تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وأسرّوا قولكم أو اجهروا به} مخاطبة لجميع الخلق.
قال ابن عباس: «سببها أن المشركين قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد، فالمعنى أن الأمر سواء عند الله لأنه يعلم ما هجس في الصدور دون أن ينطق به، فكيف إذا ينطق به سرا أو جهرا، وذات الصّدور، ما فيها، وهذا كما قال: الذئب مغبوط بذي بطنه»، وقد تقدم تفسيره غير ما مرة). [المحرر الوجيز: 8/ 356-357]
تفسير قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ألا يعلم من خلق} اختلف الناس في إعراب: من، فقال بعض النحاة: إعرابها رفع، كأنه قال: ألا يعلم الخالق خلقه؟ فالمفعول على هذا محذوف، وقال قوم: إعرابها نصب، كأنه قال: ألا يعلم الله من خلق؟ قال مكي: وتعلق أهل الزيغ بهذا التأويل لأنه يعطي أن الذين خلقهم الله هم العباد من حيث قال: من فتخرج الأعمال عن ذلك، لأن المعتزلة تقول: العباد يخلقون أعمالهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتعلقهم بهذا التأويل ضعيف، والكلام مع المعتزلة في مسألة خلق الأعمال مأخذه غير هذا، لأن هذه الآية حجة فيها لهم ولا عليهم). [المحرر الوجيز: 8/ 357]
تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول. فهي كركوب وحلوب، يقال: ذلول، بين الذل بضم الذال، واختلف المفسرون في معنى: المناكب، فقال ابن عباس: «أطرافها وهي الجبال»، وقال الفراء ومنذر بن سعيد: «جوانبها»، وهي النواحي، وقال مجاهد: «هي الطرف والفجاج»، وهذا قول جار مع اللغة، لأنها تنكب يمنة ويسرة، وينكب الماشي فيها، في مناكب.
وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس، وفي التمتع فقي رزق الله تعالى، و{النّشور}: الحياة بعد الموت). [المحرر الوجيز: 8/ 357]
تفسير قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أأمنتم من في السّماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (16) أم أمنتم من في السّماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير (17) ولقد كذّب الّذين من قبلهم فكيف كان نكير (18) أولم يروا إلى الطّير فوقهم صافّاتٍ ويقبضن ما يمسكهنّ إلاّ الرّحمن إنّه بكلّ شيءٍ بصيرٌ (19) أمّن هذا الّذي هو جندٌ لكم ينصركم من دون الرّحمن إن الكافرون إلاّ في غرورٍ (20)}
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: «أأمنتم» بهمزتين مخففتين دون مد، وقرأ أبو عمرو ونافع: «النشور آمنتم» بمد وهمزة، وقرأ ابن كثير: «النشور وأمنتم» ببدل الهمزة واوا لكونها بعد ضمة وهو بعد الواو. وقوله تعالى: {من في السّماء} جار على عرف تلقي البشر أوامر الله تعالى، ونزول القدر بحوادثه ونعمه ونقمه وآياته من تلك الجهة، وعلى ذلك صار رفع الأيدي والوجوه في الدعاء إلى تلك الناحية.
وخسف الأرض: أن تذهب سفلا، و{تمور} معناه: تذهب وتتموج كما يذهب التراب الموار وكما يذهب الدم الموار. ومنه قول الأعرابي: وغادرت التراب مورا). [المحرر الوجيز: 8/ 358]
تفسير قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والحاصب: البرد وما جرى مجراه لأنه في اللغة الريح ترمي بالحصباء، ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
مستقبلين شمال الريح ترجمهم.......بحاصب كنديف القطن منشور
وقرأ جمهور السبعة: «فستعلمون» بالتاء، وقرأ الكسائي وحده: «فسيعلمون» بالياء، وقرأ السبعة وغيرهم: «نذير» بغير ياء على طريقهم في الفواصل المشبهة بالقوافي، وقرأ نافع في رواية ورش وحده:«نذيري» بالياء على الأصل، وكذلك في «نكيري» والنكير: مصدر بمعنى الإنكار، والنذير كذلك. ومنه قول حسان بن ثابت: [الوافر]
فأنذر مثلها نصحا قريشا.......من الرحمن ان قلبت نذيري
). [المحرر الوجيز: 8/ 358-359]
تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أحال على العبرة في أمر الطّير، وما أحكم من خلقتها وذلك بين عجز الأصنام والأوثان عنه، و: {صافّاتٍ} جمع صافة، وهي التي تبسط جناحيها وتصفهما حتى كأنها ساكنة، وقبض الجناح: ضمه إلى الجثة ومنه قول أبي خراش: [الطويل]
... ... ... ..........يحث الجناح بالتبسط والقبض
وهاتان حالان للطائر يستريح من إحداهما للأخرى. وقوله تعالى: {ويقبضن} عطف المضارع على اسم الفاعل وذلك جائز كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: [الرجز]
بات يغشّيها بعضب باتر.......يقصد في أسوقها وجائر
). [المحرر الوجيز: 8/ 359]
تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ طلحة بن مصرف: «أمن» بتخفيف الميم في هذه، وقرأ التي بعدها مثقلة كالجماعة والجند أعوان الرجل على مذاهبه، وقوله تعالى: إن الكافرون إلّا في غرورٍ خطاب لمحمد بعد تقرير، قل لهم يا محمد أمّن هذا). [المحرر الوجيز: 8/ 360]
تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أمّن هذا الّذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجّوا في عتوٍّ ونفورٍ (21) أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ (22) قل هو الّذي أنشأكم وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون (23) قل هو الّذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون (24) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (25)}
هذا أيضا توقيف على أمر لا مدخل للأصنام فيه، والإشارة بالرزق إلى المطر، لأنه عظم الأرزاق، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم: لجّوا وتمادوا في التمنع عن طاعة الله، وهو العتو في نفور، أي بعد عن الحق بسرعة ومبادرة، يقال: نفر عن الأمر نفورا، وإلى الأمر نفيرا، ونفرت الدابة نفارا). [المحرر الوجيز: 8/ 360]
تفسير قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف أهل التأويل في سبب قوله: {أفمن يمشي مكبًّا} الآية، فقال جماعة من رواة الأسباب: نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب، وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره: نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك: نزلت مثالا للمؤمنين والكافرين على العموم، وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال القيامة، وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم، والمؤمنون يمشون على استقامة، وقيل للنبي: كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ، ففي الأقوال الثلاثة الأول المشي مجاز يتخيل، وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة ويقال: أكب الرجل، إذا رد وجهه إلى الأرض، وكبه: غبره، قال عليه السلام: «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم»، فهذا الفعل خلاف للباب: أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى، ونظيره قشعت الريح فأقشع، وأهدى في هذه الآية أفعل من الهدى، وقرأ طلحة: «أمن يمشي» بتخفيف الميم). [المحرر الوجيز: 8/ 360-361]