قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّةً يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8) اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً فصدّوا عن سبيله إنّهم ساء ما كانوا يعملون (9) لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمّةً وأولئك هم المعتدون (10)
بعد كيف في هذه الآية فعل مقدر ولا بد، يدل عليه ما تقدم، فيحسن أن يقدر كيف يكون لهم عهد ونحوه قول الشاعر: [الطويل]
وخير تماني إنما الموت في القرى = فكيف وهاتا هضبة وكثيب
وفي كيف هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى، ولا يرقبوا معناه لا يراعوا ولا يحافظوا وأصل الارتقاب بالبصر، ومنه الرقيب في الميسر وغيره، ثم قيل لكل من حافظ على شيء وراعاه راقبه وارتقبه، وقرأ جمهور الناس «إلّا» وقرأ عكرمة مولى ابن عباس بياء بعد الهمزة خفيفة اللام «إيلا»، وقرأت فرقة «ألا» بفتح الهمزة، فأما من قرأ «إلا» فيجوز أن يراد به الله عز وجل قاله مجاهد وأبو مجلز، وهو اسمه بالسريانية، ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع كلام مسيلمة فقال هذا كلام لم يخرج من إل، ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والخلق والجوار ونحو هذه المعاني إلا، ومنه قول أبي جهل: [الطويل]
لإل علينا واجب لا نضيعه = متين فواه غير منتكث الحبل
ويجوز أن يراد به القرابة، فإن القرابة في لغة العرب يقال له إل، ومنه قول ابن مقبل: [الرمل]
أفسد الناس خلوف خلّفوا = قطعوا الإل وأعراق الرحم
أنشده أبو عبيدة على القرابة، وظاهره أنه في العهود، ومنه قول حسان: [الوافر]
لعمرك أن إلّك في قريش = كإل السقب من رال النعام
وأما من قرأ «ألا» بفتح الهمزة فهو مصدر من فعل للإل الذي هو العهد، ومن قرأ «إيلا» فيجوز أن يراد به الله عز وجل، فإنه يقال أل وأيل، وفي البخاري قال جبر، وميك، وسراف: عبد بالسريانية، وأيل الله عز وجل، ويجوز أن يريد إلًّا المتقدم فأبدل من أحد المثلين ياء كما فعلوا ذلك في قولهم أما وأيما، ومنه قول سعد بن قرط يهجو أمه: [البسيط]
يا ليت أمنا شالت نعامتها = أيما إلى جنة أيما إلى نار
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت = فيضحي وأما بالعشي فيخصر
وقال آخر: [الرجز]
لا تفسدوا آبا لكم = أيما لنا أيما لكم
قال أبو الفتح ويجوز أن يكون مأخوذا من آل يؤول إذا ساس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كما قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا فكان المعنى على هذا لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، وقلبت الواو ياء لسكونها والكسرة قبلها، و «الذمة» أيضا بمعنى المتات والحلف والجوار، ونحوه قول الأصمعي الذمة كل ما يجب أن يحفظ ويحمى، ومن رأى الإل أنه العهد جعلها لفظتين مختلفتين لمعنى واحد أو متقارب، ومن رأى الإل لغير ذلك فهما لفظان لمعنيين، وتأبى قلوبهم معناه تأبى أن تذعن لما يقولونه بالألسنة، وأبى يأبى شاذ لا يحفظ فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمستقبل، وقد حكي ركن يركن، وقوله وأكثرهم يريد به الكل أو يريد استثناء من قضى له بالإيمان كل ذلك محتمل).[المحرر الوجيز: 4/ 264-267]