العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة التوبة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:21 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي تفسير سورة التوبة [ الآيتين (36) ، (37) ]

تفسير سورة التوبة
[ الآيتين (36) ، (37) ]


بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا َيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:23 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) )
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] {كما يقاتلونكم كافة} قال: جميعا [الآية: 36]). [تفسير الثوري: 126]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [الآية (36) : قوله تعالى: {إنّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ... } الآية]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا أبو معاوية، عن الكلبي، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ - في قوله عزّ وجلّ: {منها أربعةٌ حرمٌ} - قال: المحرّم ورجبٌ وذو القعدة وذو الحجة). [سنن سعيد بن منصور: 5/249]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه، يوم خلق السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم} «هو القائم»
- حدّثنا عبد اللّه بن عبد الوهّاب، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن محمّدٍ، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب، مضر الّذي بين جمادى، وشعبان "). [صحيح البخاري: 6/66]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات والأرض)
أي إنّ اللّه سبحانه وتعالى لمّا ابتدأ خلق السّماوات والأرض جعل السّنة اثّنى عشر شهرا قوله منها أربعة حرم قد ذكر تفسيرها في حديث الباب قوله ذلك الدّين القيم قال أبو عبيدة في قوله ذلك الدّين القيم مجازه القائم أي المستقيم فخرج مخرج سيّدٍ من ساد يسود كقام يقوم قوله فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم أي في الأربعة باستحلال القتال وقيل بارتكاب المعاصي
[4662] قوله إنّ الزّمان قد استدار كهيئته تقدّم الكلام عليه في أوائل بدء الخلق وأنّ المراد بالزّمان السّنة وقوله كهيئته أي استدار استدارةً مثل حالته ولفظ الزّمان يطلق على قليل الوقت وكثيره والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجّة في الوقت الّذي حلّت فيه الشّمس برج الحمل حيث يستوي اللّيل والنّهار ووقع في حديث بن عمر عند بن مردويه أنّ الزّمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض قوله السّنة اثنا عشر شهرًا أي السّنة العربيّة الهلاليّة وذكر الطّبريّ في سبب ذلك من طريق حصين بن عبد الرّحمن عن أبي مالكٍ كانوا يجعلون السّنة ثلاثة عشر شهرًا ومن وجهٍ آخر كانوا يجعلون السّنة اثّني عشر شهرًا وخمسةً وعشرين يومًا فتدور الأيّام والشّهور كذلك قوله ثلاثٌ متوالياتٌ هو تفسير الأربعة الحرم قال بن التّين الصّواب ثلاثةٌ متواليةٌ يعني لأنّ المميّز الشّهر قال ولعلّه أعاده علىالمعنى أي ثلاث مددٍ متوالياتٍ انتهى أو باعتبار العدّة مع أنّ الّذي لا يذكر التّمييز معه يجوز فيه التّذكير والتّأنيث وذكرها من سنتين لمصلحة التّوالي بين الثّلاثة وإلّا فلو بدأ بالمحرّم لفات مقصود التّوالي وفيه إشارةٌ إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهليّة من تأخير بعض الأشهر الحرم فقيل كانوا يجعلون المحرّم صفرًا ويجعلون صفرًا المحرّم لئلّا يتوالى عليهم ثلاثة أشهرٍ لا يتعاطون فيها القتال فلذلك قال متوالياتٌ وكانوا في الجاهليّة على أنحاءٍ منهم من يسمّي المحرّم صفرًا فيحلّ فيه القتال ويحرّم القتال في صفرٍ ويسمّيه المحرّم ومنهم من كان يجعل ذلك سنةً هكذا وسنةً هكذا ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا ومنهم من يؤخّر صفرًا إلى ربيعٍ الأوّل وربيعًا إلى ما يليه وهكذا إلى أن يصير شوّالٌ ذا القعدة وذو القعدة ذا الحجّة ثمّ يعود فيعيد العدد على الأصل قوله ورجب مضر أضافه إليهم لأنّهم كانوا متمسّكين بتعظيمه بخلاف غيرهم فيقال إنّ ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان وكان من العرب من يجعل في رجبٍ وشعبان ما ذكر في المحرّم وصفرٍ فيحلّون رجبًا ويحرّمون شعبان ووصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيدًا وكان أهل الجاهليّة قد نسئوا بعض الأشهر الحرم أي أخّروها فيحلّون شهرًا حرامًا ويحرّمون مكانه آخر بدله حتّى رفض تخصيص الأربعة بالتّحريم أحيانًا ووقع تحريم أربعةٍ مطلقةٍ من السّنة فمعنى الحديث أنّ الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وبطل النّسيء وقال الخطّابيّ كانوا يخالفون بين أشهر السّنة بالتّحليل والتّحريم والتّقديم والتّأخير لأسبابٍ تعرض لهم منها استعجال الحرب فيستحلّون الشّهر الحرام ثمّ يحرّمون بدله شهرًا غيره فتتحوّل في ذلك شهور السّنة وتتبدّل فإذا أتى على ذلك عدّةٌ من السّنين استدار الزّمان وعاد الأمر إلى أصله فاتّفق وقوع حجّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عند ذلك تنبيهٌ أبدى بعضهم لما استقرّ عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبةً لطيفةً حاصلها أنّ للأشهر الحرم مزيّةً على ما عداها فناسب أن يبدأ بها العام وأن تتوسّطه وأن تختم به وإنّما كان الختم بشهرين لوقوع الحجّ ختام الأركان الأربع لأنّها تشتمل على عمل مالٍ محضٍ وهو الزّكاة وعمل بدنٍ محضٍ وذلك تارةً يكون بالجوارح وهو الصّلاة وتارةً بالقلب وهو الصّوم لأنّه كفٌّ عن المفطرات وتارةً عملٌ مركّبٌ من مالٍ وبدنٍ وهو الحجّ فلمّا جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحدٍ منهما فكان له من الأربعة الحرم شهران واللّه أعلم). [فتح الباري: 8/324-325]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله: {إنّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ} (التّوبة: 36)
أي: هذا باب في قوله عز وجل: {إن عدّة الشّهور} إلى آخره، وليس في بعض النّسخ لفظ: باب.
{ذالك الدّين القيّم} القيّم هو القائم
أي: هذا هو الشّرع المستقيم من امتثال أمر الله عز وجل فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ماسبق في كتاب الله تعالى، وقال الزّمخشريّ: {ذلك الدّين القيم} يعني: أن تحريم الأشهر الأربعة هو الدّين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام. قوله: (القيم) على وزن فعل بتشديد العين مبالغة في معنى القائم، وفي بعض التفاسير: {ذلك الدّين القيم} أي: الحساب المستقيم الصّحيح والعدد المستوي، قاله الجمهور.
فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم
أي: في الأربعة الأشهر، وقيل في الإثني عشر بالقتال، ثمّ نسخ وقيل: بارتكاب الآثام.
- (حدثنا عبد الله بن عبد الوهّاب حدثنا حمّاد بن زيد عن أيّوب عن محمّد عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة عن النّبي - صلّى اللّه عليه وسلّم - قال إن الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض السّنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان) مطابقته للتّرجمة ظاهرة وعبد الله بن عبد الوهّاب أبو محمّد الحجبي البصريّ وأيوب هو السّختيانيّ ومحمّد هو ابن سيرين وابن أبي بكرة هو عبد الرّحمن يروي عن أبيه أبي بكرة نفيع بن الحارث والحديث مضى في أوائل بدء الخلق فإنّه أخرجه هناك عن محمّد بن المثنى عن عبد الوهّاب عن أيّوب عن محمّد بن سيرين إلى آخره قوله إن الزّمان المراد به السّنة قد استدار المراد بالاستدارة انتقال الزّمان إلى هيئته الأولى وذلك أن العرب كانوا يؤخرون المحرم إلى صفر وهو النسيء ليقاتلوا فيه ويفعلون ذلك سنة بعد سنة فينتقل المحرم من شهر إلى شهر حتّى يجعلوه في جميع شهور السّنة قوله كهيئته أي على الوضع الّذي كان قبل النسيء لا زائدا في العدد ولا مغيرا كل شهر عن موضعه قوله متواليات أي متتابعات قوله ورجب مضر إنّما أضيف رجب إلى مضر الّتي هي القبيلة لأنهم كانوا يعظمونه ولم يغيروه عن مكانه ورجب من الترجيب وهو التّعظيم ويجمع على أرجاب ورجاب ورجبات وقوله بين جمادى وشعبان تأكيد والمراد بجمادى جمادى الآخرة وقد يذكر ويؤنث فيقال جمادى الأول والأولى وجمادى الآخر والآخرة ويجمع على جمادات كحبارى وحباريات وسمي بذلك لجمود الماء فيه قلت كأنّه حين وضع أولا اتّفق جمود الماء فيه وإلّا فالشهور تدور -). [عمدة القاري: 18/265-266]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ} القيّم: هو القائم
(باب قوله) جل وعلا ({إن عدة الشهور عند الله}) العدة مصدر بمعنى العدد وعند الله نصب به أي أن مبلغ عددها عنده تعالى: ({اثنا عشر شهرًا}) نصب على التمييز (واثنا عشر) خبر إن ({في كتاب الله}) في اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب أو القرآن أو فيما حكم به وهو صفة لاثنا عشر ({يوم خلق السماوات والأرض}) متعلق بكتاب على جعله مصدرًا ({منها أربعة حرم}) [التوبة: 36] وإنما قيل لهذا المقدار من الزمان شهر لأنه يشهر بالقمر ومنه ابتداؤه وانتهاؤه والقمر هو الشهر قال:
فأصبح أجلى الطرف ما يستزيده = يرى الشهر قبل الناس وهو كحيل
({القيم}) قال أبو عبيدة في مجازه (هو القائم) أي المستقيم وزاد أبو ذر ذلك الدين أي تحريم الأشهر المحرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وتخصيص بعض الزمان بالحرمة كليلة القدر والجمعة والعيد بالفضل دون بعض أن النفوس مجبولة على الشر يشق عليها الامتناع عن الشر بالكلية فمنعت عنه في بعض الأوقات لحرمته وقد كانوا يعظمون هذه الأشهر حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يقتله فأكد الله تعالى ذلك بأن منع الظلم فيها بقوله {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي لا تحلوا حرامها ولذا قيل لا يحل القتال فيها ولا في الحرم، والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة، ويؤيده ما روي أنه -صلّى اللّه عليه وسلّم- حاصر الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه حاصرها أربعين يومًا وسقط باب قوله لغير أبي ذر.
- حدّثنا عبد اللّه بن عبد الوهّاب، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن محمّدٍ عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة عن النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض السّنة اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرمٌ ثلاثٌ متوالياتٌ ذو القعدة، وذو الحجّة والمحرّم، ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) الحجبي البصري قال: (حدّثنا حماد بن زيد) بتشديد الميم ابن درهم الأزدي الجهضمي البصري (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن سيرين (عن ابن أبي بكرة) عبد الرحمن (عن) أبيه (أبي بكرة) نفيع بن الحارث ولأبي ذر عن أبيه بدل عن أبي بكرة (عن النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم-) أنه (قال) في خطبته في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق:
أيها الناس (إن الزمان قد استدار) استدارة (كهيئته) أي مثل حالته (يوم خلق الله السماوات والأرض) أي عالج الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر وذلك أنهم كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرًا آخر ورفضوا خصوص الأشهر، واعتبروا مجرد العدد، وقيل: كانوا يستحلون القتال في المحرم لطول مدة التحريم بتوالي ثلاثة أشهر محرمة ثم يحرمون صفر مكانه فكأنهم يقترضونه ثم يوفونه، وقيل كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام ويسمونهما صفرين ثم يحرمونها من عام قابل ويسمونها محرمين، وقيل بل كانوا ربما احتاجوا إلى صفر إيضافًا حلوه وجعلوا مكانه ربيعًا ثم يدور كذلك التحريم والتحليل بالتأخير على السنة كلها إلى أن جاء الإسلام فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى المحرم الحقيقي وصار الحج مختصًّا بوقت معين، واستقام حساب السنة ورجع إلى الأصل الموضوع يوم خلق السموات والأرض.
(السنة) العربية الهلالية (اثنا عشر شهرًا) على ما توارثوه من إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وذلك بعدد البروج التي تدور الشمس فيها السنة الشمسية. فإذا دار القمر فيها
كلها كملت دورته السنوية وإنما جعل الله تعالى الاعتبار بدور القمر لأن ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب بل هو أمر ظاهر مشاهد بالبصر بخلاف سير الشمس فإنه تحتاج معرفته إلى حساب فلم يحوجنا إلى ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام "إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا" الحديث.
واعلم أن السنة والحول والعام مترادفة فمعناها واحد كما هو ظاهر كلام كثير من اللغويين وهي مشتملة على ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا وخمس وسدس يوم كذا ذره صاحب المهذّب من الشافعية في الطلاق قالوا: لأن شهرًا منها ثلاثون وشهرًا تسع وعشرون إلا ذا الحجة فإنه تسع وعشرون وخمس يوم وسدس يوم، واستشكله بعضهم وقال: لا أدري ما وجه زيادة الخمس والسدس: وصحح بعضهم أن السنة الهلالية ثلاثمائة وخمسة وخمسون يومًا، وبه جزم ابن دحية في كتاب التنوير وذلك مقدار قطع البروج الاثني عشر التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وفرق بعضهم بين السنة والعام فيكونان متباينين فقال: إن العام من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة والسنة من كل يوم إلى مثله من القابل نقله ابن الخباز في شرح اللمع له، وسمي العام عامًّا لأن الشمس عامت فيه حتى قطعت جملة الفلك لأنها تقطع الفلك كله في السنة مرة وتقطع في كل شهر برجًا من البروج الاثني عشر وإنما علق الله تعالى على الشمس أحكام اليوم من الصلاة والصيام حيث كان ذلك مشاهدًا بالبصر لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب فالصلاة تتعلق بطلوع الفجر وطلوع الشمس وزوالها ومصير ظل كل شيء مثله بعد الذي زالت عليه الشمس وبغروب الشمس، والسنة القمرية أقل من الشمسية بمقدار معلوم وبسبب ذلك النقصان تنتقل المشهور القمرية من فصل إلى آخر فيقع الحج في الشتاء تارة وفي الصيف أخرى، وذكر الطبري أنهم كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا ومن وجه آخر يجعلونها اثني عشر شهرًا وخمسة وعشرين يومًا فتدور الأيام والشهور كذلك، وقول أن حجة الصديق رضي الله تعالى عنه سنة تسع كانت في ذي القعدة فيه نظر لأن الله تعالى قال: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} الآية وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: {يوم الحج أكبر}.
(منها أربعة حرم) لعظم حرمتها وعظم الذنب فيها أو لتحريم القتال فيها (ثلاث متواليات) أي متتابعات وهو تفسير للأربعة الحرم. قال ابن التين فيما نقله في الفتح: الصواب ثلاثة متوالية يعني لأن المميز الشهر قال ولعله أعاد على المعنى أي ثلاث مدد متواليات لكن إذا لم يذكر التمييز جاز التذكير والتأنيث، ولأبي ذر: ثلاثة متواليات (ذو القعدة وذو الحجة) بفتح القاف والحاء (والمحرم ورجب مضر) وهي القبيلة المشهورة وأضافه إليها لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه (الذي بين جمادى) الآخرة (وشعبان) وهذا تأكيد وتصحيح لقول مضر نافيًا به قول ربيعة أن رجبًا المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوّال وهو رمضان اليوم، وإنما كانت الأشهر الأربعة ثلاثة سرد وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر ليسار فيه إلى الحج وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون
بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنًا، وقد تمسك من قال بأنها من سنتين بقوله ثلاث متواليات من حيث كونها ثلاثًا تواليات وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب، وقد روي من حديث ابن عمر مرفوعًا أوّلهن رجب لكن في إسناده ضعف، وعن أهل المدينة أنها من سنتين وأولها ذو القعدة ثم ذو الحجة ثم المحرم ثم رجب آخرها، وعن بعض أهل المدينة أيضًا أن أولها رجب ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة ثم المحرم، وعن أهل الكوفة أنها من سنة واحدة أوّلها المحرم ثم رجب ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة. واختلف أيها أفضل؟ فقال بعض الشافعية: رجب، وضعفه النووي وغيره وقيل: المحرم قاله الحسن، ورجحه النووي وقيل ذو الحجة.
وروي عن سعيد بن جبير وغيره قال بعضهم: إذا رأيت العرب السادات قد تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا محرم، وإذا ضعفت أبدانهم واصفرت ألوانهم قالوا اصفر، إذا زهت البساتين وظهرت الرياحين قالوا ربيعان، وإذا قلت الثمار وجمد الماء قالوا جماديان، وإذا هاجت الرياح وجرت الأنهار وترجبت الأشجار قالوا رجب، وإذا بانت الفصائل وتشعبت القبائل قالوا شعبان، وإذا حمي الفضا وطغى جمر الغض قالوا رمضان، إذا قلّ السحاب وكثر الذباب وشالت الأذناب قالوا شوّال، وإذا تعد التجار عن الأسعار قالوا ذو القعدة، وإذا قصدوا الحج من كل فج وأظهروا العج والثج قالوا ذو الحجة.
وهذا الحديث ذكره في بدء الخلق). [إرشاد الساري: 7/146-148]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم}.
يقول تعالى ذكره: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه} الّذي كتب فيه كلّ ما هو كائنٌ في قضائه الّذي قضى {يوم خلق السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ} يقول: هذه الشّهور الاثنا عشر، منها أربعة أشهرٍ حرمٌ كانت الجاهليّة تعظّمهنّ وتحرّمهنّ وتحرّم القتال فيهنّ، حتّى لو لقي الرّجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يهجه. وهنّ: رجب مضر وثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثنا موسى بن عبد الرّحمن المسروقيّ، قال: حدّثنا زيد بن الحباب، قال: حدّثنا موسى بن عبيدة الرّبذيّ، قال: حدّثني صدقة بن يسارٍ، عن ابن عمر، قال: خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجّة الوداع بمنًى في أوسط أيّام التّشريق، فقال: يا أيّها النّاس، إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حرمٌ، أوّلهنّ رجب مضر بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم.
- حدّثنا محمّد بن معمرٍ، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا أشعث، عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض، منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ ورجب مضر بين جمادى وشعبان.
- حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثنا أيّوب، عن محمّد بن سيرين، عن أبي بكرة: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خطب في حجّة الوداع، فقال: ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان.
- حدّثنا مجاهد بن موسى، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سليمان التّيميّ، قال: حدّثني رجلٌ بالبحرين، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في خطبته في حجّة الوداع: ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا، منها ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجبٌ الّذي بين جمادى وشعبان.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيحٍ، قوله: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ} إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجبٌ الّذي بين جمادى وشعبان.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في خطبته يوم منًى: ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان.
وهو قول عامّة أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ} أمّا أربعةٌ حرمٌ: فذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجبٌ. وأمّا كتاب اللّه: فالّذي عنده.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا} قال: يعرف بها شأن النّسيء ما نقص من السّنة.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قول اللّه: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه} قال: يذكر بها شأن النّسيء.
وأمّا قوله: {ذلك الدّين القيّم} فإنّ معناه: هذا الّذي أخبرتكم به، من أنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه، وأنّ منها أربعةً حرمًا: هو الدّين المستقيم.
- كما حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ذلك الدّين القيّم} يقول: المستقيم.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال ابن زيدٍ في قوله: {ذلك الدّين القيّم} قال: الأمر القيّم.
- يقول تعالى: واعلموا أيّها النّاس أنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه الّذي كتب فيه كلّ ما هو كائنٌ، وأنّ من هذه الاثني عشر شهرًا أربعة أشهرٍ حرمًا ذلك دين اللّه المستقيم، لا ما يفعله النّسيء من تحليله ما يحلّل من شهور السّنة وتحريمه ما يحرّمه منها.
وأمّا قوله: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} فإنّ معناه: فلا تعصوا اللّه فيها، ولا تحلّوا فيهنّ ما حرّم اللّه عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط اللّه وعقابه.
- كما حدّثني يونس، قال: قال أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} قال: الظّلم: العمل بمعاصي اللّه والتّرك لطاعته.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في الّذي عادت عليه الهاء والنّون في قوله: {فيهنّ} فقال بعضهم: عاد ذلك على الاثني عشر شهرًا، وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلّها أنفسكم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} في كلّهنّ. ثمّ خصّ من ذلك أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرمًا وعظّم حرماتهنّ وجعل الذّنب فيهنّ أعظم والعمل الصّالح والأجر أعظم.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا سويد بن عمرٍو، عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبّاسٍ: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} قال: في الشّهور كلّها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم، والهاء والنّون عائدةٌ على الأشهر الأربعة.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، أمّا قوله: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} فإنّ الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزرًا من الظّلم فيما سواها، وإن كان الظّلم على كلّ حالٍ عظيمًا، ولكنّ اللّه يعظّم من أمره ما شاء وقال: إنّ اللّه اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن النّاس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشّهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة، واصطفى من اللّيالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظّم اللّه، فإنّما تعظّم الأمور بما عظّمها اللّه عند أهل الفهم وأهل العقل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً وحلالها حرامًا أنفسكم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا} إلى قوله: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} أي لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشّرك، فإنّما النّسيء الّذي كانوا يصنعون من ذلك {زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا} الآية.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن الحسن: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} قال: ظلم أنفسكم: أن لا تحرّموهنّ كحرمتهنّ.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز. قال: حدّثنا سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن الحسن بن محمّد بن عليٍّ: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} قال: ظلم أنفسكم أن لا تحرّموهنّ كحرمتهنّ.
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن الحسن بن محمّدٍ، بنحوه.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصّواب قول من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها، فإنّ اللّه عظّمها وعظّم حرمتها.
وإنّما قلنا ذلك أولى بالصّواب في تأويله لقوله: {فلا تظلموا فيهنّ} فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمعٍ ما بين الثّلاثة إلى العشرة، وذلك أنّ العرب تقول فيما بين الثّلاثة إلى العشرة إذا كنّت عنه: فعلنا ذلك لثلاث ليالٍ خلون، ولأربعة أيّامٍ بقين، وإذا أخبرت عمّا فوق العشرة إلى العشرين، قالت: فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت، ولأربع عشرة مضت. فكان في قوله جلّ ثناؤه: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} وإخراجه كناية عدد الشّهور الّتي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فيهنّ مخرج عدد الجمع القليل من الثّلاثة إلى العشرة الدّليل الواضح على أنّ الهاء والنّون من ذكر الأشهر الأربعة دون الاثني العشر؛ لأنّ ذلك لو كان كنايةً عن الاثني عشر شهرًا لكان: فلا تظلموا فيها أنفسكم.
فإن قال قائلٌ: فما أنكرت أن يكون ذلك كنايةً عن الاثني عشر، وإن كان الّذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب، فقد علمت أنّ المعروف من كلامها إخراج كناية ما بين الثّلاث إلى العشر بالهاء دون النّون، وقد قال الشّاعر:
أصبحن في قرح وفي داراتها = سبع ليالٍ غير معلوفاتها
ولم يقل: معلوفاتهنّ، وذلك كنايةٌ عن السّبع؟
قيل: إنّ ذلك وإن كان جائزًا فليس الأصحّ الأعرف في كلامها، وتوجيه كلام اللّه إلى الأفصح الأعرف أولى من توجيهه إلى الأنكر.
فإن قال قائلٌ: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يجب أن يكون مباحًا لنا ظلم أنفسنا في غيرهنّ من سائر شهور السّنة؟
قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرامٌ علينا في كلّ وقتٍ وزمانٍ، ولكنّ اللّه عظّم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهنّ على سائر شهور السّنة، فخصّ الذّنب فيهنّ بالتّعظيم كما خصّهنّ بالتّشريف، وذلك نظير قوله: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى} ولا شكّ أنّ اللّه قد أمرنا بالمحافظة على الصّلوات المفروضات كلّها بقوله: {حافظوا على الصّلوات} ولم يبح ترك المحافظة عليهنّ بأمره بالمحافظة على الصّلاة الوسطى، ولكنّه تعالى ذكره زادها تعظيمًا وعلى المحافظة عليها توكيدًا وفي تضييعها تشديدًا، فكذلك ذلك في قوله: {منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم}.
وأمّا قوله: {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً} فإنّه يقول جلّ ثناؤه: وقاتلوا المشركين باللّه أيّها المؤمنون جميعًا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعًا مجتمعين غير متفرّقين.
- كما حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً} أمّا كافّةً فجميعٌ وأمركم مجتمعٌ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وقاتلوا المشركين كافّةً} يقول: جميعًا.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وقاتلوا المشركين كافّةً} أي جميعًا.
والكافّة في كلّ حالٍ على صورةٍ واحدةٍ لا تذكّر ولا تجمع؛ لأنّها وإن كانت بلفظ فاعله فإنّها في معنى المصدر كالعافية والعاقبة، ولا تدخل العرب فيها الألف واللاّم لكونها آخر الكلام مع الّذي فيها من معنى المصدر، كما لم يدخلوها إذا قالوا: قاموا معًا وقاموا جميعًا.
وأمّا قوله: {واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين} فإنّ معناه: واعلموا أيّها المؤمنون باللّه أنّكم إن قاتلتم المشركين كافّةً، واتّقيتم اللّه فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ولم تخالفوا أمره فتعصوه، كان اللّه معكم على عدوّكم وعدوّه من المشركين، ومن كان اللّه معه لم يغلبه شيءٌ؛ لأنّ اللّه مع من اتّقاه فخافه وأطاعه فيما كلّفه من أمره ونهيه). [جامع البيان: 11/439-449]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين (36)
قوله تعالى: إنّ عدّة الشّهور عند اللّه إلى قوله: والأرض
- حدّثنا أحمد بن يونس بن المسيّب الضّبّيّ ثنا مكّيّ ابن إبراهيم ثنا موسى بن عبيدة عن عبد اللّه بن دينارٍ عن ابن عمر قال: وقف رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم بالعقبة فاجتمع إليه ما شاء اللّه من المسلمين، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال: يا أيّها النّاس إنّ الزّمان قد استدار في هذا اليوم كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض وإن عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه
- حدّثنا حجّاج بن حمزة حدّثنا شبابة حدّثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب الله يعرف بها شأن النّسيء ما نقص من السّنة.
قوله تعالى: في كتاب اللّه.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتاب إليّ ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض أمّا كتاب اللّه: فالّذي عنده.
قوله تعالى: منها أربعةٌ حرّمٌ.
- حدّثنا عليّ بن الحسن الهسنجانيّ ثنا أحمد بن حنبلٍ ثنا إسماعيل بن عليّة حدّثنا أيّوب عن محمّد بن سيرين عن أبي بكرة أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- خطب النّاس في حجّته فقال: «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض»، السّنّة اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه... منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٍ ذو القعدة وذو الحجّة، والمحرّم ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعةٌ حرّمٌ ثمّ اختصّ من ذلك أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرمًا وعظّم حرماتهنّ وجعل الذّنب فيهنّ أعظم، والعمل الصّالح والأجر أعظم.
قوله: ذلك الدين.
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجابٌ أنبأ بشرٌ بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ قوله: ذلك الدّين القيّم قال: القضاء القيّم.
الوجه الثّاني:
- قرأت على محمّد بن الفضل ثنا محمّد بن عليٍّ أنبأ محمّد بن مزاحمٍ أنبأ بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان ذلك الدّين القيّم يقول: ذلك الحساب أليمٌ.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي ثنا هشام بن خالدٍ ثنا الوليد ثنا عمر بن محمّدٍ عن زيد بن أسلم في قوله: الدّين القيّم قال: الحمد للّه ربّ العالمين.
قوله تعالى: القيّم.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ فيما كتاب إليّ ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: ذلك الدّين القيّم قال: المستقيم.
- قرأت على محمّد بن الفضل ثنا محمّدٌ، أنبأ محمّدٌ ثنا بكيرٌ عن مقاتلٍ قوله: ذلك الدّين القيّم يقول: ذلك الحساب البيّن.
قوله تعالى: فلا تظلموا.
- حدّثنا أبي ثنا قبيصة ثنا سفيان عن قيس بن مسلمٍ عن الحسن بن محمّد بن عليٍّ فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم قال: لا تحرّموهنّ كحرمتهم.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسي فيما كتاب إليّ ثنا أصبغ قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم يقول: في قول اللّه فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم قال: الظّلم: العمل بمعاصي اللّه، والتّرك لطاعته.
قوله تعالى: فيهنّ أنفسكم.
- حدّثنا جعفر بن النّضر الواسطيّ ثنا عفّان بن مسلمٍ ثنا حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيدٍ عن يوسف بن مهران عن ابن عبّاسٍ فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم قال: في الشّهور كلّها.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم في كلّهنّ.
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد ثنا يزيد ابن زريعٍ عن سعيدٍ عن قتادة قوله: فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم إنّ الظّلم في الشّهر الحرام أعظم خطيئةً ووزرًا من الظّلم فيما سواه، وإن كان الظّلم- على كلّ حالٍ عظيمًا-، وكأنّ اللّه يعظّم من أمره ما شاء.
قوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: وقاتلوا المشركين كافّةً يقول: جميعًا.
- أخبرنا أحمد بن عثمان فيما كتاب إليّ ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً أمّا كافّةً: فجميعٌ، وأمركم مجتمعٌ.
- قرأت على محمّد بن الفضل ثنا محمّد بن عليٍّ ثنا محمّد بن مزاحمٍ ثنا بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: وقاتلوا المشركين كافّةً نسخت هذه الآية كلّ آيةٍ فيها رخصةٌ). [تفسير القرآن العظيم: 6/1791-1793]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا قال هذا في شأن النسيء لأنه كان ينقص من السنة شهرا). [تفسير مجاهد: 277]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 36
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا: منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
وأخرج البزار، وابن جرير، وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ورجب مضر بين جمادى وشعبان.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاث متواليات رجب مضر حرام إلا وإن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا.
وأخرج أحمد والبارودي، وابن مردويه عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه - وكانت له صحبة - قال: كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال يا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم وفي أي يوم أنتم وفي أي بلد أنتم قالوا: في يوم حرام وشهر حرام وبلد حرام قال: فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ثم قال: اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتله هذيل ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ألا وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم واتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئا وإن لهن عليكم حقا ولكم عليهن حقا أن لا يطئن فرشكم أحدا غيركم ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وبسط يديه، وقال: اللهم قد بلغت ألا هل بلغت ثم قال: ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ أسعد من سامع.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما {منها أربعة حرم} قال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه قال: إنما سمين حرما لئلا يكون فيهن حرب.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما {ذلك الدين القيم} قال: القضاء القيم.
وأخرج أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان عن محببة الباهلي عن أبيه أو عمه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته فقال: يا رسول الله وما تعرفني قال: ومن أنت قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال: فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة قال: ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا قليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم عذبت نفسك ثم قال: صم شهر
الصبر ويوما من كل شهر، قال: زدني فإن لي قوة، قال: صم يومين، قال: زدني، قال: صم ثلاثة أيام، قال: زدني، قال: صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله له عبادة سنتين.
وأخرج مسلم وأبو داود عن عثمان بن حكيم رضي الله عنه قال: سألت سعيد بن جبير رضي الله عنه عن صيام رجب فقال: أخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم
وأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام يوما من رجب كان كصيام سنة ومن صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه ومن صام خمسة عشر يوما نادى مناد من السماء قد غفرت لك ما سلف فاستأنف العمل قد بدلت سيئاتكم حسنات من زاد زاده الله، وفي رجب حمل نوح عليه السلام في السفينة فصام نوح عليه السلام وأمر من معه أن يصوموا وجرت بهم السفينة ستة أشهر إلى آخر ذلك لعشر خلون من المحرم.
وأخرج البيهقي والأصبهاني عن أبي قلابة رضي الله عنه قال: في الجنة قصر لصوام رجب قال البيهقي: موقوف على أبي قلابة وهو من التابعين فمثله لا يقول ذلك إلا عن بلاغ عمن فوقه ممن يأتيه الوحي.
وأخرج البيهقي وضعفه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم بعد رمضان إلا رجب وشعبان.
وأخرج البيهقي وضعفه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجب شهر الله ويدعى الأصم وكان أهل الجاهلية إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها فكان الناس ينامون ويأمن السبيل ولا يخافون بعضهم بعضا حتى ينقضي
وأخرج البيهقي عن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال: كن نسمي رجب الأصم في الجاهلية من شدة حرمته في أنفسنا.
وأخرج البخاري والبيهقي عن أبي رجاء العطاردي رضي الله عنه قال: كنا في الجاهلية إذا دخل رجب نقول: جاء منصل الأسنة لا ندع حديدة في سهم ولا حديدة في رمح إلا انتزعناها فألقيناها.
وأخرج البيهقي عن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال: كنا نسمي رجب الأصم في الجاهلية من شدة حرمته.
وأخرج البيهقي وضعفه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك اليلة كان كمن صام من الدهر مائة سنة وقام مائة سنة وهو لثلاث بقين من رجب وفيه بعث الله محمدا.
وأخرج البيهقي وضعفه عن أنس رضي الله عنه مرفوعا في رجب ليلة يكتب للعامل فيها حسنة مائة سنة وذلك لثلاث بقين من رجب فمن صلى فيها اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة من القرآن يتشهد في كل ركعتين ويسلم في آخرهن ثم يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مائة مرة ويستغفر الله مائة مرة ويصلي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مائة مرة ويدعو لنفسه ما شاء من أمر دنياه وآخرته ويصبح صائما فإن الله يستجيب دعاءه كله إلا أن يدعو في المعصية، قال البيهقي: هذا أضعف من الذي قبله
وأخرج البيهقي وقال: إنه منكن بمرة عن أنس رضي الله عنه مرفوعا خيرة الله من الشهور شهر رجب وهو شهر الله من عظم شهر رجب فقد عظم أمر الله ومن عظم أمر الله أدخله جنات النعيم وأوجب له رضوانه الأكبر وشعبان شهري فمن عظم شهر شعبان فقد عظم أمري ومن عظم أمري كنت له فرطا وذخرا يوم القيامة وشهر رمضان شهر أمتي فمن عظم شهر رمضان وعظم حرمته ولم ينتهكه وصام نهاره وقام ليلة وحفظ جوارحه خرج من رمضان وليس عليه ذنب يطلبه الله به.
وأخرج ابن ماجة والبيهقي وضعفه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم رجب كله.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} قال: يقرب بها شر النسيء ما نقص من السنة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرم وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال: في كلهن {وقاتلوا المشركين كافة} يقول: جميعا.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال: إن الظلم في الشهر الحرام أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواه وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما شاء وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي لية القدر فعظموا ما عظم الله فإنما تعظم الأمور لما عظمها الله تعالى به عند أهل الفهم والعقل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال: في الشهور كلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال: الظلم العمل لمعاصي الله والترك لطاعته
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله {وقاتلوا المشركين كافة} قال: نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن كعب قال: اختار الله البلدان فأحب البلدان إلى الله البلد الحرام واختار الله الزمان فأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم وأحب الأشهر إلى الله ذو الحجة وأحب ذو الحجة إلى الله العشر الأول منه واختار الله الأيام فأحب الأيام إلى الله يوم الجمعة وأحب الليالي إلى الله ليلة القدر واختار الله ساعات والليل والنهار فأحب الساعات إلى الله ساعات الصلوات المكتوبات واختار الله الكلام فأحب الكلام إلى الله لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله). [الدر المنثور: 7/340-348]

تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر قال فرض الله الحج في ذي الحجة وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة والمحرم وصفر و ربيع و ربيع و جمادى و جمادى و رجب و شعبان و رمضان و شوال و ذا القعدة و ذا الحجة ثم يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعدون فيسمون صفر صفر ثم يسمون رجب جمادي الآخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه واسمه عندهم ذو الحجة ثم عادوا كمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافق حجة أبي بكر الآخرة من العامين في ذي القعدة ثم حج النبي حجته التي حج فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي في خطبته إن الزمان قد استدار لهيئة يوم خلق الله السماوات و الأرض). [تفسير عبد الرزاق: 1/275-276]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن منصور عن أبي وائل {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال: في رجلٍ من بني كنانة يؤخر المحرم مرة فيجعله صفرًا ويجعله مرّةً المحرّم فأنزل الله {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} [الآية: 37].
سفيان [الثوري] عن السدي مثله.
سفيان [الثوري] قال: كان أصحاب عبد اللّه يقرءونها (يضل) [الآية: 37]). [تفسير الثوري: 126]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [الآية (37) : قوله تعالى: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا... } الآية]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا جرير بن عبد الحميد، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ - في قوله عزّ وجلّ: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} - قال: كان النّاسي (رجلًا) من كنانة، وكان ذا رأيٍ فيهم، وكان يجعل المحرّم سنةً (صفرًا) فيغزو فيه، فيصيب فيه، وسنةً يحرّمه فلا يغزو فيه، وهو قوله عزّ وجلّ: {يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا}). [سنن سعيد بن منصور: 5/250]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا لّيواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم الله زيّن لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين}.
يقول تعالى ذكره: ما النّسيء إلاّ زيادةٌ في الكفر.
والنّسيء مصدرٌ من قول القائل: نسأت في أيّامك ونسأ اللّه في أجلك: أي زاد اللّه في أيّام عمرك ومدّة حياتك حتّى تبقى فيها حيًّا. وكلّ زيادةٍ حدثت في شيءٍ، فالشّيء الحادث فيه تلك الزّيادة بسبب ما حدث فيه نسيءٌ، ولذلك قيل للّبن إذا كثر بالماء نسيءٌ، وقيل للمرأة الحبلى نسوءٌ، ونسئت المرأة؛ لزيادة الولد فيها، وقيل: نسأت النّاقة وأنسأتها: إذا زجرتها ليزداد سيرها.
وقد يحتمل أنّ النّسيء فعيلٌ صرف إليه من مفعولٍ، كما قيل: لعينٌ وقتيلٌ، بمعنى ملعونٍ ومقتولٍ ويكون معناه: إنّما الشّهر المؤخّر زيادةٌ في الكفر. وكأنّ القول الأوّل أشبه بمعنى الكلام، وهو أن يكون معناه: إنّما التّأخير الّذي يؤخّره أهل الشّرك باللّه من شهور الحرم الأربعة وتصييرهم الحرام منهنّ حلالاً والحلال منهنّ حرامًا، زيادةٌ في كفرهم وجحودهم أحكام اللّه وآياته.
وقد كان بعض القرّاء يقرأ ذلك: (إنّما النّسي) بترك الهمز وترك مدّه: {يضلّ به الّذين كفروا}.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة الكوفيّين: (يضلّ به الّذين كفروا) بمعنى: يضلّ اللّه بالنّسيء الّذي ابتدعوه وأحدثوه الّذين كفروا. وقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيّين: (يضلّ به الّذين كفروا) بمعنى: يزول عن حجّة اللّه الّتي جعلها لعباده طريقًا يسلكونه إلى مرضاته الّذين كفروا.
وقد حكي عن الحسن البصريّ: (يضلّ به الّذين كفروا) بمعنى: يضلّ بالنّسيء الّذي سنّه الّذين كفروا، النّاس.
قال أبو جعفرٍ: والصّواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكلّ واحدةٍ القرّاء أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى؛ لأنّ من أضلّه اللّه فهو ضالٌّ ومن ضلّ فبإضلال اللّه إيّاه وخذلانه له ضلّ، فبأيّتهما قرأ القارئ فهو للصّواب في ذلك مصيبٌ.
وأمّا الصّواب من القرّاء في النّسيء، فالهمز، وقراءته على تقدير فعيلٍ؛ لأنّها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار الّتي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.
وأمّا قوله: {يحلّونه عامًا} فإنّ معناه: يحلّ الّذين كفروا النّسيء، والهاء في قوله: {يحلّونه} عائدةٌ عليه.
ومعنى الكلام: يحلّون الّذين أخّروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم عامًا ويحرّمونه عامًا {ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه} يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حلّلوا من الشّهور وتحريمهم ما حرّموا منها، عدّة ما حرّم اللّه {فيحلّوا ما حرّم اللّه زيّن لهم سوء أعمالهم} يقول: حسّن لهم وحبّب إليهم سيّئ أعمالهم وقبيحها وما خولف به أمر اللّه وطاعته. {واللّه لا يهدي القوم الكافرين} يقول: واللّه لا يوفّق لمحاسن الأفعال وحلّها وما للّه فيه رضًا، القوم الجاحدين توحيده والمنكرين نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، ولكنّه يخذلهم عن الهدى كما خذل هؤلاء النّاس عن الأشهر الحرم.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} قال: النّسيء هو أنّ جنادة بن عوف بن أميّة الكنانيّ كان يوافي الموسم في كلّ عامٍ، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي: ألا إنّ أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب، ألا وإنّ صفر العام الأوّل حلالٌ، فيحلّه النّاس، فيحرّم صفر عامًا، ويحرّم المحرّم عامًا، فذلك قوله تعالى: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} إلى قوله: {الكافرين} وقوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} يقول: يتركون المحرّم عامًا، وعامًا يحرّمونه.
قال أبو جعفرٍ: وهذا التّأويل من تأويل ابن عبّاسٍ يدلّ على صحّة قراءة من قرأ (النّسي) بترك الهمزة وترك المدّ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنّه فعلٌ من قول القائل: نسيت الشّيء أنساه، ومن قول اللّه: {نسوا اللّه فنسيهم} بمعنى: تركوا اللّه فتركهم.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} قال: فهو المحرّم كان يحرّم عامًا وصفرٌ عامًا، وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحرم، وكانوا يحرّمون صفرًا مرّةً ويحلّونه مرّةً، فعاب اللّه ذلك، وكانت هوازن وغطفان وبنو سليمٍ تفعله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} قال: كان النّسيء رجلاً من بني كنانة، وكان ذا رأيٍ فيهم، وكان يجعل سنة المحرّم صفرًا، فيغزون فيه فيغتنمون فيه ويصيبون، ويحرّمه سنةً.
- قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} الآية، وكان رجلٌ من بني كنانة يسمّى النّسيء، فكان يجعل المحرّم صفر ويستحلّ فيه الغنائم، فنزلت هذه الآية.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا إدريس، قال: سمعت ليثًا، عن مجاهدٍ، قال: كان رجلٌ من بني كنانة يأتي كلّ عامٍ في الموسم على حمارٍ له، فيقول: أيّها النّاس إنّي لا أعاب ولا أحاب، ولا مردٌّ لما أقول، إنّا قد حرّمنا المحرّم، وأخّرنا صفر، ثمّ يجيء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته، ويقول: إنّا قد حرّمنا صفر، وأخّرنا المحرّم، فهو قوله: {ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه} قال: يعني الأربعة، فيحلّوا ما حرّم اللّه لتأخير هذا الشّهر الحرام.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} النّسيء: المحرّم، وكان يحرّم المحرّم عامًا ويحرّم صفرًا عامًا، فالزّيادة صفرٌ، وكانوا يؤخّرون الشّهور حتّى يجعلون صفر المحرّم، فيحلّوا ما حرّم اللّه، وكانت هوازن وغطفان وبنو سليمٍ يعظّمونه، هم الّذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} إلى قوله: {الكافرين} عمد أناسٌ من أهل الضّلالة، فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم، فيقول: ألا إنّ آلهتكم قد حرّمت العام المحرّم، فيحرّمونه ذلك العام. ثمّ يقول في العام المقبل فيقول: ألا إنّ آلهتكم قد حرّمت صفر، فيحرّمونه ذلك العام. وكان يقال لهما: الصّفران. قال: فكان أوّل من نسأ النّسيء بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثةً: أبو ثمامة صفوان بن أميّة أحد بني فقيم بن الحارث، ثمّ أحد بني كنانة.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} قال: فرض اللّه الحجّ في ذي الحجّة. قال: وكان المشركون يسمّون الأشهر: ذو الحجّة، والمحرّم، وصفر، وربيعٌ، وربيعٌ، وجمادى، وجمادى، ورجبٌ، وشعبان، ورمضان، وشوّالٌ، وذو القعدة، وذو الحجّة، يحجّون فيه مرّةً ثمّ يسكتون عن المحرّم فلا يذكرونه، ثمّ يعودون فيسمّون صفر صفر، ثمّ يسمّون رجب جمادى الآخرة، ثمّ يسمّون شعبان رمضان، ثمّ يسمّون رمضان شوّالاً، ثمّ يسمّون ذا القعدة شوّالاً، ثمّ يسمّون ذا الحجّة ذا القعدة، ثمّ يسمّون المحرّم ذا الحجّة فيحجّون فيه، واسمه عندهم ذو الحجّة. ثمّ عادوا بمثل هذه القصّة، فكانوا يحجّون في كلّ شهرٍ عامين، حتّى وافق حجّة أبي بكرٍ رضي اللّه عنه الآخر من العامين في ذي القعدة. ثمّ حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حجّته الّتي حجّ، فوافق ذا الحجّة، فذلك حين يقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في خطبته: إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} قال: حجّوا في ذي الحجّة عامين، ثمّ حجّوا في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا في صفر عامين، فكانوا يحجّون في كلّ سنةٍ في كلّ شهرٍ عامين، حتّى وافقت حجّة أبي بكرٍ الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بسنةٍ، ثمّ حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من قابلٍ في ذي الحجّة، فذلك حين يقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في خطبته: إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا عمران بن عيينة، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} قال: كانوا يجعلون السّنة ثلاثة عشر شهرًا، فيجعلون المحرّم صفرًا، فيستحلّون فيه الحرمات. فأنزل اللّه: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر}.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا} الآية. قال: هذا رجلٌ من بني كنانة يقال له القلمّس، كان في الجاهليّة، وكانوا في الجاهليّة لا يغير بعضهم على بعضٍ في الشّهر الحرام، يلقى الرّجل قاتل أبيه فلا يمدّ إليه يده. فلمّا كان هو، قال: اخرجوا بنا، قالوا له: هذا المحرّم. فقال: ننسؤه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابلٍ قضينا فجعلناهما محرّمين، قال: ففعل ذلك. فلمّا كان عام قابلٍ، قال: لا تغزوا في صفرٍ حرّموه مع المحرّم، هما محرّمان، المحرّم أنسأناه عامًا أوّل ونقضيه، ذلك الإنساء وقال شاعرهم:
ومنّا منسئ الشّهر القلمّس
وأنزل اللّه: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} إلى آخر الآية.
وأمّا قوله: {زيادةٌ في الكفر} فإنّ معناه: زيادة كفرٍ بالنّسيء إلى كفرهم باللّه. وقيل: ابتداعهم النّسيء.
- كما حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} يقول: ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم.
وأمّا قوله: {ليواطئوا} فإنّه من قول القائل: واطأت فلانًا على كذا أواطئه مواطأةً: إذا وافقته عليه، معينًا له، غير مخالفٍ عليه.
وروي عن ابن عبّاسٍ في ذلك ما:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه} يقول: يشبّهون.
وذلك قريب المعنى ممّا بيّنّا، وذلك أنّ ما شابه الشّيء فقد وافقه من الوجه الّذي شابهه.
وإنّما معنى الكلام: أنّهم يوافقون بعدّة الشّهور الّتي يحرّمونها عدّة الأشهر الأربعة الّتي حرّمها اللّه، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدّموا وأخّروا فذلك مواطأة عدّتهم عدّة ما حرّم اللّه). [جامع البيان: 11/449-457]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه زيّن لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين (37)
قوله تعالى: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر
- حدثنا أحمد بن يونس بن المسيّب، ثنا مكّيّ بن إبراهيم ثنا موسى بن عبيدة عن عبد اللّه بن دينارٍ عن ابن عمر قال: وقف رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- بالعقبة فقال: إنّما النّسيء من الشّيطان زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن طلحة عن ابن عبّاسٍ قال: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر قال: النّسيء: إنّ جنادة بن عوف بن مالكٍ الكنانيّ كان يوافي الموسم كلّ عامٍ، وكان يكنى أبا ثمامة فينادي، ألا إنّ أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب، ألا وإنّ عام صفرٍ الأوّل حلالٌ، فيحلّه للنّاس، فيحلّ صفر عامًا ويحرّمه عامًا ويحرّم المحرّم عامًا، فذلك قول اللّه: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا.
- حدّثنا أبي حدّثنا يحيى بن المغيرة أنبأ جريرٌ عن منصورٍ عن أبي وائلٍ إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا إلى قوله: ما حرّم الله قال: كان النّاسيّ رجلا من كنانة، ذا رأي يأخذون من رأيه، رأسًا فيهم، فكان عامًا يجعل المحرم صفر، فيغيّرون فيه ويستحلّونه، فيصيبون فيغنمون، قال: وكان عامًا يحرّمه.
- حدّثنا أبي ثنا مقاتل بن محمّدٍ، ثنا وكيعٌ عن سفيان عن أبي وائلٍ في قوله: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر. قال: كان رجلٌ يسمّى النّسيء من بني كنانة، كان يجعل المحرم صفر يستحلّ به الغنائم، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: زيادةٌ في الكفر.
- ذكره أحمد بن محمّد بن أبي أسلم ثنا إسحاق بن راهويه ثنا روحٌ ثنا شبلٌ عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ زيادةٌ في الكفر قال: ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم.
قوله تعالى: يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا.
- حدّثنا صالح بن بشير بن سلمة الطّبرانيّ ثنا مكّيّ بن إبراهيم ثنا موسى بن عبيدة عن عبد اللّه بن دينارٍ عن ابن عمر أنّه قال: وقف النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- بالعقبة، فاجتمع إليه ما شاء اللّه من المسلمين، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال: «وإنّما النّسيء من الشّيطان زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا فكانوا يحرّمون المحرم عامًا ويستحلون صفر، يحرمون صفر ويستحلون المحرم، وهو النّسيء.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجابٌ أنبأ بشرٌ بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر قال: المحرم كانوا يسمونه صفر، وصفر يقول: صفران الأوّل والآخر، يحلّ لهم مرّةً الأول، ومرة الآخر.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قال: كانوا يسقطون المحرّم ثمّ يقولون: صفران، لصفرٍ وشهر ربيعٍ الأوّل ثمّ يقولون: شهرا ربيعٍ، لشهر ربيعٍ الآخر ولجمادى الأوّل ثمّ يقولون لرمضان: شعبان ويقولون لشوالٍ: رمضان ويقولون لذي القعدة: شوّالٌ ثمّ يقولون لذي الحجّة: ذو القعدة ثمّ يقولون للمحرّم: ذو الحجّة، فيحجّون في المحرّم، ثمّ يأتنفون فيعدّون على ذلك عدّةً مستقيمةً على وجه ما ابتدوا، فيقولون: المحرّم، فيحجّون في المحرّم ويحجّون في كلّ شهرٍ مرّتين، ثمّ يسقطون شهرًا آخر، ثمّ يعدّون على العدّة الأولى يقولون: صفرٌ وشهر ربيعٍ الأوّل على نحو عددهم في أوّل ما أسقطوا.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان حدّثنا الحسين ابن عليّ مهران حدّثنا عامر بن الفرات حدّثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا عدّة ما حرّم اللّه قال: كان رجلٌ من بني مالك بن كنانة يقال له: جنادة بن عوفٍ يكنى أبا أمامة ينسئ الشّهور، وكانت العرب يشتدّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهرٍ لا يغير بعضهم على بعضٍ، فإذا أراد أن يغير على أحدٍ قام يوم ممنى فخطب فقال: «إنّي قد أحللت المحرّم» ، وحرّمت صفر مكانه فيقاتل النّاس في المحرّم، فإذا كان صفر غمدوا السّيوف ووضعوا الأسنّة، ثمّ يقوم في قابل فيقول: «إنّي قد أحللت صفر» ، وحرمت المحرم.
قوله تعالى: ليواطؤا.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ليواطؤا يقول: يشبّهوا.
قوله تعالى: عدّة ما حرّم اللّه.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان ثنا الحسين بن عليٍّ ثنا عامر ابن الفرات ثنا أسباط عن السدي قوله: ليواطؤا عدّة ما حرّم اللّه فيواطئوا أربعة أشهرٍ.
قوله تعالى: فيحلّوا ما حرّم اللّه
وبه عن السّدّيّ قوله: فيحلّوا ما حرّم اللّه فيحلوا المحرم.
قوله تعالى: زيّن لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين.
- حدّثنا الحسن بن أحمد ثنا موسى بن محلّمٍ ثنا أبو بكرٍ الحنفيّ ثنا عبّاد بن منصورٍ قال: سألت الحسن عن قوله: زيّن لهم قال: زيّن لهم الشّيطان). [تفسير القرآن العظيم: 6/1793-1796]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 37
أخرج الطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاما شهرا وعاما شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل ستة وعشرين سنة مرة وهو النسيء الذي ذكر الله تعالى في كتابه فلما كان عام حج أبو بكر بالناس وافق ذلك العام الحج فسماه الله الحج الأكبر ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فقال: إن النسيء من الشيطان {زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} فكانوا يحرمون المحرم عاما ويحرمون صفرا عاما ويستحلون المحرم وهو النسيء.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوفي الموسم كل عام وكان يكنى أبا ثمادة فينادي: ألا إن أبا ثمادة لا يخاف ولا يعاب ألا وإن صفر الأول العام حلال فيحله للناس فيحرم صفر عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا)، (ليواطئوا): ليشهدوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: (إنما النسيء زيادة في الكفر) قال: المحرم كانوا يسمونه صفر، وصفر يقولون: صفران، الول والآخر يحل لهم مرة الأول ومرة الآخر.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي مالك قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا فيجعلون المحرم صفرا فيستحلون فيه الحرمات فأنزل الله: (إنما النسيء زيادة في الكفر).
وأخرج أبو الشيخ، عن طاووس قال: الشهر الذي نزعه الله من الشيطان المحرم.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر): وهو جنادة بن عوف بن أمية الكناني، ويكنى أبا ثمامة كان يوافى الماسم كل عام فينادى: ألا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب . فيقول: إلا أن صفر الأول حلال وكان طوائف من العرب إذا أرادوا أن يغيروا على بعض عدوهم أتوه فقالوا: أحل لنا هذا الشهر - يعنون صفر - وكانت العرب لا تقاتل في الأشهر الحرم فيحله لهم عاما ويحرمه عليهم في العام الآخر ويحرم المحرم في قابل {ليواطئوا عدة ما حرم الله} يقول: ليجعلوا الحرم أربعة غير أنهم جعلوا صفرا عاما حلالا وعاما حراما.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت النساة حيا من بني مالك من كنانة من بني تميم فكان أخراهم رجلا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكا كان يحل المحرم عاما ويحرمه عاما فإذا حرمه كانت ثلاثة أشهر متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم عليه السلام فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم ليواطئ العدة يقول: قد أكملت الأربعة كما كانت لأني لم أحل شهرا إلا وقد حرمت مكانه شهرا فكانت على ذلك العرب من يدين للقلمس بملكه حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فأكمل الحرم ثلاثة أشهر متوالية ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي وائل رضي الله عنه في قوله {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال: نزلت في رجل من بني كنانة يقال له نسي كان يجعل المحرم صفرا ليستحل فيه المغانم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي وائل رضي الله عنه قال: كان الناسي رجلا من كنانة ذا رأي يأخذون من رأيه رأسا فيهم فكان عاما يجعل المحرم صفرا فيغيرون فيه ويستحلونه فيصيبون فيغنمون وكان عاما يحرمه.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله {إنما النسيء زيادة في الكفر} الآية، قال: عمد أناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في أشهر الحرم وكان يقوم قائلهم في الموسم فيقول: إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام وكان يقال لهما الصفران وكان أول من نسأ النسيء بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني تميم بن الحرث ثم أحد بني كنانة
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال: فرض الله الحج في ذي الحجة وكان المشركون يسمون الأشهر ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة ثم يحجون فيه ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفر صفر ثم يسمون رجب جمادى الآخر ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال ويسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه واسمه عندهم ذو الحجة ثم عادوا مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاما حتى وافق حجة أبي بكر رضي الله عنه الآخرة من العام في ذي القعدة ثم حج النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجته التي حج فيها فوافق ذو الحجة فذلك حين يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خطبته إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في الآية قال: كان رجل من بني كنانة يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسئ الشهور وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيروا بعضهم على بعض فإذا أراد أن يغير على أحد قام يوما بمنى فخطب فقال: إني قد أحللت المحرم وحرمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم فإذا كان صفر عمدوا ووضعوا الأسنة ثم يقوم في قابل فيقول: إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم فيواطئوا أربعة أشهر فيحلوا المحرم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} قال: هو صفر كانت هوازن وغطفان يحلونه سنة ويحرمونه سنة). [الدر المنثور: 7/348-353]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:25 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم...}
جاء التفسير: في الاثني عشر. وجاء {فيهن}: في الأشهر الحرم؛ وهو أشبه بالصواب - والله أعلم - ليتبين بالنهي فيها عظم حرمتها؛ كما قال: {حافظوا على الصّلوات} ثم قال: {والصّلاة الوسطى} فعظّمت، ولم يرخص في غيرها بترك المحافظة. ويدلّك على أنه للأربعة - والله أعلم - قوله: (فيهن) ولم يقل (فيها). وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة تقول: لثلاث ليال خلون، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة، فإذا جزت العشرة قالوا: خلت، ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هنّ) و(هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هي، وهذه) إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. ويجوز في كل واحد ما جاز في صاحبه؛ أنشدني أبو القمقام الفقعسيّ:
أصبحن في قرحٍ وفي داراتها = سبع ليال غير معلوفاتها
ولم يقل: معلوفاتهن وهي سبع، وكل ذلك صواب، إلا أن المؤثر ما فسّرت لك. ومثله: {وقال نسوةٌ في المدينة} فذكّر الفعل لقلّة النسوة ووقوع (هؤلاء) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} ولم يقل: انسلخت، وكلٌّ صواب. وقال الله تبارك وتعالى: {إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك} لقلّتهن ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان صوابا). [معاني القرآن: 1/435]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {المشركين كافّةً...}
يقول: جميعا. والكافّة لا تكون مذكّرة ولا مجموعة على عدد الرجال فتقول: كافّين، أو كافّات للنسوة، ولكنها {كافّة} بالهاء والتوحيد في كل جهة؛ لأنها وإن كانت على لفظ (فاعلة) فإنها في مذهب مصدر؛ مثل الخاصّة، والعاقبة، والعافية. ولذلك لم تدخل فيها العرب الألف واللام لأنها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهي في مذهب قولك: قاموا معا وقاموا جميعا؛ ألا ترى أن الألف واللام قد رفضت في قولك: قاموا معا، وقاموا جميعا، كما رفضوها في أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت في ذلك المعنى. فإن قلت: فإن العرب قد تدخل الألف واللام في الجميع، فينبغي لها أن تدخل في كافة وما أشبهها، قلت: لأن الجميع على مذهبين، أحدهما مصدر، والآخر اسم، فهو الذي شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الذي في معنى الاسم جمعته وأدخلت فيه الألف واللام؛ مثل قوله: {وإنا لجميعٌ حاذرون}، وقوله: {سيهزم الجمع ويولّون الدّبر} وأما الذي في معنى معا وكافّة فقولك للرجلين: قاما جميعا، وللقوم: قاموا جميعا، وللنسوة: قمن جميعا، فهذا في معنى كلّ وأجمعين، فلا تدخله ألفا ولاما كما لم تدخل في أجمعين). [معاني القرآن: 1/436]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {الدّين القيّم} مجازه: القائم أي المستقيم، خرج مخرج سيّد، وهو من ساد يسود بمنزلة قام يقوم.
{وقاتلوا المشركين كافّةً} أي عامة، يقال: جاءوني كافة، أي جميعاً). [مجاز القرآن: 1/258]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {منها أربعة حرم} فقد فسرنا الحرام في المائدة، وهو هذا). [معاني القرآن لقطرب: 641]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم
خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ} ثم قال: {ذلك الدّين القيّم} أي الحساب الصحيح والعدد المستوي. والأربعة الحرم: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب الشهر الأصم.
وقال قوم: هي الأربعة الأشهر التي أجلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلم، المشركين فقال: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ}. وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. واحتجوا بقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [سورة التوبة آية: 5]، وأنكروا أن يكون رجب منها. وكانت العرب تعظم رجب، وتسمّيه منصل الأسنّة ومنصل الألّ، لأنهم كانوا ينزعون الأسنة فيه والألّ وهي الحراب. ويسمونه أيضا: شهر اللّه الأصم، لأنهم كانوا لا يحاربون فيه لأنه محرم عليه. ولا يسمع فيه تداعي القبائل أو قعقعة السلاح. قال الأعشى:
تداركه في منصل الألّ بعد ما مضى غير دأداء وقد كاد يذهب
وقال حميد بن ثور يصف إبلا:
رعينا المرار الجون من كلّ مذنب شهور جمادي كلها والمحرّما
يريد بالمحرم رجبا.
وأما قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} فإنما عني الثلاثة منها، لأنها متوالية، لا أنّه جعل فيها شوّالا وأخرج رجبا.
ويقال: إن الأربعة الأشهر التي أجّلها رسول اللّه المشركين من عشر ذي الحجة إلى عشر ربيع الآخر، وسماها حرما لأن اللّه حرم فيها قتالهم وقتلهم). [تفسير غريب القرآن: 184-186]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين}
أعلم اللّه جلّ وعزّ: أن عدة شهور المسلمين، الذين تعبّدوا بأن يجعلوا لسنتهم - اثنا عشر شهرا، على منازل القمر، فجعل حجهم وأعيادهم
وصلاتهم في أعبادهم هذا العدد، فالحج والصوم يكون مرة في الشتاء ومرة في الصيف، وفي فصول الأزمان على قدر الشهور ودوران السنين، وكانت أعياد أهل الكتاب ومتعبّداتهم في سنتهم يعملون فيها على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وبعض يوم، على هذا يجري أمر النصارى واليهود.
فأعلم اللّه جلّ وعزّ أن سني المسلمين على الأهلّة.
وقوله: {منها أربعة حرم}
الأربعة الحرم: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
{فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم}.
قيل في الأربعة، وقيل في الاثني عشر. فمن قال في الأربعة قال: أراد تعظيم شأن المعاصي - كما قال جلّ وعزّ: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ}
فالفسوق لا يجوز في حج ولا غيره، ولكنه عزّ وجلّ عرف الأيام التي تكون فيها المعاصي أكثر إثما وعقابا.
وقوله: {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة}.
فـ " كافّة " منصوب على الحال، وهو مصدر على فاعله كما قالوا العاقبة والعافية. وهو في موضع قاتلوا المشركين محيطين بهم باعتقاد مقاتلتهم.
وهذا مشتق من كفّة الشيء، وهي حرفه، وإنما أخذ من أن الشيء إذا انتهى إلى ذلك كفّ عن الزيادة، ولا يجوز أن يثنّى ولا يجمع، ولا يقال قاتلوهم كافّات ولا كافّين، كما أنك إذا قلت: قاتلوهم عامّة لم تثنّ ولم تجمع، وكذلك خاصّة.
هذا مذهب النحويين.
وقوله عزّ وجلّ: {واعلموا أنّ اللّه مع المتقين}.
تأويله أنه ضامن لهم النصر). [معاني القرآن: 2/445-447]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم}
الأربعة الحرم المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة
ثم قال جل وعز: {ذلك الدين القيم}
الدين ههنا الحساب أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفى
وعن ابن عباس {ذلك الدين القيم} قال القضاء القيم
وقال أبو عبيدة أي القائم: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [آية: 36]
أكثر أهل التفسير على أن المعنى فلا تظلموا في الأربعة أنفسكم وخصها تعظيما كما قال فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران
عن ابن عباس فلا تظلموا فيهن أنفسكم في الاثني عشر
وروى قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال فيهن كلهن). [معاني القرآن: 3/205-207]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {والأربعة الحُرمُ} ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وجعل قوم شوالا منها، وأخرجوا رجبا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 96]

تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر...}
كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن منىً قام رجل من بني كنانة يقال له (نعيم بن ثعلبة) وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لي قضاء. فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرا، يريدون: أخّر عنّا حرمة المحرم
واجعلها في صفر، وأحلّ المحرم، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذاك توالى ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فيفعل ذلك عاما، ثم يرجع إلى المحرم فيحرّمه ويحلّ صفرا، فذلك الإنساء. تقول إذا أخرت الرجل بدينه: أنسأته، فإذا زدت في الأجل زيادة يقع عليها تأخير قلت: قد نسأت في أيامك وفي أجلك، وكذلك تقول للرجل: نسأ الله في أجلك؛ لأن الأجل مزيد فيه. ولذلك قيل للّبن (نسأته) لزيادة الماء فيه، ونسئت المرأة إذا حبلت أي جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن، وللناقة: نسأتها، أي زجرتها ليزداد سيرها. والنسيء المصدر، ويكون المنسوء مثل القتيل والمقتول.
وقوله: {يضلّ به الّذين كفروا} قرأها ابن مسعود {يضلّ به الذين كفروا} وقرأها زيد بن ثابت {يضلّ} يجعل الفعل لهم، وقرأ الحسن البصري (يضلّ به الذين كفروا)، كأنه جعل الفعل لهم يضلّون به الناس وينسئونه لهم.
وقوله: {لّيواطئوا عدّة} يقول: لا يخرجون من تحريم أربعة). [معاني القرآن: 1/436-437]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} كانت النسأة في الجاهلية، وهم بنو فقيم من كنانة اجتبروا لدينهم ولشدتهم في دينهم في الجاهلية، إذا اجتمعت العرب
في ذي الحجة للموسم وأرادوا أن يؤخروا ذا الحجة في قابل لحاجة أو لحرب، نادى مناد: إن المحرم في صفر وكانوا يسمون المحرّم وصفر الصفرين، والمحرّم صفر الأكبر، وصفر المحرم الأصغر فيحلون المحرم ويحّرمون صفر، فلا يفعلون ذلك كل عام، حتى إذا حج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة الذي يكون فيه الحج قال: " إن الزمان قد استدار وعاد كهيئته، فاحفظوا العدد) فينصرف الناس بذلك إلى منازلهم.
{ليواطوا} مجازه: ليوافقوا من وطئت، قال ابن مقبل:

ومنهلٍ دعس آثار المطيّ به.=.. يأتي المخارم عرنينا فعرنينا
واطأته بالسّرى حتى تركت به=ليل التمّام ترى أعلامه جونا).
[مجاز القرآن: 1/258-260]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً لّيواطئوا عدّة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله زيّن لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين}
وقال: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} وهو التأخير. وتقول "أنسأته الدّين" إذا جعلته إليه يؤخره هو. و:"نسأت عنه دينه" أي: أخرته عنه. وإنما قلت: "أنسأته الدّين" لأنك تقول: "جعلته له يؤخّره" و"نسأت عنه دينه" "فأنا أنّسؤه" أي: أؤخّره. وكذلك "النّساء في العمر" يقال: "من سرّه النّساء في العمر"، ويقال "عرق النّسا" غير مهموز.
وقال: {لّيواطئوا} لأنها من "واطأت" ومثله {هي أشدّ وطاءً} أي: مواطأة، وهي المواتاة وبعضهم قال {وطءا} أي: قياما). [معاني القرآن: 2/30]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة أبي جعفر ونافع وشيبة {إنما النسي زيادة في الكفر} على فعيل وهي قراءة القراء.
وقد حكي عن بعضهم "إنما النسء زيادة" على فعل بإسكان العين؛ فسنخبر عنها في الغريب إن شاء الله.
زيد بن ثابت وأبو عمرو {يضل به الذين}.
والحسن {يضل} من أضله.
ابن مسعود والأعمش {يضل} لا يذكر فاعلاً). [معاني القرآن لقطرب: 629]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {إنما النسيء زيادة} فهو من أنسأته الدين إنساءً؛ أي أخرته، وقالوا: نسأت الناقة أخرت ظمأها؛ والمعنى التأخير؛ وقد فسرنا ذلك في سورة البقرة.
وقالوا في معنى النسيء: كانت، العرب في الجاهلية (إذا اجتمعت في ذي الحجة للموسم، فأرادوا أن يؤخروا ذا الحجة من قابل، لحاجة أو لحرب، نادى مناد: إن المحرم صفر؛ وكانوا يسمون المحرم وصفرا الصفرين، والمحرم: صفر الأكبر، وصفر الأصغر، فيحلون المحرم ويحرمون صفرًا؛ ولا يفعلون ذلك كل عام، حتى إذا حج النبي صلى الله عليه وسلم حج في ذي الحجة، الذي يكون فيه الحج؛ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد دار كهيئته فاحفظوا العدد" فينصرف الحاج بذلك إلى منازلهم).
وقالوا: أيضًا كانوا يقدمون ويؤخرون، عاما صفرا، وعاما المحرم.
وأما {النسيء} في قول ابن عباس، فإن ابن عباس كان يقول: كان الناس لهم رجل من بني كنانة يقال: له نعيم بن ثعلبة بن عوف؛ وكان يكون على الناس في الموسم، فإذا هم بالعام، وفرغوا من حجهم؛ قام فخطب فقال: أيها الناس أنا الذي لا أعاب ولا أجاب؛
[معاني القرآن لقطرب: 641]
ولا مرد لما قضيت؛ فيقول المشركون: لبينا ربنا، فيسألونه أن ينسئهم شهرا يغبرون فيه للإصابة من الحروب، قال فيقول: فإن صفرا العام حرام، فيحلون الأوتار وينزعون الرججة والقطب وخرجوا فأغاروا على الناس.
قال محمد بن مروان السدي: قلت للكلبي: أرأيت إذا كان يحله عامًا ويحرمه عامًا، كيف كانوا لا يحذرون الناس من قابل، فيأخذون حذرهم؟ قال: إنما كان يفعل في السنين وهو أغر، ما كانوا؛ وإنما حرم صفرًا لكي يواطئ عدة توافق عدة اثنتي عشر شهرًا، من صفر إلى صفر؛ فكان هذا الكناني أول من فعل ذلك؛ يحل المحرم فيغيرون، ويحرم صفرًا؛ ثم يحرم المحرم سنة أخرى ويحل صفرًا؛ فسنة يفعل هذا وسنة هذا؛ وإنما فعل ذلك لأنهم كانوا يصيبون على ظهور دوابهم من الغارة، فكانت معيشتهم فيها؛ فشق ذلك عليهم توالي أربعة أشهر حرم وجهدوا فيها، فلذلك أنسأهم منها شهرًا، لكي يغيروا فيه.
ثم فعله من بعد نعيم بن ثعلبة رجل من هوازن، وقالوا: لئن توالت علينا أربعة حرم لا نصيب شيئًا لنهلكن، وإنما نصيب على ظهور دوابنا؛ فكانت العرب تسمى المحرم صفرًا، قال: فكان من بعد هوازن وسليم رجل يقال: له جنادة بن عوف بن أمية؛ فكان يحل المحرم سنة، ويحرم صفرًا سنةً؛ ويحل صفرًا سنةً ويحرم المحرم سنةً؛ وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إنما النسيء زيادة في الكفر} يقول: الترك للمحرم، زيادة في الكفر إلى كفرهم {يحلونه عاما} فيقاتلون فيه {ويحرمونه عاما} فلا يقاتلون فيه {ليواطئوا} أي ليوافقوا {عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}
[معاني القرآن لقطرب: 642]
عليهم {زين لهم سوء أعمالهم} أي قبيح أعمالهم {والله لا يهدي القوم الكافرين}.
وقوله {ليواطئوا} فهو من واطأته مواطأة على الأمر؛ إذا عاونته عليه ولم تختلفا). [معاني القرآن لقطرب: 643]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {إنما النسيء}: النسيء التأخير والنسأة قوم من كنانة كانوا يؤخرون الشهور الحرم.
{ليواطئوا}: الموافقة، يقال واطأ في الشعر إذا جعل بيتين على قافية واحدة). [غريب القرآن وتفسيره:163- 164]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( والنّسيء نسء الشهور وهو تأخيرها. وكانوا يؤخرون تحريم المحرم منها سنة ويحرمون غيره مكانه لحاجتهم إلى القتال فيه ثم يردونه إلى التحريم في سنة أخرى. كأنهم يستنسئون ذلك ويستقرضونه.
{ليواطؤا} أي ليوافقوا {عدّة ما حرّم اللّه} يقول: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة لم [يبالوا] أن يحلّوا الحرام ويحرّموا الحلال). [تفسير غريب القرآن: 186]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {إنّما النّسيء زيادة في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه زيّن لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين}
النسيء - هذا - تأخير الشيء، وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا عزموا على أن يقاتلوا فيه جعلوا صفرا كالمحرم، وقاتلوا في المحرم وأبدلوا صفرا منه، فأعلم اللّه جلّ وعزّ أن ذلك زيادة في الكفر.
{ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه}.
فيجعلوا صفرا كالمحرم في العدة، ويقولوا: إن هذه أربعة بمنزلة أربعة.
والمواطأة المماثلة والاتفاق على الشيء). [معاني القرآن: 2/447]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {إنما النسيء زيادة في الكفر}
النسيء التأخير ومنه نسأ الله في أجلك
ثم قال جل وعز: {يضل به الذين كفروا}
قال الزهري وقتادة والضحاك وأبو وائل والشعبي كانوا ربما أخروا تحريم المحرم إلى صفر
قال قتادة وكانوا يسمونها الصفرين
وقال مجاهد كان لهم حساب يحسبون فربما قالوا لهم الحج في هذه السنة في المحرم فيقبلون منهم
ودل على هذا قوله: {ولا جدال في الحج} أي إنه في ذي الحجة
قال أبو جعفر وأبين ما في هذا ما حدثناه بكر بن سهل قال نا أبو صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال كان جنادة بن
أمية يوافي الموسم كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس ويحرم صفرا عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قول الله جل وعز: {إنما النسيء زيادة في الكفر} الآية قال والنسيء تركهم المحرم عاما وعاما يحرمونه
وقرأ الحسن يضل به الذين كفروا يعني بالذين كفروا الحساب الذين يقولون لهم هذا
ويروى عن عبد الله بن مسعود يضل به الذين كفروا أي يضل به الذين يقبلون من الحساب
ويحتج لمن قال بالقول الأول بقوله جل وعز: {يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله} أي ليوافقوا فيحرموا أربعة كما حرم الله جل وعز أربعة). [معاني القرآن: 3/207-209]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ):{النَّسِيءُ} التأخير، كانوا يؤخرون تحريم المحرم من أشهر المحرم سنة، ويحرمون غيره لحاجتهم إلى القتال فيه، ثم يردونه إلى المحرم في سنة أخرى كأنه استقراض.
{لِيُوَاطِئُوا} أي ليوافقوا العدة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 97]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {النَّسِيء}: التأخير
{المواطأة}: الموافقة). [العمدة في غريب القرآن: 147]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:27 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) }

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)).
هو من حديث أهل الشام عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم:
قوله: ((دان نفسه)).
الدين يدخل في أشياء، فقوله ههنا: ((دان نفسه)).
يقول يعني: أذلها، أي استعبدها.
يقال: دنت القوم أدينهم: إذا فعلت ذلك بهم قال الأعشى يمدح قوما:

هو دان الرباب إذ كرهوا الديـ = ـن دراكا بغزوة وصيال
ثم دانت بعد الرباب وكانت = كعذاب عقوبة الأقوال
فقال: هو دان الرباب؛ يعني أذلها، ثم قال: دانت بعد الرباب، أي له وأطاعت:
والدين لله تعالى من هذا إنما هو طاعته والتعبد له.
والدين أيضا الحساب، قال الله تبارك وتعالى في الشهور:
{منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}.
ولهذا قيل ليوم القيامة: يوم الدين، إنما هو يوم الحساب وأما قول القطامي:
رمت المقاتل من فؤادك بعدما = كانت نوار تدينك الأديانا
فهذا من الإذلال أيضا.
وقد يكون قوله: ((من دان نفسه)) أي حاسبها من الحساب.
والدين أيضا الجزاء، من ذلك قوله: {كما تدين تدان}،
والدين الحال. قال لي أعرابي: لو رأيتني على دين غير هذه، أي حال غير هذه). [غريب الحديث: 2/575-579]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرة

وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهارًا، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، ولم يجعل لكم في التخلف عذرًا في حال من الحال، فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغترارًا، وأظهرت حبرة. وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله دارًا لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم دارًا، ولا حليم بها قرارًا، فاتقوا الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. والسلام على من اتبع الهدى). [الكامل: 3/1219-1220]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (يقال: هؤلاء وأولئك، للقليل، وهذه وتلك، للكثير، وهؤلاء النسوة، للقليل، وتلك، للكثير. وإنما ذكر القليل وأنث الكثير لأن القليل مثل الواحد والكثير مثل الجمع. يقال: هذا رجل وهؤلاء رجال. كذلك إذا قال: لإحدى عشرة خلت، ولاثنتي عشرة خلت، ولعشر خلون، فأنث الكثير وذكر القليل. وقرأ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فأنث الكثير وذكر القليل. وحدثنا أبو العباس قال: قال الكسائي: كنت أتعجب من العرب، تقول: لعشر مضين ولإحدى عشرة مضت). [مجالس ثعلب: 227]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) }
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (والنسى على وجهين: النسى عرق في الرجل مقصور يكتب بالياء، والنساء التأخير ممدود يكتب بالألف. من ذلك ولا تبيعوه نساء ممدود). [المقصور والممدود: 20]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (عرفني نساها الله. أي أخر الله أجلها وأطال عمرها). [الأمثال: 68]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، هو النسيئة بالنسيئة مهموز.
حدثنيه زيد بن الحباب، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ.
ومنه قولهم: أنسأ الله فلانا أجله، ونسأ الله في أجله بغير ألف. قال وقال أبو عبيدة: يقال من الكالئ: تكلات كلاة: إذا استنسأت نسيئة. والنسيئة التأخير أيضا ومنه قوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} إنما هو تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر.
وقال الأموي في الكلأة مثله.
قال الأموي: يقال: بلغ الله بك أكلأ العمر يعني آخره وأبعده وهو من التأخير أيضا.
وقال الشاعر يذم رجلا:
وعينه كالكالئ الضمار
يعني بعينه حاضره وشاهده، يقول: فالحاضر من عطيته كالضمار وهو الغائب الذي لا يرتجى. الغائب الذي لا يرتجى. نسأ قال أبو عبيد: وقوله: النسيئة بالنسيئة، في وجوه كثيرة من البيع منها: أن يسلم الرجل إلى الرجل مائة درهم إلى سنة في كر من طعام فإذا انقضت السنة وحل الطعام عليه قال الذي عليه الطعام للدافع: ليس عندي طعام لكن بعني هذا الكر بمائتي درهم إلى شهر فهذه نسيئة انتقلت إلى نسيئة، وكل ما أشبه هذا.
ولو كان قبض الطعام منه ثم باعه منه أو من غيره بنسيئة لم يكن كالئا بكالئ
ومن الضمار قول عمر بن عبد العزيز في كتابه إلى ميمون بن مهران في الأموال التي كانت في بيت المال من المظالم أن يردها ولا يأخذ زكاتها:
فإنه كان مالا ضمارا يعني لا يرجى.
قال سمعت كثير بن هشام يحدث عن جعفر بن برقان عن ميمون قال أبو عبيد وقال الأعشى:
أرانا إذا أضمرتك البلا = د نجفى وتقطع منا الرحم).
[غريب الحديث: 1/140-142]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته:
((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)).
قال: حدثناه ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)).
يقال: إن بدء ذلك كان والله أعلم إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام وعلى نبينا فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم. وهذا هو النسيء الذي قال الله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} إلى آخر الآية.
وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب.
والنسيء هو التأخير.
ومنه قيل: بعت الشيء نسيئة.
فكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرمون صفر وهم يريدون به المحرم ويقولون: هذا أحد الصفرين.
وقد تأول بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا صفر))، على هذا ثم يحتاجون أيضا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك فكذلك يتدافع شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله تبارك وتعالى به، وذلك بعد دهر طويل فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)).
يقول: رجعت الأشهر الحرم إلى مواضعها وبطل النسيء.
وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما فإذا كان من قابل
ردوه إلى تحريمه والتفسير الأول أحب إلي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض))، وليس في التفسير الآخر استدارة.
وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله: {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} مصدقا لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفر ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضا أحلوه وحرموا الذي بعده. فهذا تأويل قوله في هذا التفسير: {يحلونه عاما ويحرمونه عاما}.
وفي هذا تفسير آخر يقال: إنه في الحج.
قال: حدثناه سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {ولا جدال في الحج} قال: قد استقر الحج في ذي الحجة لا جدال فيه، وفي غير حديث سفيان يروى عن معمر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
قال: كانت العرب في الجاهلية يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة فلما كانت السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه قبل حجة
النبي صلى الله عليه وسلم كان الحج في السنة الثانية في ذي القعدة، فلما كانت السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل عاد الحج إلى ذي الحجة.
فذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)).
يقول: قد ثبت الحج في ذي الحجة). [غريب الحديث: 1/369-373]
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (


فتقضيني مواعد منسآت = وأقضي ما علي من النذور
ويروى (منسيات) من النسيان. ومنسأت: مؤخرات؛ النسيئة: التأخير من قول الله عز وجل: {إنما النسيء زيادة في الكفر}؛ إنما هو تأخيرهم المحرم إلى صفر، ومنه: نسأ الله أجله أي أخره، ومنه: استنسأت الشيء: إذا اشتريته بتأخير). [رواية أبي سعيد السكري لديوان جران العود: 26]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله: "ولا أنسأتكم غضبي"، يقول: لم أؤخره عنكم، يقال: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، والنّسيء من هذا، ومعناه تأخير شهر عن شهر، وكانت النّسأة من بني مدلج بن كنانة، فأنزل الله عز وجلّ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنهم كانوا يؤخرون الشهور، فيحرمون غير الحرام، ويحلّون غير الحلال، لما يقدّرونه من حروبهم وتصرّفهم، فاستوت الشهور لمّا جاء الإسلام، وأبان ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن الزّمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السّموات والأرض"). [الكامل: 2/577]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (ويقال نسأت اللبن أنسؤه نسأ، وذلك أن تأخذ حليبًا فتصب عليه ماءٍ؛و الإسم النسيء غير مشدد، وقال أبو حاتم: الأسم النسيء وأنشد:
سقوني النسء ثم تكنفوني = عداة الله من كذب وزور).
[مجالس ثعلب: 349]
قال أبو عليًّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القَالِي (ت: 356هـ) : (قال أبو إسماعيل بن القاسم البغدادي: قرأ أبو عمرو بن العلاء: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسأها}.
على معنى أو نؤخرها.
والعرب تقول: نسأ اللّه في أجلك، وأنسأ اللّه أجلك، أي أخر أجلك.
وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه النّساء في الأجل، والسعة في الرزق، فليصل رحمه والنساء: التأخير، يقال: بعته بنساء وبنسيئة، أي بتأخير، وأنسأته البيع.
وقال اللّه عز وجل: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} [التوبة: 37] ، والمعنى فيه على ما.
حدّثني أبو بكر بن الأنباري، رحمه الله: أنهم كانوا إذا صدروا عن منى قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، فقال: أنا الذي لا أعاب، ولا يرد لي قضاء، فيقولون له: أنسئنا شهرًا، أي أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفرٍ، وذلك أنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا تمكنهم الإغارة فيها، لأن معاشهم كان من الإغارة، فيحل لهم المحرم ويحرم عليهم صفرا، فإذا كان في السنة المقبلة حرم عليهم المحرم وأحل لهم صفرا، فقال اللّه عز وجل: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} [التوبة: 37] ، وقال الشاعر:
ألسنا الناسئين على معد = شهور الحل نجعلها حراما
وقال الآخر:

وكنا الناسئين على معد = شهورهم الحرام إلى الحليل
وقال الآخر:
نسئوا الشهور بها وكانوا أهلها = من قبلكم والعز لم يتحول).
[الأمالي: 1/4]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:28 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:28 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:39 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:40 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين (36)
هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحل وتحليل شهور الحرمة، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم خلف ابنه قلع بن عباد، ثم خلفه ابنه أمية بن قلع، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين، فقالوا أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة، قال مجاهد: ويسمون ذلك الصفر المحرم، ثم يسمون، ربيعا، ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا، ففي هذا قال الله عز وجل إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً أي ليست ثلاثة عشر شهرا، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، قال مجاهد: ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء، وبعد ذلك يندلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه: أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة، والذي ذكرناه هو بيانها، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء، ولما كانت سنة العرب هلالية بدئ العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعا منها، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق، فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي [عوف بن الأحوص العامري]: [الوافر]
وشهر بني أمية والهدايا = ... ... ... ...
البيت قال الأصمعي: يريد رجبا، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عشر شهرا» بسكون العين وذلك تخفيف لتوالي الحركات، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر وقوله في كتاب اللّه أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض، و «الكتاب» الذي هو المصدر هو العامل في يوم، وفي قوله في كتاب اللّه متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع، وتأمل، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «أن»، وقوله منها أربعةٌ حرمٌ نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة: اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا ومن الشهور المحرم ورمضان، ومن البقع المساجد، ومن الأيام الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله، وقوله ذلك الدّين القيّم، قالت فرقة: معناه الحساب المستقيم، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي: معناه القضاء المستقيم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأصوب عندي أن يكون الدين هاهنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة لله، القيّم أي القائم المستقيم، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم، وقوله فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم الضمير عائد على ال اثنا عشر شهراً، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله، وقال قتادة الضمير عائد على الأربعة الأشهر، ونهي عن الظلم فيها تشريفا لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهيا عنه في كل الزمن، وزعم النحاة أن العرب تكني عما دون العشرة من الشهور، فيهن وعما فوق العشرة فيها، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل». ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله وقاتلوا المشركين معناه فيهن فأحرى في غيرهن، وقوله كافّةً معناه جميعا وهو مصدر في موضع الحال، قال الطبري: كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة، ويظهر أيضا أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها، فاللفظة على هذا اسم فاعل، وقال بعض الناس: معناه يكف بعضهم بعضا عن التخلف، وما قدمناه أعم وأحسن، وقال بعض الناس: كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعا النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله كما يقاتلونكم فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير، وقوله واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد).[المحرر الوجيز: 4/ 305-309]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليواطؤا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه زيّن لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين (37)
النّسيء على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه». وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء» كما تقدم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ «النسيّ» بشد الياء، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء»، وقرأ أيضا فيما روي عنه «النسء» على وزن النسع وقرأت فرقة «النسي». فأما «النسيء» بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء، وقال الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر، وقال أبو وائل كان النسيء رجلا من بني كنانة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، وأما «النسي» فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء، وأما «النسء» هو مصدر من نسأ إذا أخر، وأما «النسي» فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة، وقوله زيادةٌ في الكفر أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم: [الوافر]
ومنا منسئ الشهر القلمس
وقال الآخر: [الكامل]
نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها = من قبلكم والعز لم يتحول
ومنه قول جذل الطعان: [الوافر]
وقد علمت معدّ أنّ قومي = كرام الناس أن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر = وأي الناس لم تعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد = شهور الحل نجعلها حراما
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يضل» بفتح الياء وكسر الضاد، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون «يضل» بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم، ف الّذين في التأويل الأول في موضع نصب، وفي الثاني في موضع رفع، وقرأ عاصم أيضا وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه «يضل» بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله، ويؤيد ذلك قوله تعالى: زيّن للتناسب في اللفظ، وقرأ أبو رجاء «يضل» من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما، وكذلك يروى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «حتى يضل الرجل إن يدركم صلى» بفتح الضاد وكسرها، وقوله يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً معناه عاما من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلا منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر، ومشت الشهور مستقيمة، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات، وقد بينه مجاهد وأبو مالك، وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «إن الزمان قد استدار» مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم.
أي ذلك كان، وقوله ليواطؤا معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر، وقوله زيّن يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عز وجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هدية من حيث هم كفار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذكر أبو علي البغدادي في أمر «النسيء» أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهم على هذا عدة، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر»، فقال بعض الناس: إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء، وقيل غير ذلك). [المحرر الوجيز: 4/ 309-313]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:40 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:40 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين (36)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، أخبرنا أيّوب، أخبرنا محمّد بن سيرين، عن أبي بكرة، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خطب في حجّته، فقال: "ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ [حرمٌ، ثلاثةٌ] متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان". ثمّ قال: "أيّ يومٍ هذا؟ " قلنا: اللّه ورسوله أعلم. فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النّحر؟ " قلنا؛ بلى. ثمّ قال: "أيّ شهرٍ هذا؟ " قلنا: اللّه ورسوله أعلم. فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجّة؟ " قلنا: بلى. ثمّ قال: "أيّ بلدٍ هذا؟ ". قلنا: اللّه ورسوله أعلم. فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليست البلدة؟ " قلنا: بلى. قال: "فإنّ دماءكم وأموالكم -قال: وأحسبه قال: وأعراضكم -عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعضٍ، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلّغ الشّاهد الغائب منكم، فلعلّ من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه
ورواه البخاريّ في التّفسير وغيره، ومسلمٌ من حديث أيّوب، عن محمّدٍ -وهو ابن سيرين -عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، به
وقد قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن معمر، حدّثنا روحٌ، حدّثنا أشعث، عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ، ورجب مضر بين جمادى وشعبان"
ورواه البزّار، عن محمّد بن معمرٍ، به ثمّ قال: لا يروى عن أبي هريرة إلّا من هذا الوجه، وقد رواه ابن عون وقرّة، عن ابن سيرين، عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، به.
وقال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثني موسى بن عبد الرّحمن المسروقيّ، حدّثنا زيد بن حباب، حدّثنا موسى بن عبيدة الربذي، حدّثني صدقة بن يسارٍ، عن ابن عمر قال: خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجّة الوداع بمنًى في أوسط أيّام التّشريق فقال: "أيّها النّاس، إنّ الزّمان قد استدار، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرمٌ، أوّلهنّ رجب مضر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم"
وروى ابن مردويه من حديث موسى بن عبيدة، عن عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمرو، مثله أو نحوه.
وقال حمّاد بن سلمة: حدّثني عليّ بن زيدٍ، عن أبي حرّة حدّثني الرّقاشيّ، عن عمّه -وكانت له صحبةٌ -قال: كنت آخذًا بزمام ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أوسط أيّام التّشريق، أذود النّاس عنه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض، وإنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم"
وقال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا أبو معاوية، عن الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {منها أربعةٌ حرمٌ} قال: محرّمٌ، ورجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجّة.
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث: " إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، تقريرٌ منه، صلوات اللّه وسلامه عليه، وتثبيتٌ للأمر على ما جعله اللّه تعالى في أوّل الأمر من غير تقديمٍ ولا تأخيرٍ، ولا زيادةٍ ولا نقصٍ، ولا نسيءٍ ولا تبديلٍ، كما قال في تحريم مكّة: "إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السّموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة"، وهكذا قال هاهنا: "إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض" أي: الأمر اليوم شرعًا كما ابتدأ اللّه ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض.
وقد قال بعض المفسّرين والمتكلّمين على هذا الحديث: إنّ المراد بقوله: "قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، أنّه اتّفق أنّ حجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في تلك السّنة في ذي الحجّة، وأنّ العرب قد كانت نسأت النّسيء، يحجّون في كثيرٍ من السّنين، بل أكثرها، في غير ذي الحجّة، وزعموا أنّ حجّة الصّدّيق في سنة تسعٍ كانت في ذي القعدة، وفي هذا نظرٌ، كما سنبيّنه إذا تكلّمنا على النّسيء.
وأغرب منه ما رواه الطّبرانيّ، عن بعض السّلف، في جملة حديثٍ: أنّه اتّفق حجّ المسلمين واليهود والنّصارى في يومٍ واحدٍ، وهو يوم النّحر، عام حجّة الوداع، واللّه أعلم.
[حاشية فصلٍ]
ذكر الشّيخ علم الدّين السّخاوي في جزءٍ جمعه سمّاه "المشهور في أسماء الأيّام والشّهور": أنّ المحرّم سمّي بذلك لكونه شهرًا محرّمًا، وعندي أنّه سمّي بذلك تأكيدًا لتحريمه؛ لأنّ العرب كانت تتقلّب به، فتحلّه عامًا وتحرّمه عامًا، قال: ويجمع على محرّماتٍ، ومحارم، ومحاريم.
صفرٌ: سمّي بذلك لخلوّ بيوتهم منه، حين يخرجون للقتال والأسفار، يقال: "صفر المكان": إذا خلا ويجمع على أصفارٍ كجملٍ وأجمالٍ.
شهر ربيع أول: سمّي بذلك لارتباعهم فيه. والارتباع الإقامة في عمارة الرّبع، ويجمع على أربعاء كنصيبٍ وأنصباء، وعلى أربعةٍ، كرغيفٍ وأرغفةٍ.
ربيعٌ الآخر: كالأوّل.
جمادى: سمّي بذلك لجمود الماء فيه. قال: وكانت الشّهور في حسابهم لا تدور. وفي هذا نظرٌ؛ إذ كانت شهورهم منوطةً بالأهلّة، ولا بدّ من دورانها، فلعلّهم سمّوه بذلك، أوّل ما سمّي عند جمود الماء في البرد، كما قال الشّاعر:
وليلةٍ من جمادى ذات أندية = لا يبصر العبد في ظلماتها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدةٍ = حتّى يلفّ على خرطومه الذّنبا
ويجمع على جماديات، كحبارى وحباريات، وقد يذكّر ويؤنّث، فيقال: جمادى الأولى والأوّل، وجمادى الآخر والآخرة.
رجبٌ: من التّرجيب، وهو التّعظيم، ويجمع على أرجابٍ، ورجاب، ورجبات.
شعبان: من تشعّب القبائل وتفرّقها للغارة ويجمع على شعابين وشعبانات
ورمضان: من شدّة الرّمضاء، وهو الحرّ، يقال: "رمضت الفصال": إذا عطشت، ويجمع على رمضانات ورماضين وأرمضة قال: وقول من قال: "إنّه اسمٌ من أسماء اللّه"؛ خطأٌ لا يعرّج عليه، ولا يلتفت إليه.
قلت: قد ورد فيه حديثٌ؛ ولكنّه ضعيفٌ، وبيّنته في أوّل كتاب الصّيام.
شوّالٌ: من شالت الإبل بأذنابها للطّراق، قال: ويجمع على شواول وشواويل وشوّالات.
القعدة: بفتح القاف -قلت: وكسرها -لقعودهم فيه عن القتال والتّرحال، ويجمع على ذوات القعدة.
الحجّة: بكسر الحاء -قلت: وفتحها -سمّي بذلك لإيقاعهم الحجّ فيه، ويجمع على ذوات الحجّة.
أسماء الأيّام: أوّلها الأحد، ويجمع على آحادٍ، وأحاد ووحودٍ. ثمّ يوم الاثنين، ويجمع على أثانين. الثّلاثاء: يمدّ، ويذكّر ويؤنّث، ويجمع على ثلاثاواتٍ وأثالث. ثمّ الأربعاء بالمدّ، ويجمع على أربعاواتٍ وأرابيع. والخميس: يجمع على أخمسةٍ وأخامس، ثمّ الجمعة -بضمّ الميم، وإسكانها، وفتحها أيضًا -ويجمع على جمع وجمعات.
السّبت: مأخوذٌ من السّبت، وهو القطع؛ لانتهاء العدد عنده. وكانت العرب تسمّي الأيّام أوّل، ثمّ أهون، ثمّ جبار، ثمّ دبار، ثمّ مؤنس، ثمّ العروبة، ثمّ شيار، قال الشّاعر -من العرب العرباء العاربة المتقدّمين -:
أرجّي أن أعيش وأنّ يومي = بأوّل أو بأهون أو جبار
أو التّالي دبار فإن أفته = فمؤنس أو عروبة أو شيار
وقوله تعالى: {منها أربعةٌ حرمٌ} فهذا ممّا كانت العرب أيضًا في الجاهليّة تحرّمه، وهو الّذي كان عليه جمهورهم، إلّا طائفةً منهم يقال لهم: "البسل"، كانوا يحرّمون من السّنة ثمانية أشهرٍ، تعمّقًا وتشديدًا.
وأمّا قوله: "ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان، [فإنّما أضافه إلى مضر، ليبيّن صحّة قولهم في رجبٍ أنّه الشّهر الّذي بين جمادى وشعبان] لا كما كانت تظنّه ربيعة من أنّ رجب المحرّم هو الشّهر الّذي بين شعبان وشوّالٍ، وهو رمضان اليوم، فبيّن، عليه [الصّلاة و] السّلام، أنّه رجب مضر لا رجب ربيعة. وإنّما كانت الأشهر المحرّمة أربعةٌ، ثلاثةٌ سردٌ وواحدٌ فردٌ؛ لأجل أداء مناسك الحجّ والعمرة، فحرم قبل شهر الحجّ شهرٌ، وهو ذو القعدة؛ لأنّهم يقعدون فيه عن القتال، وحرّم شهر ذي الحجّة لأنّهم يوقعون فيه الحجّ ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهرٌ آخر، وهو المحرّم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثمّ يعود إلى وطنه فيه آمنًا.
وقوله تعالى: {ذلك الدّين القيّم} أي: هذا هو الشّرع المستقيم، من امتثال أمر اللّه فيما جعل من الأشهر الحرم، والحذو بها على ما سبق في كتاب اللّه الأوّل.
وقال تعالى: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} أي: في هذه الأشهر المحرّمة؛ لأنّه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أنّ المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ} [الحجّ: 25] وكذلك الشّهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدّية في مذهب الشّافعيّ، وطائفةٍ كثيرةٍ من العلماء، وكذا في حقّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرمٍ.
وقال حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} قال: في الشّهور كلّها.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهرًا} الآية {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} في كلّهن، ثمّ اختصّ من ذلك أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرامًا، وعظم حرماتهن، وجعل الذّنب فيهنّ أعظم، والعمل الصّالح والأجر أعظم.
وقال قتادة في قوله: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} إنّ الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزرًا، من الظّلم فيما سواها، وإن كان الظّلم على كلّ حالٍ عظيمًا، ولكنّ اللّه يعظّم من أمره ما يشاء. قال: إنّ اللّه اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلًا ومن النّاس رسلًا واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة، واصطفى من اللّيالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظّم اللّه، فإنّما تعظم الأمور بما عظّمها اللّه به عند أهل الفهم وأهل العقل.
وقال الثّوريّ، عن قيس بن مسلمٍ، عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة: بألّا تحرّموهنّ كحرمتهنّ
وقال محمّد بن إسحاق: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} أي: لا تجعلوا حرامها حلالًا ولا حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشّرك، فإنّما النّسيء الّذي كانوا يصنعون من ذلك، زيادةٌ في الكفر {يضلّ به الّذين كفروا} الآية [التّوبة: 37].
وهذا القول اختيار ابن جريرٍ.
وقوله: {وقاتلوا المشركين كافّةً} أي: جميعكم {كما يقاتلونكم كافّةً} أي: جميعهم، {واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين}
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشّهر الحرام: هل هو منسوخٌ أو محكمٌ؟ على قولين:
أحدهما -وهو الأشهر: أنّه منسوخٌ؛ لأنّه تعالى قال هاهنا: {فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} وأمر بقتال المشركين وظاهر السّياق مشعرٌ بأنّه أمر بذلك أمرًا عامًّا، فلو كان محرما ما في الشّهر الحرام لأوشك أن يقيّده بانسلاخها؛ ولأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حاصر أهل الطّائف في شهرٍ حرامٍ -وهو ذو القعدة -كما ثبت في الصّحيحين: أنّه خرج إلى هوازن في شوّال، فلمّا كسرهم واستفاء أموالهم، ورجع فلّهم، فلجئوا إلى الطّائف -عمد إلى الطّائف فحاصرها أربعين يومًا، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنّه حاصر في الشّهر الحرام.
والقول الآخر: أنّ ابتداء القتال في الشّهر الحرام حرامٌ، وأنّه لم ينسخ تحريم الحرام، لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تحلّوا شعائر اللّه ولا الشّهر الحرام} [الآية] [المائدة: 2] وقال: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} الآية [البقرة: 194] وقال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [الآية] [التّوبة: 50]
وقد تقدّم أنّها الأربعة المقرّرة في كلّ سنةٍ، لا أشهر التّسيير على أحد القولين.
وأمّا قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً} فيحتمل أنّه منقطعٌ عمّا قبله، وأنّه حكمٌ مستأنفٌ، ويكون من باب التّهييج والتّحضيض، أي: كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضًا لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنّه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشّهر الحرام إذا كانت البداءة منهم، كما قال تعالى: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ} [البقرة: 194] وقال تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} الآية [البقرة: 191]، وهكذا الجواب عن حصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أهل الطّائف، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشّهر الحرام، فإنّه من تتمّة قتال هوازن وأحلافها من ثقيفٍ، فإنّهم هم الّذين ابتدءوا القتال، وجمعوا الرّجال، ودعوا إلى الحرب والنّزال، فعندما قصدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما تقدّم، فلمّا تحصّنوا بالطّائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم، فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعةً، واستمرّ الحصار بالمجانيق وغيرها قريبًا من أربعين يومًا. وكان ابتداؤه في شهرٍ حلالٍ، ودخل الشّهر الحرام، فاستمرّ فيه أيّامًا، ثمّ قفل عنهم لأنّه يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا هو أمرٌ مقرّرٌ، وله نظائر كثيرةٌ، واللّه أعلم. ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة، والله أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 144-150]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه زيّن لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين (37)}
هذا ممّا ذمّ اللّه تعالى به المشركين من تصرّفهم في شرع اللّه بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام اللّه بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرّم اللّه وتحريمهم ما أحلّ اللّه، فإنّهم كان فيهم من القوّة الغضبية والشّهامة والحميّة ما استطالوا به مدّة الأشهر الثّلاثة في التّحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدّةٍ تحليل المحرّم وتأخيره إلى صفرٍ، فيحلّون الشّهر الحرام، ويحرّمون الشّهر الحلال، ليواطئوا عدّة الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم -وهو عمير بن قيسٍ المعروف -بجذل الطّعان:
لقد علمت معد أنّ قومي = كرام النّاس أنّ لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد = شهور الحل نجعلها حراما
فأيّ النّاس لم تدرك بوتر? = وأيّ النّاس لم نعلك لجاما?
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ في قوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} قال: النّسيء أنّ جنادة بن عوف بن أميّة الكنانيّ، كان يوافي الموسم في كلّ عامٍ، وكان يكنّى "أبا ثمامة"، فينادي: ألا إنّ أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب، ألا وإنّ صفر العام الأوّل حلالٌ. فيحلّه للنّاس، فيحرّم صفرًا عامًا، ويحرّم المحرّم عامًا، فذلك قول اللّه: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} [إلى قوله: {الكافرين} وقوله {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر}] يقول: يتركون المحرّم عامًا، وعامًا يحرّمونه.
وروى العوفيّ عن ابن عبّاسٍ نحوه.
وقال ليث بن أبي سليمٍ، عن مجاهدٍ، كان رجلٌ من بني كنانة يأتي كلّ عامٍ إلى الموسم على حمارٍ له، فيقول: يا أيّها النّاس، إنّي لا أعاب ولا أجاب، ولا مردّ لما أقول، إنّا قد حرّمنا المحرم، وأخرنا صفر. ثمّ يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر، وأخّرنا المحرّم. فهو قوله: {ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه} قال: يعني الأربعة {فيحلّوا ما حرّم اللّه} لتأخير هذا الشّهر الحرام.
وروي عن أبي وائلٍ، والضّحّاك، وقتادة نحو هذا.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} الآية، قال: هذا رجلٌ من بني كنانة يقال له: "القلمّس"، وكان في الجاهليّة، وكانوا في الجاهليّة لا يغير بعضهم على بعضٍ في الشّهر الحرام، يلقى الرّجل قاتل أبيه ولا يمدّ إليه يده، فلمّا كان هو، قال: اخرجوا بنا. قالوا له: هذا المحرّم! قال: ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما محرّمين. قال: ففعل ذلك، فلمّا كان عام قابلٍ قال: لا تغزوا في صفرٍ، حرّموه مع المحرّم، هما محرّمان.
فهذه صفةٌ غريبةٌ في النّسيء، وفيها نظرٌ؛ لأنّهم في عامٍ إنّما يحرّمون على هذا ثلاثة أشهرٍ فقط، وفي العام الّذي يليه يحرّمون خمسة أشهرٍ، فأين هذا من قوله تعالى: {يحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه}.
وقد روي عن مجاهدٍ صفةٌ أخرى غريبةٌ أيضًا، فقال عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} الآية، قال: فرض اللّه، عزّ وجلّ، الحجّ في ذي الحجّة. قال: وكان المشركون يسمّون الأشهر ذا الحجّة، والمحرّم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوّالًا وذا القعدة. وذا الحجّة يحجّون فيه مرّةً أخرى ثمّ يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثمّ يسمّون شعبان رمضان، ثمّ يسمّون شوّالًا رمضان، ثمّ يسمّون ذا القعدة شوالا ثمّ يسمّون ذا الحجّة ذا القعدة، ثمّ يسمّون المحرّم ذا الحجّة، فيحجّون فيه، واسمه عندهم ذو الحجّة، ثمّ عادوا بمثل هذه القصّة فكانوا يحجّون في كلّ شهرٍ عامين، حتّى وافق حجّة أبي بكرٍ الآخر من العامين في القعدة ثمّ حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حجّته الّتي حجّ، فوافق ذا الحجّة، فذلك حين يقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في خطبته: "إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض".
وهذا الّذي قاله مجاهدٌ فيه نظرٌ أيضًا، وكيف تصحّ حجّة أبي بكرٍ وقد وقعت في ذي القعدة، وأنّى هذا؟ وقد قال اللّه تعالى: {وأذانٌ من اللّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللّه بريءٌ من المشركين ورسوله} الآية [التّوبة: 3]، وإنّما نودي بذلك في حجّة أبي بكرٍ، فلو لم تكن في ذي الحجّة لما قال تعالى: {يوم الحجّ الأكبر} ولا يلزم من فعلهم النّسيء هذا الّذي ذكره، من دوران السّنة عليهم، وحجّهم في كلّ شهرٍ عامين؛ فإنّ النّسيء حاصلٌ بدون هذا، فإنّهم لمّا كانوا يحلّون شهر المحرّم عامًا يحرّمون عوضه صفرا، وبعده ربيعٌ وربيعٌ إلى آخر [السّنة والسّنة بحالها على نظامها وعدّتها وأسماء شهورها ثمّ في العام القابل يحرّمون المحرّم ويتركونه على تحريمه، وبعده صفرٌ، وربيعٌ وربيعٌ إلى آخرها] فيحلّونه عامًا ويحرّمونه عامًا؛ ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه، فيحلّوا ما حرّم اللّه، أي: في تحريم أربعة أشهرٍ من السّنة، إلّا أنّهم تارةً يقدّمون تحريم الشّهر الثّالث من الثّلاثة المتوالية وهو المحرّم، وتارةً ينسئونه إلى صفرٍ، أي: يؤخّرونه. وقد قدّمنا الكلام على قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثةٌ متواليةٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب مضر"، أي: أنّ الأمر في عدّة الشّهور وتحريم ما هو محرّمٌ منها، على ما سبق في كتاب اللّه من العدد والتّوالي، لا كما يعتمده جهلة العرب، من فصلهم تحريم بعضها بالنّسيء عن بعضٍ، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا صالح بن بشر بن سلمة الطّبرانيّ، حدّثنا مكّيّ بن إبراهيم، حدّثنا موسى بن عبيدة، عن عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر أنّه قال: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالعقبة، فاجتمع إليه من شاء اللّه من المسلمين، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو له أهلٌ ثمّ قال: "وإنّما النّسيء من الشّيطان، زيادةٌ في الكفر، يضلّ به الّذين كفروا، يحلّونه عامًا ويحرّمونه عاما". فكانوا يحرمون المحرم عاما، ويستحلون صفر ويستحلّون المحرّم، وهو النّسيء
وقد تكلّم الإمام محمّد بن إسحاق على هذا في كتاب "السّيرة" كلامًا جيّدًا ومفيدًا حسنًا، فقال: كان أوّل من نسأ الشّهور على العرب، فأحلّ منها ما حرّم اللّه، وحرّم منها ما أحلّ اللّه، عزّ وجلّ، "القلمّس"، وهو: حذيفة بن عبد مدركة فقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان، ثمّ قام بعده على ذلك ابنه عبّاد ثمّ من بعد عبّادٍ ابنه قلع بن عبّادٍ، ثمّ ابنه أميّة بن قلعٍ، ثمّ ابنه عوف بن أميّة، ثمّ ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوفٍ، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام. فكانت العرب إذا فرغت من حجّها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيبًا، فحرّم رجبًا، وذا القعدة، وذا الحجّة، ويحلّ المحرم عاما، ويجعل مكانه صفر، ويحرّمه عامًا ليواطئ عدّة ما حرّم اللّه، فيحلّ ما حرّم اللّه، يعني: ويحرّم ما أحلّ اللّه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 150-153]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:43 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة