تفسير قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) }
قال محمد بن المستنير البصري (قطرب) (ت:206هـ): (ومنه: «القانع»: الراضي، والقانع: السائل. قَنِع قَنَاعة وقَنَعا وقُنْعَانا، (أي): رضي. وقنع قنوعا، أي: سأل. وقال عدي بن زيد:
وما خنت ذا وصل وأبت بوصله = ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
أي: سائلا). [الأضداد: 95]
قال أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني (ت: 213هـ): (وقال أبو حزام: قَنَع: سَأَل، يَقنَع قُنوعًا مثل فَعَل يَفْعَل. قال الشماخ:
لمَالُ المَرءِ يُصِلحُه فَيْغِني = مفاقِرَه أعفُّ من القُنُوعِ
وقَنِعْتُ به مثل علمت به قَناعةً وقُنوعا يَقْنَع). [كتاب الجيم: 3/78]
قال عبدُ الملكِ بنُ قُرَيبٍ الأصمعيُّ (ت: 216هـ) : (*قنع* والقانع الراضي بما قسم الله ومصدره القناعة، والقانع السائل ومصدره القنوع، ورأيت أعرابيا يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من القنوع والخنوع والخضوع وما يغض طرف المرء ويغري به لئام الناس، قال عدي :
وما خنت ذا عهد وأبت بعهده = ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
أي سائلا، وقال الله جل ثناؤه: {وأطعموا القانع والمعتر}، فالقانع: السائل، والمعتر الذي يأتيك ويتعرض لك ولا يسأل، قال الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني = مفاقره أعف من القنوع
أي أعف من المسألة، قال لبيد :
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه = ومنهم شقي بالمعيشة قانع
أي: راض بقسمه). [كتاب الأضداد: 49-50]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (قنع يقنع قنوعًا إذا سأل. [الأصمعي]: وقنع يقنع قناعة إذا رضي). [الغريب المصنف: 2/610]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع من أهل البيت لهم)).
قال حدثناه مروان الفزاري، عن شيخ من أهل الجزيرة، يقال له يزيد بن أبي زياد.
وهو يزيد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة ترفعه.
...
وأما قوله: لا القانع مع أهل البيت لهم، فإنه الرجل يكون مع القوم في حاشيتهم كالخادم لهم والتابع والأجير ونحوه.
وأصل القنوع: الرجل يكون مع الرجل يطلب فضله ويسأل معروفه.
يقول: فهذا إنما يطلب معاشة من هؤلاء فلا يجوز شهادته لهم.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} فالقانع في التفسير: الذي يسأل، والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل ومنه قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني = مفاقره أعف من القنوع
يعني: مسألة الناس.
وقال عدي بن زيد:
وما خنت ذا عهد وأيت بعهده = ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
يعني: سائلا.
ويقال من هذا: قد قنع يقنع قنوعا.
وأما القانع: الراضي بما أعطاه الله سبحانه فليس من ذلك.
يقال منه: قنعت أقنع قناعة، فهذا بكسر النون وذاك بفتحها وذاك من القنوع وهذا من القناعة). [غريب الحديث: 1/367-369]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: الذي يحدثه عنه البراء بن عازب قال رحمه الله: كنا إذا
صلينا معه صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه من الركوع قمنا خلفه صفونا، فإذا سجد تبعناه.
قال: حدثناه هشيم قال: أخبرنا العوام بن حوشب عن عذرة بن الحارث عن البراء.
قوله: صفونا، يفسر الصافن تفسيرين.
فبعض الناس يقول: كل صاف قدميه قائما فهو صافن ومما يحقق ذلك حديث عكرمة.
قال: حدثناه عبد الرحمن بن مهدي عن إسماعيل بن مسلم العبدي عن مالك بن دينار قال: رأيت عكرمة يصلي وقد صفن بين قدميه واضعا إحدى يديه على الأخرى.
والقول الآخر: أن الصافن من الخيل الذي قد قلب أحد حوافره وقام على ثلاث قوائم.
ومما يحقق ذلك قوله سبحانه: {فاذكروا اسم الله عليها صوافن} هكذا هي في قراءة ابن عباس وفسرها معقولة إحدى يديها على ثلاث قوائم.
قال: حدثناه أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس.
قال: وحدثني كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال في قراءة ابن مسعود: (صوافن)، قال: يعني قياما.
فقد اجتمعت قراءة ابن عباس وابن مسعود على (صوافن).
قال: وحدثني ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: من قرأها: (صوافن) أراد: معقولة.
ومن قرأها: {صواف} أراد: بها قد صفت يديها.
وكلاهما له معنى.
وقد روي عن الحسن غير هاتين القراءتين.
قال: حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن أنه قرأ: صوافي غير منون بالياء، وقال: خالصة لله.
قال أبو عبيد: كأنه يذهب إلى جمع صافية). [غريب الحديث: 2/216-220]
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (
وبرد الخصوم شتي ثقالا = مثل ما وجبت هجان الجمال
وجبت: سقطت). [شرح ديوان الحطيئة: 77]
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (
فيبرح منها ساهف متقطر = ينوء على شق من الرأس واجب
...
(واجب) ساقط، من قول الله عز وجل: {فإذا وجبت جنوبها} ). [شرح أشعار الهذليين: 1/468]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( والقانع من الأضداد. يقال: رجل قانع، إذا كان راضيا بما هو فيه لا يسأل أحدا، ورجل قانع إذا كان سائلا، قال الله عز وجل: {وأطعموا القانع والمعتر}، فالقانع السائل، والمعتر الذي يعرض بالمسألة ولا يصرح، ويقال: المعتر: السائل، والقانع: المحتاج. ويقال: قد قنع الرجل يقنع قناعة وقنعا وقنعانا، إذا رضي ما هو فيه؛ وهو قانع وقنع، ويقال: قد قنع يقنع قنوعا، إذا سأل؛ يقال: نعوذ بالله من القنوع والخنوع، ونسأل الله القناعة، فالخنوع الخضوع، والقنوع المسألة.
وقال أعرابي لقوم سألهم فلم يعطوه: الحمد لله الذي أقنعني إليكم، أي أحوجني. وقال الشماخ:
أعائش ما لأهلك لا أراهم = يضيعون الهجان مع المضيع
وكيف يضيع صاحب مدفآت = على أثباجهن من الصقيع
لمال المرء يصلحه فيغني = مفاقره أعف من القنوع
أي من المسألة. وقال الآخر:
وإعطائي المولى على حين فقره = إذا قال أبصر خلتي وقنوعي
وقال أيضا بعض المعمرين:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه = ومنهم شقي بالمعيشة قانع
وقال الآخر:
وأقنع بالشيء اليسير صيانة = لنفسي ما عمرت والحر قانع
أي راض.
وربما تكلموا بالقنوع في معنى القناعة، والاختيار ما قدمنا ذكره، فمنه قول بعضهم:
فسربلت أخلاقي قنوعا وعفة = فعندي بأخلاقي كنوز من الذهب
فلم أر عزا كالقنوع لأهله = وأن يجمل الإنسان ما عاش في الطلب
وقال الآخر:
ثق بالإله ورد النفس عن طمع = إلى القنوع ولا تحسد أخا المال
فإن بين الغنى والفقر منزلة = مقرونة بجديد ليس بالبالي
وقال الآخر:
من قنعت نفسه ببلغتها = أضحى عزيزا وظل ممتنعا
لله در القنوع من خلق = كم من وضيع به قد ارتفعا
تضيق نفس الفتى إذا افتقرت = ولو تعزى بربه اتسعا
وقال نصيب في المعتر:
من ذا ابن ليلى جزاك الله مغفرة = يغني مكانك أو يعطي كما تهب
قد كان عند ابن ليلى غير معوزه = للفضل وصل وللمعتر مرتغب
وقال الآخر:
لعمرك ما المعتر يأتي بلادنا = لنمنعه بالضائع المتهضم).
[كتاب الأضداد: 66-68]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( فلا تسأليني واسألي عن خليقتي = إذا رد عافي القدر من يستعيرها
قال الأصمعي: كانوا في الجدب إذا استعار أحدهم قدرًا رد فيها شيئًا من طبيخ وقوله عافي القدر يقول لم يجهد أهلها وما أعطوه عفوًا وقال آخر: يعفيك عافيه وعند النحر، غيره: عافي القدر من يأتيها لينال مما فيها، يقال عفوت الرجل واعتفيته وعروته واعتريته. قال الله تعالى: {وأطعموا القانع والمعتر}، فيقال: القانع: السائل والمعتر: المعترض للنائل من غير أن يسأل، يقول: كثر عافي القدر على أهلها فشغلت بهم فرد مستعيرها، فكأن العافي إذا شغلها عن مستعيرها هو رد مستعيرها، فعافي في موضع رفع ومن في موضع نصب وقول آخر وهو أن يرد المستعير في القدر شيئًا مما طبخ، فيكون عافي القدر حينئذٍ في موضع نصب وسكن الياء كما تسكن في الرفع والخفض فهؤلاء لا يحركونها، النصب فيها عندهم كالرفع والخفض). [شرح المفضليات: 348]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( ويسعد بي الضريك إذا اعتراني = ويكره جانبي البطل الشجاع
اعتراني ألم بي وعراني واعتفاني وعفاني وعرني واعترني والضريك: المحتاج الضعيف واعتراني صار إلي يقال اعتراه يعتريه وعراه يعروه وفلان يعروه الناس في أمورهم أي يأتونه وهو من قول الله تعالى: {وأطعموا القانع والمعتر} غيره: المعتر من قولهم فلا تعتريه الأضياف وقد عروه ويعرونه عرًا إذا أتوه ومنه قول ابن أحمر:
ترعى القطاة الخمس قفورها = ثم تعر الماء فيمن يعر
والمعتر الذي يتعرض لفضلك من غير أن يسألك والقانع السائل: قنع يقنع قنوعًا إذا سأل وقنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسم له ومنه جاء في الحديث: (نعوذ بالله من القنوع ونسأل الله القناعة) ). [شرح المفضليات: 373]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( بكل مبيتٍ يعترينا ومنزلٍ = فلو أنها إذ تدلج الليل تصبح
غيره: يعترينا يصير إلينا والاسم المعتر، فالمعتر الذي يأتي معترضًا لأن يطعم من غير أن يسأل، والقانع: السائل والقنوع: المسألة والقناعة: الرضا، يقال: نسأل الله تعالى القناعة ونعوذ بالله تعالى من القنوع، ويقال أدلج إذا سار من أول الليل وأدلج إذا سار من آخره، هذا قول أبي عكرمة. غيره: تدلج تسري، يقول فلو أنها إذ تسير بالليل معنا تصبح كذلك، ولكنها تذهب إذا أصبحت.
وقول أبي عكرمة والمعتر الاسم من يعترينا ليس بشيء لأن المعتر من المضاعف ويعتري ليس من المضاعف وإنما المعتر من اعترنا معترًا إذا مر بنا، واعترى يعتري فهو معترٍ، فالمعنى واحد فيهما واللفظ مختلف). [شرح المفضليات: 494]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (غيره: تعتريه تعره تأتيه يقال فلان تعتريه الأضياف وتعره ومنه: {وأطعموا القانع والمعتر} ). [شرح المفضليات: 503]
تفسير قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) }
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وفي خطبة المأمون يوم الأضحى بعد التكبير الأوّل
إنَ يوصكم هذا يومٌ أبانَ الله فضلَه، وأوجبَ تشريفَه، وعَظّم حُرْمته، ووَفَق له من خَلا صفوتَه، وابتَلَى فيه خليلَه، وفَدَى فيه من الذَبْح نبئه، وجعله خاتمَ الأيام المعْلومات من العَشْر ومتقدَم الأيام المعدودات منِ النفْر؛ يومٌ حرامٌ من أيام عِظام في شهرَ حَرَام، يومُ الحجِّ الأكبر يومٌ دعا اللُّه إلى مَشْهَده، ونزَل القرآنُ بتعظيمه، قال اللهّ جلّ وعزّ: {وَأذِّنْ في الناس بالحج}؛ الآيات؛ فتقربوا إلى اللّه في هذا اليوم بذبائحكم، وعَظِّموا شعائرَ الله واجعلوها من طَيبِ أموالَ وبصحّة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: {لَنْ يَنَالَ اللَّه لُحُومُهَا وَلَا دمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التًقْوَى مِنْكُمْ}، ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبي والوصية بالتقوى، ثم قال بعد ذكر الجنة والنار: عَظُمَ قدرُ الدارين وارتفع جزاءُ العملين وطالت مدّة الفريقين الله للّه! فوالله إنه الجِدُ لا اللعِبُ، وإنه الحقُّ لا الكذِب، وما هو إلا الموت والبَعْث والمِيزان والحِساب والقِصَاص والصَراط ثم العقاب والثَواب، فمن نَجَا يومئذٍ فقد فاز، ومن هَوَى يومئذ فقد خاب. الخيرً كلّه الجنّة، والشر كله في النار). [عيون الأخبار: 5/254] (م)
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) }
تفسير قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) }
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وروى أبو سوقة التميمي عن أبيه عن جدّه عن أبي الأغرّ التميمي قال: بينا أنا واقف بصفّين مر بي العباس بن ربيعة مكفّرًا بالسلاح وعيناه تبصّان من تحت المغفر كأنهما عينا أرقم وبيده صفيحة له وهو على فرس له صعب يمنعه ويليّن من عريكته إذ هتف به هم تف من أهل الشأم يقال له عرار بن أدهم: يا عباس هلمّ إلى البراز. قال العباس: فالنزول إذًا فإنه إياسٌ من القفول. فنزل الشأمي وهو يقول:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا = أو تنزلون فإنّا معشر نزل
وثنى العباس وركه فنزل وهو يقول:
وتصدّ عنك مخيلة الرجل الـ = عرّيض موضحةٌ عن العظم
بحسام سيفك أو لسانك وال = كلم الأصيل كأرغب الكلم
ثم غضن فضلات درعه في حجزته ودفع قوسه إلى غلام له أسود يقال له: أسلم، كأني أنظر إلى فلائل شعره، ثم دلف كلّ واحد منهما إلى صاحبه فذكرت بهما قول أبي ذؤيب:
فتنازلا وتواقفت خيلاهما = وكلاهما بطل اللقاء مخدّع
وكف الناس أعنّة خيولهم ينتظرون ما يكون من الرجلين فتكنافحا بينهما مليًّا من نهم رهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهيًا في درع الشأميّ فأهوى إليه بيده فهتكنه إلى ثندوته ثم عاد لمجاولته وقد أصحر له مفتّق الدرع فضربه العباس ضربة انتظم بهم جوانح صدره وخرّ الشامي لوجهه وكبّر الناس تكبيرة ارتجت لهم الأرض من تحتهم وانشام العباس في الناس " وانساع أمره " وإذا قائل يقول من ورائي {قاتلوهم يعذّبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه على من يشاء واللّه عليّمٌ حكيمٌ} فالتفتّ وإذا أمير المؤمنين رضي اللّه عنه عليّ بن أبي طالب، فقال: يا أبا الأغر، من المنازل لعدوّنا؟ فقلت: هذا ابن أخيكم، هذا العباس بن ربيعة. فقال: إنه لهو، يا عباس ألم أنهك وابن عباس أن تخلاّ بمركزكما أو تباشرا حربًا؟ قال: إن ذلك. يعني نعم. قال: فما عدا مما بدا؟ قال: فأدعى إلى البراز فلا أجيب؟ قال: نعم، طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوّك. ثم تغيظ واستشاط حتى قلت: الساعة الساعة. ثم تطأمن وسكن ورفع يديه مبتهلاً فقال: اللهم اشكر للعباس مقامه واغفر له ذنبه، اللهم إني قد غفرت له فاغفر له. قال: وتأسّف معاوية على عرار وقال: متى ينطف فحلٌ بمثله! أيطلّ دمه! لا هم اللّه ذا. ألا اللّه رجل يشري نفسه يطلب بدم عرار؟ فانتدب له رجلان من لخم. فقال: اذهبا فأيّكما قتل العباس برازًا فله كذا. فأتياه ودعواه إلى البراز فقال: إن لي سيدًا أريد أن أؤامره. فأتى عليًّا فأخبره الخبر، فقال عليّ: واللّه لودّ معاوية أنه ما بقي من هم شم نافخ ضرمةٍ إلا طعن في نيطه إطفاءً لنور اللّه ويأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون، أما واللّه ليملكنهم منا رجال، ورجال يسومونهم الخسف حتى يحفروا الآبار ويتكفّفوا الناس. ثم قال: يا عباس ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله ووثب على فرس العباس وقصد اللخميين. فلم يشكّا أنه العباس فقالا له: أذن لك صاحبك؟ فحرج أن يقول نعم، فقال: {أذن للّذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ اللّه على نصرهم لقديرٌ} فبرز له أحدهما فضربه ضربة فكأنما أخطأه، ثم برز له الآخر فألحقه بالأوّل، ثم أقبل وهو يقول: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ثم قال: يا عباس خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد إليّ. ونمي الخبر إلى معاوية فقال: قبح اللّه اللّجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خذلت. فقال عمرو بن العاص: المخذول واللّه اللخميان لا أنت. قال معاوية: اسكت أيهم الرجل فليس هذه من ساعتكن. قال: وإن لم تكن، رحم اللّه اللخميين وما أراه يفعل. قال: ذاك واللّه أخسر لصفقتكن وأضيق لحجرك. قال: قد علمت ذلك ولولا مصر لركبت المنجاة منهم. قال: هي أعمتكن ولولا هي لألفيت بصيرا). [عيون الأخبار: 2/179-181]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (ومن هذا الباب ألزمت الناس بعضهم بعضاً وخوّفت الناس ضعيفهم قويّهم فهذا معناه في الحديث المعنى الذي في قولك خاف الناس ضعيفهم قويهم ولزم الناس بعضهم بعضاً فلمّا قلت ألزمت وخوّفت صار مفعولا وأجريت الثاني على ما جرى عليه الأوّل وهو فاعلٌ فصار فعلا تعدّى إلى مفعولين.
وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعضٍ على قولك دفع الناس بعضهم بعضاً. ودخول الباء ههنا بمنزلة قولك ألزمت كأنّك قلت في التمثيل أدفعت كما أنك تقول ذهبت به من عندنا وأذهبته من عندنا وأخرجته معك وخرجت به معك. وكذلك ميّزت متاعك بعضه من بعضٍ وأوصلت القوم بعضهم إلى بعضٍ فجعلته مفعولا على حدّ ما جعلت الذي قبله وصار قوله إلى بعض ومن بعض في موضع مفعولٍ منصوبٍ.
ومن ذلك فضّلت متاعك أسفله على أعلاه فإنّما جعله مفعولا من قوله خرج متاعك أسفله على أعلاه كأنه قال في التمثيل فضل متاعك أسفله على أعلاه فعلى أعلاه في موضع نصب.
ومثل ذلك صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنّه مفعول من أصطكّ الحجران أحدهما بالآخر ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: (ولولا دفاع
الله النّاس بعضهم ببعضٍ).
وهذا ما يجرى منه مجرورا كما يجرى منصوبا وذلك قولك عجبت من دفع الناس بعضهم ببعضٍ إذا جعلت الناس مفعولين كان بمنزلة قولك عجبت من إذهاب الناس بعضهم بعضاً لأنّك إذا قلت أفعلت استغنيت عن الباء وإذا قلت فعلت احتجت إليها وجرى في الجرّ على قولك دفعت الناس بعضهم ببعضٍ. وإن جعلت الناس فاعلين قلت عجبت من دفع الناس بعضهم بعضاً جرى في الجر على حد مجراه في الرفع كما جرى في الأوّل على مجراه في النّصب وهو قولك: دفع الناس بعضهم بعضاً). [الكتاب: 1/153-154]
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (هذا باب ما لا يكون إلا على معنى ولكن
فمن ذلك قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} أي ولكن من رحم. وقوله عز وجل: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا} أي ولكن قوم يونس لما آمنوا. وقوله عز وجل: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلاً ممّن أنجينا منهم} أي ولكن قليلا ممن أنجينا منهم. وقوله عز وجل: {أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} أي ولكنهم يقولون ربنا الله.
وهذا الضرب في القرآن كثير). [الكتاب: 2/325] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (هذا باب الجمع المزيد فيه وغير المزيد
أما ما كان من الجمع على مثال مفاعل، ومفاعيل؛ نحو: مصاحف، ومحاريب، وما كان على هذا الوزن؛ نحو: فعالل، وفواعل، وأفاعل، وأفاعيل وكل ما كان مما لم نذكره على سكون هذا وحركته وعدده، فغير منصرف في معرفة ولا نكرة. وإنما امتنع من الصرف فيهما؛ لأنه على مثال لا يكون عليه الواحد، والواحد هو الأصل، فلما باينه هذه المباينة، وتباعد هذا التباعد في النكرة، امتنع من الصرف فيها، وإذا امتنع من الصرف فيها فهو من الصرف في المعرفة أبعد، ويدلك على ذلك قول الله عز وجل: {من محاريب وتماثيل} وقوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلواتٌ ومساجد} ). [المقتضب: 3/327] (م)
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) }