قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من أهل العلم بأن المصحف لا يقبل القسمة , لا بإرث ولا بشركة , لأن فى قسمته تفريقا له , وكيف يفرق وقد جمعه الله ؟ . وحينئذ يتم الانتفاع به بالمهايأه بين المستحقين . وقد مر فى مسألة إرث المصحف من هذا البحث تفصيل , ما يتعلق بذلك الجانب , وأن من أهل العلم من نص على أن المصحف لا يورث , وإنما يبقى لمن يقرأ من أهل البيت , فلا يباع فى التركة , ولا يجبر الورثة على ذلك , والظاهر من كلام الفقهاء أن القسمة فى المصحف إنما تمتنع إذا كان مصحفا واحدا بخلاف ما لو تعددت المصاحف بعدد رؤوس المستحقين , فإن القسمة حينئذ تجوز لانتفاء المحذور المتمثل فى مفسدة تفريق المصحف .
وقد أفتى فريق من أهل العلم بكراهة تفريق المصاحف أسداسا وأسباعا كما مر عن الإمام مالك فى مسألة أجزاء المصحف وأثمانه وأسباعه وأسداسه على أن الضرر الناجم عن اقتسام المصحف بين المستحقين يفضى إلى حرمان كل واحد منهم من بعض المصحف الذى لم يكن فى نصيبه , وهذا يعنى أنه سيحرم من بقية أجزاء القرآن , والتى هو بأمس الحاجة إليها , ولا يتصور استغنائه عنها .
قال فى الفتاوى الهندية : ( وفى مختصر خواهر زاده ولا تقسم القوس والسرج ولا المصحف كذا فى التتار خانية ) . إلى أن قال : ( لاتقسم الكتب بين الورثة ,ولكن ينتفع بها كل واحد بالمهايأة , ولو أراد واحد من الورثة أن يقسم بالأوراق {185}
ليس له ذلك ولا يسمع هذا الكلام منه , ولا تقسم بوجه من الوجوه ولو كان صندوق قرآن ليس له ذلك أيضا وإن تراضوا جميعا , فالقاضى لا يأمر بذلك ولو كان مصحف لواحد وسهم من ثلاثة وثلاثين سهما منه للآخر , فإنه يعطى يوما من ثلاث وثلاثين يوما حتى ينتفع , ولو كان كتابا ذا مجلدات كثيرة كشرح المبسوط فإنه لا يقسم أيضا , ولا سبيل إلى القسمة فى ذلك , وكذا فى كل جنس مختلف , ولا يأمر الحاكم بذلك , ولو تراضيا أن تقوم الكتب ويأخذ كل واحد بعضها بالقيمة بالتراضى يجوز وإلا فلا , كذا فى جواهر الفتاوى ) . ويأتى له مزيد بيان فى مسألة التنازع فى المصحف .
وذكر ابن القيم فى البدائع أن الأئمة الثلاثة جعلوا كتب العلم حال التنازع بين الزوجين فى نصيب الرجل , وخلافا للشافعى الذى يقسم الكتاب الذى يقرأ فيه بينهما . وفى الإقناع وشرحه أن الشريك فى الكتاب يجبر على البيع إذا طلب شريكه ذلك ليتخلص الطالب من ضرر الشركة , فإن أبى الممتنع البيع " بيع " أى باعه الحاكم عليهما , لأنه حق عليه , كما بيع الرهن إذا امتنع الراهن وقسم الثمن بينهما بحسب الملك , لأنه عوضه وهو مذهب أبى حنيفة أحمد رحمهم الله . وذكر فى موضع منه أيضا أنه إذا تنازع رب البيت والمكترى فى الكتب فهى للمكترى لأن العادة أن الأنسان يكرى داره فارغة , ولو تنازع الزوجان فى المصحف فهو له إذا كانت لا تقرأ , فإن كانت تقرأ فهو لهما . قال البهوتى : قلت وكذا ينبغى فى كتب {186}
العلم . ولم يبين كيفية انتفاع كل منهما بالمصحف , إلا أن يقال بأن هذا ممكن بطريقة المهايأة كما مر .
وقال العبادى فى حاشيته على التحفة :" فرع " هل للعامل الكافر شراء المصحف للقراض ؟ الذى يتجه الصحة إن صححنا شراء الوكيل الكافر المصحف لموكله المسلم لوقوع الملك للموكل دونه ولا يعارض ذلك أنه يملك حصته من الربح بشرطه , فيلزم أن يملك جزأ من المصحف , لأن حصول الربح أمر مستقبل غير لازم للعقد على أنه لا يملك حصته من الربح بمجرد حصول الربح على الصحيح , وظاهر أنه يمتنع قسمة المصحف وإلا لزم ملكه جزء منه وهو ممتنع نعم يمكن التوصل لملك حصته من الربح بنضوض المال مع فسخ العقد , فإن ذلك من الطرق التى تحصل ملك الحصة واستقراره بها فليتأمل )
وذكر ابن عبد السلام فى قواعد الأحكام فى تعارض الظاهرين أن الزوجين إذا اختلفا فى متاع البيت وكان الزوج فقهيا فنازعته فى كتب الفقه , أو مقرئا فنازعته فى كتب القراءة , أو طبيبا فنازعته فى كتب الطب , أو محدثا فنازعته فى كتب الحديث , فإن الشافعى رحمه الله يسوى بينهما نظرا إلى الظاهر المستفاد من اليد , وبعض العلماء يخص كل واحد منهما بما يليق به , نظرا إلى الظاهر المستفاد من العادة الغالبة , وهذا مذهب ظاهر متجه , فإن كل واحد يجد فى نفسه ظنا لا يمكنه دفعه عن نفسه بأن ما يختص بالأزواج الذكورين لهم , وما يختص بالنساء لهن , وما أبعد المشاركة بين الفقيه وزوجته فى حقيهما .
قال الشروانى فى حاشيته على التحفة :(" قوله وبهذا أعنى التصرف يفرق إلخ " قد يقال من الأمتعة نحو كتب العلم , وتصرف الزوج العالم فيها أكثر , وقد يقال إن ثبت تصرف الزوج فيها دونها فالقول قوله , وهذا ظاهر سم ).
ثم وجدت المزنى فى مختصره يقول: ( قال الشافعى : وإذا اختلف الزوجان فى {187}
متاع البيت يسكنانه قبل أن يتفرقا أو بعد ما تفرقا كان البيت لهما أو لأحدهما أو يموتان أو أحدهما فيختلف فى ذلك ورثهما , فمن أقام بينة على شئ فهوله , وإن لم بينة فالقياس الذى لا يعذر أحد عندى بالغفلة عنه على الإجماع أن هذا المتاع بأيديهما جميعا فهو بينهما نصفين , وقد يملك الرجل متاع المرأة وتملك المرأة متاع الرجل , ولو استعملت الظنون عليهما لحكمت فى عطار ودباغ يتنازعان عطرا ودباغا فى أيديهما بأن أجعل للعطار العطر وللدباغ الدباغ , ولحكمت فيما يتنازع فيه معسر وموسر من لؤلؤ بأن أجعله للموسر , ولا يجوز الحكم بالظنون )
والظاهر أن استحقاق المتنازعين فى المصحف إذا اقتضى أن يكون بينهما مناصفة لا يفضى بالضرورة إلى قسمته , بل يمكن الانتفاع بالمهايأة كما مر , أو استخلاصه بالقيمة لواحد منهما , وقد مر فى مسألة إرث المصحف فتوى الإمام مالك بجواز استخلاص الوصى المصحف لليتيم الغلام دون أخواته من الإناث .
وقد وجدت الإمام الشافعى فى الأم يقول ما نصه : ( وقد رأيت امرأة بينى وبينها ضبة سيف استفادته من ميراث أبيها بمال عظيم ودرع ومصحف فكان لها دون أخوتها ). ولم يظهر لى مراد الشافعى رحمه الله من هذا القول ولا الكيفية التى اقتضت اختصاص المرأة بالمصحف دون إخوتها) . {188}