قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("كأن"
حرف، ينصب الاسم، ويرفع الخبر، من أخوات "إن". ومذهب الخليل، وسيبويه، والأخفش، وجمهور البصريين، والفراء، أنها مركبة من "كاف" التشبيه و"إن". فأصل الكلام عندهم: "إن" زيداً كالأسد. ثم قدما "الكاف"، اهتماماً بالتشبيه، ففتحت "إن"، لأن المكسورة لا يدخل عليها حرف الجر. قال الزمخشري: والفصل بينه وبين الأصل أنك ههنا بان كلامك على التشبيه، من أول الأمر. وثم بعد مضي صدره على الإثبات.
وهل تتعلق "الكاف"، على هذا، بشيء؟ قال أبو الفتح: لا تتعلق بشيء، وليست بزائدة، لأن معنى التشبيه فيها موجود. وقد بقي النظر في "أن" التي دخلت عليها؛ هل هي مجرورة بها أو غير مجرورة؟ فأقوى الأمرين عندي أن تكون مجرورة "بالكاف". انتهى. وقال الزجاج: "الكاف" في موضع رفع. فإذا قلت "كأني" أخوك ففي الكلام عنده حذف، وتقديره: كأخوتي إياك موجود. لأن "أن" و"ما" عملت فيه بتقدير مصدر. قال ابن عصفور: وما ذهب إليه أبو الفتح أظهر، من جهة أن العرب لم تظهر ما ادعي أبو إسحاق إضماره.
قلت: الصحيح أن "الكاف" لا تتعلق بشيء، وأن ما بعدها ليس في موضع جر بها، لأن التركيب صير أن و"الكاف" حرفاً واحداً. وفي هذا الموضع بحث، لا يليق بهذا المختصر.
وذهب بعضهم إلى أن "كأن" بسيطة غير مركبة. واختاره صاحب رصف المباني، ونسبه إلى أكثرهم، واستدل له بأوجه:
منها: أن الأصل البساطة، والتركيب طارئ.
ومنها: أنه لو كان مركباً لكانت "الكاف" حرف جر، فيلزمها ما تتعلق به، إذ ليست بزائدة.
ومنها: أن "الكاف" إذا كانت داخلة على "أن" لزم أن تكون وما عملت فيه في موضع مصدر، مخفوض "بالكاف"، فترجع الجملة التامة جزء جملة، فيكون التقدير في "كأن" زيداً قائم: كقيام زيد. فيحتاج إلى ما يتم الجملة، و"كأن" زيداً قائم كلام قائم بنفسه، لا محاله.
ومنها: أنه لا يتقدر بالتقديم والتأخير، في بعض المواضع. فتقول: "كأن" زيداً قام و"كأن" زيداً في الدار، و"كأن" زيداً عندك، و"كأن" زيداً أبوه قائم.
قلت: وفي نسبة القول بالبساطة إلى أكثرهم نظر. فإن الظاهر أن الأكثر يقولون بالتركيب. ولعدم اشتهار القول بالبساطة، قال ابن هشام: لا خلاف في أن "كأن" مركبة، من "أن" و"كاف" التشبيه.
وجملة معاني "كأن" أربعة معان:
الأول: التشبيه. ولم يثبت لها أكثر البصريين غيره. وقال ابن مالك: هي للتشبيه المؤكد؛ فإن الأصل "إن" زيداً كالأسد، فقدمت "الكاف"، وفتحت "أن"، وصار الحرفان واحداً، مدلولاً به على التشبيه، والتوكيد.
الثاني: التحقيق. ذهب الكوفيون، والزجاجي، إلى أنها قد تكون للتحقيق، دون تشبيه. وجعلوا منه قول عمر بن أبي ربيعة: كأنني، حين أمسي لا تكلمني ... ذو بغية، يشتهي ما ليس موجوداً
ورد بأن التشبيه فيه بين بأدنى تأمل. واستدلوا أيضاً، بقول الشاعر:
فأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأن الأرض ليس بها هشام
وأجيب بأن بالمعنى: أن بطن مكة كان حقه ألا يقشعر، لأن هشاماً في أرضه، وهو قائم مقام الغيث، فلما اقشعر صارت أرضه "كأنها" ليس بها هشام، فهي للتشبيه. وقال ابن مالك: يتخرج على أن هشاماً وإن مات فهو باق ببقاء من خلفه، سائراً بسيرته. قال: وأجود من هذا أن تجعل "الكاف" من "كأن" للتعليل، في هذا الموضع، وهي المرادفة "للام"، "كأنه" قيل: "لأن" الأرض ليس بها هشام.
الثالث: أن تكون للشك، بمنزلة ظننت. ذهب إلى ذلك الكوفيون، والزجاجي. قالوا: إن كان خبرها اسماً جامداً كانت للتشبيه. وإن كان مشتقاً كانت للشك، بمنزلة ظننت. وإلى هذا ذهب ابن الطراوة، وابن السيد. قال ابن السيد: إذا كان خبرها فعلاً، أو جملة، أو صفة، فهي للظن والحسبان، نحو: "كأن" زيداً قام، و"كأن" زيداً أبوه قائم، و"كأن" زيداً قائم.
والصحيح أنها للتشبيه؛ فإذا قلت "كأن" زيداً قائم كنت قد شبهت زيداً، وهو غير قائم، به قائماً. والشيء يشبه، في حالة ما، به في حالة أخرى. قاله ابن ولاد. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: "كأن" هيئة زيد هيئة قائم. فحذف. قاله أبو علي. قال بعضهم: والتوجيه الأول أظهر.
الرابع: التقريب. هذا مذهب الكوفيين؛ ذهبوا إلى أن "كأن" تكون للتقريب. وذلك في نحو: "كأنك" بالشتاء مقبل، و"كأنك" بالفرج آت، وقول الحسن البصري: "كأنك" بالدنيا لم تكن، و"كأنك" بالآخرة لم تزل. والمعنى على تقريب إقبال الشتاء، وإتيان الفرج، وزوال الدنيا، ووجود الآخرة.
والصحيح أن "كأن" في هذا كله للتشبيه. وخرج الفارسي هذه المثل، على أن "الكاف" في "كأنك" للخطاب، و"الباء" زائدة، والشتاء والفرج والدنيا والآخرة اسم "كأن". والتقدير: "كأن" الشتاء مقبل. وكذا في البواقي. وخرجه بعضهم على حذف مضاف، والتقدير: "كأن" زمانك بالشتاء مقبل، و"كأن" زمانك بالفرج آت.
ويتأول قول الحسن البصري، على أن "الكاف" اسم "كأن"، ولم تكن خبرها، وبالدنيا متعلق بالخبر. والتقدير: "كأنك" لم تكن بالدنيا. والضمير في تكن للمخاطب، وتكن تامة. ويحتمل أن تكون ناقصة، والتشبيه في الحقيقة للحالين.
وقال ابن عصفور: "الكاف" للخطاب، و"كأن" ملغاة، والشتاء مبتدأ، و"الباء" زائدة كما زيدت في بحسبك، ومقبل هو الخبر.
وخرج بعضهم قول الحسن، على أن "الكاف" اسم "كأن"، والمجرور هو الخبر، والجملة بعده حال، وإن لم يستغن الكلام عنها، لأن من الفضلات ما لا يتم الكلام إلا به، كقوله تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين}.
ومن أحكام "كأن" أنها قد تخفف. وإذا خففت لم يبطل عملها. وقال الزمخشري في المفصل: وتخفف، فيبطل عملها. قال
الشاعر:
ونحر، مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان
ومنهم من يعملها. وحمل ابن يعيش قوله يبطل عملها على معنى: يبطل ظاهراً، وتعمل في ضمير الشأن.
وقد أطلق بعضهم عليها أنها ملغاة. وقد فسر أبو موسى الإلغاء المذكور، فقال: ومعنى الإلغاء فيها معناه في "أن" المفتوحة. يعني أنها تكون عاملة في اسم مضمر، فسميت ملغاة، إذ لم يظهر عملها، لأن اسمها في الغالب منوي، كاسم "أن". وقد ورد ملفوظاً به، في قول الشاعر:
كأن وريده رشاءا خلب
وقول الآخر "كأن" ثدييه حقان، على إحدى الروايتين، وقول الآخر:
ويوماً، توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو، إلى وارق السلم
على رواية من مصب ظبية. وكلام ابن مالك في التسهيل يقتضي أن يكون ظهور اسمها مخصوصاً بالشعر. فإنه قال: وقد يبرز اسمها في الشعر. وأما على رواية "كأن" ظبية بالرفع فظبية خبر "كأن"، واسمها محذوف. والتقدير: "كأنها" ظبية. ويروى أيضاً بجر ظبية "بكاف" التشبيه، وأن زائدة.
و"لكأن" أحكام أخر، مذكورة في مواضعها من كتب النحو، لا حاجة إلى ذكرها، في هذا الموضع. والله عز وجل أعلم). [الجنى الداني:568 - 576]