من أحكام التعلق
ليس في الكلام حرف جر إلا وهو متعلق بفعل، أو ما هو بمعنى الفعل في اللفظ أو التقدير.[ ابن يعيش: 908].
إنما احتاج الظرف، والجار والمجرور إلى متعلق لأنهما معمولان، فاحتاجا إلى عامل.
ونقد نظرية العامل كان مما ارتكز عليه ابن مضاء في كتابه «الرد على النحاة» ثم قلده في ذلك بعض الباحثين.
وقد صور تأثير العامل ونظرة النحويين إليه كمال الدين الأنباري في كتابه «الإنصاف» قال في [ص32-33] : «العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية، كالإحراق للنار، والإغراق للماء، والقطع للسيف، وإنما هي أمارات ودلالات، وإذا كانت العوامل في محل الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شيء؛ كما تكون بوجود شيء؛ ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان، وأردت أن تميز أحدهما من الآخر فصبغت أحدهما، وتركت صبغ الآخر لكان ترك صبغ أحدهما في التمييز بمنزلة صبغ الآخر.
وأقول: إن تقدير العامل لم يكن الغرض منه الصناعة اللفظية، فقد بلغ من تدقيق النحويين أن كانوا يراعون في تقدير العامل أن يكون مناسبًا للمعنى ولعصر الشاعر، في قول عبيد الله بن قيس الرقيات:
لن تراها وإن تأملت إلا = ولها في مفارق الرأس طيبا
قالوا: الناصب لطيبًا فعل محذوف تقديره: تعلم، أو تتحقق، أو ترى القلبية، ولا يجوز أن يكون المقدر (ترى) البصرية كالمذكورة في صدر البيت إذ يقتضي ذلك أن الموصوفة مكشوفة الرأس، وإنما تمدح النساء بالخفر والتصون، لا بالتبذل. [المغني: 2/ 157].
قال أبو الفتح في [الخصائص: 2/ 429] : «الرؤية ليس لها طريق إلى الطيب في مفارقها، اللهم إلا أن تكون حاسرة الرأس غير مقنعة، وهذه بذلة وتطرح لا توصف به الخفرات، ولا المعشقات»».
وفي [المغني: 2/ 157] : «(ترى) المقدرة الناصبة لطيبًا قلبية، لئلا يقتضي كون الموصوفة مكشوفة الرأس، وإنما تمدح النساء بالخفر والتصون لا بالتبذل».
الذي يدل على تقدير المتعلق العام في الظرف والجار والمجرور والتصريح به في الشعر، وكثيرًا ما تعاود العرب الأصول المهجورة في الشعر. قال:
لك العز إن مولاك عز وإن يهن = فأنت لدي بحبوحة الهون كائن
وما زال ذلك في لهجة العامة يقولون: منزلنا الكائن بشارع كذا. . .
وقد عطف عليه في قوله تعالى: {كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل} [2: 264].
في [البحر: 2/ 309]: «ارتفع (تراب) على الفاعلية، أي استقر عليه تراب فأصابه وابل (فأصابه) معطوف على ذلك الفعل الرافع للتراب». [العكبري: 1/ 63]، [الجمل :1/ 220].
فتقدير المتعلق إنما يراعى فيه المعنى، وليس عملاً لفظيًا لمجرد الصناعة إذ قد يذكر الفعل أو شبهه قبل الجار والمجرور، أو الظرف، لا يصح التعلق به من جهة المعنى، وقد ذكر ابن هشام شواهد على ذلك نذكر منها:
1- {وإني خفت الموالي من ورائي} [19: 5].
لا يتعلق (من ورائي) بخفت لفساد المعنى، وإنما هو متعلق بالموالي لما فيه من معنى الولاية، أي خفت ولا يتهم من بعدي، وسوء خلافتهم، أو بمحذوف هو حال من الموالي. [المغني: 2/ 120].
2- {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله} [2: 282].
لا يتعلق (إلى أجله) بالفعل (تكتبوه) لفساد المعنى لاقتضائه استمرار الكتابة إلى أجل الدين، إنما هو حال، أي مستقرًا في الذمة. [المغني: 2/ 120].
3- {فلما بلغ معه السعي قال} [37: 102].
لا يتعلق (مع) بالفعل (بلغ) لاقتضائه أنهما بلغا معًا حد السعي هو متعلق بمحذوف بيان. [المغني: 2/ 121].
4- {فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك} [2: 260].
لا يصح تعلق (إليك) بصرهن، إذ فسر (صرهن) بقطعهن، وإنما هو متعلق بخذ. [المغني: 2/ 121].
5- {وقال للذي ظن أنه ناج منهما} [12: 42].
في [العكبري: 2/ 29] : «(منهما) يجوز أن يكون صفة لناج وأن يكون حالاً من الذي ولا يكون متعلقا بناج، لأنه ليس المعنى عليه».
6- (نبأ) عمل في (إذ) في موضع ولم يعمل في (إذ) في موضع آخر:
أ- {واتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قربانا} [5: 27].
في [الكشاف: 1/ 323] : «(إذ) نصب بالنبأ، أي قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت . . . . ».
ب- {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} [38: 21].
في [الكشاف: 3/ 323]: «فإن قلت: بم انتصب (إذ)؟
قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك، أو بالنبأ، أو بمحذوف.
فلا يسوغ انتصابه بأتاك؛ لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده، لا في عهد داود. ولا بالنبأ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن ناصبًا، فبقى أن ينتصب بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأ تحاحكم الخصم . . . ».