بيان جواز النسخ
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (باب بيان النص على جواز النسخ للقرآن
قال الله – جلَّ ذكره -: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}.
قال ابن عباسٍ وغيره: معناه: يمحو ما يشاء من أحكام كتابه (فينسخه) ببدلٍ أو بغير بدل، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه، [ثم قال]: {وعنده أم الكتاب}.
قال ابن عباس: معناه: عنده ما ينسخ ويبدّل من الآي والأحكام، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدّل، كلٌّ في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ.
ومثل هذا المعنى (قال) قتادة وابن جريج وغيرهم في هذه الآية.
وقد قيل غير ذلك.
فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن.
وقد استدل جماعةٌ على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته}.
فبين أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول.
وهذا إنّما يدلّ على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرّسول من الباطل خاصةً، وليس يدل على جواز النّسخ فيما ينزله الله ويأمر به، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق –وهذا النسخ من قولهم: نسخت الرّيح الآثار، إذا أزالتها فلم يبق لواحدٍ منهما أثر.
ويدلّ على جواز النسخ للقرآن أيضًا قوله تعالى: {وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلم بما ينـزّل قالوا إنّما أنت مفترٍ}.
فهذا نصٌ ظاهر في (جواز) زوال حكم آيةٍ ووضع أخرى (موضعها).
وهذا النسخ من قولهم: نسخت الشمس الظل، إذا أزالته وحلت محله.
ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضًا قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها}.
فهذا نص ظاهر في جواز النّسخ للقرآن بالقرآن.
والمعنى على قراءة الجماعة: أن الله –جل ذكره- يخبر (عن) نفسه يقول: ما نرفع من حكم آيةٍ ونبقي تلاوتها أو ننسكها يا محمد فلا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم، أي نأت بآيةٍ أخرى هي (أصلح لكم وأسهل) في التعبّد، أو نأت بمثلها في العمل وأعظم في الأجر، فهذا قول صحيح معروف.
وقد قيل: إن معناها: ما نرفع من حكم آيةٍ وتلاوتها نأت بخير منها، أي أصلح لكم منها.
وفي هذه الآية (قراءات) بمعانٍ تقرب من (هذه المعاني) قد شرحناها في غير هذا الكتاب.
قال ابن زيد: إنساؤها: محوها وتركها.
ويدلّ على جواز النسخ أيضًا قوله تعالى: {لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا}، فمعلومٌ أن شريعة كل رسولٍ نسخت شريعةً من كان قبله.
ومن أبين ما يدلّ على جواز النسخ للشرائع: أن جميع الأنبياء لم
يكونوا أنبياء في أوّل أمرهم، ثم كانوا أنبياء، وأن ذرية آدم تناسلوا من الأخ مع أخته شريعةً أباحها الله تعالى له ثم نسخ ذلك فحرّمه.
وهذا ردٌّ على من أنكر النسخ للشرائع من اليهود وغيرهم، وهم مقرون أن الشحوم وكل ذي ظفرٍ كان حلالاً، ثم نسخ تحليل ذلك فحرّم عليهم في أشباهٍ لذلك كثيرة.
فأما قوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك}: فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها. وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض.
ومنه ما روي مما رفع من سورة الأحزاب وغيرها.
وهو من قولهم: نسخت الريح الآثار، أي أزالتها، فلا الريح بقيت ولا الآثار بقيت ) . [الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 60-64]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (الباب الثّاني: باب إثبات أنّ في القرآن منسوخًا
انعقد إجماع العلماء على هذا إلا أنّه قد شذّ من لا يلتفت إليه فحكى أبو جعفرٍ النّحّاس أنّ قومًا قالوا: ليس في القرآن ناسخٌ ولا منسوخٌ. وهؤلاء قومٌ لا يقرّون، لأنّهم خالفوا نصّ الكتاب، وإجماع الأمّة قال الله عز وجل: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها}.
وأخبرنا المبارك بن عليٍّ قال أخبرنا أحمد بن قريشٍ، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكيّ، قال: أخبرنا أبو بكرٍ محمّد بن إسماعيل بن العبّاس
الورّاق، قال: بنا: عبد اللّه بن أبي داود، وقال: حدّثنا محمّد بن عامر بن إبراهيم عن أبيه، عن نشهل بن سعيدٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: {يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت} قال:
في النّاسخ والمنسوخ قال ابن أبي داود: وحدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: {يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت} يقول: (يبدّل اللّه ما يشاء من القرآن فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدّله، وما يبدّل وما يثبت كلّ ذلك في كتاب).
قال ابن أبي داود: وحدّثنا يونس بن حبيبٍ، قال: حدّثنا أبو داود، وقال: حدّثنا همّامٌ، عن قتادة عن عكرمة في قوله: {يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت} قال: (ينسخ الآية بالآية فترفع، وعنده أمّ الكتاب، أصل الكتاب)
قال: وحدّثنا عليّ بن حربٍ، ومصعب بن محمّدٍ ويعقوب بن سفيان، قالوا: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى عن موسى بن عبيدة عن محمّد ابن كعب في قوله عز وجل: {يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت} قال: (نزلت في النّاسخ والمنسوخ).
قال: وحدّثنا محمّد بن الحسن قال: حدّثنا كثير بن يحيى، قال: حدثنا أبي، قالت: بنا يونس بن عبيدٍ، وهشام بن حسّانٍ جميعًا، عن محمّد بن سيرين {يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت} يرفعه، ويثبت ما يشاء فيدعه مقرًّا له.
قال: وحدثنا موسى بن هارون، قال حدثنا الحسين قال: بنا شيبان عن قتادة: ({منه آياتٌ محكماتٌ} قال: المحكمات النّاسخ الّذي يعمل به).
قال: وحدّثنا محمّد بن معمر: قال: بنا روحٌ، قال: حدّثنا الحسن بن علي ابن عفّان عن عامر بن الفرات عن أسباط عن السدي: ({يمحو اللّه ما يشاء ويثبت} ما يشاء من المنسوخ ويثبت من النّاسخ).
قال: وحدّثنا... {منه آياتٌ محكماتٌ} قال:... لم تنسخ). ورواه سفيان عن سلمة عن الضحاك، قال: (المحكمات الناسخ).
- أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا إسحاق بن أحمد الكاذيّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، رضي الله عنه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا وكيعٌ عن سلمة بن نبيطٍ عن الصّحابة قال: (المتشابه ما قد نسخ، والمحكمات ما لم ينسخ).
وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: "أبيٌّ أعلمنا بالمنسوخ"). [نواسخ القرآن:84- 90]