قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): (حرف "الثّاء" "ثم"
"ثمّ": ويقال فيها "فم" ، كقولهم في: جدث جدف، حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التّشريك في الحكم، والتّرتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف.
فأما التّشريك: فزعم الأخفش والكوفيون أنه قد يتخلّف، وذلك بأن تقع زائدة فلا تكون عاطفة البتّة، وحملوا على ذلك قوله تعالى: {حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ثمّ تاب عليهم}، وقول زهير:
أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوى ... فثم إذا أمسيت أمسيت غاديا
وخرجت الآية على تقدير الجواب، والبيت على زيادة "الفاء".
وأما التّرتيب: فخالف قوم في اقتضائها إيّاه تمسكا بقوله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها}،{وبدأ خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثمّ سواه ونفخ فيه من روحه}،{ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون ثمّ آتينا موسى الكتاب}.
وقول الشّاعر:
إن من ساد ثمّ ساد أبوه ... ثمّ قد ساد قبل ذلك جده
والجواب عن الآية الأولى من خمسة أوجه:
أحدها: أن العطف على محذوف، أي: من نفس واحدة أنشأها "ثمّ" جعل منها زوجها.
الثّاني: أن العطف على {واحدة} على تأويلها بالفعل، أي: من نفس توحدت، أي انفردت، "ثمّ" جعل منها زوجها.
الثّالث: أن الذّرّيّة أخرجت من ظهر آدم عليه السّلام كالذر "ثمّ" خلقت حوّاء من قصيراه.
الرّابع: أن خلق حوّاء من آدم لما لم تجر العادة بمثله جيء "بثم" إيذانًا بترتبه وتراخيه في الإعجاب، وظهور القدرة لا لترتيب الزّمان وتراخيه.
الخامس: أن "ثمّ" لترتيب الإخبار لا لترتيب الحكم، وأنه يقال بلغني ما صنعت اليوم "ثمّ" ما صنعت أمس أعجب، أي: "ثمّ" أخبرك أن الّذي صنعته أمس أعجب.
والأجوبة السّابقة أنفع من هذا الجواب؛ لأنّها تصحح التّرتيب والمهلة، وهذا يصحح التّرتيب فقط، إذ لا تراخي بين الإخبارين، ولكن الجواب الأخير أعم لأنّه يصح أن يجاب به عن الآية الأخيرة والبيت، وقد أجيب عن الآية الثّانية أيضا بأن {سوأة} عطف على الجملة الأولى لا الثّانية.
وأجاب ابن عصفور عن البيت بأن المراد أن الجد أتاه السؤدد من قبل الأب، والأب من قبل الابن، كما قال ابن الرّومي:
قالوا أبو الصّقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان
وكم أب قد علا بابن ذرا حسب ... كما علت برسول الله عدنان
وأما المهلة فزعم الفراء أنّها قد تتخلف بدليل قولك أعجبني ما صنعت اليوم "ثمّ" ما صنعت أمس أعجب؛ لأن "ثمّ" في ذلك لترتيب الإخبار، ولا تراخي بين الإخبارين، وجعل منه ابن مالك: {ثمّ آتينا موسى الكتاب} الآية، وقد مر البحث في ذلك والظّاهر أنّها واقعة موقع "الفاء".
في قوله:
كهز الرديني تحت العجاج ... جرى في الأنابيب ثمّ اضطرب
إذا الهز متى جرى في أنابيب الرمح يعقبه الاضطراب ولم يتراخ عنه.
مسألة
أجرى الكوفيّون "ثمّ" مجرى "الفاء" و"الواو" في جواز نصب المضارع المقرون بها بعد فعل الشّرط، واستدلّ لهم بقراءة الحسن: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} بنصب {يدرك}.
وأجراها ابن مالك مجراهما بعد الطّلب، فأجاز في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمّ يغتسل منه» ثلاثة أوجه:
الرّفع: بتقدير "ثمّ" هو يغتسل وبه جاءت الرّواية.
والجزم: بالعطف على موضع فعل النّهي.
والنّصب: قال بإعطاء "ثمّ" حكم "واو" الجمع، فتوهم تلميذه الإمام أبو زكريّا النّوويّ -رحمه الله- أن المراد إعطاؤها حكمها في إفادة معنى الجمع، فقال لا يجوز النصب لأنّه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقله أحد بل البول منهيّ عنه سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا انتهى.
وإنّما أراد ابن مالك إعطاءها حكمها في النصب لا في المعيّة أيضا "ثمّ" ما أورده، إنّما جاء من قبل المفهوم لا المنطوق، وقد قام دليل آخر على عدم إرادته.
ونظيره إجازة الزّجاج والزمخشري في: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق} كون {تكتموا} مجزومًا، وكونه منصوبًا مع أن النصب معناه النّهي عن الجمع.
تنبيه
قال الطّبريّ في وقوله تعالى: {أثم إذا ما وقع آمنتم به} معناه أهنالك، وليست "ثمّ" الّتي تأتي للعطف انتهى.
وهذا وهم اشتبه عليه "ثمّ" المضمومة "الثّاء" بالمفتوحتها). [مغني اللبيب: 2 / 217 - 234]