أو إلى موضع رؤيته.
ولكن يدلّ على جواز بناء مثل مع ما* وكونه مع ما* بمنزلة شيء واحد قول حميد بن ثور:
ألا هيّما ممّا لقيت وهيّما وويحا لمن لم يدر ما هنّ ويحما وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت إليّ واصحابي بأيّ وأينما وقوله: ويحما في موضع نصب بأنّه مصدر، فلولا أنّه بني مع
[الحجة للقراء السبعة: 6/219]
ما* لم يكن يمتنع النصب الذي يجب بكونه مصدرا، ويلحقه التنوين فلمّا لم ينصب علمت أنّ الرفع إنّما حصل فيه للبناء مع ما*، وممّا يدلّ على ذلك ما أنشدناه عن أحمد بن يحيى:
أثور ما أصيدكم أم ثورين أم تيكم الجمّاء ذات القرنين فلولا أنّ ثور مع ما* جعلا شيئا واحدا، وبني ثور على الفتح معه لذلك لم يمتنع التنوين من لحاقه، ومثل ما أنشده أحمد بن يحيى:
تسمع للجنّ به زيزيز ما فزيزيز: فعليل مثل: شمليل وكرديد وإنّما بني مع ما* على الفتح فلم يلحقه التنوين، فأمّا قول أحمد بن يحيى:
وأصحابي بأيّ وأينما فإنّه أخرج أين* من أن تكون استفهاما، كما أخرجوه عن ذلك بقولهم: مررت برجل أيّما رجل. وكقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 6/220]
والدّهر أيّتما حال دهارير كأنّه قال: والدّهر دهارير كلّ حال، فأعمل الفعل في الظرف، وإن كان متقدّما عليه، كقولهم: أكلّ يوم لك ثوب، وجعل أيّ كناية عن بلدة أو بقعة، مثل فلان في الكناية عن الأناسيّ، فلم يصرف للتأنيث والتعريف.
فأمّا قوله: وأينما فالقول فيه: إنّه أخرجه من الاستفهام أيضا كما أخرج منه في المواضع التي أريتك، وبناه مع ما* على الفتح، وموضعه جرّ بالعطف على الجرّ الذي في موضع قوله: بأيّ.
وأمّا القول الثالث في قوله: مثل ما أنكم تنطقون فهو أن ينتصب على الحال من النكرة وهو قول أبي عمر الجرمي، وذو الحال الذكر المرفوع في قوله: لحق، والعامل في الحال هو الحق*، لأنّه من المصادر التي وصف بها، ويجوز أن تكون الحال عن النكرة الذي هو حق* في قوله: إنه لحق، وإلى هذا ذهب أبو عمرو ولم نعلم عنه أنّه جعله حالا من الذكر الذي في حقّ، وهذا لا اختلاف في جوازه، وقد حمل أبو الحسن قوله: فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا
[الحجة للقراء السبعة: 6/221]
[الدخان/ 4، 5] على الحال، وذو الحال: قوله: كل أمر حكيم وهو نكرة.
فهذه وجوه الانتصاب في مثل ما، والخلاف فيه). [الحجة للقراء السبعة: 6/222]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فوربّ السّماء والأرض إنّه لحق مثل ما أنكم تنطقون}
قرأ حمزة والكسائيّ وابو بكر {إنّه لحق مثل ما أنكم تنطقون} برفع اللّام وقرأ الباقون بالنّصب
فمن رفع {مثل} فهي من صفة الحق المعنى أنه مثل نطقكم ومن نصب فعلى ضربين أحدهما أن يكون في موضع رفع إلّا أنه لما أضاف إلى أن فتح ويجوز أن يكون منصوبًا على التوكيد على معنى إنّه لحق حقًا مثل نطقكم). [حجة القراءات: 679]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (1- قوله: {لحق مثل ما أنكم} قرأه أبو بكر وحمزة، والكسائي {مثل} بالرفع، ونصبه الباقون.
وحجة من رفعه أنه جعله صفة لـ {حق}، وحسن ذلك لأنه نكرة، لا يتعرف بإضافته إلى معرفة لكثرة الأشياء التي يقع التماثل بها بين المتماثلين، فلما لم تعرفه إضافة إلى معرفة حسن أن يوصف به النكرة، وهو {حق} و{ما} زائدة، و{مثل} مضاف إلى {أنكم} و{أنكم} في موضع خفض بإضافة {مثل} إليه، و«أن» وما بعدها مصدر في موضع خفض والتقدير: أنه لحق مثل نطقكم.
2- وحجة من فتح «مثلا» أنه يحتمل ثلاثة أوجه: الأول أن يكون مبنيًا على الفتح لإضافته إلى اسم غير متمكن، وهو «أن» كما بنيت «غير» لإضافتها إلى «أن» في قوله:
= لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت =
لكن {مثل} وإن بُنيت فهي في موضع رفع صفة لـ «حق»، والوجه
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/287]
الثاني أن تجعل {ما} و{مثل} اسمًا واحدًا وتبنيه على الفتح، وهو قول المازني، فهو عنده كقول الشاعر:
وتداعى منخراه بدم = مثل ما أثمر حماض الجبل
فبنى «مثلًا» لما جعلها و{ما} اسمًا واحدًا، والوجه الثالث أن تنصب «مثلًا» على الحال من النكرة وهي «حق»، وهو قول الجرمي، والأحسن أن يكون حالًا من المضمر المرفوع في {لحق} وهو العامل في المضمر، وفي الحال، وتكون على هذا {ما} زائدة، و{مثل} مضافًا إلى {أنكم} ولم يتعرف بالإضافة لما ذكرنا أولًا، والحال من النكرة قليل في الاستعمال وقد حكى الأخفش في قوله تعالى: {فيها يُفرق كل أمرٍ حكيم، أمرًا من عندنا} «الدخان 4، 5» أن {أمرًا} الثاني في حال من «أمر» الأول، وهو نكرة، والأحسن أن يكون حالًا من المضمر في {حكيم} وهو بمعنى «يحكم»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- {لَحَقٌّ مِثْلَ مَا} [آية/ 23] بالرفع:-
قرأها عاصم –ياش- وحمزة والكسائي.
والوجه أن مثلاً صفة لحق، فهو مرفوع، كما أن حقًا مرفوع، و{مَا} زائدة، وليست بمصدرية؛ لأنها ما وليت الفعل بل وليت أن ما بعده، وهو
[الموضح: 1205]
في تقدير المصدر فكأنها وليت الاسم، وما المصدرية إنما تلي الفعل، فكأنه قال: لحق مثل أنكم تنطقون، أي مثل نطقكم.
وإنما جاز كون مثل وإن كان مضافًا إلى المعرفة، صفة للنكرة؛ لأن مثلاً لا يتعرف بالمضاف إليه من جهة أنه لا يستفيد بالإضافة تخصصًا لكثرة وجوه التماثل بين المتماثلين، وقد نبهنا على ذلك في أول الكتاب، فلما لم يتخصص بالإضافة بقي على تنكيره، فجاز وصف النكرة به.
وقرأ الباقون {مِثْلَ مَا} بالنصب.
والوجه أنه يجوز أن يكون مبنيًا على الفتح بني لإضافته إلى مبني وهو {أَنَّكُمْ}، لأن {مَا} زيادة، كما بني {يَوْمَ} لإضافته إلى إذ من قوله {يَوْمَئِذٍ}، وكما بني حين لإضافته إلى الفعل الماضي في قول النابغة:
160- على حين عاتبت المشيب على الصبا = وقلت ألما تصح والشيب وازع
وكما بني غير لإضافته إلى أن في قول الشاعر:
161- لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت = حمامة في غصون ذات أوقال
[الموضح: 1206]
فقوله {غَيْرَ} في موضع رفع بأنه فاعل يمنع، إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى: أن هتفت، وهو مبني لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه كسوته، وهذا الوجه ذهب إليه سيبويه، وإنما اختير الفتح لخفته.
وقال أبو عثمان جعل مثل مع ما كالشيء الواحد، وبني على الفتح، وإن كانت ما زيادة، كما قال الشاعر:
162- وتداعى منخراه بدم = مثل ما أثمر حماض الجبل
فتح مثل على أنه بناه مع ما وجعله معه كالشيء الواحد ففتحه، كما بني خمسة عشر ونحوه، وموضع مثل ههنا جر؛ لأنه صفة دم وهو مجرور، فكذلك في الآية يكون مثل مع ما بعده كالشيء الواحد ومبنيًا على الفتح وهو مرفوع الموضع.
وقال أبو عمر الجرمي: إن مثلاً منصوب على الحال من النكرة وهي
[الموضح: 1207]
حق، كأنه قال: إنه لحق كائنًا مثل نطقكم، وعلى هذا يجوز أيضًا أن يكون ذو الحال هو الذكر المرفوع في حق؛ لأن التقدير لحق هو، والعامل في الحال هو حق). [الموضح: 1208]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين