تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعضٍ وبلغنا أجلنا الّذي أجّلت لنا قال النّار مثواكم خالدين فيها إلاّ ما شاء اللّه إنّ ربّك حكيمٌ عليمٌ (128) وكذلك نولّي بعض الظّالمين بعضاً بما كانوا يكسبون (129)}
يوم نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويحتمل أن يكون العامل وليّهم والعطف على موضع قوله: {بما كانوا} [الأنعام: 127]، والضمير في يحشرهم عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جنا وإنسا، والذين لهم دار السلام جنا، وإنسا، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله جميعاً.
وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم» بالياء، وقرأ الباقون بالنون وكلّ متجه، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن، وقوله قد استكثرتم معناه فرطتم، ومن الإنس يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموبخين على جهة الاعتذار عن الجن ربّنا استمتع بعضنا ببعضٍ أي انتفع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذلك في وجوه كثيرة، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير بالمستجير إذ كان العربي إذا نزل واديا ينادي يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مثال في الاستمتاع ولو تتبع لبينت له وجوه أخر كلها دنياوية، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه، وقيل هو الحشر، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل، وقرأ الحسن «وبلّغنا أجلنا» بكسر اللام مشددة،
وقوله تعالى: {قال النّار مثواكم ... الآية}، إخبار من الله عز وجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه، وهذا كثير في القرآن وفصيح الكلام ومثواكم أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة، هذا قول الزجّاج وغيره، قال أبو علي في الإغفال: المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالدين والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملا، والتقدير النار ذات ثوابكم، والاستثناء في قوله إلّا ما شاء اللّه قالت فرقة ما بمعنى من، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولما كان هؤلاء صنفا ساغت في العبارة عنهم ما، وقال الفراء إلّا بمعنى سوى، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب، ونحا إليه الزجّاج، وقال الطبري: إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وساغ هذا من حيث العبارة بقوله: {النّار مثواكم} لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره، وقال الطبري عن ابن عباس انه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته، وليس مما يقال يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار: النّار مثواكم استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافرا، وتقع ما على صفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله إنّ ربّك حكيمٌ عليمٌ أي بمن يمكن أن يؤمن منهم، وحكيمٌ عليمٌ صفتان مناسبتان لهذه الآية، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء). [المحرر الوجيز: 3/ 459-462]
تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وكذلك نولّي}، قال قتادة نولّي معناه نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا التأويل ما تقدم من ذكر الجن والإنس «واستمتاع بعضهم ببعض»، وقال قتادة أيضا: معنى نولّي نتبع بعضهم بعضا في دخول النار، أي نجعل بعضهم يلي بعضا، وقال ابن زيد معناه نسلط بعض الظالمين على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا التأويل لا تؤيده ألفاظ الآية المتقدمة، أما أنه حفظ في استعمال الصحابة والتابعين من ذلك ما روي أن عبد الله بن الزبير لما بلغه أن عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق صعد المنبر فقال إن فم الذبان قتل لطيم الشيطان وكذلك نولّي بعض الظّالمين بعضاً بما كانوا يكسبون). [المحرر الوجيز: 3/ 462]
تفسير قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرّتهم الحياة الدّنيا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (130) ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون (131) ولكلٍّ درجاتٌ ممّا عملوا وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون (132)}
قوله تعالى:{ يا معشر الجنّ والإنس} داخل في القول يوم الحشر، والضمير في منكم قال ابن جريج وغيره عمم بظاهرة الطائفتين والمراد الواحدة تجوزا، وهذا موجود في كلام العرب، ومنه قوله تعالى: {يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان} [الرحمن: 22] وذلك إنما يخرج من الأجاج، وقال الضحاك الضمير عائد على الطائفتين وفي الجن رسل منهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، وقال ابن عباس الضمير عائد على الطائفتين ولكن رسل الجن هم رسل الإنس، فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، وهم النذر، وقصّون
من القصص، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «ألم تكن تأتيكم» بالتاء على تأنيث لفظ «الرسل»، وقولهم: هدنا
إقرار منهم بالكفر واعتراف أي شهدنا على أنفسنا بالتقصير، وقوله غرّتهم الحياة الدّنيا
التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل رّتهم
أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر فرخه وقوله شهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين
تظهر بينه وبين ما في القرآن من الآيات التي تقتضي إنكار المشركين الإشراك مناقضة، والجمع بينهما هو إما بأنها طوائف، وإما طائفة واحدة في مواطن شتى، وإما أن يريد بقوله هاهنا: شهدوا على أنفسهم، شهادة الأيدي والأرجل والجلود بعد إنكارهم بالألسنة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واللفظ هاهنا يبعد من هذا). [المحرر الوجيز: 3/ 462-463]
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ذلك أن لم يكن ... الآية}، ذلك يصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره ذلك الأمر، ويصح أن يكون في موضع نصب بتقدير فعلنا وأن مفعول من أجله والقرى المدن، والمراد أهل القرى، وبظلمٍ يتوجه فيه معنيان، أحدهما أن الله عز وجل لم يكن ليهلك المدن دون نذارة، فيكون ظلما لهم إذا لم ينذرهم، والله ليس بظلام للعبيد، والآخر أن الله عز وجل لم يهلك أهل القرى بظلم إذ ظلموا دون أن ينذرهم، وهذا هو البين القويّ. وذكر الطبري رحمه الله التأويلين). [المحرر الوجيز: 3/ 463-464]