قول الله تعالى:{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102)}
قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) عن همّام بن يحيى البصري قال: (ومن سورة آل عمران{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} أن يطاع فلا يعصى {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} نسختها الآية التي في التغابن {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا} وعليها بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم السمع والطاعة ما استطاعوا )[الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/38]
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية الخامسة: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [102 / آل عمران 3] لما نزلت لم يعلم ما تأويلها فقالوا يا رسول الله ما حق تقاته فقال عليه السلام: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر فقالوا يا رسول الله ومن يطيق ذل: فانزعجوا لنزولها انزعاجا عظيما ثم أنزل الله لعد مدة يسيرة آية توكد حكمها وهي قوله تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} [78 مدنية / الحج / 22] فكان هذا عليهم أعظم من الأول ومعناها اعملوا لله حق عمله فكادت عقولهم تذهل فلما علم الله ما قد نزل بهم في هذا الأمر العسير خفف فنسخها بالآية التي في التغابنوهي قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [16 مدنية / التغابن / 64] فكان هذا تيسرا من التعسير الأول وتخفيفا من التشديد الأول).[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 30-31]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته} [آل عمران: 102]
فمن أجل ما روي في تفسيرها وأصحّه
ما حدّثناه عليّ بن الحسين، قال: حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عمرو بن الهيثم، قال: حدّثنا المسعوديّ، عن زبيدٍ، عن مرّة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، في قول اللّه جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته} [آل عمران: 102] قال: «أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر»
وحدّثنا محمّد بن جعفر بن محمّدٍ الأنباريّ، قال: حدّثنا موسى بن هارون الطّوسيّ، قال: حدّثنا الحسين وهو ابن محمّدٍ المروزيّ، قال: أخبرنا شيبان، عن قتادة، في قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته} [آل عمران: 102] قال: «أن يطاع فلا يعصى ثمّ أنزل جلّ وعزّ التّخفيف فاتّقوا اللّه ما استطعتم فنسخت هذه الّتي في آل عمران»
قال أبو جعفرٍ: محالٌ أن يقع في هذا ناسخٌ ولا منسوخٌ إلّا على حيلةٍ وذلك أنّ معنى نسخ الشّيء إزالته والمجيء بضدّه، فمحالٌ أن يقال اتّقوا اللّه منسوخٌ ولا سيّما مع قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ممّا فيه بيان الآية
كما قرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج، عن يحيى بن سليمان، قال: حدّثنا أبو الأحوص، قال: حدّثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمونٍ، عن معاذ بن جبلٍ، قال: قال لي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: " يا معاذ أتدري ما حقّ اللّه جلّ وعزّ على العباد؟ قلت: اللّه ورسوله أعلم قال: «أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئًا»
أفلا ترى أنّه محالٌ أن يقع في هذا نسخٌ؟ والّذي قلناه قول ابن عبّاسٍ
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قال: وقوله جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته} [آل عمران: 102] قال: «لم تنسخ ولكن حقّ تقاته أن تجاهدوا في اللّه حقّ جهاده ولا تأخذكم في اللّه لومة لائمٍ وتقوموا بالقسط ولو على آبائكم وأبنائكم»
قال أبو جعفرٍ: فكلّ ما ذكر في الآية واجبٌ على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخٌ وهو قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئًا وكذا على المسلمين كما قال ابن مسعودٍ «أن يطيعوا اللّه فلا يعصوه ويذكروه فلا ينسوه وأن يشكروه فلا يكفروه وأن يجاهدوا فيه حقّ جهاده»
فأمّا قول قتادة مع محلّه من العلم إنّها نسخت فيجوز أن يكون معناه نزلت فاتّقوا اللّه ما استطعتم بنسخة {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} [آل عمران: 102] وأنّها مثلها لأنّه لا يكلّف أحدًا إلّا طاقته
وزعم قومٌ من العلماء الكوفيّين أنّ الآية الثّالثة ناسخةٌ وقال غيرهم هي محكمةٌ وليست بناسخةٍ ).[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/125-137]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية السّابعة قوله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حق تقاته} وذلك أنه لما نزلت ألآية لم يعلموا ما تأويلها حتّى سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالوا يا رسول الله ما حق تقاته فقال صلى الله عليه وسلم حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر فشق نزولها عليهم فقالوا يا رسول الله إننا لا نطيق ذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا ولكن قولوا سمعنا وأطعنا ونزل وبعدها بيسير {وجاهدوا في الله حقّ جهاده} فكان هذا أعظم عليهم من الأول ومعناها اعملوا حق عمله وكادت عقولهم تذهل حتّى يسر الله تعالى ذلك وسهل فنزل {فاتّقوا الله ما استطعتم} فصارت ناسخة لما كان فبلها).[الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 60-64]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته}:
قال قتادة: هذه الآية منسوخةٌ بقوله: {اتّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. - وقاله الربيع بن أنس والسّدّي وابن زيد -.
وأكثر العلماء على أنه محكمٌ لا نسخ فيه؛ لأن الأمر بتقوى الله لا ينسخ. والآيتان ترجعان إلى معنىً واحد.
قال أبو محمد: وهذا القول حسنٌ؛ لأن معنى {اتّقوا الله حقّ تقاته}: اتقوه بغاية الطّاقة، فهو قوله: {اتّقوا الله ما استطعتم}؛ إذ لا جائز أن يكلّف الله أحدًا ما لا يطيق. وتقوى الله بغاية الطّاقة واجبٌ فرضٌ فلا يجوز نسخه؛ لأنّ في نسخه إجازة التقصير من الطّاقة في التقوى، وهذا لا يجوز.
وقد قال قتادة والسّدّي وطاووس: "حقّ تقاته": أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
قال أبو محمد: ولا يجوز نسخ شيءٍ من هذا.
وقال ابن عباس: حقّ تقاته: أن تجاهد في الله حقّ جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم. وأن تقوموا للّه بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم.
وهذا كلّه لا ينسخ ولا يحسن فيه ذلك.). [الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 201-206]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية السّابعة: قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته}.
اختلف العلماء هل هذا محكمٌ أو منسوخ على قولين:
أحدهما: أنه منسوخ.
أخبرنا أبو بكر بن حبيبٍ العامريّ، قال: أبنا عليّ بن الفضل، قال: أبنا ابن عبد الصّمد، قال: أبنا عبد اللّه بن حمّوية، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: أبنا عبد الحميد، قال: بنا إبراهيم عن أبيه عن عكرمة {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} قال ابن عبّاسٍ: فشقّ ذلك على المسلمين فأنزل الله عز وجل بعد ذلك {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}.
قال عبد الحميد: وأبنا عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن قتادة {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} قال: نسختها {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه، قال: أبنا ابن بشران، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذيّ، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق قال: بنا معمرٌ عن قتادة في قوله تعالى: {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} قال: أن يطاع فلا يعصى، ثمّ نسخها قوله: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكيّ، قال: (أبنا محمّد) بن إسماعيل بن العبّاس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا ابن بكير، قال: بنا ابن لهيعة عن عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ قال: لمّا نزلت: {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} اشتدّ على القوم العمل فقاموا حتّى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم فأنزل اللّه تخفيفًا عن المسلمين {فاتّقوا اللّه ما استطعتم} فنسخت الآية الأولى.
وعن ابن لهيعة عن أبي صخرٍ عن محمّد بن كعبٍ {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} قال:
نسختها {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}.
قال: أبو بكرٍ: وحدّثنا محمّد بن الحسين بن أبي حنيفٍ، قال: أبنا أحمد بن المفضّل، قال: أبنا أسباطٌ عن السّدّيّ قال: "أمّا حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر فلم (يطق) النّاس هذا فنسخها اللّه عنهم فقال: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم} ".
وإلى هنا ذهب الرّبيع بن أنسٍ، وابن زيدٍ، ومقاتل بن سليمان.
ومن نصّ هذا القول قال: حق تقاته: هو القيام له بجميع ما يستحقّه من طاعةٍ واجتناب معصيةٍ، قالوا: هذا أمرٌ تعجز الخلائق عنه، فكيف بالواحد منهم فوجب أن تكون منسوخةً وأنّ تعلّق الأمر بالاستطاعة.
ويوضّح هذا ما أخبرنا به يحيى بن عليٍّ المدير قال: أبنا أبو الحسين بن المنصور قال: أبنا أحمد بن محمّدٍ الحرزيّ، قال: أبنا البغوي، قال: بنا محمد بن بكار، قال: بنا محمّد بن طلحة عن زبيدٍ عن مرّة عن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} قال: "أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر".
والقول الثّاني: أنّها محكمةٌ.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ، قال: أبنا إسحاق البرمكيّ، قال: أبنا محمّد بن إسماعيل بن العبّاس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} قال: "لم تنسخ, ولكن حقّ تقاته: أن تجاهدوا في اللّه حقّ جهاده. ولا تأخذهم في اللّه لومة لائمٍ ويقوموا للّه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم".
وهذا مذهب طاوسٍ وهو الصّحيح.
لأن التقوى: هو اجتناب ما نهى اللّه عنه، ولم ينه عن شيءٍ ولا أمر به إلا وهو داخلٌ تحت (الطاقة) كما قال عز وجل: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
فالآيتان متوافقتان، والتّقدير: "اتّقوا اللّه حقّ تقاته ما استطعتم".
فقد فهم الأوّلون من الآية تكليف ما لا يستطاع فحكموا بالنّسخ وقد ردّ عليهم ذلك قوله: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} وإنما قوله حق تقاته، كقوله: حق جهاده، الحق ها هنا بمعنى الحقيقة. ثمّ إنّ هفوة المذنب لا تنافي أن يكون مكلّفًا للتّحفّظ، وإنّما شرع الاستغفار والتّوبة بوقوع الهفوات.
وقال أبو جعفرٍ النّحّاس: "معنى قول الأوّلين نسخت هذه الآية أي: أنزلت الأخرى بنسختها وهما واحدٌ، وإلا فهذا لا يجوز أن ينسخ، لأنّ النّاسخ هو المخالف للمنسوخ من جميع جهاته الرّافع له المزيل حكمه".
وقال ابن عقيلٍ: ليست منسوخةً، لأنّ قوله: {ما استطعتم} بيانٌ لحقّ تقاته وأنّه تحت الطّاقة فمن سمّى بيان القرآن نسخًا فقد أخطأ.
وهذا في تحقيق الفقهاء يسمّى: تفسيرٌ مجملٌ أو بيانٌ مشكلٌ، وذلك أنّ القوم ظنّوا أنّ ذلك تكليف (ما لا يطاق) فأزال اللّه إشكالهم. فلو قال: لا تتّقوه حقّ تقاته كان نسخًا، وإنّما بيّن أنّي لم أرد بحقّ التّقاة، ما ليس في الطّاقة).[نواسخ القرآن: 237-246]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (الثالثة: {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} ذهب كثير من المفسرين0 إلى أنها نسخت بقوله {فاتّقوا اللّه ما استطعتم} والصحيح أنها
محكمة وأن {ما استطعتم} بيان لحق تقاته فإن القوم ظنوا أن حق تقاته ما لا يطاق فزال الإشكال ولو قال لا تتّقوه حقّ تقاته كان نسخًا.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 22-23]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (التاسع: قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} الآية [آل عمران: 101] قال قتادة: (هي منسوخة بقوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم} الآية [التغابن: 16]).
وقال السدي وابن زيد والربيع بن أنس وجماعة من العلماء: ليس هذا بنسخ، والآيتان معناهما واحد، والأمر بتقوى الله لا ينسخ، وقوله:
{حق تقاته} أي ما أطقتم.
"قيل: يا رسول الله، ما حق تقاته؟ قال: ((أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)).
وقال ابن عباس: (أن تجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذه فيه لومة لائم، وأن تقوم لله بالقسط ولو على نفسك أو أبيك، أو ابنك)، وهذا كله لا ينسخ.).[جمال القراء : 1/272-275]
روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين