قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) : (- ذكر محنة أبي إسحاق المعتصم لأبي رحمة الله سمعت أبا الفضل يقول: قال أبي رحمة الله: لما كان في شهر رمضان ليلة تسع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم وأنا مقيّد بقيد واحد يوجه إليّ كل يوم رجلين سماهما أبي.
قال أبو الفضل: وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجام يكلماني ويناظراني فإذا أرادا الانصراف دعي بقيد فقيدت فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيّام وصار في رجلي أربعة أقياد.
فقال لي أحدهما في بعض الأيّام في كلام دار وسألته عن علم الله، فقال: علم الله مخلوق.
قلت: يا كافر كفرت.
فقال لي الرّسول الّذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين.
قال: فقلت إن هذا قد كفر وكان صاحبه الّذي يجيء معه خارج فلمّا دخل قلت إن هذا زعم أن علم الله مخلوق فنظر إليه كالمنكر عليه قال ثمّ انصرف
قال أبي: وأسماء الله في القرآن والقرآن من علم الله فمن زعم أن القران مخلوق فهو كافر ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر.
قال أبي: فلمّا كان ليلة الرّابعة بعد عشاء الأخرة وجه يعني المعتصم ببغا إلى إسحاق يأمره بحملي فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد أنّها والله نفسك إنه قد حلف أن لا يقتلك بالسّيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشّمس أليس قال الله تعالى {إنّا جعلناه قرآنًا عربيا} أفيكون مجعولا إلّا مخلوقا.
قال أبي: فقلت فقد قال الله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} أفخلقهم، قال فقال اذهبوا به.
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة فاحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق
فقال بغا لمحمد الحارس بالفارسيّة: ما تريدون من هذا، قال: يريدون منه أن يقول القرآن مخلوق.
فقال: ما أعرف شيئا من هذا إلّا قول لا إله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من النّبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: فلمّا صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق وحملت على دابّة والأقياد عليّ وما معي أحد يمسكني فجعلت أكاد أخر على وجهي حتّى انتهى بي إلى الدّار فأدخلت ثمّ خرج بي إلى حجرة فصيرت في بيت منها وأغلق عليّ الباب، واقعد عليه رجل وذلك في جوف اللّيل وليس في البيت سراج فاحتجت إلى الضّوء فمددت يدي أطلب شيئا فإذا بإناء فيه ماء وطشت فتهيأت للصّلاة وقمت أصلي، فلمّا أصبحت جاءني الرّسول فأخذ بيدي فأدخلني الدّار وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر وقد جمع أصحابه والدّار غاصة بأهلها فلمّا دنوت منه سلمت: فقال أدنه أدنه فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه ثمّ قال لي اجلس فجلست وقد أثقلتني الأقياد فلمّا مكثت هنيهة قلت: تأذن في الكلام.
قال: تكلم، قلت: إلى ما دعا إليه رسوله
قال: إلى شهادة أن لا اله إلّا الله
قال: ثمّ قلت إن جدك ابن عبّاس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على النّبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان باللّه تعالى فقال: أتدرون ما الإيمان، قالوا: الله ورسوله أعلم
قال: شهادة أن لا اله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله واقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم
حدثنا أبو الفضل قال: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثني أبو حمزة قال: سمعت بن عبّاس رضي الله عنه قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فذكر مثل ذلك
قال أبو الفضل قال أبي: فقال لي عند ذلك لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، ثمّ التفت إلى عبد الرّحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرّحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة.
قال أبي: فقلت في نفسي الله أكبر إن في هذا لفرجا للمسلمين، قال: ثمّ قال ناظروه وكلموه، ثمّ قال: يا عبد الرّحمن كلمه، فقال لي عبد الرّحمن: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول في علم الله. قال: فسكت.
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأرد على هذا ثمّ أقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به ذلك
فيقول لي بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلّا كما في كتاب الله أو سنة رسوله
قال: فقلت له تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ويقيد عليه
قال فقال ابن أبي دؤاد: فهو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع يا أمير المؤمنين وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم
قال فيقول لهم: ما تقولون
فيقولون: يا أمير المؤمنون هو ضال مضل مبتدع
قال: فلا يزالون يكلموني
وقال: وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، فقال لي إنسان منهم: قال الله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} فيكون محدثا إلّا مخلوقا.
قلت له: قال الله تعالى {ص والقرآن ذي الذّكر} فالذكر هو القرآن ويلك أو ليس فيها لا ألف ولا لام
قال فجعل بن سمّاعة لا يفهم ما أقول.
قال فجعل يقول لهم ما يقول، قال فقالوا إنه يقول كذا وكذا، قال فقال لي إنسان منهم: حديث خباب: (يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فانك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)
قال: فقلت نعم هكذا هو
قال: فجعل بن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظا عليه
قال أبي: فقال بعضهم: أليس قال خالق كل شيء
قال: قلت قد قال تدمر كل شيء فدمرت ألا ما أراد الله.
وقال: فقال لي بعضهم فيما يقول وذكر حديث عمران بن حصين: أن الله تبارك وتعالى كتب الذّكر، فقال: إن الله خلق الذّكر
قال: فقلت هذا خطأ حدثنا غير واحد كتب الذّكر
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد يتكلّم فلمّا قارب الزّوال قال لهم قوموا ثمّ حبس عبد الرّحمن بن إسحاق فخلا بي وبعبد الرّحمن فجعل يقول لي أما كنت تعرف صالح الرّشيديّ كان مؤدبي وكان في هذا الموضع جالس وأشار إلى ناحية من الدّار قال فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ، قال أبي ثمّ جعل يقول لي ما أعرفك ألم تكن تأتينا _
فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازم لمنزله
قال: فجعل يقول والله إنه لفقيه وإنه لعالم وممّا يسرني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي ولا وطأن عقبة ولا ركبن إليه بجندي
قال: ثمّ التفت إليّ فيقول ويحك يا أحمد ما ما تقول؟
قال: فأقول يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة ورسوله، فلمّا طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الّذي كنت فيه ثمّ وجه إليّ برجلين سماهما وهما صاحب الشّافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتّى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتّى رفع المائدة وأقاما إلى غد وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _
فأقول له: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتّى أقول به، فقال لي بن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في الشّيعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك وإنه والله ليس هو السّيف إنه ضرب بعد ضرب ثمّ يقول لي ما تقول فأرد عليه نحوا ثمّ يأتي رسوله فيقول أين أحمد بن عمار _ أجب للرجل الّذي أنزلت في حجرته فيذهب ثمّ يعود فيقول يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _ فأرد عليه نحوا ممّا رددت على ابن أبي دؤاد فلا يزال رسله تأتي قال أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه ويقول يقول أمير المؤمنين أجبني حتّى اجيء فأطلق عنك بيدي
قال فلمّا كان في اليوم الثّاني أدخلت عليه.
فقال: ناظروه كلموه
قال: فجعلوا يتكلّمون هذا من ها هنا وهذا من ها هنا فأرد على هذا وهذا فإذا جاؤوا بشيء من الكلام ممّا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر قلت ما أدري ما هذا _
فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجّهت عليه الحجّة علينا وثب وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا _
قال: فيقول ناظروه
قال: ثمّ يقول يا أحمد إنّي عليك شفيق
فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله
قال: فقلت له ما تقول في قول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين}
فقال: خص الله بها المؤمنين
قال: فقلت له ما تقول إن كان قاتل أو كان قاتلا عبدا يهوديّ أو نصرانيّ
قال: فسكت
قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا لأنهم كانوا يحتجون عليّ بظاهر القرآن وبقوله أراك تنتحل الحديث
وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي داود فيقول يا أمير أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعيد ما شاء الله من ذلك ثمّ أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلى بي وبعبد الرّحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول لي تدعو حمد بن أبي دؤاد فأقول ذلك إليك فيوجه إليه فيجيء فيتكلم فلمّا طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الّذي كنت فيه وجاءني الرّجلان اللّذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير فلمّا كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو ممّا أتى به في أول ليلة فافطر وتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه ويأتيني برسالته على نحو ممّا كان أول ليلة وجاءني ابن أبي دؤاد فقال إنه قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشّمس.
فقلت له: فما أصنع
حتّى إذا كدت أن اصبح قلت لخليق أن يحدث من أمري في هذا اليوم شيء وقد كنت أخرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد احملها بها إذا توجّهت إليه فقلت لبعض من كان مع الموكلين ارتدّ لي خيطا فجاءني بخيط فشددت الأقياد وأعدت التكة في السّراويل ولبسته كراهية أن يحدث شيئا من أمري فاتعرى فلمّا كان في اليوم الثّالث أدخلت عليه والقوم حضور فجعلت أدخل من دار إلى دار وقوم معهم السيوف وقوم معهم السّياط وغير ذلك من الزي والسّلاح وقد حشرت الدّار الجند ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء
حتّى إذا صرت إليه قال: ناظروه كلموه، فعادوا بمثل مناظرتهم ودار بيننا كلام كثير حتّى إذا كان في الوقت الّذي يخلو فيه فجاءني ثمّ اجتمعوا فشاورهم ومن ثمّ نحاهم ودعاني فخلا بي وبعبد الرّحمن فقال لي: ويحل يا أحمد أنا عليك والله شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني،
فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلمّا ضجر وطال المجلس قال لي: عليك لعنة الله لقد كنت طمعت فيك خذوه فاسحبوه
قال: فأخذت وسحبت ثمّ خلعت ثمّ قال العقابين والسياط فجيء بالعقابين والسياط
قال أبي: وقد كان صار إلى شعرة أو شعرتان من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما كم قميصي فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إليّ ما هذا مصر ورنى كمك
فقلت: شعر من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم وسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين
فقال لهم: يعني المعتصم - لا تحرقوه انزعوه عنه
قال: إنّي ظننت أنه درئ عن القميص الحرق بسبب الشّعر الّذي كان فيه ثمّ صيرت بين العقابين وشددت يدي وجيء بكرسي فجلس عليه وابن أبي دؤاد قام على رأسه والنّاس أجمعون قيام ممّن حضر، فقال له إنسان ممّن شدني: خذ بأيّ الخشبتين بيدك وشد عليهما فلم أفهم ما قال فتخالفت يداي لما شدت ولم أمسك الخشبتين.
قال أبو الفضل ولم يزل أبي رحمة الله عليه يتوجع منهما إلى أن توفّي.
ثمّ قال للجلادين: تقدموا فنظر إلى السّياط، فقال ائتوا بغيرها ثمّ قال لهم تقدموا
فقال لأحدهم: أدنه اوجع قطع الله يدك
فتقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى ثمّ قال لآخر أدنه أوجع شدّ قطع الله يدك ثمّ تقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى
فلم يزل يدعو واحدًا بعد واحد يضربني سوطين ويتنحى ثمّ قام حتّى جاءني وهم محدقون به
فقال: ويحك يا أحمد تقتل نفسك
ويحك أجبني حتّى أطلق عنك بيدي
فجعل بعضهم يقول لي ويلك أمامك على رأسك قائم
قال لي عجيف فنخسني بقائم سيفه ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وجعل إسحاق ابن إبراهيم يقول ويحك الخليفة على رأسك قائم
قال ثمّ يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي قال ثمّ رجع فجلس على الكرسيّ ثمّ قال للجلاد أدنه شدّ قطع الله يدك.
ثمّ لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني بسوطين ويتنحى وهو يقول شدّ قطع الله يدك
ثمّ قام إلى الثّانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني ،فجعل عبد الرّحمن بن إسحاق يقول من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي إسرائيل وجعل يعد على من أجاب
قال وجعل وهو يقول ويحك أجبني
قال: فجعلت أقول نحو ما كنت أقول لهم
قال فرجع فجلس ثمّ جعل يقول للجلاد شدّ قطع الله يدك
قال أبي فذهب عقلي فما عقلت إلّا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد وقال لي إنسان ممّن حضر أنا اكببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك
قال أبي: فقلت ما شعرت بذاك
قال: فجاؤني بسويق فقالوا اشرب فقلت لا أفطر فجيء به إلى دار إسحاق بن إبراهيم
قال أبي: فنودي بصلاة الظّهر فصلينا الظّهر
وقال ابن سمّاعة: صليت والدّم يسيل من ضربك
فقلت: به صلى عمر وجرحه يثغب دمًا فسكت.
ثمّ خلى عنة فصار إلى المنزل ووجه إليه الرجل من السجن ممّن يبصر الضّرب والجراحات يعالج منه فنظر إليه فقال: قال لنا والله لقد رأيت منه ضرب السيوط ما رأيت ضربا أشد من هذا لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثمّ أدخل ميلًا في بعض تلك الجراحات
فقال: لم ينفل فجعل يأتيه فيعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ثمّ مكث يعالجه ما شاء الله، ثمّ قال له: إن هذا شيء أريد أن أقطعه فجاء بحديدة فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر يحمد الله لذلك فبرأ منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه وكان أثر الضّرب بين في ظهره إلى أن توفّي رحمة الله علية.
سمعت أبي يقول والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي
قال أبو الفضل أخبرني أحد الرجلين اللّذين كانا معه وقد كان هذا الرجل صاحب حديث قد سمع ونظر ثمّ جاءني بعد فقال: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله والله ما رأيت أحدا - يعني - يشبهه
لقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا الطّعام: يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع تقية ولقد عطش فقال لصاحب الشّراب ناولني فناوله قدحا فيه ماء ثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثمّ رده عليه
قال فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول.
قال أبو الفضل قد كنت التمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا أو رغيفين في هذه الأيّام فلم أقدر على ذلك
وأخبرني رجل حضره قال: فقدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلمونه فما لحن ولا ظننت أن يكون أحد في مثل شجاعته وشدّة قلبه. قال أبو الفضل دخلت على أبي - رحمة الله عليه - يومًا وقلت له بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي
فقال اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك فقال فضل لا جعلت أحدا في حل، فتبسّم أبي وسكت فلمّا كان بعد أيّام مررت بهذه الآية: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم قال: حدثنا المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي الله تبارك وتعالى يوم القيامة نودوا ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلّا من عفا في الدّنيا
قال أبي: فجعلت الميّت في حل من ضربه إيّاي ثمّ جعل يقول وما على رجل إلّا يعذب الله بسببه أحدا.). [سيرة الإمام أحمد: 52- 65] (م)