تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثمّ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (103) وقال موسى يا فرعون إنّي رسولٌ من ربّ العالمين (104) حقيقٌ على أن لا أقول على اللّه إلاّ الحقّ قد جئتكم ببيّنةٍ من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل (105) قال إن كنت جئت بآيةٍ فأت بها إن كنت من الصّادقين (106) فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ (107) ونزع يده فإذا هي بيضاء للنّاظرين (108)}
الضمير في قوله: {من بعدهم} عائد على الأنبياء المتقدم ذكرهم وعلى أممهم، و «الآيات» في هذه الآية عام في التسع وغيرها، وقوله فظلموا بها المعنى فظلموا أنفسهم فيها وبسببها وظلموا أيضا مظهرها، ومتبعي مظهرها وقيل لما نزلت ظلموا منزلة كفروا وجحدوا عديت بالباء كما قال الفرزدق: قد قتل الله زيادا عني
فأنزل قتل منزلة صرف، ثم حذر الله من عاقبة المفسدين الظالمين وجعلهم مثالا يتوعد به كفرة عصر النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفرعون اسم كل ملك لمصر في ذلك الزمان فخاطبه موسى بأعظم أسمائه وأحبها إليه إذ كان من الفراعنة كالنمارذة في يونان وقيصر في الروم وكسرى في فارس والنجاشي في الحبشة، وروي أن موسى بن عمران بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، وروي أن اسم فرعون موسى عليه السلام الوليد بن مصعب، وقيل هو فرعون يوسف وأنه عمر نيفا وأربعمائة سنة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن قال إن يوسف المبعوث الذي أشار إليه موسى في قوله: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبيّنات} [غافر: 34] هو غير يوسف الصديق فليس يحتاج إلى نظر، ومن قال إنه يوسف الصديق فيعارضه ما يظهر من قصة يوسف، وذلك أنه ملك مصر بعد عزيزها، فكيف يستقيم أن يعيش عزيزها إلى مدة موسى، فينفصل أن العزيز ليس بفرعون الملك إنما كان حاجبا له). [المحرر الوجيز: 4/ 12-13]
تفسير قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ نافع وحده على بإضافة «على» إليه، وقرأ الباقون «على» سكون الياء، قال الفارسي: معنى هذه القراءة أن «على» وضعت موضع الباء، كأنه قال حقيق بأن لا أقول على الله الحق كما وضعت الباء موضع «على» في قوله: {ولا تقعدوا بكلّ صراطٍ} [الأعراف: 86] فيتوصل إلى المعنى بهذه، وبهذه وكما تجيء «على» أيضا بمعنى عن، ومنه قول الشاعر في صفة قوسه:
أرمي عليها وهي فرع أجمع ....... وهي ثلاث أذرع وإصبع
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وحقيقٌ على هذا معناه جدير وخليق، وقال الطبري: قال قوم: حقيقٌ معناه حريص فلذلك وصلت ب على، وفي هذا القول بعد، وقال قوم: حقيقٌ صفة لرسول تم عندها الكلام، وعلى خبر مقدم وأن لا أقول ابتداء تقدم خبره، وإعراب أن على قراءة من سكن الياء خفض، وعلى قراءة من فتحها مشددة رفع، وقال الكسائي في قراءة عبد الله «حقيق بأن لا أقول»، وقال أبو عمرو في قراءة عبد الله: «حقيق أن أقول» وبه قرأ الأعمش، وهذه المخاطبة إذا تأملت غاية في التلطف ونهاية في القول اللين الذي أمر عليه السلام به.
وقوله: {قد جئتكم ببيّنةٍ من ربّكم الآية}، البينة هنا إشارة إلى جميع آياته وهي على المعجزة هنا أدل، وهذا من موسى عرض نبوته ومن فرعون استدعاء خرق العادة الدال على الصدق.
وظاهر الآية وغيرها أن موسى -عليه السلام- لم تنبن شريعته إلا على بني إسرائيل فقط، ولم يدع فرعون وقومه إلا إلى إرسال بني إسرائيل، وذكره لعله يخشى أو يزكى ويوحد كما يذكر كل كافر، إذ كل نبي داع إلى التوحيد وإن لم يكن آخذا به ومقاتلا عليه، وأما إن دعاه إلى أن يؤمن ويلتزم جميع الشرع فلم يرد هذا نصا، والأمر محتمل، وبالجملة فيظهر فرق ما بين بني إسرائيل وبين فرعون والقبط، ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى أبدا ولا عارضهم وكان القبط مثل عبدة البقر وغيرهم وإنما احتاج إلى محاورة فرعون لتملكه على بني إسرائيل). [المحرر الوجيز: 4/ 13-14]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) }
تفسير قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {فألقى عصاه ... الآية}، روي أن موسى عليه السلام قلق به وبمحاورته فرعون فقال لأعوانه: خذوه فألقى موسى العصا فصارت ثعبانا وهمت بفرعون فهرب منها، وقال السدي: إنه أحدث وقال يا موسى كفه عني فكفه، وقال نحوه سعيد بن جبير.
و «إذا» ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبرا عن جثة، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان في كل موضع، ويقال: إن الثعبان وضع أسفل لحييه في الأرض وأعلاها في شرفات القصر، والثعبان الحية الذكر، وهو أهول وأجرأ، قاله الضحاك، وقال قتادة صارت حية أشعر ذكرا، وقال ابن عباس: غرزت ذنبها في الأرض ورفعت صدرها إلى فرعون، وقوله: {مبينٌ} معناه لا تخييل فيه بل هو بين أنه حقيقة، وهو من أبان بمعنى بان أو من بان بمعنى سلب عن أجزائه). [المحرر الوجيز: 4/ 14]
تفسير قوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {ونزع يده}، معناه من جيبه أو كمه حسب الخلاف في ذلك، وقوله فإذا هي بيضاء قال مجاهد كاللبن أو أشد بياضا، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس تأتلق، وكان موسى -عليه السلام- ذا دم أحمر إلى السواد، ثم كان يرد يده فترجع إلى لون بدنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما، وخرق العادة بهما وتحدى الناس إلى الدين بهما، فإذا جعلنا التحدي الدعاء إلى الدين مطلقا فبهما تحدى، وإذا جعلنا التحدي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأن المعارضة والعجز فيها وقعا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقال التحدي هو الدعاء إلى الإتيان بمثل المعجزة، فهذا نحو ثالث وعليه يكون تحدي موسى بالآيتين جميعا لأن الظاهر من أمره أنه عرضهما للنظر معا وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلها، وروي عن فرقد السبخي أن فم الحية كان ينفتح أربعين ذراعا). [المحرر الوجيز: 4/ 14-15]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين (111) يأتوك بكلّ ساحرٍ عليمٍ (112) وجاء السّحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين (113) قال نعم وإنّكم لمن المقرّبين (114) قالوا يا موسى إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلمّا ألقوا سحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاؤ بسحرٍ عظيمٍ (116)}
الساحر كان عندهم في ذلك الزمن أعلى المراتب وأعظم الرجال، ولكن وصفهم موسى بذلك مع مدافعتهم له عن النبوة ذم عظيم وحط، وذلك قصدوا إذ لم يمكنهم أكثر). [المحرر الوجيز: 4/ 15]
تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقولهم: {يريد أن يخرجكم من أرضكم}؛ يعنون بأنه يحكم فيكم بنقل رعيتكم في بني إسرائيل فيفضي ذلك إلى خراب دياركم إذا ذهب الخدمة والعمرة، وأيضا فلا محالة أنهم خافوا أن يقاتلهم وجالت ظنونهم كل مجال، وقال النقاش: كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك، وقوله فماذا تأمرون الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم إلى بعض، وقيل هو من كلام فرعون لهم، وروى كردم عن نافع «تأمرون» بكسر النون، وكذلك في الشعراء و «في» استفهام و «ذا» بمعنى الذي فهما ابتداء وخبر، وفي تأمرون ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به ويجوز أن تجعل فماذا بمنزلة اسم واحد في موضع نصب ب تأمرون ولا يضمر فيه على هذا، قال الطبري: والسحر مأخوذ من سحر المطر الأرض إذا جادها حتى يقلب نباتها ويقلعه من أصوله فهو يسحرها سحرا والأرض مسحورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما سحر المطر الطين إذا أفسده حتى لا يمكن فيه عمل، والسحر الآخذة التي تأخذ العين حتى ترى الأمر غير ما هو، وربما سحر الذهن، ومنه قول ذي الرمة: [الوافر]
وساحرة السراب من الموامي ....... يرقص في نواشزها الأروم
أراد أنه يخيل نفسه ماء للعيون). [المحرر الوجيز: 4/ 15-16]
تفسير قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة، وقرأ ابن كثير «أرجئهو» بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء، وقرأ أبو عمرو «أرجئه» بالهمز، دون واو بعدها وقرأ نافع وحده في رواية قالون: «أرجه» بكسر الهاء، ويحتمل أن يكون المعنى: أخره فسهل الهمزة، ويحتمل من الرجا بمعنى أطعمه ورجه قاله المبرد، وقرأ ورش عن نافع: «أرجهي» بياء بعد كسرة الهاء، وقرأ ابن عامر: «أرجئه» بكسر الهاء وبهمزة قبلها، قال الفارسي وهذا غلط وقرأ عاصم والكسائي «أرجه» بضم الهاء دون همز، وروى أبان عن عاصم: «أرجه» بسكون الهاء وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها، ومنه قول الشاعر: [منظور بن حبة الأسدي]
أنحى عليّ الدهر رجلا ويدا ....... يقسم لا أصلح إلا أفسدا
فيصلح اليوم ويفسد غدا.
وقال الآخر:
لما رأى أن لا دعة ولا شبع ....... مال إلى أرطاة حقق فاضطجع
وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافا ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا: إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن اغلبه بالحجة، والمدائن جمع مدينة وزنها فعيلة من مدن أو مفعلة من دان يدين وعلى هذا يهمز مدائن أو لا يهمز، وحاشرين معناه جامعين، قال المفسرون: وهم الشرط). [المحرر الوجيز: 4/ 16-17]
تفسير قوله تعالى: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «بكل ساحر»، وقرأ حمزة والكسائي: «بكل سحار» على بناء المبالغة وكذلك في سورة يونس، وأجمعوا على «سحار» في سورة الشعراء، وقال قتادة: معنى الإرجاء الذي أشاروا إليه السجن والحبس). [المحرر الوجيز: 4/ 17-18]