شرح عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري(ت:761ه)
حرف "اللّام"
"اللام" المفردة قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): (حرف "اللّام" "اللام" المفردة
"اللّام" المفردة ثلاثة أقسام: عاملة للجر، وعاملة للجزم، وغير عاملة. وليس في القسمة أن تكون عاملة للنصب خلافًا للكوفيين وسيأتي،
فالعاملة للجر مكسورة مع كل ظاهر، نحو: لزيد، ولعمرو، إلّا مع المستغاث المباشر "ليا" فمفتوحة، نحو: يالله.
وأما قراءة بعضهم:{الحمد لله} بضمها فهو عارض للإتباع.
ومفتوحة مع كل مضمر، نحو: "لنا" و"لكم" و"لهم" إلّا مع "ياء" المتكلّم فمكسورة.
وإذا قيل: يا "لك" ويا "لي" احتمل كل منهما أن يكون مستغاثا به، وأن يكون مستغاثا من أجله، وقد أجازهما ابن جني في قوله:
فيا شوق ما أبقى ويالي من النّوى ...
وأوجب ابن عصفور في يالي أن يكون مستغاثا من أجله؛ لأنّه لو كان مستغاثا به لكان التّقدير: يا أدعو "لي"، وذلك غير جائز في غير باب ظننت، وفقدت، وعدمت، وهذا لازم له لا لابن جني لما سأذكره بعد.
ومن العرب من يفتح "اللّام" الدّاخلة على الفعل، ويقرأ: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهو يستغفرون}.
و"للام" الجارة اثنان وعشرون معنى:
أحدها: الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو: {الحمد لله} و {العزّة لله}، والملك لله، والأمر لله، ونحو: {ويل للمطفّفين} و {لهم في الدّنيا خزي}، ومنه للكافرين النّار، أي: عذابها.
والثّاني: الاختصاص، نحو: الجنّة للمؤمنين، وهذا الحصير للمسجد، والمنبر للخطيب، والسرج للدابة، والقميص للعبد، ونحو: {إن له أبا شيخا}،{فإن كان له إخوة}، وقولك هذا الشّعر لحبيب، وقولك أدوم "لك" ما تدوم "لي".
والثّالث: الملك، نحو:{له ما في السّماوات وما في الأرض}، وبعضهم يستغني بذكر الاختصاص عن ذكر المعنيين الآخرين، ويمثل له بالأمثلة المذكورة أو نحوها، ويرجحه أن فيه تقليلا للاشتراك، وأنه إذا قيل: هذا المال لزيد والمسجد، لزم القول بأنّها للاختصاص مع كون زيد قابلا للملك؛ لئلّا يلزم استعمال المشترك في معنييه دفعة، وأكثرهم يمنعه.
الرّابع: التّمليك، نحو: وهبت لزيد دينارا.
الخامس: شبه التّمليك، نحو: {جعل لكم من أنفسكم أزواجًا}.
السّادس: التّعليل، كقوله:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ...
وقوله تعالى:{لإيلاف قريش}، وتعلقها بـ (فليعبدوا)، وقيل بما قبله، أي: {فجعلهم كعصف مأكول}،{لإيلاف قريش}.
ورجح بأنّهما في مصحف أبي سورة واحدة، وضعف بأن جعلهم كعصف إنّما كان لكفرهم وجرأتهم على البيت، وقيل متعلقة بمحذوف تقديره: اعجبوا.
وكقوله تعالى:{وإنّه لحب الخير لشديد}، إي وإنّه من أجل حب المال لبخيل.
وقراءة حمزة: (وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين لِمَا آتيتكم من كتاب وحكمة) الآية، أي: لأجل إتياني إيّاكم بعض الكتاب والحكمة، ثمّ لمجيء محمّد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معكم لتؤمنن به، "فما" مصدريّة فيهما، و"اللّام" تعليلية، وتعلقت بالجواب المؤخر على الاتساع في الظّرف، كما قال الأعشى:
... عوض لا نتفرق
ويجوز كون "ما" موصولا اسميا، فإن قلت: فأين العائد في: {ثمّ جاءكم رسول}، فالجواب: إن (ما معكم) هو نفس (ما آتيتكم)، فكأنّه قيل مصدق له، وقد يضعف هذا لقلته، نحو قوله:
... وأنت الّذي في رحمة الله أطمع
وقد يرجح بأن الثواني يتسامح فيها كثيرا.
وأما قراءة الباقين بالفتح "فاللّام" "لام" التوطئة، و"ما" شرطيّة أو "اللّام" للابتداء، و"ما" موصولة، أي: "الّذي" آتيتكموه، وهي مفعولة على الأول، ومبتدأ على الثّاني.
ومن ذلك قراءة حمزة والكسائيّ:{وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لما صبروا} بكسر "اللّام".
ومنها: "اللّام" الثّانية في نحو: يا لزيد لعمرو، وتعلقها بمحذوف، وهو فعل من جملة مستقلّة، أي: أدعوك لعمرو، أو اسم هو حال من المنادى، أي: مدعوا لعمرو قولان، ولم يطلع ابن عصفور على الثّاني، فنقل الإجماع على الأول.
ومنها: "اللّام" الدّاخلة لفظا على المضارع، في نحو:{وأنزلنا إليك الذّكر لتبين للنّاس}، وانتصاب الفعل بعدها "بأن" مضمرة بعينها وفاقا للجمهور لا "بأن" مضمرة، أو "بكي" المصدرية مضمرة، خلافًا للسيرافي وابن كيسان، ولا "باللّام" بطريق الأصالة خلافًا لأكثر الكوفيّين، ولا بها لنيابتها عن "أن" خلافًا لثعلب، ولك إظهار "أن" فتقول: جئتك "لأن" تكرمني، بل قد يجب، وذلك إذا اقترن الفعل "بلا"،
نحو: {لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة}؛ لئلّا يحصل الثّقل بالتقاء المثلين فرع.
أجاز أبو الحسن أن يتلقّى القسم "بلام" "كي"، وجعل منه:{يحلفون باللّه لكم ليرضوكم}، فقال المعنى: ليرضنكم، قال أبو عليّ وهذا عندي أولى من أن يكون متعلقا بيحلفون، والمقسم عليه محذوف، وأنشد أبو الحسن:
إذا قلت قدني قال باللّه حلفة ... لتغني عني ذا إنائك أجمعا
والجماعة يأبون هذا لأن القسم إنّما يجاب بالجملة، ويروون لتغنن بفتح "اللّام" و"نون" التوكيد، وذلك على لغة فزارة في حذف آخر الفعل لأجل "النّون"، إن كان "ياء" تلي كسرة، كقوله:
وابكن عيشًا تقضي بعد جدته ...
وقدروا الجواب محذوفا، و"اللّام" متعلقة به، أي: ليكونن كذا ليرضوكم، ولتشربن لتغني عني.
السّابع: توكيد النّفي، وهي الدّاخلة في اللّفظ على الفعل مسبوقة "بما"، "كان"، أو "بلم" يكن ناقصتين مسندتين لما أسند إليه الفعل المقرون "باللّام"، نحو: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب}،{لم يكن الله ليغفر لهم}، ويسميها أكثرهم "لام" الجحود لملازمتها للجحد، أي: النّفي.
قال النّحاس والصّواب تسميتها "لام" النّفي؛ لأن الجحد في اللّغة إنكار ما تعرفه، لا مطلق الإنكار. انتهى.
ووجه التوكيد فيها عند الكوفيّين أن أصل ما كان ليفعل: ما كان يفعل، ثمّ أدخلت "اللّام" زيادة لتقوية النّفي، كما أدخلت "الباء" في ما زيد بقائم لذلك، فعندهم أنّها حرف زائد مؤكد غير جار، ولكنه ناصب، ولو كان جارا لم يتعلّق عندهم بشيء لزيادته، فكيف به وهو غير جار.
ووجهه عند البصريين أن الأصل ما كان قاصدا للفعل، ونفي القصد أبلغ من نفيه، ولهذا كان قوله:
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي ... إن العواذل لسن لي بأمير
أبلغ من لا تلمنني لأنّه نهي عن السّبب، وعلى هذا فهي عندهم حرف جر معد متعلق بخبر "كان" المحذوف، والنّصب "بأن" مضمرة وجوبا، وزعم كثير من النّاس في قوله تعالى: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}.
في قراءة غير الكسائي بكسر "اللّام" الأولى وفتح الثّانية أنّها "لام" الجحود، وفيه نظر لأن النّافي على هذا غير "ما" و"لم"، ولاختلاف فاعلي "كان" وتزول، والّذي يظهر لي أنّها "لام" "كي"، وأن "إن" شرطيّة، أي: وعند الله جزاء مكرهم، وهو مكر أعظم منه، وإن كان مكرهم لشدّته معدا لأجل زوال الأمور العظام المشبهة في عظمها بالجبال، كما تقول: أنا أشجع من فلان، وإن كان معدا للنوازل،
وقد تحذف "كان" قبل "لام" الجحود، كقوله:
فما جمع ليغلب جمع قومي ... مقاومة ولا فرد لفرد
أي: "فما" كان جمع.
وقول أبي الدّرداء رضي الله عنه في الرّكعتين بعد العصر: ما أنا لأدعهما.
والثّامن: موافقة "إلى"، نحو قوله تعالى:{بأن ربك أوحى لها}،{كل يجري لأجل مسمّى}،{ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه}.
والتّاسع: موافقة "على" في الاستعلاء الحقيقيّ، نحو:{ويخرون للأذقان}،{دعانا لجنبه}،{وتله للجبين}.
... فخر صريعًا لليدين وللفم
والمجازي نحو:{وإن أسأتم فلها}، ونحو قوله عليه الصّلاة والسّلام لعائشة رضي الله تعالى عنها: «اشترطي لهم الولاء».
وقال النّحاس المعنى: من أجلهم، قال ولا نعرف في العربيّة لهم بمعنى عليهم.
والعاشر: موافقة "في"، نحو {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة}،{لا يجليها لوقتها إلّا هو}، وقولهم مضى لسبيله قيل، ومنه:{يا ليتني قدمت لحياتي}، أي: "في" حياتي، وقيل للتّعليل، أي: "لأجل" حياتي في الآخرة.
والحادي عشر: أن تكون بمعنى "عند"، كقولهم: كتبته لخمس خلون، وجعل منه ابن جني قراءة الجحدري:{بل كذبوا بالحقّ لما جاءهم}، بكسر "اللّام"، وتخفيف "الميم".
والثّاني عشر: موافقة "بعد"، نحو:{أقم الصّلاة لدلوك الشّمس}، وفي الحديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، وقال:
فلمّا تفرقنا كأنّي ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معًا
والثّالث عشر: موافقة "مع"، قاله بعضهم، وأنشد عليه هذا البيت.
والرّابع عشر: موافقة "من"، نحو: سمعت له صراخا، وقول جرير:
لنا الفضل في الدّنيا وأنفك راغم ... ونحن لكم يوم القيامة أفضل
والخامس عشر: التّبليغ، وهي الجارة لاسم السّامع لقول أو ما في معناه نحو: قلت له، وأذنت له، وفسرت له.
والسّادس عشر: موافقة "عن"، نحو قوله تعالى:{وقال الّذين كفروا للّذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه}.
قاله ابن الحاجب، وقال ابن مالك، وغيره: وهي "لام" التّعليل، وقيل "لام" التّبليغ، والتفت عن الخطاب إلى الغيبة، أو يكون اسم المقول لهم محذوفا، أي: قالوا لطائفة من المؤمنين لما سمعوا بإسلام طائفة أخرى، وحيث دخلت "اللّام" على غير المقول له، فالتأويل على بعض ما ذكرناه نحو: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا}،{ولا أقول للّذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا}.
وقوله:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنّه لدميم
السّابع عشر: الصيرورة، وتسمى "لام" العاقبة، و"لام" المآل، نحو:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}، وقوله:
فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدّور تبنى المساكن
وقوله:
فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده
ويحتمله {ربنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدّنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك}، ويحتمل أنّها "لام" الدّعاء، فيكون الفعل مجزومًا لا منصوبًا، ومثله في الدّعاء: {ولا تزد الظّالمين إلّا ضلالا}، ويؤيّده أن في آخر الآية {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا}.
وأنكر البصريون ومن تابعهم "لام" العاقبة، قال الزّمخشريّ: والتّحقيق أنّها "لام" العلّة، وأن التّعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة، وبيانه أنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا، بل المحبّة والتبني، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له، وثمرته شبه بالداعي الّذي يفعل الفعل لأجله، "فاللّام" مستعارة لما يشبه التّعليل، كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد.
الثّامن عشر: القسم والتعجب معًا، وتختص باسم الله تعالى، كقوله:
لله يبقى على الأيّام ذو حيد ...
التّاسع عشر: التّعجّب المجرّد عن القسم، وتستعمل في النداء، كقولهم: يا للماء، ويا للعشب، إذا تعجبوا من كثرتهما.
وقوله:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
وقولهم: يا لك رجلا عالما وفي غيره، كقولهم: لله دره فارسًا وللّه أنت: وقوله:
شباب وشيب وافتقار وثروة ... فللّه هذا الدّهر كيف ترددا
المتمم عشرين: التّعدية، ذكره ابن مالك في الكافية، ومثل له في شرحها بقوله تعالى: {فهب لي من لدنك وليا}، وفي الخلاصة، ومثل له ابنه بالآية، وبقولك قلت له افعل كذا، ولم يذكره في التسهيل ولا في شرحه، بل في شرحه أن "اللّام" في الآية لشبه التّمليك، وأنّها في المثال للتبليغ، والأولى عندي أن يمثل للتعدية، بنحو: ما أضرب زيدا لعمرو: وما أحبه لبكر.
الحادي والعشرون: التوكيد، وهي "اللّام" الزّائدة، وهي أنواع:
منها: "اللّام" المعترضة بين الفعل المتعدّي ومفعولة، كقوله:
ومن يك ذا عظم صليب رجابه ... ليكسر عود الدّهر فالدهر كاسره
وقوله:
وملكت ما بين العراق ويثرب ... وملكا أجار لمسلم ومعاهد
وليس منه:{ردف لكم} خلافًا للمبرد ومن وافقه، بل ضمن ردف معنى اقترب، فهو مثل:{اقترب للنّاس حسابهم}، واختلف في "اللّام" من نحو:{يريد الله ليبين لكم}،{وأمرنا لنسلم لرب العالمين}، وقول الشّاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقيل زائدة وقيل للتّعليل، ثمّ اختلف هؤلاء، فقيل المفعول محذوف، أي: يريد الله التّبيين ليبين لكم ويهديكم، أي: ليجمع لكم بين الأمرين، وأمرنا بما أمرنا به لنسلم، وأريد السلو لأنسى.
وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في ذلك كله مقدّر بمصدر مرفوع بالابتداء، و"اللّام" وما بعدها خبر، أي: إرادة الله للتبيين وأمرنا للإسلام، وعلى هذا فلا مفعول للفعل.
ومنها: "اللّام" المسمّاة بالمقحمة، وهي المعترضة بين المتضايفين، وذلك في قولهم: يا بؤس للحرب، والأصل: يا بؤس الحرب، فأقحمت تقوية للاختصاص، قال:
يا بؤس للحرب الّتي ... وضعت أراهط فاستراحوا
وهل انجرار ما بعدها بها أو بالمضاف قولان، أرجحهما الأول؛ لأن "اللّام" أقرب؛ ولأن الجار لا يعلق، ومن ذلك قولهم: لا أبا لزيد ولا أخاله ولا غلامي له.
على قول سيبويه: إن اسم "لا" مضاف لما بعد "اللّام"، وأما على قول من جعل "اللّام" وما بعدها صفة، وجعل الاسم شبيها بالمضاف؛ لأن الصّفة من تمام الموصوف، وعلى قول من جعلهما خبرا، وجعل أبا وأخا على لغة من قال:
إن أباها وأبا أباها ...
وقولهم: مكره أخاك لا بطل، وجعل حذف "النّون" على وجه الشذوذ، كقوله:
قطاقطا بيضك ثنتا وبيضي مئتا
"فاللّام" للاختصاص، وهي متعلقة باستقرار محذوف.
ومنها: "اللّام" المسمّاة "لام" التقوية، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف إمّا بتأخره، نحو:{هدى ورحمة للّذين هم لربهم يرهبون}، ونحو:{إن كنتم للرؤيا تعبرون}، أو بكونه فرعا في العمل، نحو: {مصدقا لما معهم}،{فعال لما يريد}،{نزاعة للشوى}، ونحو: ضربي لزيد حسن وأنا ضارب لعمرو، قيل ومنه:{إن هذا عدو لك ولزوجك}.
وقوله:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له ... أكيلا فإنّي لست آكله وحدي
وفيه نظر، لأن عدوا وأكيلا وإن كانا بمعنى معاد ومؤاكل لا ينصبان المفعول؛ لأنّهما موضوعان للثبوت، وليسا مجاريين للفعل في التحرك والسكون، ولا محولان عمّا هو مجار له؛ لأن التّحويل إنّما هو ثابت في الصّيغ الّتي يراد بها المبالغة، وإنّما "اللّام" في البيت للتّعليل، وهي متعلقة بـ (التمسي)، وفي الآية متعلقة بمستقر محذوف صفة لعدو، وهي للاختصاص.
وقد اجتمع التّأخّر والفرعية في:{وكنّا لحكمهم شاهدين}، وأما قوله تعالى: {نذيرا للبشر}، فإن كان النذير بمعنى المنذر فهو مثل:{فعال لما يريد}، وإن كان بمعنى الإنذار "فاللّام" مثلها في سقيا لزيد، وسيأتي.
قال ابن مالك: ولا تزاد "لام" التقوية مع عامل يتعدى لاثنين؛ لأنّها إن زيدت في مفعولية فلا يتعدّى فعل إلى اثنين بحرف واحد، وإن زيدت في أحدهما لزم ترجيح من غير مرجّح، وهذا الأخير ممنوع؛ لأنّه إذا تقدم أحدهما دون الآخر وزيدت "اللّام" في المقدم لم يلزم ذلك.
وقد قال الفارسي في قراءة من قرأ:{ولكل وجهة هو موليها}، بإضافة "كل" إنّه من هذا، وإن المعنى الله مول كل ذي وجهة وجهته،
والضّمير على هذا للتولية، وإنّما لم يجعل "كلا" والضّمير مفعولين، ويستغن عن حذف "ذي" ووجهته؛ لئلّا يتعدّى العامل إلى الضّمير وظاهره معًا، ولهذا قالوا في "الهاء" من قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه ... يقطع اللّيل تسبيحا وقرآنا
إن "الهاء" مفعول مطلق لا ضمير القرآن، وقد دخلت "اللّام" على أحد المفعولين مع تأخرهما في قول ليلى:
أحجاج لا تعطي العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها
وهو شاذ لقوّة العامل.
ومنها: "لام" المستغاث عند المبرد، واختاره ابن خروف بدليل صحة إسقاطها.
وقال جماعة غير زائدة، ثمّ اختلفوا، فقال ابن جني: متعلقة بحرف النداء لما فيه من معنى الفعل، ورد بأن معنى الحرف لا يعمل في المجرور، وفيه نظر لأنّه قد عمل في الحال، في نحو قوله:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
وقال الأكثرون: متعلقة بفعل النداء المحذوف، واختاره ابن الضائع، وابن عصفور، ونسباه لسيبويه، واعترض بأنّه متعدٍّ بنفسه، فأجاب ابن أبي الرّبيع بأنّه ضمن معنى الالتجاء، في نحو: يا لزيد، والتعجب في نحو: يا للدواهي!
وأجاب ابن عصفور وجماعة بأنّه ضعف بالتزام الحذف فقوي تعديه "باللّام"، واقتصر على إيراد هذا الجواب أبو حيّان، وفيه نظر لأن "اللّام" المقوية زائدة كما تقدم، وهؤلاء لا يقولون بالزّيادة.
فإن قلت: وأيضًا فإن "اللّام" لا تدخل في نحو: زيدا ضربته مع أن الناصب ملتزم الحذف.
قلت لما ذكر في اللّفظ ما هو عوض منه كان بمنزلة ما لم يحذف، فإن قلت: وكذلك حرف النداء عوض من فعل النداء.
قلت: إنّما هو كالعوض، ولو كان عوضا البته لم يجز حذفه، ثمّ إنّه ليس بلفظ المحذوف، فلم ينزل منزلته من كل وجه.
وزعم الكوفيّون أن "اللّام" في المستغاث بقيّة اسم، وهو "آل"، والأصل: "يا" "آل" زيد، ثمّ حذفت "همزة" "آل" للتّخفيف، وإحدى "الألفين" لالتقاء الساكنين، واستدلّوا بقوله:
فخير نحن عند النّاس منكم ... إذا الدّاعي المثوب قال يالا
فإن الجار لا يقتصر عليه، وأجيب بأن الأصل يا قوم "لا" فرار أو "لا" نفر، فحذف ما بعد "لا" النافية، أو الأصل: يا لفلان، ثمّ حذف ما بعد الحرف كما يقال: "ألاتا"، فيقال: "ألافا"، يريدون: "ألا" تفعلون، و"ألا" فافعلوا.
تنبيه
إذا قيل: يا لزيد، بفتح "اللّام" فهو مستغاث، فإن كسرت فهو مستغاث لأجله، والمستغاث محذوف، فإن قيل: يا لك احتمل الوجهين، فإن قيل: يا لي، فكذلك عند ابن جني أجازهما في قوله:
فيا شوق ما أبقى ويا لي من النّوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى
وقال ابن عصفور: الصّواب أنه مستغاث لأجله؛ لأن "لام" المستغاث متعلقة بأدعو، فيلزم تعدي فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل،
وهذا لا يلزم ابن جني، لأنّه يرى تعلق "اللّام" "بيا" كما تقدم، و"يا" لا تتحمل ضميرا، كما لا تتحمله "ها" إذا عملت في الحال، في نحو: {وهذا بعلي شيخا}.
نعم هو لازم لابن عصفور لقوله في: يا لزيد لعمرو، إن "لام" لعمرو متعلقة بفعل محذوف، تقديره: أدعوك لعمرو، وبنبغي له هنا أن يرجع إلى قول ابن الباذش: إن تعلقها محذوف، تقديره: مدعوا لعمرو، وإنّما ادّعيا وجوب التّقدير؛ لأن العامل الواحد لا يصل بحرف واحد مرّتين، وأجاب ابن الضائع بأنّهما مختلفان معنى، نحو: وهبت لك دينارا لترضى.
تنبيه
زادو"اللّام" في بعض المفاعيل المستغنية عنها كما تقدم، وعكسوا ذلك فحذفوها من بعض المفاعيل المفتقرة إليها، كقوله تعالى:{تبغونها عوجا}،{والقمر قدرناه منازل}،{وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}،وقالوا وهبتك دينارا، وصدتك ظبيًا، وجنيتك ثمرة.
قال:
وقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ...
وقال:
فتولّى غلامهم ثمّ نادى ... أظليما أصيدكم أم حمارا
وقال:
إذا قالت حذام فأنصتوها ...
في رواية جماعة والمشهور فصدقوها.
الثّاني والعشرون: التّبيين، ولم يوفوها حقّها من الشّرح. وأقول هي ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تبين المفعول من الفاعل، وهذه تتعلّق بمذكور، وضابطها أن تقع بعد فعل تعجب، أو اسم تفضيل، مفهمين حبا أو بغضا، تقول: ما أحبّني وما أبغضني، فإن قلت لفلان، فأنت فاعل الحبّ والبغض وهو مفعولهما، وإن قلت "إلى" فلان فالأمر بالعكس، وهذا شرح ما قاله ابن مالك، ويلزمه ان يذكر هذا المعنى في معاني "إلى" أيضا لما بينا، وقد مضى في موضعه.
الثّاني والثّالث: ما يبين فاعلية غير ملتبسة بمفعولية، وما يبين مفعولية غير ملتبسة بفاعلية، ومصحوب كل منهما إمّا غير معلوم ممّا قبلها أو معلوم، لكن استؤنف بيانه تقوية للبيان، وتوكيدا له، و"اللّام" في ذلك كله متعلقة بمحذوف.
مثال المبينة للمفعولية: سقيا لزيد وجدعا له، فهذه "اللّام" ليست متعلقة بالمصدرين ولا بفعليهما المقدرين؛ لأنّهما متعديان، ولا هي مقوية للعامل لضعفه بالفرعية إن قدر أنه المصدر، أو بالتزام الحذف إن قدر أنه
الفعل؛ لأن "لام" التقوية صالحة للسقوط، وهذه لا تسقط، لا يقال: سقيا زيدا ولا جدعا إيّاه، خلافًا لابن الحاجب ذكره في شرح المفصل، ولا هي ومخفوضها صفة للمصدر فتتعلق بالاستقرار؛ لأن الفعل لا يوصف، فكذا ما أقيم مقامه، وإنّما هي "لام" مبينة للمدعو له أو عليه، إن لم يكن معلوما من سياق، أو غيره، أو مؤكدة للبيان إن كان معلوما، وليس تقدير المحذوف، أعني كما زعم ابن عصفور؛ لأنّه يتعدّى بنفسه، بل التّقدير: إرادتي لزيد.
وينبني على أن هذه "اللّام" ليست متعلقة بالمصدر، انه لا يجوز في: زيد سقيا له أن ينصب زيد بعامل محذوف على شريطة التّفسير، ولو قلنا إن المصدر الحال محل فعل دون حرف مصدري يجوز تقديم معموله عليه، فتقول: زيدا ضربا، لأن الضّمير في المثال ليس معمولا له، ولا هو من جملته.
وأما تجويز بعضهم في قوله تعالى:{والّذين كفروا فتعسا لهم}، كون الّذين في موضع نصب على الاشتغال فوهم.
وقال ابن مالك في شرح باب النّعت من كتاب التسهيل: "اللّام" في: سقيا لك، متعلقة بالمصدر، وهي للتبيين، وفي هذا تهافت؛ لأنهم إذا أطلقوا القول بأن "اللّام" للتبيين، فإنّما يريدون بها أنّها متعلقة بمحذوف استؤنف للتبيين.
ومثال المبينة للفاعلية: تبًّا لزيد وويحا له، فإنّهما في معنى خسر وهلك، فإن رفعتهما بالابتداء "فاللّام" ومجرورها خبر، ومحلهما الرّفع، ولا تبيين لعدم تمام الكلام.
فإن قلت: تبًّا له وويح، فنصبت الأول، ورفعت الثّاني لم يجز لتخالف الدّليل والمدلول عليه، إذ "اللّام" في الأول للتبيين، و"اللّام" المحذوفة لغيره.
واختلف في قوله تعالى:{أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون}، فقيل "اللّام" زائدة، و"ما" فاعل، وقيل الفاعل ضمير مستتر راجع إلى البعث أو الإخراج، "فاللّام" للتبيين، وقيل هيهات مبتدأ بمعنى البعد، والجار والمجرور خبر،
وأما قوله تعالى:{وقالت هيت لك}، فيمن قرأ "بهاء" مفتوحة، و"ياء" ساكنة، و"تاء" مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، فهيت اسم فعل، ثمّ قيل مسمّاه فعل ماض، أي: تهيأت، "فاللّام" متعلقة به كما تتعلّق بمسماه لو صرح به، وقيل مسمّاه فعل أمر بمعنى أقبل أو تعال، "فاللّام" للتبيين، أي: إرادتي لك، أو أقول لك، وأما من قرأ (هئت) مثل جئت، فهو فعل بمعنى تهيأت، و"اللّام" متعلقة به.
وأما من قرأ كذلك ولكن جعل "التّاء" ضمير المخاطب، "فاللّام" للتبيين مثلها مع اسم الفعل، ومعنى تهيئة تيسّر انفرادها به، لا أنه قصدها بدليل:{وراودته}، فلا وجه لإنكار الفارسي هذه القراءة مع ثبوتها واتجاهها، ويحتمل أنّها أصل قراءة هشام: {هيت} بكسر "الهاء" و"بالياء" وبفتح "التّاء"، وتكون على إبدال "الهمزة".
تنبيه
الظّاهر أن لها من قول المتنبي:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
جار ومجرور متعلق بـ وجدت، لكن فيه تعدى فعل الظّاهر إلى ضميره المتّصل، كقولك: ضربه زيد وذلك ممتنع، فينبغي أن يقدر صفة في الأصل لسبلا، فلمّا قدم عليه صار حالا منه، كما أن قوله إلى أرواحنا كذلك، إذ المعنى سبلا مسلوكة إلى أرواحنا، ولك في لها وجه غريب، وهو أن تقدره جمعا للهاة، كحصاة وحصى.
وتكون المنايا مضافا إليه، ويكون إثبات اللهوات للمنايا استعارة شبهت بشيء يبتلع النّاس، ويكون أقام اللها مقام الأفواه لمجاورة اللهوات للفم.
وأما "اللّام" العاملة للجزم فهي "اللّام" الموضوعة للطلب، وحركتها الكسر، وسليم تفتحها، وإسكانها بعد "الفاء" و"الواو" أكثر من تحريكها، نحو:{فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي}، وقد تسكن بعد "ثمّ"، نحو: {ثمّ ليقضوا} في قراءة الكوفيّين، وقالون، والبزي، وفي ذلك رد على من قال إنّه خاص بالشعر.
ولا فرق في اقتضاء "اللّام" الطلبية للجزم بين كون الطّلب أمرا، نحو:{لينفق ذو سعة}، أو دعاء، نحو:{ليقض علينا ربك}، أو التماسا، كقولك لمن يساويك: ليفعل فلان كذا، إذا لم ترد الاستعلاء عليه، وكذا لو أخرجت عن الطّلب إلى غيره، كالّتي يراد بها وبمصحوبها الخبر، نحو:{من كان في الضّلالة فليمدد له الرّحمن مدا}،{اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم}، أي: فيمد، ونحمل أو التهديد، نحو:{ومن شاء فليكفر}، وهذا هو معنى الأمر في:{اعملوا ما شئتم}، وأما:{ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا}، فيحتمل "اللامان" منه التّعليل، فيكون ما بعدهما منصوبًا، والتهديد فيكون مجزومًا، ويتعيّن الثّاني في "اللّام" الثّانية في قراءة من سكنها، فيترجح بذلك أن تكون "اللّام" الأولى كذلك، ويؤيّده "أن" بعدهما{فسوف يعلمون}، وأما: {وليحكم أهل الإنجيل}، فيمن قرأ بسكون "اللّام" فهي "لام" الطّلب، لأنّه يقرأ بسكون "الميم"، ومن كسر "اللّام" وهو حمزة، فهي "لام" التّعليل؛ لأنّه يفتح "الميم"، وهذا التّعليل إمّا معطوف على تعليل آخر متصيد من المعنى؛ لأن قوله تعالى:{وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور}، معناه: وآتيناه الإنجيل للهدى والنور، ومثله:{إنّا زينا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب وحفظا}؛ لأن المعنى: إنّا خلقنا الكواكب في السّماء زينة وحفظا، وإمّا متعلق بفعل مقدّر مؤخر، أي: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله أنزله، ومثله:{وخلق الله السّماوات والأرض بالحقّ ولتجزى كل نفس}، أي: وللجزاء خلقهما، وقوله سبحانه:{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض وليكون من الموقنين}، أي: وأريناه ذلك، وقوله تعالى:{هو عليّ هين ولنجعله آية للنّاس}، أي: وخلقناه من غير أب.
وإذا كان مرفوع فعل الطّلب فاعلا مخاطبا استغني عن "اللّام" بصيغة افعل غالبا، نحو: قم، واقعد، وتجب "اللّام" إن انتفت الفاعلية، نحو: لتعن بحاجتي، أو الخطاب، نحو: ليقم زيد أو كلاهما، نحو: ليعن زيد بحاجتي، ودخول "اللّام" على فعل المتكلّم قليل، سواء أكان المتكلّم مفردا، نحو قوله عليه الصّلاة والسّلام: «قوموا فلأصل لكم»، أو معه غيره ،كقوله تعالى:{وقال الّذين كفروا للّذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم}، وأقل منه دخولها في فعل الفاعل المخاطب، كقراءة جماعة: (فبذلك فلتفرحوا)، وفي الحديث: «لتأخذوا مصافكم»،
وقد تحذف "اللّام" في الشّعر، ويبقى عملها، كقوله:
فلا تستطل مني بقائي ومدتي ... ولكن يكن للخير منك نصيب
وقوله:
محمّد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا
أي: ليكن، ولتفد، والتبال الوبال، أبدلت "الواو" المفتوحة "تاء"، مثل: تقوى.
ومنع المبرد حذف "اللّام" وإبقاء عملها حتّى في الشّعر، وقال في البيت الثّاني: إنّه لا يعرف قائله مع احتماله؛ لأن يكون دعاء بلفظ الخبر؛ نحو: يغفر الله لك، ويرحمك الله، وحذفت "الياء" تخفيفًا، واجتزئ عنها بالكسرة.
كقوله:
... دوامي الأيد يخبطن السريحا
قال وأما قوله:
على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى
فهو على قبحه جائر؛ لأنّه عطف على المعنى، إذ اخمشي ولتخمشي بمعنى واحد.
وهذا الّذي منعه المبرد في الشّعر أجازه الكسائي في الكلام لكن بشرط تقدم قل وجعل، منه: {قل لعبادي الّذين آمنوا يقيموا الصّلاة}، أي: ليقيموها.
ووافقه ابن مالك في شرح الكافية، وزاد عليه أن ذلك يقع في النثر قليلا بعد القول الخبري، كقوله:
قلت لبواب لديه دارها ... تأذن فإنّي حمؤها وجارها
أي: لتأذن، فحذف "اللّام"، وكسر حرف المضارعة، قال: وليس الحذف بضرورة لتمكنه من أن يقول ائذن. انتهى.
قيل وهذا تخلص من ضرورة لضرورة، وهي إثبات "همزة" الوصل في الوصل، وليس كذلك لأنّهما بيتان لا بيت مصرع، "فالهمزة" في أول البيت لا في حشوه، بخلافها في قوله:
لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراقع
والجمهور على أن الجزم في الآية مثله في قولك: ائتني أكرمك، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: للخليل وسيبويه أنه بنفس الطّلب لما تضمنه من معنى "إن" الشّرطيّة، كما أن أسماء الشّرط إنّما جزمت لذلك.
والثّاني: للسيرافي والفارسي أنه بالطّلب لنيابته مناب الجازم الّذي هو الشّرط المقدر، كما أن النصب بضربا في قولك: ضربا زيدا، لنيابته عن اضرب، لا لتضمّنه معناه.
والثّالث: للجمهور، أنه بشرط مقدّر بعد الطّلب، وهذا أرجح من الأول؛ لأن الحذف والتضمين وإن اشتركا في أنّهما خلاف الأصل، لكن في التّضمين تغيير معنى الأصل، ولا كذلك الحذف، وأيضًا فإن تضمين الفعل معنى الحرف، إمّا غير واقع أو غير كثير.
ومن الثّاني لأن نائب الشّيء يؤدى معناه، والطلب لا يؤدى معنى الشّرط.
وأبطل ابن مالك بالآية أن يكون الجزم في جواب شرط مقدّر؛ لأن تقديره يستلزم ألا يتخلّف أحد من المقول له ذلك عن الامتثال، ولكن التّخلّف واقع، وأجاب ابنه بأن الحكم مسند إليهم على سبيل الإجمال لا إلى كل فرد.
فيحتمل أن الأصل يقم أكثرهم، ثمّ حذف المضاف، وأنيب عنه المضاف إليه، فارتفع واتصل بالفعل، وباحتمال أنه ليس المراد بالعباد الموصوفين بالإيمان مطلقًا، بل المخلصين منهم، وكل مؤمن مخلص قال له الرّسول: أقم الصّلاة أقامها.
وقال المبرد التّقدير: قل لهم أقيموا يقيموا، والجزم في جواب أقيموا المقدر، لا في جواب قل.
ويرده أن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إمّا في الفعل والفاعل، نحو: ائتني أكرمك، أو في الفعل، نحو: أسلم تدخل الجنّة، أو في الفاعل، نحو: قم أقم، ولا يجوز أن يتوافقا فيهما، وأيضًا فإن الأمر المقدر للمواجهة، ويقيموا للغيبة، وقيل يقيموا مبنيّ لحلوله محل أقيموا، وهو مبنيّ وليس بشيء.
وزعم الكوفيّون وأبو الحسن أن: "لام" الطّلب حذفت حذفا مستمرا، في نحو: قم واقعد، وأن الأصل: لتقم ولتقعد، فحذفت "اللّام" للتّخفيف، وتبعها حرف المضارعة، وبقولهم أقول لأن الأمر معنى حقه أن يؤدى بالحرف، ولأنّه أخو النّهي، ولم يدل عليه إلّا بالحرف، ولأن الفعل إنّما وضع لتقييد الحدث بالزّمان المحصل، وكونه أمرا أو خبرا خارج عن مقصوده، ولأنّهم قد نطقوا بذلك الأصل،كقوله:
لتقم أنت يابن خير قريش ...
وكقراءة جماعة: (فبذلك فلتفرحوا)، وفي الحديث: «لتأخذوا مصافكم»، ولأنك تقول أغز واخش وارم واضربا واضربوا واضربي، كما تقول في الجزم، ولأن البناء لم يعهد كونه بالحذف، ولأن المحقّقين على أن أفعال الإنشاء مجرّدة عن الزّمان، كبعت وأقسمت وقبلت، وأجابوا عن كونها مع ذلك أفعالا بأن تجردها عارض لها عند نقلها عن الخبر، ولا يمكنهم ادّعاء ذلك، في نحو: قم؛ لأنّه ليس له حالة غير هذه، وحينئذٍ فتشكل فعليته، فإذا ادعي أن أصله لتقم كان الدّال على الإنشاء "اللّام" لا الفعل.
وأما "اللّام" غير العاملة فسبع:
إحداها: "لام" الابتداء.
وفائدتها أمران: توكيد مضمون الجملة، ولهذا زحلقوها في باب "إن" عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين، وتخليص المضارع للحال كذا قال الأكثرون، واعترض ابن مالك الثّاني بقوله تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة}، {قال إنّي ليحزنني أن تذهبوا به}، فإن الذّهاب كان مستقبلا، فلو كان الحزن حالا لزم تقدم الفعل في الوجود على فاعله مع أنه أثره، والجواب أن الحكم واقع في ذلك اليوم لا محالة فنزل منزل الحاضر المشاهد، وأن التّقدير قصد أن تذهبوا، والقصد حال، وتقدير أبي حيّان قصدكم أن تذهبوا مردود بأنّه يقتضي حذف الفاعل لأن {أن تذهبوا} على تقديره منصوب.
وتدخل باتّفاق في موضعين:
أحدهما: المبتدأ، نحو: {لأنتم أشد رهبة}.
والثّاني: بعد "إن"، وتدخل في هذا الباب على ثلاثة باتّفاق الاسم، نحو: {إن ربّي لسميع الدّعاء}، والمضارع لشبهه به، نحو: {وإن ربك ليحكم بينهم}، والظرف، نحو: {وإنّك لعلى خلق عظيم}.
وعلى ثلاثة باختلاف:
أحدها: الماضي الجامد، نحو: "إن" زيدا لعسى أن يقوم، أو لنعم الرجل.
قاله أبو الحسن ووجهه أن الجامد يشبه الاسم، وخالفه الجمهور.
والثّاني: الماضي المقرون "بقد" قاله الجمهور، ووجهه أن "قد" تقرب الماضي من الحال فيشبه المضارع المشبه للاسم، وخالف في ذلك خطاب، ومحمّد بن مسعود الغزني، وقالا إذا قيل: "إن" زيدا "لقد" قام، فهو جواب لقسم مقدّر.
والثّالث: الماضي المتصرف المجرّد من "قد" أجازه الكسائي وهشام على إضمار "قد"، ومنعه الجمهور، وقالوا: إنّما هذه "لام" القسم، فمتى تقدم فعل القلب فتحت "همزة" "ان"، كـ علمت "أن" زيدا لقام، والصّواب عندهما الكسر.
واختلف في دخولها في غير باب "إن" على شيئين:
أحدهما: خبر المبتدأ المتقدّم، نحو: لقائم زيد، فمقتضى كلام جماعة من النّحويين الجواز، وفي أمالي ابن الحاجب "لام" الابتداء يجب معها المبتدأ.
الثّاني: الفعل، نحو: ليقوم زيد: فأجاز ذلك ابن مالك والمالقي وغيرهما.
زاد المالقي الماضي الجامد، نحو:{لبئس ما كانوا يعملون}، وبعضهم المتصرف المقرون "بقد"، نحو:{ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل}،{لقد كان في يوسف وإخوته آيات}، والمشهور أن هذه "لام" القسم.
وقال أبو حيّان في:{ولقد علمتم}، هي "لام" الابتداء مفيدة لمعنى التوكيد، ويجوز أن يكون قبلها قسم مقدّر، وألا يكون انتهى.
ونصّ جماعة على منع ذلك كله، قال ابن الخباز في شرح الإيضاح: لا تدخل "لام" الابتداء على الجمل الفعلية إلّا في باب "إن". انتهى.
وهو مقتضى ما قدمناه عن ابن الحاجب، وهو أيضا قول الزّمخشريّ قال في تفسير: {ولسوف يعطيك ربك}، "لام" الابتداء لا تدخل إلّا على المبتدأ والخبر.
وقال في: (لأقسم)، هي "لام" الابتداء دخلت على مبتدأ محذوف، ولم يقدرها "لام" القسم؛ لأنّها عنده ملازمة "للنون"، وكذا زعم في: {ولسوف يعطيك ربك}، أن المبتدأ مقدّر، أي: ولأنت سوف يعطيك ربك.
وقال ابن الحاجب: "اللّام" في ذلك "لام" التوكيد، وأما قول بعضهم إنّها "لام" الابتداء، وإن المبتدأ مقدّر بعدها ففاسد من جهات، إحداها: أن "اللّام" مع الابتداء "كقد" مع الفعل، و"إن" مع الاسم، فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما، كذلك "اللّام" بعد حذف الاسم .
والثّانية: أنه إذا قدر المبتدأ في نحو: لسوف يقوم زيد، يصير التّقدير: لزيد سوف يقوم زيد، ولا يخفى ما فيه من الضعف.
والثّالثة: أنه يلزم إضمار لا يحتاج إليه الكلام انتهى.
وفي الوجهين الأخيرين نظرأ لأن تكرار الظّاهر إنّما يقبح إذا صرح بهما؛ ولأن النّحويين قدروا مبتدأ بعد "الواو"، في نحو: قمت وأصك عينه، وبعد "الفاء"، في نحو:{ومن عاد فينتقم الله منه}، وبعد "اللّام" في نحو:{لا أقسم بيوم القيامة}، وكل ذلك تقدير لأجل الصّناعة دون المعنى، فكذلك "ههنا".
وأما الأول فقد قال جماعة في:{إن هذان لساحران}، إن التّقدير: لهما ساحران، فحذف المبتدأ، وبقيت "اللّام"؛ ولأنّه يجوز على الصّحيح نحو: لقائم زيد، وإنّما يضعف قول الزّمخشريّ أن فيه تكلفين لغير ضرورة، وهما تقدير محذوف، وخلع "اللّام" عن معنى الحال لئلّا يجتمع دليلا الحال والاستقبال، وقد صرح بذلك في تفسير:{لسوف أخرج حيا}، ونظره بخلع "اللّام" عن التّعريف، وإخلاصها للتعويض في يالله، وقوله إن "لام" القسم مع المضارع لا تفارق "النّون" ممنوع، بل تارة تجب "اللّام" وتمتنع "النّون"، وذلك مع التّنفيس كالآية، ومع تقديم المعمول بين "اللّام" والفعل، نحو:{ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون}، ومع كون الفعل للحال، نحو:{لا أقسم}، وإنّما قدر البصريون هنا مبتدأ؛ لأنهم لا يجيزون لمن قصد الحال أن يقسم إلّا على الجملة الاسمية.
وتارة يمتنعان، وذلك مع الفعل المنفيّ، نحو:{تالله تفتأ}، وتارة يجبان، وذلك فيما بقي، نحو:{وتالله لأكيدن أصنامكم}.
مسألة
"للام" الابتداء الصدرية، ولهذا علقت العامل في: علمت لزيد منطلق، ومنعت من النصب على الاشتغال، في نحو: زيد لأنا أكرمه، ومن أن يتقدّم عليها الخبر، في نحو: لزيد قائم، والمبتدأ في نحو: لقائم زيد، فأما قوله:
أم الحليس لعجوز شهربه ...
فقيل "اللّام" زائدة، وقيل للابتداء، والتّقدير: لهي عجوز.
وليس لها الصدرية في باب "إن"، لأنّها فيه مؤخرة من تقديم، ولهذا تسمى "اللّام" المزحلقة، والمزحلقة أيضا، وذلك لأن أصل: "إن" زيدا لقائم، "لإن" زيدا قائم، فكرهوا افتتاح الكلام بتوكيدين، فأخروا "اللّام" دون "إن"؛ لئلّا يتقدّم معمول الحرف عليه، وإنّما لم ندع أن الأصل: "إن" لزيدا قائم؛ لئلّا يحول ماله الصّدر بين العامل والمعمول، ولأنّهم قد نطقوا "باللّام" مقدّمة على "إن" في نحو قوله:
... لهنك من برق عليّ كريم
ولاعتبارهم حكم صدريتها فيما قبل "إن" دون ما بعدها دليل الأول أنّها تمنع من تسلط فعل القلب على "أن" ومعموليها، ولذلك كسرت في نحو:{والله يعلم إنّك لرسوله}، بل قد أثرت هذا المنع مع حذفها في قول الهذليّ:
فغبرت بعدهم بعيش ناصب ... وإخال إنّي لاحق مستتبع
الأصل: "إنّي" للاحق، فحذفت "اللّام" بعدما علقت إخال، وبقى الكسر بعد حذفها كما كان مع وجودها، فهو ممّا نسخ لفظه، وبقي حكمه.
ودليل الثّاني أن عمل "إن" يتخطاها، تقول: "إن" في الدّار لزيدا، و"إن" زيدا لقائم، وكذلك يتخطاها عمل العامل بعدها، نحو: "إن" زيدا طعامك لآكل، ووهم بدر الدّين ابن مالك فمنع من ذلك، والوارد منه في التّنزيل كثير، نحو:{إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير}.
تنبيه
"إن" زيدا لقام أو ليقومن، "اللّام" جواب قسم مقدّر لا "لام" الابتداء، فإذا دخلت عليها علمت مثلا فتحت "همزتها"، فإن قلت: لقد قام زيد، فقالوا هي "لام" الابتداء، وحينئذٍ يجب كسر "الهمزة"، وعندي أن الأمرين محتملان.
فصل
وإن خففت "إن"، نحو:{وإن كانت لكبيرة}،{إن كل نفس لما عليها حافظ}، "فاللّام" عند سيبويه، والأكثرين "لام" الابتداء أفادت مع إفادتها توكيد النّسبة، وتخليص المضارع للحال، الفرق بين "إن" المخففة من الثّقيلة و"إن" النافية، ولهذا صارت لازمة بعد أن كانت جائزة، اللّهمّ إلّا أن يدل دليل على قصد الإثبات، كقراءة أبي رجاء:{وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدّنيا} بكسر "اللّام"، أي: للّذي.
وكقوله:
إن كنت قاضي نحبي يوم بينكم ... لو لم تمنوا بوعد غير توديع
ويجب تركها مع نفي الخبر، كقوله:
إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة ... وإن هو لم يعدم خلاف معاند
وزعم أبو عليّ وأبو الفتح وجماعة أنّها "لام" غير "لام" الابتداء اجتلبت للفرق، قال أبو الفتح قال لي أبو عليّ، ظننت أن فلانا نحوي محسن حتّى سمعته يقول: إن "اللّام" الّتي تصحب "إن" الخفيفة هي "لام" الابتداء، فقلت له أكثر نحويي بغداد على هذا انتهى.
وحجّتهم دخولها على الماضي المتصرف، نحو: "إن" زيد لقام، وعلى منصوب الفعل المؤخر عن ناصبه في نحو:{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}، وكلاهما لا يجوز مع المشدّدة.
وزعم الكوفيّون أن "اللّام" في ذلك كله بمعنى "إلّا"، وأن "إن" قبلها نافية، واستدلّوا على مجيء "اللّام" للاستثناء، بقوله:
أمسى أبان ذليلا بعد عزته ... وما أبان لمن أعلاج سودان
وعلى قولهم يقال قد علمنا إن كنت لمؤمنا بكسر "الهمزة"؛ لأن النافية مكسورة دائما، وكذا على قول سيبويه لأن "لام" الابتداء تعلق العامل عن العمل، وأما على قول أبي عليّ وأبي الفتح فتفتح.
القسم الثّاني: "اللّام" الزّائدة، وهي الدّاخلة في خبر المبتدأ، في نحو قوله:
أم الحليس لعجوز شهربه
وقيل الأصل: لهي عجوز.
وفي خبر "أن" المفتوحة كقراءة سعيد بن جبير:{إلّا إنّهم ليأكلون الطّعام} بفتح "الهمزة"، وفي خبر "لكن" في قوله:
... ولكنني من حبها لعميد
وليس دخول "اللّام" مقيسا بعد "أن" المفتوحة خلافًا للمبرد، ولا بعد "لكن" خلافًا للكوفيين، ولا "اللّام" بعدهما "لام" الابتداء خلافًا له ولهم، وقيل "اللامان" للابتداء على "أن" الأصل، و"لكن" "إنّني" فحذفت "همزة" "إن" للتّخفيف، و"نون" "لكن" لذلك لثقل اجتماع الأمثال، وعلى أن "ما" في قوله:
... وما أبان لمن أعلاج سودان
استفهام، وتمّ الكلام عند أبان ثمّ ابتدأ لمن أعلاج، أي بتقدير: لهو من أعلاج.
وقيل هي "لام" زيدت في خبر "ما" النافية، وهذا المعنى عكس المعنى على القولين السّابقين، وممّا زيدت فيه أيضا خبر "زال" من قوله:
وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها ... لكالهائم المقصى بكل مراد
وفي المفعول الثّاني لأرى في قول بعضهم أراك لشاتمي ونحو ذلك .
قيل وفي مفعول يدعو من قوله تعالى:{يدعو لمن ضره أقرب من نفعه}.
وهذا مردود لأن زيادة هذه "اللّام" في غاية الشذوذ، فلا يليق تخريج التّنزيل عليه.
ومجموع ما قيل في "اللّام" في هذه الآية قولان:
أحدهما: هذا وهو أنّها زائدة وقد بينا فساده.
والثّاني: أنّها "لام" الابتداء، وهو الصّحيح ،ثمّ اختلف هؤلاء فقيل إنّها مقدّمة من تأخير، والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه، "فمن" مفعول، وضره أقرب مبتدأ، وخبر والجملة صلة "لمن" وهذا بعيد؛ لأن "لام" الابتداء لم يعهد فيها التّقدّم عن موضعها، وقيل إنّها في موضعها، وإن "من" مبتدأ، و {لبئس المولى} خبره، لأن التّقدير: لبئس المولى هو، وهو الصّحيح، ثمّ اختلف هؤلاء في مطلوب يدعو على أربعة أقوال:
أحدها: أنّها لا مطلوب لها، وأن الوقف عليها، وأنّها إنّما جاءت توكيدا ليدعو في قوله:{يدعو من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه}، وفي هذا القول دعوى خلاف الأصل مرّتين، إذ الأصل عدم التوكيد، والأصل ألا يفصل المؤكّد من توكيده، ولا سيما في التوكيد اللّفظيّ.
والثّاني: أن مطلوبه مقدم عليه، وهو:{ذلك هو الضلال} على أن ذلك موصول، وما بعده صلة وعائد، والتّقدير: يدعو الّذي هو الضلال البعيد، وهذا الإعراب لا يستقيم عند البصريين؛ لأن "ذا" لا تكون عندهم موصولة إلّا إذا وقعت بعد "ما" أو "من" الاستفهاميتين.
والثّالث: أن مطلوبه محذوف، والأصل: يدعوه، والجملة حال، والمعنى ذلك هو الضلال البعيد مدعوا.
والرّابع: أن مطلوبه الجملة بعده، ثمّ اختلف هؤلاء على قولين:
أحدهما: أن يدعو بمعنى يقول، والقول يقع على الجمل.
والثّاني: أن يدعو ملموح فيه معنى فعل من أفعال القلوب، ثمّ اختلف هؤلاء على قولين:
أحدهما: أن معناه يظنّ؛ لأن أصل يدعو معناه يسمّي، فكأنّه قال يسمّي من ضره أقرب من نفعه إلهًا، ولا يصدر ذلك عن يقين اعتقاد، فكأنّه قيل يظنّ، وعلى هذا القول فالمفعول الثّاني محذوف كما قدرنا.
والثّاني: أن معناه يزعم؛ لأن الزّعم قول مع اعتقاد، ومن أمثلة "اللّام" الزّائدة قولك: لئن قام زيد أقم، أو فأنا أقوم، أو أنت ظالم لئن فعلت، فكل ذلك خاص بالشعر، وسيأتي توجيهه والاستشهاد عليه.
الثّالث: "لام" الجواب، وهي ثلاثة أقسام: "لام" جواب "لو"، نحو:{لو تزيلوا لعذبنا الّذين كفروا}،{لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا}، و"لام" جواب "لولا"، نحو:{ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، و"لام" جواب القسم، نحو:{تالله لقد آثرك الله علينا}، {وتالله لأكيدن أصنامكم}.
وزعم أبو الفتح ان "اللّام" بعد "لو" و"لولا" و"لوما" "لام" جواب قسم مقدّر، وفيه تعسف نعم الأولى في:{ولو أنهم آمنوا واتّقوا لمثوبة من عند الله خير}، أن تكون "اللّام" "لام" جواب قسم مقدّر، بدليل كون الجملة اسمية، وأما القول بأنّها "لام" جواب "لو"، وأن الاسمية استعيرت مكان الفعلية، كما في قوله:
وقد جعلت قلوص بني سهيل ... من الأكوار مرتعها قريب
ففيه تعسف.
وهذا الموضع ممّا يدل عندي على ضعف قول أبي الفتح، إذ لو كانت "اللّام" بعد "لو" أبدا في جواب قسم مقدّر لكثر مجيء الجواب بعد "لو" جملة اسمية، نحو: "لو" جاءني لأنا أكرمه، كما يكثر ذلك في باب القسم.
الرّابع: "اللّام" الدّاخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبنيّ على قسم قبلها لا على الشّرط، ومن ثمّ تسمى "اللّام" المؤذنة، وتسمى الموطئة أيضا؛ لأنّها وطأت الجواب للقسم، أي: مهدته له، نحو:{لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار}، وأكثر ما تدخل على "إن" وقد تدخل على غيرها.
كقوله:
لمتى صلحت ليقضين لك صالح ... ولتجزين إذا جزيت جميلا
وعلى هذا فالأحسن في قوله تعالى:{لما آتيتكم من كتاب}، أن لا تكون موطئة، و"ما" شرطيّة، بل للابتداء، و"ما" موصولة لأنّه حمل على الأكثر، وأغرب ما دخلت عليه "إذ"، وذلك لشبهها "بإن"، أنشد أبو الفتح:
غضبت عليّ لأن شربت بجزة ... فلإذ غضبت لأشربن بخروف
وهو نظير دخول "الفاء" في: {فإذ لم يأتوا بالشّهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون}، شبهت "إذ" "بإن"، فدخلت "الفاء" بعدها كما تدخل في جواب الشّرط، وقد تحذف مع كون القسم مقدرا قبل الشّرط، نحو: {وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون}، وقول بعضهم ليس هنا قسم مقدّر، وإن الجملة الاسمية جواب الشّرط على إضمار "الفاء"، كقوله:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ...
مردود لأن ذلك خاص بالشعر.
وكقوله تعالى:{وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسن}، فهذا لا يكون إلّا جوابا للقسم، وليست موطئة في قوله:
لئن كانت الدّنيا عليّ كما أرى ... تباريح من ليلى فللموت أروح
وقوله:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقا ... أصمّ في نهار القيظ للشمس باديا
وقوله:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا ... قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
بل هي في ذلك كله زائدة كما تقدّمت الإشارة إليه.
أما الأوّلان فلأن الشّرط قد أجيب بالجملة المقرونة "بالفاء" في البيت الأول، وبالفعل المجزوم في البيت الثّاني، فلو كانت "اللّام" للتوطئة لم يجب إلّا القسم هذا هو الصّحيح، وخالف في ذلك الفراء، فزعم أن الشّرط قد يجاب مع تقدم القسم عليه.
أما الثّالث فلأن الجواب قد حذف مدلولا عليه بما قبل "إن"، فلو كان ثمّ قسم مقدّر لزم الإجحاف بحذف جوابين.
الخامس: "لام" "أل" كالرّجل والحارث، وقد مضى شرحها.
السّادس: "اللّام" اللاحقة لأسماء الإشارة للدلالة على البعد أو على توكيده على خلاف في ذلك، وأصلها السّكون كما في: تلك، وإنّما كسرت في ذلك لالتقاء الساكنين.
السّابع: "لام" التّعجّب غير الجارة، نحو: لظرف زيد، ولكرم عمرو، بمعنى "ما" أظرفه، و"ما" أكرمه، ذكره ابن خالويه في كتابه المسمّى بالجمل.
وعندي أنّها إمّا "لام" الابتداء دخلت على الماضي لشبهه لجموده بالاسم، وإمّا "لام" جواب قسم مقدّر). [مغني اللبيب: 3 / 147 - 282]