تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن الثوري عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص قال ما يصيبهم من خير أو شر). [تفسير عبد الرزاق: 1/313]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن جابرٍ عن مجاهدٍ عن ابن عباس في قوله: {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} قال: ما قدّر لهم من خير وشر [الآية: 109]). [تفسير الثوري: 134-135]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فلا تك في مريةٍ ممّا يعبد هؤلاء ما يعبدون إلاّ كما يعبد آباؤهم من قبل وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم: فلا تك في شكٍّ يا محمّد ممّا يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الآلهة والأصنام أنّه ضلالٌ وباطلٌ، وأنّه باللّه شركٌ، ما يعبد هؤلاء إلاّ كما يعبد آباؤهم من قبل، يقول: إلاّ كعبادة آبائهم من قبل عبادتهم لها. يخبر تعالى ذكره أنّهم لم يعبدوا ما عبدوا من الأوثان إلاّ اتّباعًا منهم منهاج آبائهم، واقتفاءً منهم آثارهم في عبادتهموها، لا عن أمر اللّه إيّاهم بذلك، ولا بحجّةٍ تبيّنوها توجب عليهم عبادتها.
ثمّ أخبر جلّ ثناؤه نبيّه ما هو فاعلٌ بهم لعبادتهم ذلك، فقال جلّ ثناؤه: {وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ} يعني: حظّهم ممّا وعدتهم أن أوفّيهموه من خيرٍ أو شرٍّ، غير منقوصٍ، يقول: لا أنقصهم ممّا وعدتهم، بل أتمّم ذلك لهم على التّمام والكمال.
- كما حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، {وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ} قال: ما وعدوا فيه من خيرٍ أو شرٍّ.
- حدّثنا أبو كريبٍ ومحمّد بن بشّارٍ، قالا: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ مثله، إلاّ أنّ أبا كريبٍ قال في حديثه: من خيرٍ وشرٍّ.
- حدّثني المثنّى، قال: أخبرنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريكٍ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ عن ابن عبّاسٍ: {وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ} قال: ما قدّر لهم من الخير والشّرّ.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق قال: أخبرنا الثّوريّ، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ} قال: ما يصيبهم خيرٌ أو شرٌّ.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله {وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ} قال: نوفّيهم نصيبهم من العذاب غير منقوصٍ). [جامع البيان: 12/590-592]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (فلا تك في مريةٍ ممّا يعبد هؤلاء ما يعبدون إلّا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ (109)
قوله تعالى: فلا تك في مريةٍ ممّا يعبد هؤلاء ما يعبدون إلّا كما يعبد آباؤهم من قبل.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا العبّاس بن الوليد النّرسيّ، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ، عن قتادة قال: ما يعبد هؤلاء الآلهة إلا ليشفعوا عند اللّه.
قوله تعالى: وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ
- حدّثنا عمرٌو الأوديّ، ثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ قال: ما وعدوا به من خيرٍ أو شرٍّ
- حدّثنا أبي، ثنا سهل بن عثمان، ثنا أبو يمانٍ، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية في قوله: وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ قال: من الرّزق.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ ثنا أصبغ بن الفرج قال سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قول اللّه: وإنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوصٍ قال: موفّوهم نصيبهم من العذاب غير منقوصٍ). [تفسير القرآن العظيم: 6/2088-2089]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 109 - 111.
أخرج ابن مردويه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سلوا الله العافية فإنه لم يعط أحد أفضل من معافاة بعد يقين وإياكم والريبة فإنه لم يعط أحد أشر من ريبة بعد كفر). [الدر المنثور: 8/145-146]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} قال: ما قدر لهم من خير وشر). [الدر المنثور: 8/146]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله {وإنا لموفوهم نصيبهم} قال: موفوهم نصيبهم من العذاب). [الدر المنثور: 8/146]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي العالية رضي الله عنه {وإنا لموفوهم نصيبهم} قال: من الرزق). [الدر المنثور: 8/146]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى يوفي كل عبد ما كتب له من الرزق فأجملوا في المطلب دعوا ما حرم وخذوا ما حل). [الدر المنثور: 8/146]
تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمةٌ سبقت من رّبّك لقضي بينهم وإنّهم لفي شكٍّ مّنه مريبٍ}.
يقول تعالى ذكره مسلّيًا نبيّه في تكذيب مشركي قومه إيّاه فيما أتاهم به من عند اللّه بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند اللّه، يقول له تعالى ذكره: ولا يحزنك يا محمّد تكذيب هؤلاء المشركين لك، وامض لما أمرك به ربّك من تبليغ رسالته، فإنّ الّذي يفعل بك هؤلاء من ردّ ما جئتهم به عليك من النّصيحة من فعل ضربائهم من الأمم قبلهم وسنّة من سننهم.
ثمّ أخبره جلّ ثناؤه بما فعل قوم موسى به، فقال: {ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني التّوراة، كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب قوم موسى فكذّب به بعضهم، وصدّق به بعضهم، كما قد فعل قومك بالفرقان من تصديق بعضٍ به وتكذيب بعضٍ. {ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك} يقول تعالى ذكره: ولولا كلمةٌ سبقت يا محمّد من ربّك بأنّه لا يعجّل على خلقه بالعذاب، ولكن يتأنّى حتّى يبلغ الكتاب أجله. {لقضي بينهم} يقول: لقضي بين المكذّب منهم به، والمصدّق بإهلاك اللّه المكذّب به منهم وإنجائه المصدّق به. {وإنّهم لفي شكٍّ منه مريبٍ} يقول: وإنّ المكذّبين به منهم لفي شكٍّ من حقيقته أنّه من عند اللّه مريبٍ، يقول: يريبهم فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ، ولكنّهم فيه ممترون). [جامع البيان: 12/592]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لقضي بينهم وإنّهم لفي شكٍّ منه مريبٍ (110) وإنّ كلًّا لمّا ليوفّينّهم ربّك أعمالهم إنّه بما يعملون خبيرٌ (111) فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصيرٌ (112) ولا تركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسّكم النّار وما لكم من دون اللّه من أولياء ثمّ لا تنصرون (113)
قوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد، ثنا سعيدٌ، عن قتادة آتينا موسى الكتاب قال: التّوراة.
قوله تعالى: فاختلف فيه
- حدّثنا عصام بن داود، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ قوله: فاختلف فيه يعني: إسرائيل). [تفسير القرآن العظيم: 6/2089]
تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن كلًّا لمّا ليوفّينّهم ربّك أعمالهم إنّه بما يعملون خبيرٌ}.
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته جماعةٌ من قرّاء أهل المدينة والكوفة: {وإنّ} مشدّدةً {كلًّا لمّا} مشدّدةً.
واختلفت أهل العربيّة في معنى ذلك، فقال بعض نحويّي الكوفيّين: معناه إذا قرئ كذلك وإنّ كلًّا لممّا ليوفّيهم ربّك أعمالهم، ولكن لمّا اجتمعت الميمات حذفت واحدةٌ فبقيت ثنتان، فأدغمت واحدةٌ في الأخرى، كما قال الشّاعر:
وإنّي لمّا أصدر الأمر وجهه = إذا هو أعيا بالنّبيل مصادره
ثمّ تخفّف، كما قرأ بعض القرّاء: والبغي يّعظكم يخفّف الياء مع الياء، وذكر أنّ الكسائيّ أنشده:
وأشمتّ العداة بنا فأضحوا = لدي يتباشرون بما لقينا
وقال: يريد: لديّ يتباشرون بما لقينا، فحذف ياءً لحركتهنّ واجتماعهّنّ؛ قال: ومثله:
كان من آخرها إلقادم = مخرم نجدٍ فارع المخارم
وقال: أراد إلى القادم، فحذف اللاّم عند اللاّم.
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: {وإنّ كلًّا} شديدًا وحقًّا ليوفّيهم ربّك أعمالهم. قال: وإنّما يراد إذا قرئ ذلك كذلك: {وإنّ كلًّا لمّا} بالتّشديد والتّنوين، ولكنّ قارئ ذلك كذلك حذف منه التّنوين، فأخرجه على لفظ فعلى لمّا كما فعل ذلك في قوله: {ثمّ أرسلنا رسلنا تترى} فقرأ تترى بعضهم بالتّنوين، كما قرأ من قرأ: لمّا بالتّنوين، وقرأ آخرون بغير تنوينٍ، كما قرأ {لمّا} بغير تنوينٍ من قرأه، وقالوا: أصله من اللّمّ من قول اللّه تعالى: {وتأكلون التّراث أكلاً لمّا} يعني أكلاً شديدًا.
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإن كلاّ إلاّ ليوفينّهم، كما يقول القائل: لقد قمت عنّا، وباللّه إلاّ قمت عنّا.
ووجدت عامّة أهل العلم بالعربيّة ينكرون هذا القول، ويأبون أن يكون جائزًا توجيه لمّا إلى معنى إلاّ في اليمين خاصّةً؛ وقالوا: لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلاّ جاز أن يقال: قام القوم لمّا أخاك، بمعنى: إلاّ أخاك، ودخولها في كلّ موضعٍ صلح دخول إلاّ فيه.
وأنا أرى أنّ ذلك فاسدٌ من وجهٍ هو أبين ممّا قاله الّذين حكينا قولهم من أهل العربيّة إنّ في فساده، وهو أنّ إنّ إثباتٌ للشّيء وتحقيقٌ له، وإلاّ أيضًا تحقيقٌ أيضًا، وإنّما تدخل نقضًا لجحدٍ قد تقدّمها. فإذا كان ذلك معناها فواجبٌ أن تكون عند متأوّلها التّأويل الّذي ذكرنا عنه، أن تكون بمعنى الجحد عنده، حتّى تكون إلاّ نقضًا لها. وذلك إن قاله قائلٌ، قولٌ لا يخفى جهل قائله، اللّهمّ إلاّ أن يخفّف قارئٌ إنّ فيجعلها بمعنى إن الّتي تكون بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجهٍ آخر، وهو أنّه يصير حينئذٍ ناصبًا ل كلٍّ بقوله: ليوفّينّهم، وليس في العربيّة أن ينصب ما بعد إلاّ من الفعل الاسم الّذي قبلها، لا تقول العرب: ما زيدًا إلاّ ضربت، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه إلاّ أن يرفع رافع الكلّ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القرّاء، وخطّ مصاحف المسلمين، ولا يخرج بذلك من العيب بخروجه من معروف كلام العرب.
وقد قرأ ذلك بعض قرّاء الكوفيّين: وإن كلًّا بتخفيف إن ونصب كلًّا {لمّا} مشدّدةٌ.
وزعم بعض أهل العربيّة أنّ قارئ ذلك كذلك أراد إنّ الثّقيلة فخفّفها. وذكر عن أبي زيدٍ البصريّ أنّه سمع: كأن ثدييه حقّانٍ، فنصب ب كأن، والنّون مخفّفةً من كأن؛ ومنه قول الشّاعر:
ووجهٌ مشرق النّحر = كأن ثدييه حقّان
وقرأ ذلك بعض المدنيّين بتخفيف إنّ ونصب كلًّا، وتخفيف لمّا.
وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك قصد المعنى الّذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون إنّ وهو يريد تشديدها، ويريد بما الّتي في لمّا الّتي تدخل في الكلام صلةً، وأن يكون قصد إلى تحميل الكلام معنى: وإن كلًّا ليوفّينّهم.
وقد ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك: وإن كلًّا ليوفّينّهم أي ليوفّينّ كلًّا، فيكون نيّته في نصب كلٍّ كانت بقوله: ليوفّينّهم، فإن كان ذلك أراد ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب، وذلك أنّها لا تنصب بفعلٍ بعد لام اليمين اسمًا قبلها.
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة: وإنّ مشدّدةٌ كلًّا لما مخفّفةٌ {ليوفّينّهم} ولهذه القراءة وجهان من المعنى: أحدهما: أن يكون قارئها أراد: وإنّ كلًّا لمن ليوفّينّهم ربّك أعمالهم، فيوجّه ما الّتي في لمّا إلى معنى من كما قال جلّ ثناؤه: {فانكحوا ما طاب لكم من النّساء} وإن كان أكثر استعمال العرب لها في غير بني آدم، وينوي باللاّم الّتي في لمّا اللاّم الّتي يتلقّى بها وإنّ جوابًا لها، وباللاّم الّتي في قوله: {ليوفّينّهم} لام اليمين دخلت فيما بين ما وصلتها، كما قال جلّ ثناؤه: {وإنّ منكم لمن ليبطّئنّ} وكما يقال هذا ما لغيره أفضل منه.
والوجه الآخر: أن يجعل ما الّتي في لمّا بمعنى ما الّتي تدخل صلةً في الكلام، واللاّم الّتي فيها، اللاّم الّتي يجاب بها، واللاّم الّتي في: {ليوفّينّهم} هي أيضًا اللاّم الّتي يجاب بها إنّ كرّرت وأعيدت، إذا كان ذلك موضعها، وكانت الأولى ممّا تدخلها العرب في غير موضعها، ثمّ تعيدها بعد في موضعها، كما قال الشّاعر:
فلو أنّ قومي لم يكونوا أعزّةً = لبعد لقد لاقيت لا بدّ مصرعى
وقرأ ذلك الزّهريّ فيما ذكر عنه: {وإنّ كلًّا} بتشديد إنّ ولمًّا بتنوينها، بمعنى: شديدًا وحقًّا وجميعًا.
وأصحّ هذه القراءات مخرّجًا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ: وإنّ بتشديد نونها، كلًّا لمّا بتخفيف ما {ليوفّينّهم ربّك} بمعنى: وإنّ كلّ هؤلاء الّذين قصصنا عليك يا محمّد قصصهم في هذه السّورة، لمن ليوفّينّهم ربّك أعمالهم بالصّالح منها، بالجزيل من الثّواب، وبالطّالح منها بالشّديد من العقاب، فتكون ما بمعنى من واللاّم الّتي فيها جوابًا لأنّ، واللاّم في قوله: {ليوفّينّهم} لام قسمٍ.
وقوله: {إنّه بما يعملون خبيرٌ} يقول تعالى ذكره: إنّ ربّك بما يعمل هؤلاء المشركون باللّه من قومك يا محمّد، خبيرٌ، لا يخفى عليه شيءٌ من عملهم بل يخبر ذلك كلّه ويعلمه ويحيط به حتّى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم). [جامع البيان: 12/593-598]