مقدمات في علم السلوك*
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فهذه مقدّمات موجزة في علم السلوك أرجو أن تعرّف بمعالم هذا العلم الجليل، وتبيّن فضله وشرفه، وتعرّف بأصوله وفروعه، وغايته وثمراته، وطبقات أئمته، وطرائق عناية أهل العلم به، وتنوّع التأليف فيه وغير ذلك من المباحث التي تعين على استجلاء هذا العلم العزيز.
وقد تضمنت هذه المقدّمات الفصول التالية:
• فضل علم السلوك
• المراد بالسلوك
• غاية علم السلوك
• أصول علم السلوك
• فروع علم السلوك
• طرق المحدّثين في التأليف في علم السلوك
• عناية العلماء بعلم السلوك
• طبقات أئمة علم السلوك
• ألقاب أئمة علم السلوك
• معنى الأبدال.
• خطة مقترحة للقراءة في كتب علم السلوك.
• فضل علم السلوك:
علم السلوك من أجل علوم الشريعة قدراً، وأعظمها نفعاً، بل هو لبُّ العلوم وروحها، إذ هو مقصودها الأعظم، وميزانها الأقوم، وعليه مدار القبول والحرمان، والتوفيق والخذلان، والهداية والضلال.
وسائر العلوم إن لم تكن موصلة إليه، كانت وبالاً على صاحبها وحجة عليه؛ وقد دلّت النصوص من الكتاب والسنّة على جلالة شأنه، وعظيم قدره؛ فهو العلم الذي تحصل به تقوى القلوب، وزكاة النفوس، واستقامة الجوارح، وبه يُنال اليقين، والتبصّر في الدين، وبه تتبيّن حقائق الفتن، وسنن الابتلاء، وتُعرف به أمراض القلوب وسبيل شفائها، ومداواة النفوس من عللها وأدوائها.
وهو ألصق العلوم بالقلوب التي هي محلّ نظر الربّ جلّ وعلا، وبصلاحها تصلح الأعمال، ويصلح سائر الجسد، وبفسادها تفسد الأعمال، ويفسد سائر الجسد.
ولما ذكر الله الشعائر الظاهرة قال: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} فالمقصود الذي يصل إلى الله من أعمال الناس هو ما يرتضيه من عباداتهم المنبعثة من قلوبهم تصديقاً بوعده، وتقرّباً إليه، ورغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)) وأشار بأصابعه إلى صدره).
وفي رواية في صحيح مسلم أيضاً: (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).
فالتقوى محلها القلب وأثرها على الجوارح ظاهر، وتحقيق صلاح القلب والجوارح هو مقصود علم السلوك، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإن في الجسد مضغة ً إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
المراد بالسلوك:
المراد بالسلوك هو سلوك الصراط المستقيم، وهو متضمن لما تحصل به الهداية للصراط المستقيم قصداً وقولاً وعملاً، وحاجة العبد إلى الهداية لسلوك الصراط المستقيم دائمة متكررة ولذلك أُمر العبد أن يسأل الله تعالى في صلاته في كل ركعة: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
• غاية علم السلوك:
غاية هذا العلم بلوغ مرتبة الإحسان في عبادة الله تعالى التي هي أعلى مراتب الدين.
• أصول علم السلوك:
علم السلوك قائم على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: البصائر والبينات، وهي التي يسميها بعض من كتب في علم السلوك: المعارف والحقائق، واسمها في النصوص البصائر والبيّنات، وهو اسم أشمل وأعمّ مما يذكرونه في أبواب المعارف والحقائق.
- قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
- وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}
- وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}
- وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
والأصل الثاني: اتبَّاع الهدى، ويُعنى بالجانب العملي وهو الطاعة والامتثال، فيأتي ما يؤمر به، ويجتنب ما ينهى عنه، ويفعل ما يوعظ به.
فالأصل الأول - وهو البصائر والبينات - قائمٌ على العلمِ، ومثمِرٌ لليقين.
والأصل الثاني - وهو اتباع الهدى - قائمٌ على الإرادة والعزيمة ومثمرٌ للاستقامة والتقوى.
وعامّة ما يذكره العلماء من مسائل السلوك راجع إلى هذين الأصلين، وحاجة الناس إلى التفقّه فيهما ماسّة، وقد جمعهما الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
فهذه الآية جمعت أصلي علم السلوك: البينات والهدى؛ فالناس بحاجة إلى البينات التي يعرفون بها الحقّ من الباطل، وبحاجة إلى أئمة يتّبعون الهدى فيتّبعوهم عليه.
والأصل الأول حجة على من خالف في الأصل الثاني؛ لأن من جاءته البيّنةُ ولم يتَّبعِ الهدى كان علمه بتلك البيّنة حجة عليه كما قال الله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
وقال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}
• فروع علم السلوك:
السالك في الصراط المستقيم له مقصد يقصده، ومنهج يسير عليه، وله عدو يتربص به، وعوارض تعرض له، ويحتاج إلى ما يحفزه إلى المسارعة في السير، وإلى معالجة آفات نفسه، ومدافعة عدوه، وهو موعود بالثواب العظيم إن سار مهتدياً على الصراط المستقيم، ومتوعد بالعذاب الأليم إن ضل عن الصراط.
وهذا التمثيل والتبيين يعرّفك بأبواب علم السلوك الكبار التي ورد بيان أدلتها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وروي فيها من آثار السلف الصالح وأخبارهم ووصاياهم ما يرشد السالك إلى حسن السير بإذن الله تعالى.
ومن هذه الفروع:
- أعمال القلوب.
- تزكية النفس، ويدخل فيها: محاسبة النفس ومداواة عللها ورياضتها.
- مجاهدة الشيطان.
- حفظ الجوارح.
- الترغيب والترهيب.
- الزهد والورع.
- العقوبة والابتلاء.
- الأوراد والتعويذات
- العوارض والعوائق.
- العزلة والخلطة.
- القصص والأخبار
- الوصايا
- الجزاء، ويدخل في ذلك الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.
- آداب السالك.
• عناية العلماء بعلم السلوك:
لأئمة الدين من السلف الصالح ومن اتّبعهم بإحسان عناية بالغة بهذا العلم الجليل تعلّماً وترسّماً وتوصيةً وتأليفاً.
وقد تضمنت دواوين السنة المعروفة كتباً في هذا العلم الجليل منها:
- كتب الرقاق، والفتن، والدعوات في صحيح البخاري.
- وكتب الزهد والرقائق، الذكر والدعاء، والتوبة، في صحيح مسلم.
- وكتابا الدعاء والزهد في سنن ابن ماجه.
- وكتب الزهد، والبر والصلة، والأمثال، والدعوات في جامع الترمذي.
- وكتاب الاستعاذة، من سنن النسائي الصغرى.
- وكتب الرقائق، والمواعظ، وعمل اليوم والليلة، والاستعاذة من السنن الكبرى للنسائي.
- وكتب الزهد، والدعاء، والأمراء من مصنف بن أبي شيبة.
- وكتاب الرقاق من سنن الدارمي.
- وكتب الرقاق، والدعاء والذكر، والتوبة والإنابة من مستدرك الحاكم.
- وكتابا البرّ والإحسان، والرقائق من صحيح ابن حبان.
وقد أفرد جماعة من الأئمة كتباً في هذا العلم منها كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك، وللمعافى بن عمران الموصلي، ووكيع بن الجراح، وأسد بن موسى، وأحمد بن حنبل، وهناد بن السري، وأبي داوود السجستاني، والخطيب البغدادي، والبيهقي له كتاب الزهد الكبير، وكتاب شعب الإيمان وهما من أجمع كتب السلوك.
ولأبي حاتم الرازي كتاب مطبوع في الزهد، وفي تحقيق نسبته إليه خلاف.
وللآجري كتاب "أدب النفوس"
وللخرائطي كتاب"اعتلال القلوب".
وكتب الزهد والرقاق وإن كان هذا الغالب على تسميتها عند السلف فموضوعاتها متنوعة في أبواب علم السلوك، وهي غير منحصرة في المعنى اللفظي لكلمتي "الزهد" و"الرقائق" أو "الرِّقَاق"، وإن كان هذا من الأثر المرجو لمن قرأها؛ فهذه الكتب تضمنت من الأحاديث والآثار، والسير والأخبار، والوصايا والمواعظ قدراً كبيراً مباركاً عظيم النفع في أبواب كثيرة من علم السلوك.
ومباحث علم السلوك كثيرة متنوعة، وهي وإن لم يحطْ بها كتابٌ من هذه الكتب المصنفة إلا أن مجموعها مشتمل على عامّة مسائل هذا العلم.
ثم كثرت التصانيف في هذا العلم وتنوعت ، واختلفت مشارب مؤلفيها بحسب مكانهم من العلم والمعرفة بهذا العلم وبما يضبطه من علم الاعتقاد وعلم التفسير وعلم الحديث وغيرها.
والضعف والتقصير في أحد هذه العلوم له أثره في تلك الكتب، فمن كان مقصراً في تحقيق مسائل الاعتقاد ظهر في كتبه أغلاط بيّنه، ومنهم مَن انتحل طريقة مبتدعة في التصوف، ومنهم من غلا في ذلك غلواً كبيراً وصار له أتباع ومريدون تأثروا به فأحدث من البدع والفتن ما الله به عليم .
ومن كان مقصّراً في علم الحديث أورد في كتبه من الأخبار الواهية ما يستنكر .
لكن يبقى أجود ما كتب في هذا العلم ما كتبه الأئمة من أهل الحديث لمن كان له معرفة بالأسانيد لأن من منهم من لم يشترط الصحة فيما يخرّجه، وإنما يذكر ما روي في الباب.
طرق المحدّثين في التأليف في علم السلوك
وللمحدثين ثلاث طرائق في التأليف في هذا العلم:
الطريقة الأولى: الاقتصار على انتقاء بعض الأحاديث وبعض الآثار وتصنيفها على شرط المصنف كما في الصحيحين ، وكتاب الرقائق من سنن النسائي الكبرى، وكتاب الرقاق في سنن الدارمي وكتاب الرقاق في مستدرك الحاكم.
الطريقة الثانية: جمع وصايا حكماء الزهاد والعارفين من الأنبياء السابقين والصحابة والتابعين والأئمة المعروفين؛ وترتيب الكتاب على وصاياهم وأخبارهم، وممن سلك هذه الطريقة الإمام أحمد في كتاب الزهد، وابن أبي شيبة في كتاب الزهد من مصنفه.
الطريقة الثالثة: تصنيف الكتاب على أبواب هذا العلم، ورواية ما فيه من الأحاديث والآثار والأخبار والوصايا، وممن سلك هذا الطريقة ابن المبارك في كتاب الزهد، وأسد بن موسى، وهناد بن السري وأبو بكر البيهقي.
ومن أهل العلم من أفرد بعض أبواب هذا العلم بالتصنيف كما فعل ابن أبي الدنيا وأكثر في ذلك، ولمحمد بن نصر المروزي كتاب تعظيم قدر الصلاة وقد ضمنه أبواباً في الاعتقاد وأبواباً في مسائل هذا العلم.
والمقصود هنا التعريف بعناية السلف الصالح بهذا العلم رواية ودراية ورعاية.
• طبقات أئمة علم السلوك:
هذا العلم كسائر علوم الشريعة يُتّبع فيها هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أحسن الهدي، ففي صحيحِ مُسلمٍ من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلمكان يقولُ في خُطْبتِه: (( أما بعدُ، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحمَّدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحْدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)).
ثم خير هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم ثم التابعون لهم بإحسان.
وقد برز في هذا العلم أئمة كبار في كل قرن من القرون، كما برز في التفسير مفسرون، وبرز في الحديث محدّثون، وبرز في الفقه فقهاء؛ فلهذا العلم أهله الذين عرفوا به، وسأوجز ذكر طبقاتهم لغرض التمثيل وذكر من يحضرني منهم لعل ذلك يكون سبباً في عناية الدارسين بسيرهم وأخبارهم وآثارهم ، فطالب العلم يحتاج في كل علم إلى التعرف على أئمته وعلى مصادره التي ينهل منها طلابه.
وتُعْرَف إمامةُ هؤلاء بمطالعة سِيَرهم، وما عرف من أخبارهم، وما حفظ من وصاياهم، وما صنفوه من مؤلفات في هذا العلم.
فأئمة هذا العلم على طبقات:
فمن الصحابة : الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وبقية العشرة، وأمهات المؤمنين ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو ذر، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وتميم الداري، وأبو موسى الأشعري، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن سلام، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله وغيرهم.
ومن هؤلاء الصحابة من ورد في فضلهم ومناقبهم وإدراكهم مرتبةَ الإحسان أحاديث، ومنهم من عرف له الصحابة والتابعون فضله في هذا العلم وعنايته به قولاً وعملاً.
ومن التابعين: أويس القرني، وسعيد بن المسيب، وأبو مسلم الخولاني، وهرم بن حيان العبدي، والربيع بن خثيم الثوري، وصلة بن أشيم العدوي، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وأبو الجوزاء الربعي، وعمرو بن الأسود العنسي، والأسود بن يزيد النخعي، وأبو إدريس الخولاني، وعامر بن عبد قيس العبدي، وأبو ميسرة الهمداني، وزرارة بن أوفى العامري، وأبو العالية الرياحي، وسعيد بن جبير، وزين العابدين علي بن الحسين، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز الأموي، ومسلم بن يسار البصري، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسليمان بن يسار المدني، وأبو قلابة الجرمي، وخالد بن معدان الكلاعي، وعطاء بن يسار المدني، وطاووس بن كيسان، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، ومالك بن دينار، وعبيد بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وبلال بن سعد السكوني، ومحمد بن كعب القرظي، وأيّوب بن أبي تميمة السختياني، ومنصور بن زاذان الواسطي، ومحمد بن المنكدر، وزيد بن أسلم، وأبو حازم الأعرج، وصفوان بن سليم، ومحمد بن واسع الأزدي، وسليمان بن طرخان التيمي، وعبد الله بن عون المزني، وغيرهم.
ومن أتباع التابعين: يونس بن عبيد البصري، وابن أبي ذئب، وجعفر الصادق، وابن جريج، وأبو عمرو الأوزاعي، وشعبة بن الحجاج، وداوود بن نصير الطائي، وسفيان الثوري، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وحماد بن سلمة، والفضيل بن عياض، ومالك بن أنس، وإبراهيم بن أدهم، وحماد بن زيد، ومعتمر بن سليمان التيمي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن إدريس الأودي، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد العزيز بن أبي حازم المدني، ويزيد بن هارون الواسطي، وأبو سليمان الداراني، وغيرهم.
وفي عصرهم: يوسف بن أسباط، وسليمان الخواص، وحذيفة المرعشي.
فهؤلاء الأئمة لهم من الفضل والتقدم والعناية بهذا العلم ما شهد لهم به أهل هذا العلم.
ومما ينبغي التفطن له أن كون الإمام مشهوداً له بالإمامة في هذا العلم لا يقتضي عصمته وبراءته من الأخطاء في قوله وعمله ووصاياه ، بل قد يقع ذلك منهم ، ويبقى موقف طالب العلم من كل قول أو عمل خالف الكتاب والسنة الرد والتماس العذر لصاحبه ولا سيما من كان مشهوداً له بلزوم السنة.
والاجتهاد والتأويل في بعض مسائل هذا العلم حاصل كما حصل نظيره في مسائل الفقه والتفسير وغيرها، إلا أن الخلاف في هذه المسائل لدى السلف قليل، وكلامهم في هذه المسائل قليل كثير البركة.
وفي القرن الثالث: برز أئمة في هذا العلم منهم: الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن أبي الحواري، وبشر الحافي، وإبراهيم الحربي، وبقي بن مخلد، وأحمد بن حرب النيسابوري، وأبو إسحاق بن هانئ، وأبو بكر بن أبي الدنيا، ويحيى بن معاذ، وسري السقطي، والحارث المحاسبي، وأبو بكر الدقاق، وسهل بن عبد الله التستري، والجنيد بن محمد، وغيرهم.
وهؤلاء منهم أئمة معروفون بالسنة، ومنهم من دخل عليه شيء من أغلاط الصوفية مع جلالة قدره في هذا العلم.
وتُعرف إمامة هؤلاء وسلامة اعتقادهم في الجملة بسبر أقوالهم وما عرف من أخبارهم أو بثناء الأئمة النقاد عليهم كما قال يحيى بن معين في أحمد بن أبي الحواري: (أظن أهل الشام يسقيهم الله به الغيث)، وقال عنه أبو داوود: (ما رأيت أحداً أعلم بأخبار النُّسَّاك منه).
وقال أحمد في أبي إسحاق بن هانئ: (إن كان في البلد رجل من الأبدال ، فأبو إسحاق النيسابوري) وهو الذي اختفى الإمام أحمد في داره أيام المحنة، ونحو ذلك، والكلام في الثناء على هؤلاء وأمثالهم كثير مستفيض.
ثم اتّسع الخلاف بعدهم وكثرت الفرق والطرق والاجتهادات والبدع والأغلاط والشطحات، فصار طالب العلم بحاجة ماسة إلى فقه مسائل هذا العلم بما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وبما يعرفه أئمة هذا العلم القائمون بالسنة في جميع أمورهم.
ففي القرن الرابع: ظهر جماعة منهم كأبي بكر الشبلي صاحب الإشارات، وأبو محمد المرتعش صاحب النكت، وجعفر الخلدي صاحب الحكايات، ومحمد بن إسحاق الكلاباذي صاحب كتاب التعرف على مذاهب أهل التصوف، وأبو طالب المكي صاحب كتاب قوت القلوب، وغيرهم.
وفي القرن الخامس: ظهر أبو عبد الرحمن السلمي صاحب (طبقات الصوفية) و(عيوب النفس)، وأبو إسماعيل الهروي صاحب (علل المقامات) و(منازل السائرين)، وابن العريف صاحب( محاسن المجالس)، أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة القشيرية، وأبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء، وابن حزم الأندلسي وله (مداواة النفوس) وغيره، والبيهقي كتب فيه (كتاب الزهد الكبير)، وفي أواخر هذا القرن ظهر كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي واشتهر شهرة كبيرة، واعتنى به جماعات من أهل العلم وانتقده كثيرون.
ثم لم تزل المصنفات تتوالى والخلاف يتسع حتى اشتهر في القرن السابع مذهب الصوفية الباطنية القائلين بوحدة الوجود كابن عربي وابن سبعين الإشبيلي والعفيف التلمساني وابن الفارض وغيرهم.
وهؤلاء لهم كلام مُنكَرٌ يجعلون ظاهره التصوف والسلوك وحقيقته الكفر المبين، ولبعضهم أشعار فيها شناعات وإشارات منكرة ، ومن أحسن من تصدى للرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ فألف المؤلفات في الرد عليهم وبيان شناعة بدعهم، وتبعه على ذلك بعض الأئمة كابن القيم وابن رجب، ولا تزال مصنفاتهم هي من أكثر ما يُرجع إليه في هذا العلم إلى اليوم.
وهذا العرض الموجز أردت به بيان تدرج التأليف في هذا العلم ، وظهور بعض الفرق التي انتحلته واختلف فيه اختلافاً كبيراً ، ليحذر طالب العلم من الاغترار بما كُتب في هذا العلم على غير سبيل السنة، وليأخذ هذا العلم عن أئمته المعروفين.
• ألقاب أئمة علم السلوك:
من المعروف أن يلقَّب العالم بالتفسير بالمفسّر، والعالم بالفقه بالفقيه، والعالم بالحديث بالمحدّث، وأما هؤلاء الأئمة فتنوعت ألقابهم بحسب ما يغلب عليهم مما يُعرف عنهم من فروع علم السلوك فيقال: الزاهد والعابد والناسك والإمام والعارف ونحو ذلك من الألقاب التي يوصفون بها، وهم لا يَتَسَمَّون بها.
• معنى الأبدال :
الأبدال هم العلماء العاملون والعباد الصالحون، يخلف بعضهم بعضاً، كلما مات منهم أحد أبدل الله الأمة غيره، ولذلك سموا بالأبدال والبدلاء.
وقد ورد في الأبدال وتعدادهم وأماكنهم أحاديث لا تصح، وأقرب ما روي فيهم أثر موقوف على علي بن أبي طالب، صححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما الألباني، وأعله بعض أهل العلم.
قال ابن القيم في المنار المنيف: (من ذلك أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأقرب ما فيها: ((لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدلاء كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر)) ذكره أحمد ولا يصح أيضا فإنه منقطع).
وقد استعمل السلف لفظ الأبدال، ووصفوا بعض الأئمة بأنهم من الأبدال، وممن استعمل هذا اللفظ: قتادة وابن المبارك والشافعي وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وغيرهم.
وتعدد المرويات وكثرة استعمال السلف لهذا اللفظ يدل على أن له أصلاً.
وفي التاريخ الكبير للبخاري وصحيح ابن حبان وغيرهما من حديث أبي عنبة الخولاني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته)) وقد حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وسئل الإمام أحمد عن الأبدال من هم؟ فقال: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم).
قال ابن تيمية: (والذين تكلموا باسم البدل فسروه بمعانٍ: منها أنهم أبدال الأنبياء، ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً، ومنها أنهم أُبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، ولا تُحصر بأهل بقعة من الأرض).
وأما ألقاب الأقطاب والأغواث والنجباء والنقباء والأوتاد فلم يستعملها السلف، وهي من إحداث الصوفية، ورووا فيها أحاديث باطلة لا تصح، ولها ترتيبات لديهم ، بأعداد مقدرة ومراتب منظمة، كلها مبتدعة.
وفي بعض هذه الألقاب ما يتضمن معاني منكرة كلفظ (الغوث) فإن كان المراد به أنه يستغاث به فهذا شرك وضلال بعيد، وإن كان المراد اعتقاد أنه سبب لغوث البلاد ودعوة الناس لتعظيمه فهو غلو وتزكية ووسيلة إلى الشرك به.
* أصل هذه المقدّمة كانت درساً أعددته بين يدي شرح التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية في ملتقى أهل التفسير عام 1432هــ، وقد أفردته هنا رجاء أن يُنتفع به، وقد راجعته وهذبته وأضفت إليه يوم الأربعاء 28 ذو القعدة 1437هـ.