تفسير قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارجٍ منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون (122) وكذلك جعلنا في كلّ قريةٍ أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلاّ بأنفسهم وما يشعرون (123)}
تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك الإثم وباطنه وغير ذلك، وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم وغير ذلك، فمثل الله عز وجل في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين.
وقرأ جمهور الناس «أو من» بفتح الواو فهي ألف استفهام دخلت على واو عطف جملة على جملة، ومن بمعنى الذي، وقرأ طلحة بن مصرف: «أفمن» بالفاء، والمعنى قريب من معنى الواو، والفاء في قوله فأحييناه عاطفة، ونوراً أمكن ما يعنى به الإيمان ويمشي به يراد به جميع التصرف في الأفعال والأقوال، قال أبو علي: ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم القيامة، وفي النّاس متعلق ب يمشي، ويصح أن يتعلق ب كان ميتاً وقوله تعالى: كمن مثله بمنزلة كمن هو، والكاف في قوله كذلك زيّن متعلقة بمحذوف يدل ظاهر الكلام عليه، تقديره وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نورا كذلك زين للكافرين، ويحتمل أن يتعلق بقوله كمن مثله أي كهذه الحال هو التزيين، وقرأ نافع وحده «ميّتا» بكسر الياء وشدها، وقرأ الباقون «ميتا» بسكون الياء، قال أبو علي: التخفيف كالتشديد، والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب، وقالت طائفة إن هذه الألفاظ التي مثل بها وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر فإنما نزلت في مخصوصين، فقال الضحاك: المؤمن الذي كان ميتا فأحيي عمر بن الخطاب، وحكى المهدوي عن بعضهم أنه حمزة بن عبد المطلب، وقال عكرمة: عمار بن ياسر، وقال الزجاج: جاء في التفسير أنه يعني به النبي عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل بن هشام، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله وكذلك جعلنا في كلّ قريةٍ وهذه الآية تتضمن إنذارا بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في المستهزئين). [المحرر الوجيز: 3/ 452-453]
تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل بن هشام، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله وكذلك جعلنا في كلّ قريةٍ وهذه الآية تتضمن إنذارا بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في المستهزئين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يعني أن التمثيل لهم، وجعلنا في هذه الآية بمعنى صيرنا، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول مجرميها والثاني أكابر وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، وقدم الأهم إذ لعلة كبرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعول الأول أكابر ومجرميها مضاف والمفعول الثاني قوله في كلّ قريةٍ وليمكروا نصب بلام الصيرورة، والأكابر جمع أكبر كما الأفاضل جمع أفضل، ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة، ومنه قول الشاعر [الأعشى]: [الكامل]
إنّ الأحامرة الثّلاثة أتلفت ....... مالي وكنت بهنّ قدما مولعا
يريد الخمر واللحم والزعفران، و «المكر» التخيل بالباطل والخديعة ونحوهما، وقوله وما يمكرون إلّا بأنفسهم يريد لرجوع وبال ذلك عليهم، وما يشعرون أي ما يعلمون، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي البدن، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس، وفي ذلك مبالغة في صفة جهله، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة). [المحرر الوجيز: 3/ 453-454]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذا جاءتهم آيةٌ قالوا لن نؤمن حتّى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه اللّه أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الّذين أجرموا صغارٌ عند اللّه وعذابٌ شديدٌ بما كانوا يمكرون (124) فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السّماء كذلك يجعل اللّه الرّجس على الّذين لا يؤمنون (125)}
هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا إنما يقلق لنا البحر إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك، فرد الله عز وجل عليهم بقوله: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله، قال الزجاج: قال بعضهم: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم، وأعلم معلق العمل، والعامل في حيث فعل تقديره: يعلم حيث، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة، وعند اللّه متعلقة ب سيصيب، ويصح أن تتعلق ب صغارٌ لأنه مصدر، قال الزجّاج: التقدير صغار ثابت عند الله، قال أبو علي: وهو متعلق ب صغارٌ دون تقدير ثابت ولا شيء غيره). [المحرر الوجيز: 3/ 454-455]