شرح أثر أنس بن مالك رضي الله عنه في جمع عثمان
أثر أنس بن مالك في جمع عثمان للقرآن
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ البخاريُّ (ت: 256هـ): (حدثنا موسى، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، أنَّ أنس بن مالك حدَّثه: (أن حذيفة بن اليمان قَدِم على عثمانَ وكان يُغازِي أهل الشأم في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفةُ لعثمانَ: يا أمير المؤمنين، أدركْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى! فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيدَ بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف. وقال عثمانُ للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق)). [صحيح البخاري/كتاب فضائل القرآن/باب جمع القرآن]
أقوال العلماء في شرح أثر أنس بن مالك
قال عمر بن علي بن أحمد الشافعي، المعروف بابن الملقن (ت: 804هـ): (معنى (يغازي) يغزو، و(إرمينية): بكسر أوله، وفتحه ابن السمعاني، وتخفف ياؤها وتشدد كما قاله ياقوت، وقال صاحبا «المطالع»: بالتخفيف لا غير. وقال أبو عبيد: بلد معروف سميت بكون الأرمن فيها، وهي أمة كالروم، وقيل: سميت بأرمون بن لمطي بن يومن بن يافث بن نوح. قال أبو الفرج: ومن ضم الهمزة غلط، قال: وبكسرها قرأته عَلَى أبي منصور اللغوي؛ وقال: هو اسم أعجمي، وأقيمت -كما قال الرشاطي- سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان على يد سلميان بن ربيعة الباهلي. قال: وأهلها بنو الرومي بن إرم بن سام بن نوح.
وأذربيجان -بفتح أوله بالقصر والمد، وبفتح الباء وكسرها، وكسر الهمزة أيضًا، حكاه ابن مكي في «تنقيبه»- بلد بالجبال من بلاد العراق يلي كور إرمينينة من جهة المغرب. وقال أبو إسحاق البحيري: الفصيح ذربيجان. وقال الجواليقي: الهمزة في أولها أصلية، لأن أذر مضموم إليه الآخر). [التوضيح لشرح الجامع الصحيح: 24/20-25]
قال أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ): (قوله: (حدثنا موسى) هو ابن إسماعيل، وإبراهيم هو ابن سعد، وهذا الإسناد إلى ابن شهاب هو الذي قبله بعينه، أعاده إشارة إلى أنهما حديثان لابن شهاب في قصتين مختلفتين، وإن اتفقتا في كتابة القرآن وجمعه، وعن ابن شهاب قصة ثالثة كما بيناه عن خارجة بن زيد عن أبيه في قصة الآية التي من الأحزاب، وقد ذكرها في آخر هذه القصة الثانية هنا.
وقد أخرجه المصنف من طريق شعيب عن ابن شهاب مفرقًا، فأخرج القصة الأولى في تفسير التوبة، وأخرج الثانية قبل هذا بباب لكن باختصار، وأخرجها الطبراني في مسند الشاميين، وابن أبي داود في المصاحف، والخطيب في المدرج، من طريق أبي اليمان بتمامه.
وأخرج المصنف الثالثة في تفسير سورة الأحزاب كما تقدم، قال الخطيب: روى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب القصص الثلاث، ثم ساقها من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب مساقًا واحدًا مفصلًا للأسانيد المذكورة. قال: وروى القصص الثلاث شعيب عن ابن شهاب، وروى قصة آخر التوبة مفردًا يونس بن يزيد.
قلت: وروايته تأتي عقب هذا باختصار، وقد أخرجها ابن أبي داود من وجه آخر عن يونس مطولة وفاته رواية سفيان بن عيينة لها عن ابن شهاب أيضًا، وقد بينت ذلك قبل، قال: وروى قصة آية الأحزاب معمر وهشام بن الغاز ومعاوية بن يحيى ثلاثتهم عن ابن شهاب، ثم ساقها عنهم. قلت: وفاته رواية بن أبي عتيق لها عن ابن شهاب، وهي عند المصنف في الجهاد.
قوله: (حدثنا ابن شهاب: أن أنس بن مالك حدثه) في رواية يونس عن ابن شهاب ثم أخبرني أنس بن مالك.
قوله: (أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق) في رواية الكشميهني: في أهل العراق، والمراد أن أرمينية فتحت في خلافة عثمان، وكان أمير العسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك، وكان أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم، وكان هو على أهل المدائن، وهي من جملة أعمال العراق.
ووقع في رواية عبدالرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد: وكان يغازي أهل الشام في فرج أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق. قال ابن أبي داود: الفرج الثغر. وفي رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه: أن حذيفة قدم على عثمان وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية في غزوهم ذلك الفرج مع من اجتمع من أهل العراق وأهل الشام. وفي رواية يونس بن يزيد: اجتمع لغزو أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق.
و(أرمينية) بفتح الهمزة عند ابن السمعاني، وبكسرها عند غيره، وبه جزم الجواليقي، وتبعه ابن الصلاح ثم النووي، وقال ابن الجوزي: من ضمها فقد غلط، وبسكون الراء وكسر الميم بعدها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة، وقد تثقل، قاله ياقوت. والنسبة إليها أرمني بفتح الهمزة ضبطها الجوهري، وقال ابن قرقول بالتخفيف لا غير، وحكى ضم الهمزة وغلط، وإنما المضموم همزتها أرمية والنسبة إليها أرموي، وهي بلدة أخرى من بلاد أذربيجان.
وأما أرمينية فهي مدينة عظيمة من نواحي خلاط، ومد الأصيلي والمهلب أوله، وزاد المهلب الدال وكسر الراء وتقديم الموحدة، تشتمل على بلاد كثيرة وهي من ناحية الشمال، قال ابن السمعاني: هي من جهة بلاد الروم يضرب بحسنها وطيب هوائها وكثرة مائها، وشجرها المثل. وقيل: إنها من بناء أرمين من ولد يافث بن نوح.
و(أذربيجان) بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء، وقيل: بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وآخره نون، وحكى إن مكي كسر أوله، وضبطها صاحب «المطالع»، ونقله عن ابن الأعرابي بسكون الذال وفتح الراء: بلد كبير من نواحي جبال العراق غربي، وهي الآن تبريز وقصباتها، وهي تلي أرمينية من جهة غربيها، واتفق غزوهما في سنة واحدة، واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق، والذي ذكرته الأشهر في ضبطها، وقد تمد الهمزة وقد تكسر وقد تحذف، وقد تفتح الموحدة، وقد يزاد بعدها ألف مع مد الأولى حكاه الهجري، وأنكره الجواليقي ويؤكده أنهم نسبوا إليها آذري بالمد اقتصارًا على الركن الأول كما قالوا في النسبة إلى بعلبك بعلي.
وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان، وقد أخرج بن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: خطب عثمان فقال: يا أيها الناس، إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القراءة ...، الحديث في جمع القرآن. وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر، فإن كان قوله: خمس عشرة سنة، أي: كاملة، فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته، لكن وقع في رواية أخرى له: «منذ ثلاث عشرة سنة»، فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه، وجبره في الأولى، فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته، فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه، وذلك في أول ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة من قبل عثمان، وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر لذلك مستندًا.
قوله: (فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة) في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه: فيتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره. وفي رواية يونس: فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة. وفي رواية عمارة بن غزية: أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس! قال: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، واذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبدالله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضًا.
وأخرج بن أبي داود أيضا من طريق يزيد بن معاوية النخعي قال: إني لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة، فسمع رجلًا يقول: قراءة عبدالله بن مسعود، وسمع آخر يقول: قراءة أبي موسى الأشعري، فغضب ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هكذا كان من قبلكم اختلفوا، والله لأركبن إلى أمير المؤمنين.
ومن طريق أخرى عنه: أن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة، قرأ هذا: {وأتموا الحج والعمرة لله}، وقرأ هذا: {وأتموا الحج والعمرة للبيت}، فغضب حذيفة واحمرت عيناه. ومن طريق أبي الشعثاء قال: قال حذيفة: يقول أهل الكوفة: قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة: قراءة أبي موسى، والله لئن قسمت على أمير المؤمنين لآمرنه أن يجعلها قراءة واحدة. ومن طريق أخرى: أن بن مسعود قال لحذيفة: بلغني عنك كذا، قال: نعم، كرهت أن يقال قراءة فلان وقراءة فلان، فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب.
وهذه القصة لحذيفة يظهر لي أنها متقدمة على القصة التي وقعت له في القراءة، فكأنه لما رأى الاختلاف أيضًا بين أهل الشام والعراق اشتد خوفه فركب إلى عثمان، وصادف أن عثمان أيضًا كان وقع له نحو ذلك فأخرج ابن أبي داود أيضا في المصاحف من طريق أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يتلقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفَّر بعضُهم بعضًا، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافًا، فكأنه والله أعلم لما جاءه حذيفة وأعلمه باختلاف أهل الأمصار تحقَّق عنده ما ظنه من ذلك.
وفي رواية مصعب بن سعد: فقال عثمان: تمترون في القرآن تقولون: قراءة أبي قراءة عبدالله، ويقول الآخر: والله ما تقيم قراءتك. ومن طريق محمد بن سيرين قال: كان الرجل يقرأ حتى يقول الرجل لصاحبه كفرت بما تقول فرفع ذلك إلى عثمان فتعاظم في نفسه. وعند ابن أبي داود أيضًا من رواية بكير بن الأشج: أن ناسًا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية، فإذا قرأها قال: إلا أني أكفر بهذه، ففشا ذلك في الناس فكلم عثمان في ذلك.
قوله: (فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف) في رواية يونس بن يزيد: فاستخرج الصحيفة التي كان أبو بكر أمر زيدًا بجمعها، فنسخ منها مصاحف فبعث بها إلى الآفاق.
والفرق بين الصحف والمصحف: أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبى بكر، وكانت سورًا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة، لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفًا.
وقد جاء عن عثمان أنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة، فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غَفَلة قال: قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا، قال: ما تقولون في هذه القراءة، لقد بلغني أن بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا. قلنا: فما ترى؟! قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت.
قوله: (فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف) وعند ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين قال: جمع عثمان اثني عشر رجلًا من قريش والأنصار، منهم أبي بن كعب، وأرسل إلى الرقعة التي في بيت عمر قال: فحدثني كثير بن أفلح وكان ممن يكتب قال: فكانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه، قال ابن سيرين: أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة. وفي رواية مصعب بن سعد: فقال عثمان: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أعرب -وفي رواية: أفصح-؟ قالوا: سعيد بن العاص. قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد.
ومن طريق سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية؛ لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل أبوه العاصي يوم بدر مشركًا، ومات جده سعيد بن العاص قبل بدر مشركًا. قلت: وقد أدرك سعيد بن العاص هذا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، قاله ابن سعد، وعدُّوه لذلك في الصحابة، وحديثه عن عثمان وعائشة في صحيح مسلم، واستعمله عثمان على الكوفة، ومعاوية على المدينة، وكان من أجواد قريش وحلمائها، وكان معاوية يقول: لكل قوم كريم، وكريمنا سعيد. وكانت وفاته بالمدينة سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين.
ووقع في رواية عمارة بن غزية: أبان بن سعيد بن العاص، بدل: سعيد. قال الخطيب: ووهم عمارة في ذلك؛ لأن أبان قتل بالشام في خلافة عمر، ولا مدخل له في هذه القصة، والذي أقامه عثمان في ذلك هو سعيد بن العاص ابن أخي أبان المذكور، اهـ.
ووقع من تسمية بقية من كَتب أو أملى عند ابن أبي داود مُفرَّقًا جماعة، منهم: مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس من روايته ومن رواية أبي قلابة عنه، ومنهم: كثير بن أفلح كما تقدم، ومنهم: أبي بن كعب كما ذكرنا، ومنهم: أنس بن مالك، وعبدالله بن عباس، وقع ذلك في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب في أصل حديث الباب، فهؤلاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثني عشر.
وقد أخرج ابن أبي داود من طريق عبدالله بن مغفل وجابر بن سمرة قال: قال عمر بن الخطاب لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف، وليس في الذين سميناهم أحد من ثقيف، بل كلهم إما قريشي أو أنصاري، وكأن ابتداء الأمر كان لزيدٍ وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق، فأضافوا إلى زيد من ذكر، ثم استظهروا بأبي بن كعب في الإملاء.
وقد شقَّ على ابن مسعود صرفه عن كتابة المصحف حتى قال ما أخرجه الترمذي في آخر حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب من طريق عبد الرحمن بن مهدي عنه، قال ابن شهاب: فأخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ابن مسعود أن عبدالله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر، يريد: زيد بن ثابت.
وأخرج ابن أبي داود من طريق خمير بن مالك بالخاء مصغر، سمعت ابن مسعود يقول: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان. ومن طريق أبى وائل عن ابن مسعود: بضعًا وسبعين سورة. ومن طريق زر بن حبيش عنه مثله، وزاد: وإن لزيد بن ثابت ذؤابتين، والعذر لعثمان في ذلك أنه فعله بالمدينة، وعبدالله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر.
وأيضًا، فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر، وأن يجعلها مصحفًا واحدًا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت كما تقدم؛ لكونه كان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره. وقد أخرج الترمذي في آخر الحديث المذكور عن ابن شهاب قال: بلغني أنه كره ذلك من مقالة عبدالله بن مسعود رجال من أفاضل الصحابة.
قوله: (وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة) يعني: سعيدًا وعبدالله وعبدالرحمن لأن سعيدًا أموي، وعبدالله أسديٌّ وعبدالرحمن مخزوميٌّ، وكلها من بطون قريش.
قوله: (في شيء من القرآن) في رواية شعيب: في عربية من عربية القرآن. وزاد الترمذي من طريق عبدالرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد في حديث الباب. قال ابن شهاب: فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه، فقال: القرشيون التابوت، وقال زيد: التابوه. فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه التابوت، فإنه نزل بلسان قريش. وهذه الزيادة أدرجها إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع في روايته عن ابن شهاب في حديث زيد بن ثابت. قال الخطيب: وإنما رواها ابن شهاب مرسلة.
قوله: (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة) زاد أبو عبيد وابن أبي داود من طريق شعيب عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال: كان مروان يرسل إلى حفصة، يعني: حين كان أمير المدينة من جهة معاوية يسألها الصحف التي كتب منها القرآن فتأبى أن تعطيه، قال سالم: فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبدالله بن عمر، ليرسلن إليه تلك الصحف، فأرسل بها إليه عبدالله بن عمر، فأمر بها مروان فشققت. وقال: إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب.
ووقع في رواية أبي عبيدة: فمزقت. قال أبو عبيد: لم يسمع أن مروان مزق الصحف، إلا في هذه الرواية. قلت: قد أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب نحوه، وفيه: فلما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها الصحف فمنعته إياها، قال: فحدثني سالم بن عبدالله قال: لما توفيت حفصة ...، فذكره. وقال فيه: فشققها وحرقها. ووقعت هذه الزيادة في رواية عمارة بن غزية أيضًا باختصار، لكن أدرجها أيضا في حديث زيد بن ثابت، وقال فيه: فغسلها غسلًا. وعند ابن أبي داود من رواية مالك عن ابن شهاب عن سالم أو خارجة: أن أبا بكر لما جمع القرآن سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك ...، فذكر الحديث مختصرًا، إلى أن قال: فأرسل عثمان إلى حفصة فطلبها فأبت حتى عاهدها ليردنها إليها فنسخ منها ثم ردها فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها. ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق ثم غسل ثم تحريق، ويحتمل أن يكون بالخاء المعجمة فيكون مزقها ثم غسلها، والله أعلم.
قوله: (فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا) في رواية شعيب: فأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، واختلفوا في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق، فالمشهور أنها خمسة. وأخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف من طريق حمزة الزيات قال: أرسل عثمان أربعة مصاحف وبعث منها إلى الكوفة بمصحف، فوقع عند رجل من مراد فبقي حتى كتبت مصحفي عليه. قال ابن أبي داود: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: كتبت سبعة مصاحف إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدًا. وأخرج بإسناد صحيح إلى إبراهيم النخعي قال: قال لي رجل من أهل الشام مصحفًا ومصحف أهل البصرة أضبط من مصحف أهل الكوفة قلت لم قال لأن عثمان بعث إلى الكوفة لما بلغه من اختلافهم بمصحف قبل أن يعرض وبقي مصحفنا ومصحف أهل البصرة حتى عرضا قوله وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق في رواية الأكثر أن يخرق بالخاء المعجمة وللمروزي بالمهملة ورواه الأصيلي بالوجهين والمعجمة أثبت وفي رواية الإسماعيلي أن تمحى أو تحرق وقد وقع في رواية شعيب عند بن أبي داود والطبراني وغيرهما وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به قال فذلك زمان حرقت المصاحف بالعراق بالنار وفي رواية سويد بن غفلة عن علي قال لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرا وفي رواية بكير بن الأشج فأمر بجمع المصاحف فأحرقها ثم بث في الأجناد التي كتب ومن طريق مصعب بن سعد قال أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال لم ينكر ذلك منهم أحد وفي رواية أبي قلابة فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى أهل الأمصار إني قد صنعت كذا وكذا ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم والمحو أعم من أن يكون بالغسل أو التحريق وأكثر الروايات صريح في التحريق فهو الذي وقع ويحتمل وقوع كل منهما بحسب ما رأى من كان بيده شيء من ذلك وقد جزم عياض بأنهم غسلوها بالماء ثم أحرقوها مبالغة في إذهابها قال بن بطال في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار وأن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت وكذا فعل عروة وكرهه إبراهيم وقال بن عطية الرواية بالحاء المهملة أصح وهذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت وأما الآن فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته وقوله وأمر بما سواه أي بما سوى المصحف الذي استكتبه والمصاحف التي نقلت منه وسوى الصحف التي كانت عند حفصة وردها إليها ولهذا استدرك مروان الأمر بعدها وأعدمها أيضا خشية أن يقع لأحد منها توهم أن فيها ما يخالف المصحف الذي استقر عليه الأمر كما تقدم واستدل بتحريق عثمان الصحف على القائلين بقدم الحروف والأصوات لأنه لا يلزم من كون كلام الله قديما أن تكون الأسطر المكتوبة في الورق قديمة ولو كانت هي عين كلام الله لم يستجز الصحابة إحراقها والله أعلم). [فتح الباري: 9/16-21]
قال محمود بن أحمد بن موسى بدر الدين العيني (ت: 855): (مطابقته قوله: (وكان يغازي) أي: يغزى، أي: كان عثمان يجهز أهل الشام وأهل العراق لغزو أرمينية وأذربيجان وفتحهما. و(أرمينية) بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الميم بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون مكسورة، وقال ابن السمعاني: بفتح الهمزة، وقال أبو عبيد: هي بلد معروف يضم كورًا كثيرة، سميت بذلك لكون الأرمن فيها، وهي أمة كالروم، وقيل: سميت بأرمون بن ليطى بن يومن بن يافث بن نوح عليه السلام. وقال الرشاطي: افتتحت في سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، على يد سلمان بن ربيعة الباهلي، قال: وأهلها بنو أرمي بن أرم بن نوح عليه السلام.
و(أذربيجان) بفتح الهمزة وسكون الذال المعجمة وبالراء المفتوحة والباء الموحدة المكسورة ثم الياء آخر الحروف الساكنة ثم الجيم والألف والنون. وقال ابن قرقول: فتح عبد الله بن سليمان الياء، وعن المهلب بالمد وكسر الراء بعدها ياء ساكنة بعدها باء مفتوحة، وقال أبو الفرج: ألفها مقصورة وذالها ساكنة، كذلك قرأته على أبي منصور، ويغلط من يمده. وفي المبتدئ: من يقدم الياء أخت الواو على الباء الموحدة، وهو جهل. وفي النوادر لابن الأعرابي: العرب تقوله بقصر الهمزة، وكذا ذكره صاحب تثقيف اللسان، ولكن كسر الهمزة. وقال أبو إسحاق البحتري: من الفصيح أذربيجان، وقال الجواليقي: الهمزة في أولها أصلية؛ لأن أذر مضموم إليه الآخر، وقال ابن الأعرابي: اجتمعت فيها أربع موانع من الصرف: العجمة والتعريف، والتأنيث والتركيب.
وهي بلدة بالجبال من بلاد العراق يلي كور أرمينية من جهة الغرب، وقال الكرماني: الأشهر عند العجم أذربايجان، بالمدو الألف بين الموحدة والتحتانية، هو بلدة تبريز وقصباتها.
قوله: (مع أهل العراق) وفي رواية الكشميهني: في أهل العراق.
قوله: (فأفزع) من الإفزاع، و(حذيفة) بالنصب مفعوله، و(اختلافهم) بالرفع فاعله، وفي رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه: فيتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره، وفي رواية يونس: فتذاكروا القرآن واختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة. وفي رواية عمارة بن غزية: أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس! قال: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبدالله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضا انتهى. وكان هذا سببًا لجمع عثمان القرآن في المصحف.
والفرق بينه وبين الصحف: أن الصحف هي الأوراق المحررة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكانت سورًا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة، لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفًا، ولم يكن مصحفًا إلا في عهد عثمان، على ما ذكر في الحديث من طلب عثمان الصحف من حفصة، وأمره للصحابة المذكورين في الحديث بكتابة مصاحف وإرساله إلى كل ناحية بمصحف.
قوله: (فأمر زيد بن ثابت) هو الأنصاري، والبقية قرشيون.
قوله: (فنسخوها) أي: الصحف، أي: ما في الصحف التي أرسلتها حفصة إلى عثمان رضي الله تعالى عنهما.
قوله: (للرهط القرشيين) وهم عبدالله بن الزبير الأسدي وسعيد بن العاص الأموي وعبدالرحمن بن الحارث المخزومي.
قوله: (فإنما نزل بلسانهم) أي: فإنما نزل القرآن بلسان قريش، أي: معظم القرآن، كما ذكرنا.
قوله: (وأرسل إلى كل أفق) أي: ناحية، ويجمع على: آفاق، وفي رواية شعيب: فأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف.
واختلف في عدد المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق فالمشهور أنها خمسة، وأخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف من طريق حمزة الزيات، قال: أرسل عثمان أربعة مصاحف، وبعث منها إلى الكوفة بمصحف، فوقع عند رجل من مراد، فبقي حتى كتبت مصحفي منه. وقال ابن أبي داود: وسمعت أبا حاتم السجستاني يقول: كتبت سبعة مصاحف: إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمين وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدا.
قوله: (أن يخرق) بالخاء المعجمة رواية الأكثرين، وبالمهملة رواية المروزي، وبالوجهين رواية المستملي، وبالمعجمة أثبت، وفي رواية الإسماعيلي: أن يمحى أو يحرق.
وقال الكرماني: فإن قلت: كيف جاز إحراق القرآن؟ قلت: المحروق هو القرآن المنسوخ أو المختلط بغيره من التفسير أو بلغة غير قريش أو القراءات الشاذة، وفائدته أن لا يقع الاختلاف فيه. قلت: هذه الأجوبة جواب من لم يطلع على كلام القوم ولم يتأمل ما يدل عليه قوله في آخر الحديث. وقال عياض: غسلوها بالماء ثم أحرقوها مبالغة في إذهابها، وعند أبي داود والطبراني: وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به، قال: فذلك زمان أحرقت المصاحف بالعراق بالنار، وفي رواية سويد بن غفلة عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرًا. وفي رواية بكير بن الأشج: فأمر بجمع المصاحف فأحرقها ثم بث في الأجناد التي كتبت. ومن طريق مصعب بن سعد قال: أدركت الناس متوافرين حين أحرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك أو قال: لم ينكر ذلك منهم أحد.
وقال ابن بطال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله عز وجل بالنار، وإن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام، وقيل: هذا كان في ذلك الوقت، وأما الآن فالغسل إذا دعت الحاجة إلى إزالته، وقال أصحابنا الحنيفة: إن المصحف إذا بلي بحيث لا ينتفع به يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطء الناس). [عمدة القاري: 20/17-19]
قال أحمد بن محمد بن أبى بكر القسطلاني (ت: 923هـ): ((حدثنا موسى) بن إسماعيل المنقري التبوذكي قال: (حدّثنا إبراهيم) بن سعد العوفي، قال: (حدّثنا ابن شهاب) محمد بن مسلم: (أن أنس بن مالك حدَّثه أن حذيفة بن اليمان) واسم اليمان حسيل بمهملتين مصغرًا، وقيل: حسل -بكسر ثم سكون- العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، (قدم على عثمان) المدينة في خلافته، (وكان) عثمان (يغازي أهل الشام) أي: يجهّز أهل الشام (في فتح أرمينية) بكسر الهمزة وتفتح، وسكون الراء، وكسر الميم والنون، بينهما تحتية ساكنة، وبعد النون تحتية أخرى مخففة، وقد تثقل، مدينة عظيمة بين بلاد الروم وخلاط قريبة من أرزن الروم. قال ابن السمعاني: يضرب بحسنها وطيب هوائها وكثرة مياهها وشجرها المثل. (وأذربيجان) وأمر أهل الشام أن يجمعوا (مع) ولأبي ذر عن الكشميهني: في، (أهل العراق) في غزوهما وفتحهما.
وأذربيجان: بفتح الهمزة، وسكون الذال المعجمة، وفتح الراء، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، وفتح الجيم، وبعد الألف نون، قرأت في معجم ياقوت: وفتح قوم الذال وسكون الراء، ومدّ آخرون الهمزة مع ذلك، وروي عن المهلب ولا أعرف للمهلب هذا: آذربيجان بمدّ الهمزة وسكون الذال، فيلتقي ساكنان وكسر الراء، ثم ياء ساكنة وباء موحدة مفتوحة وجيم وألف ونون، وهو اسم اجتمعت فيه خمس موانع من الصرف العجمة والتعريف والتأنيث والتركيب ولحاق الألف والنون، وهو إقليم واسع ومن مشهور مدنه تبريز، وهو صقع جليل، ومملكة عظيمة، وخيرات واسعة، وفواكه جمة، لا يحتاج السالك فيها إلى حمل إناء للماء؛ لأن المياه جارية تحت أقدامه أين توجه، وأهلها صباح الوجوه حمرها، ولهم لغة يقال لها الأذرية، لا يفهمها غيرهم، وفي أهلها لين وحُسن معاملة، إلا أن البخل يغلب على طباعهم.
وهي بلاد فتن وحروب ما خلت قطّ من فتنة فيها، فلذلك أكثر مدنها خراب، وافتتحت أولًا في أيام عمر بن الخطاب كان أنفذ المغيرة بن شعبة الثقفي واليًا على الكوفة ومعه كتاب إلى حذيفة بن اليمان بولاية أذربيجان فورد عليه الكتاب بنهاوند، فسار منها إلى أذربيجان في جيش كثيف، فقاتل المسلمون قتالًا شديدًا، ثم إن المرزبان صالح حذيفة على ثمانمائة ألف درهم على أن لا يقتل منهم أحدًا ولا يسبيه ولا يهدم بيت نار، ثم عزل عمر حذيفة وولى عتبة بن فرقد على أذربيجان، ولما استعمل عثمان بن عفان الوليد بن عتبة على الكوفة عزل عتبة ابن فرقد عن أذربيجان فنقضوا، فغزاهم الوليد بن عتبة سنة خمس وعشرين وكان حذيفة من جملة مَن غزا معه.
(فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هده الأمة) المحمدية (قبل أن يختلفوا في الكتاب) أي: القرآن، (اختلاف اليهود والنصارى) في التوراة والإنجيل، وفي رواية عمارة بن غزية: أن حذيفة قال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس! قال: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أُبيِّ بن كعب ويأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضًا.
وروى ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال عليٌّ: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منَّا. قال: ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول قراءتي خير من قراءتك، وهذا لا يكاد أن يكون كفرًا. قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن تجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: نعم ما رأيت.
(فأرسل عثمان إلى حفصة) رضي الله عنها، (أن أرسلي إلينا بالصحف) التي كان أبو بكر أمر زيدًا بجمعها، (ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص) الأموي، (وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام) وفي كتاب المصاحف لابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين: اثني عشر رجلًا من قريش، والأنصار منها أُبيُّ بن كعب، وفي رواية مصعب بن سعد فقال عثمان: مَن أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن ثابت. قال: فأيُّ الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص. قال عثمان: فليمل سعيد وليكتب زيد. ووقع عند ابن أبي داود تسمية جماعة ممن كتب أو أملى منهم: مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس، وكثير بن أفلح، وأُبيّ بن كعب، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عباس.
(فنسخوها) أي: الصحف (في المصاحف، و) ذلك بعد أن (قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة) سعيد وعبدالله وعبدالرحمن؛ لأن الأول أموي، والثاني أسدي، والثالث مخزومي، وكلها من بطون قريش، (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن) أي: من عربيته (فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل) معظمه (بلسانهم) أي: بلغتهم، (ففعلوا) ذلك كما أمرهم، (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة) فكانت عندها حتى توفيت، فأخذها مروان حين كان أميرًا على المدينة من قبل معاوية، فأمر بها فشققت وقال: إنما فعلت هذا؛ لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب فيها مرتاب، رواه ابن أبي داود وغيره.
(فأرسل) عثمان (إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا) وكانت خمسة على المشهور فأرسل أربعة وأمسك واحدًا، وقال الداني في المقنع: أكثر العلماء أنها أربعة أرسل واحدًا للكوفة وآخر للبصرة وآخر للشام وترك واحدًا عنده، وقال أبو حاتم فيما رواه عنه ابن أبي داود: كتب سبعة مصاحف إلى مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة وحبس بالمدينة واحدًا.
(وأمر بما سواه) أي: سوى المصحف الذي استكتبه، والتي نقلت منه وسوى الصحف التي كانت عند حفصة (من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) بسكون الحاء المهملة وفتح الراء؛ ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: يحرق بفتح المهملة وتشديد الراء، مبالغة في إذهابها وسدًّا لمادة الاختلاف.
وقال في شرح السُّنَّة: في هذا الحديث البيان الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفّتين القرآن المنزل من غير أن يكونوا زادوا أو نقصوا منه شيئًا باتفاق منهم من غير أن يُقدِّموا شيئًا أو يُؤخِّروه بل كتبوه في المصاحف على الترتيب المكتوب في اللوح المحفوظ بتوقيف جبريل عليه السلام على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية بموضعها وأين تكتب. وقال عبدالرحمن السلمي: كان قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي التي قرأها صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه وولاه عثمان كتبة المصاحف.
قال السفاقسي: فكان جمع أبي بكر خوف ذهاب شيء من القرآن بذهاب حملته؛ إذ إنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، وجمع عثمان لما أكثر الاختلاف في وجوه قراءته حين قرءوا بلغاتهم، حتى أدَّى ذلك إلى تخطئة بعضهم بعضًا، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مقتصرًا من اللغات على لغة قريش؛ إذ هي أرجحها). [إرشاد الساري: 7/448-449]