تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله عز وجل: وأنّه لمّا قام عبد اللّه يحتمل أن يكون خطابا من الله تعالى، ويحتمل أن يكون إخبارا عن الجن، وقرأ بعض القراء على ما تقدم «وأنه» بفتح الألف، وهذا عطف على قوله أنّه استمع [الجن: 1]، والعبد على هذه القراءة قال قوم: هو نوح، والضمير في كادوا لكفار قومه، وقال آخرون، هو محمد، والضمير في كادوا للجن. المعنى أنهم كادوا يتقصفون عليه لاستماع القرآن، وقرأ آخرون منهم «وإنه لما قام» بكسر الألف، والعبد محمد عليه السلام، والضمير في كادوا يحتمل أن يكون للجن على المعنى الذي ذكرناه، ويحتمل أن يكون لكفار قومه وللعرب في اجتماعهم على رد أمره، ولا يتجه أن يكون العبد نوحا إلا على تحامل في تأويل نسق الآية، وقال ابن جبير: معنى الآية، إنما قول الجن لقومهم يحكون، والعبد محمد صلى الله عليه وسلم.
والضمير في كادوا لأصحابه الذين يطوعون له ويقتدون به في الصلاة، فهم عليه لبد. واللبد الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض، ومنه قول عبد بن مناف بن ربع: [البسيط]
صافوا بستة أبيات وأربعة = حتى كأن عليهم جانيا لبدا
يريد الجراد سماه جانيا لأنه يجني كل شيء، ويروى جابيا بالباء لأنه يجبي الأشياء بأكله، وقرأ جمهور السبعة وابن عباس: «لبدا» بكسر اللام جمع لبدة، وقال ابن عباس: أعوانا. وقرأ ابن عامر بخلاف عنه وابن مجاهد وابن محيصن: «لبدا» بضم اللام وتخفيف الباء المفتوحة وهو جمع أيضا. وروي عن الجحدري: «لبدا» بضم اللام والباء. وقرأ أبو رجاء: «لبدا» بكسر اللام، وهو جمع لا بد فإن قدرنا الضمير للجن فتقصفهم عليه لاستماع الذكر، وهذا تأويل الحسن وقتادة). [المحرر الوجيز: 8/ 435-436]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وأدعوا معناه أعبده، وقرأ جمهور السبعة وعلي بن أبي طالب: «قال إنما»، وهذه قراءة تؤيد أن العبد نوح، وقرأ عاصم وحمزة بخلاف عنه: «قال إنما» وهذه تؤيد بأنه محمد عليه السلام وإن كان الاحتمال باقيا من كليهما. واختلف القراء في فتح الياء من ربّي وفي سكونها). [المحرر الوجيز: 8/ 436]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أمر تعالى محمدا نبيه عليه السلام بالتبري من القدرة وأنه لا يملك لأحد ضرًّا ولا رشداً، بل الأمر كله لله. وقرأ الأعرج «رشدا» بضم الراء والشين، وقرأ أبيّ بن كعب «لا أملك لكم غيا ولا رشدا»). [المحرر الوجيز: 8/ 436-437]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقولهم من دونه أي من عند سواه. و«الملتحد»: الملجأ الذي يمال إليه ويركن، ومنه الإلحاد الميل، ومنه اللحد الذي يمال به إلى أحد شقي القبر). [المحرر الوجيز: 8/ 437]
تفسير قوله تعالى: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إلاّ بلاغاً من اللّه ورسالاته ومن يعص اللّه ورسوله فإنّ له نار جهنّم خالدين فيها أبداً (23) حتّى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقلّ عدداً (24) قل إن أدري أقريبٌ ما توعدون أم يجعل له ربّي أمداً (25) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً (26) إلاّ من ارتضى من رسولٍ فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلّ شيءٍ عدداً (28)
اختلف الناس في تأويل قوله إلّا بلاغاً: فقال الحسن ما معناه أنه استثناء منقطع، والمعنى لن يجيرني من الله أحد إلّا بلاغاً، فإني إن بلغت رحمني بذلك، والإجارة: للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته، وقال بعض النحاة على هذا المعنى هو استثناء متصل. والمعنى لن أجد ملتحدا إلّا بلاغاً، أي شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع، فيجبرني الله. وقال قتادة: التقدير لا أملك إلّا بلاغاً إليكم، فأما الإيمان أو الكفر فلا أملكه. وقال بعض المتأولين إلّا بتقدير الانفصال، و «إن»شرط و «لا» نافية كأنه يقول: ولن أجد ملتحدا إن لم أبلغ من الله ورسالته، ومن في قوله من اللّه لابتداء الغاية. وقوله تعالى: ومن يعص اللّه يريد الكفر بدليل الخلود المذكور. وقرأ طلحة وابن مصرف، «فإن له» على معنى فجزاؤه أن له). [المحرر الوجيز: 8/ 437]
تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله حتّى إذا رأوا، ساق الفعل في صيغة الماضي تحقيقا لوقوعه.
وقوله تعالى: من أضعف يحتمل أن تكون من في موضع رفع على الاستفهام والابتداء وأضعف خبرها، ويحتمل أن تكون في موضع نصب ب «سيعلمون»، وأضعف خبر ابتداء مضمر). [المحرر الوجيز: 8/ 437]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أمره تعالى بالتبري من معرفة الغيب في وقت عذابهم الذي وعدوا به، والأمد: المدة والغاية). [المحرر الوجيز: 8/ 437]
تفسير قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وعالم يحتمل أن يكون بدلا من ربّي [الجن: 20] ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مضمر على القطع، وقرأ السدي: «عالم الغيب» على الفعل الماضي ونصب الباء، وقرأ الحسن: «فلا يظهر» بفتح الياء والهاء «أحد» بالرفع). [المحرر الوجيز: 8/ 437-438]
تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إلّا من ارتضى من رسولٍ معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل من كثير، ثم يبث تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة رصداً لإبليس وحزبه من الجن والإنس). [المحرر الوجيز: 8/ 438]
تفسير قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ليعلم قال قتادة معناه ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربّهم وحفظوا ومنع منهم. وقال سعيد بن جبير: معناه يعلم محمد أن الملائكة الحفظة، الرصد النازلين بين يديه جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربّهم. وقال مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد بلغت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا العلم لا يقع لهم إلا في الآخرة، وقيل معناه ليعلم الله رسالته مبلغة خارجة إلى الوجود لأن علمه بكل شيء قد تقدم، وقرأ الجمهور: «ليعلم» بفتح الياء أي الله تعالى.
وقرأ ابن عباس: «ليعلم» بضم الياء، وقرأ أبو حيوة: «رسالة ربهم» على التوحيد، وقرأ ابن أبي عبلة:«وأحيط» على ما لم يسم فاعله، وقوله تعالى: وأحصى كلّ شيءٍ معناه كل شيء معدود، وقوله تعالى:ليعلم الآية، مضمنه أنه تعالى قد علم ذلك، فعلى هذا الفعل المضمر انعطف وأحاط، وأحصى والله المرشد بمنه وكرمه). [المحرر الوجيز: 8/ 438]