العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير جزء الذاريات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 جمادى الآخرة 1434هـ/15-04-2013م, 09:50 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,137
افتراضي تفسير سورة الحديد [ من الآية (25) إلى الآية (27) ]

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)}


روابط مهمة:
- القراءات
- توجيه القراءات
- الوقف والابتداء


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 7 رجب 1434هـ/16-05-2013م, 02:32 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,137
افتراضي

جمهرة تفاسير السلف

تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله الكتاب والميزان قال الميزان العدل.
قال سلمة كفة الميزان على جهنم والكفة الأخرى على الجنة). [تفسير عبد الرزاق: 2/275]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للنّاس} [الحديد: 25] : «جنّةٌ وسلاحٌ»). [صحيح البخاري: 6/147]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للنّاس جنّة وسلاح وصله الفريابيّ من طريق بن أبي نجيحٍ عنه بهذا وجنّةٌ بضمّ الجيم وتشديد النّون أي سترٌ). [فتح الباري: 8/628]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وفي قوله 25 الحديد {الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس} قال جنّة وسلاح). [تغليق التعليق: 4/336]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ({فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للنّاس} (الحديد: 25) جنّةٌ وسلاحٌ
أشار به إلى قوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} أي: قوّة شديدة {ومنافع للنّاس} ممّا يستعملونه في مصالحهم ومعائشهم، إذ هو آلة لكل صنعة. وفسّر البخاريّ قوله: (ومنافع للنّاس) بقوله: (جنّة) بضم الجيم وتشديد النّون أي: ستر ووقاية. قوله: (وسلاح) يشمل جميع آلات الحرب، وروى ما فسره عن مجاهد، رواه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه). [عمدة القاري: 19/221-222]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (وقال: {فيه بأس شديد} ({ومنافع للناس}) [الحديد: 25] أي (جنة) بضم الجيم وتشديد النون ستر (وصلاح) للأعداء وما من صنعة إلا والحديد آلتها). [إرشاد الساري: 7/374]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للنّاس وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب إنّ اللّه قويّ عزيزٌ}.
يقول تعالى ذكره: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصّلات من البيان والدّلائل، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشّرائع، والميزان بالعدل.
- كما: حدّثنا ابن عبد الأعلى قال: حدّثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، {الكتاب والميزان}. قال: الميزان: العدل.
- حدّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان}. بالحقّ؛ قال: الميزان: ما يعمل النّاس، ويتعاطون عليه في الدّنيا من معايشهم الّتي يأخذون ويعطون، يأخذون بميزانٍ، ويعطون بميزانٍ، يعرف ما يأخذ وما يعطي قال: والكتاب فيه دين النّاس الّذي يعملون ويتركون، فالكتاب للآخرة، والميزان للدّنيا.
وقوله: {ليقوم النّاس بالقسط}. يقول تعالى ذكره: ليعمل النّاس بينهم بالعدل.
وقوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ}. يقول تعالى ذكره: وأنزلنا لهم الحديد فيه بأسٌ شديدٌ: يقول: فيه قوّةٌ شديدةٌ، ومنافع للنّاسٍ، وذلك ما ينتفعون به منه عند لقائهم العدو، وغير ذلك من منافعه.
- وقد: حدّثنا ابن حميدٍ قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ قال: حدّثنا الحسين، عن علباء بن أحمرٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم صلوات اللّه عليه: السّندان والكلبتان، والميقعة، والمطرقة.
- حدّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ}. قال: البأس الشّديد: السّيوف والسّلاح الّتي يقاتل النّاس بها، {ومنافع للنّاس} بعد، يحفرون بها الأرض والجبال وغير ذلك.
- حدّثنا محمّد بن عمرٍو قال: حدّثنا أبو عاصمٍ قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث قال: حدّثنا الحسن قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للنّاس}. وجنّةٌ وسلاحٌ، وأنزله ليعلم اللّه من ينصره.
وقوله: {وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب}. يقول تعالى ذكره: أرسلنا رسلنا إلى خلقنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعدلوا بينهم، وليعلم حزب اللّه من ينصر دين اللّه ورسله بالغيب منه عنهم.
وقوله: {إنّ اللّه قويّ عزيزٌ}. يقول تعالى ذكره: إنّ اللّه قويّ على الانتصار ممّن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره ونهيه، عزيزٌ في انتقامه منهم، لا يقدر أحدٌ على الانتصار منه ممّا أحلّ به من العقوبة). [جامع البيان: 22/424-426]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس قال يقول فيه جنة وسلاح). [تفسير مجاهد: 2/658]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 25 – 27
أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} قال: العدل). [الدر المنثور: 14/286]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} قال: جنة وسلاح). [الدر المنثور: 14/286-287]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عكرمة في قوله: {وأنزلنا الحديد} الآية قال: إن أول ما أنزل الله من الحديد الكلبتين والذي يضرب عليه الحديد). [الدر المنثور: 14/287]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن الأيام فقال: السبت عدد والأحد عدد والإثنين يوم تعرض فيه الأعمال والثلاثاء يوم الدم والأربعاء يوم الحديد {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} والخميس يوم تعرض الأعمال والجمعة يوم بدأ الله الخلق وفيه تقوم الساعة). [الدر المنثور: 14/287]

تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم وجعلنا في ذرّيّتهما النّبوّة والكتاب فمنهم مهتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون}.
يقول تعالى ذكره: قرأة {ولقد أرسلنا} أيّها النّاس {نوحًا} نبيًّا إلى خلقنا، {وإبراهيم} خليله إليهم رسولاً {وجعلنا في ذرّيّتهما النّبوّة والكتاب}. وكذلك كان، كانت النّبوّة في ذرّيّتهما، وعليهم أنزلت الكتب: التّوراة، والإنجيل، والزّبور، والفرقان، وسائر الكتب المعروفة {فمنهم مهتدٍ} يقول: فمن ذرّيّتهما مهتدٍ إلى الحقّ مستبصرٌ {وكثيرٌ منهم} يعني من ذرّيّتهما {فاسقون} يعني ضلاّلٌ، خارجون عن طاعة اللّه إلى معصيته). [جامع البيان: 22/426]

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله ورهبانية ابتدعوها قال لم تكتب عليهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله). [تفسير عبد الرزاق: 2/276]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (أخبرنا الحسين بن حريثٍ، قال: أخبرنا الفضل بن موسى، عن سفيان بن سعيدٍ، عن عطاء بن السّائبٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " كانت ملوكٌ بعد عيسى، بدّلوا التّوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرءون التّوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شتمًا أشدّ من شتم يشتموننا هؤلاء، إنّهم يقرءون {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] هؤلاء الآيات، مع ما يعيبونّا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعهم فليقرءوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنّا، فدعاهم فجمعهم فعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التّوراة والإنجيل، إلّا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك، دعونا، فقالت طائفةٌ منهم: ابنوا لنا أسطوانةً ثمّ ارفعونا إليها، ثمّ أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نرد عليكم، وقالت طائفةٌ: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفةٌ: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحرث البقول، فلا نرد عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحدٌ من القبائل إلّا وله حميمٌ فيهم، ففعلوا ذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها} [الحديد: 27]، والآخرون قالوا: نتعبّد كما تعبّد فلانٌ، ونسيح كما ساح فلانٌ، ونتّخذ دورًا كما اتّخذ فلانٌ، وهم على شركهم، لا علم لهم بإيمان الّذين اقتدوا به، فلمّا بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق منهم إلّا القليل، انحطّ رجلٌ من صومعته، وجاء سائحٌ من سياحته، وصاحب الدّير من ديره، فأمنوا به وصدّقوه، فقال الله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} [الحديد: 28]، أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم، وتصديقهم بالتّوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وتصديقهم، قال: {ويجعل لكم نورًا تمشون به} [الحديد: 28]، القرآن واتّباعهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: {لئلّا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29]، الّذين يتشبّهون بكم {ألّا يقدرون على شيءٍ من فضل الله وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الحديد: 29]). [السنن الكبرى للنسائي: 10/288]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون}.
يقول تعالى ذكره: ثمّ أتبعنا على آثارهم برسلنا الّذين أرسلناهم بالبيّنات، وعلى آثار نوحٍ وإبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم {وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه}. يعني: الّذين اتّبعوا عيسى على منهاجه وشريعته {رأفةً}. وهو أشدّ الرّحمة {ورحمةً ورهبانيّةً ابتدعوها} يقول: أحدثوها {ما كتبناها عليهم} يقول: ما افترضنا تلك الرّهبانيّة عليهم {إلاّ ابتغاء رضوان اللّه}. يقول: لكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان اللّه {فما رعوها حقّ رعايتها}.
واختلف أهل التّأويل في الّذين لم يرعوا الرّهبانيّة حقّ رعايتها، فقال بعضهم: هم الّذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنّهم بدّلوا وخالفوا دين اللّه الّذي بعث به عيسى، فتنصّروا وتهوّدوا.
وقال آخرون: بل هم قومٌ جاءوا من بعد الّذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنّهم كانوا كفّارًا ولكنّهم قالوا: نفعل كالّذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليًا، فهم الّذين وصف اللّه بأنّهم لم يرعوها حقّ رعايتها.
وبنحو الّذي قلنا في تأويل هذه الأحرف إلى الموضع الّذي ذكرنا أنّ أهل التّأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني بشرٌ قال: حدّثنا يزيد قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، {وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً}. فهاتان من اللّه، والرّهبانيّة ابتدعها قومٌ من أنفسهم، ولم تكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان اللّه، فما رعوها حقّ رعايتها، ذكر لنا أنّهم رفضوا النّساء، واتّخذوا الصّوامع.
- حدّثنا ابن عبد الأعلى قال: حدّثنا ابن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة {ورهبانيّةً ابتدعوها}. قال: لم تكتب عليهم، ابتدعوها ابتغاء رضوان اللّه.
- حدّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {ما كتبناها عليهم}. قال: فلم؟ قال: ابتدعوها ابتغاء رضوان اللّه تطوّعًا، فما رعوها حقّ رعايتها.
ذكر من قال: الّذين لم يرعوا الرّهبانيّة حقّ رعايتها كانوا غير الّذين ابتدعوها ولكنّهم كانوا المريدي الاقتداء بهم:
- حدّثنا الحسين بن الحريث أبو عمّارٍ المروزيّ قال: حدّثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: كانت ملوكٌ بعد عيسى بدّلوا التّوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرأون التّوراة والإنجيل، فقيل لملكهم: ما نجد شيئًا أشدّ علينا من شتمٍ يشتمناه هؤلاء أنّهم يقرأون {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون}. هؤلاء الآيات مع ما يعيبوننا به في قراءتهم، فادعهم فليقرأوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنّا به. قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التّوراة والإنجيل، إلاّ ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك فدعونا؛ قال: فقالت طائفةٌ منهم: ابنوا لنا أسطوانةً، ثمّ ارفعونا إليها، ثمّ أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نرد عليكم، وقالت طائفةٌ منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا، وقالت طائفةٌ: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نرد عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحدٌ من أولئك إلاّ وله حميمٌ فيهم؛ قال: ففعلوا ذلك، فأنزل اللّه جلّ ثناؤه {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها}. الآخرون، قالوا: نتعبّد كما تعبّد فلانٌ، ونسيح كما ساح فلانٌ ونتّخذ دورًا كما اتّخذ فلانٌ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الّذين اقتدوا بهم؛ قال: فلمّا بعث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يبق منهم إلاّ قليلٌ، انحطّ رجلٌ من صومعته، وجاء سائحٌ من سياحته، وجاء صاحب الدّار من داره، وآمنوا به وصدّقوه، فقال اللّه جلّ ثناؤه {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته}. قال: أجرين لإيمانهم بعيسى، وتصديقهم بالتّوراة والإنجيل، وإيمانهم بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وتصديقهم به قال {ويجعل لكم نورًا تمشون به} القرآن، واتّباعهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ وقال: {لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شيءٍ من فضل اللّه وأنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم}.
- حدّثنا يحيى بن أبي طالبٍ قال: حدّثنا داود بن المحبّر قال: حدّثنا الصّعق بن حزنٍ قال: حدّثنا عقيلٌ الجعديّ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد بن غفلة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقةٍ، نجا منهم ثلاثٌ وهلك سائرهم: فرقةٌ من الثّلاث آزت الملوك وقاتلتهم على دين اللّه ودين عيسى ابن مريم صلوات اللّه عليهم، فقتلتهم الملوك؛ وفرقةٌ لم تكن لهم طاقةٌ بموازاة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين اللّه ودين عيسى صلوات اللّه عليه، فقتلهم الملوك، ونشرتهم بالمناشير؛ وفرقةٌ لم تكن لهم طاقةٌ بموازاة الملوك، ولا بالمقام بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين اللّه ودين عيسى صلوات اللّه عليه، فلحقوا بالبراري والجبال، فترهّبوا فيها، فهو قول اللّه عزّ وجلّ {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم}. قال: ما فعلوها إلاّ ابتغاء رضوان اللّه {فما رعوها حقّ رعايتها}. قال: ما رعاها الّذين من بعدهم حقّ رعايتها {فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم}. قال: وهم الّذين آمنوا بي وصدّقوني قال {وكثيرٌ منهم فاسقون}. قال: فهم الّذين جحدوني وكذّبوني.
- حدّثنا ابن حميدٍ قال: حدّثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاس {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها}. قال الآخرون ممّن تعبّد من أهل الشّرك، وفتن من فتن منهم، يقولون: نتعبّد كما تعبّد فلانٌ، ونسيح كما ساح فلانٌ، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الّذين اقتدوا بهم.
ذكر من قال: الّذين لم يرعوها حقّ رعايتها: الّذين ابتدعوها:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ قال: ثني أبي قال ثني عمّي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً}. إلى قوله: {حقّ رعايتها}. يقول: ما أطاعوني فيها، وتكلّموا فيها بمعصية اللّه، وذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلاّ قليلٌ، وكثر أهل الشّرك وذهب الرّسل وقهروا، اعتزلوا في الغيران، فلم يزل بهم ذلك حتّى كفرت طائفةٌ منهم، وتركوا أمر اللّه عزّ وجلّ ودينه، وأخذوا بالبدعة وبالنّصرانيّة وباليهوديّة، فلم يرعوها حقّ رعايتها وثبتت طائفةٌ على دين عيسى ابن مريم صلوات اللّه عليه، حتّى جاءتهم البيّنات، وبعث اللّه عزّ وجلّ محمّدًا رسولاً صلّى اللّه عليه وسلّم وهم كذلك فذلك قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته}. إلى {واللّه غفورٌ رحيمٌ}.
- حدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: حدّثنا عبيدٌ قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم}. كان اللّه عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فلمّا استخرج أهل الإيمان، ولم يبق منهم إلاّ القليل، وكثر أهل الشّرك، وانقطعت الرّسل، اعتزلوا النّاس، فصاروا في الغيران، فلم يزالوا كذلك حتّى غيّرت طائفةٌ منهم، فتركوا دين اللّه وأمره وعهده الّذي عهده إليهم، وأخذوا بالبدع، فابتدعوا النّصرانيّة واليهوديّة، فقال اللّه عزّ وجلّ لهم: {فما رعوها حقّ رعايتها} وثبتت طائفةٌ منهم على دين عيسى صلوات اللّه عليه، حتّى بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، فآمنوا به.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدّثنا هشيمٌ قال: أخبرنا زكريّا بن أبي مريم قال: سمعت أبا أمامة الباهليّ، يقول: إنّ اللّه كتب عليكم صيام رمضان، ولم يكتب عليكم قيامه، وإنّما القيام شيءٌ ابتدعتموه، وإنّ قومًا ابتدعوا بدعةً لم يكتبها اللّه عليهم، ابتغوا بها رضوان اللّه، فلم يرعوها حقّ رعايتها، فعابهم اللّه بتركها، فقال: {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها}.
وأولى الأقوال في ذلك بالصّحّة أن يقال: إنّ الّذين وصفهم اللّه بأنّهم لم يرعوا الرّهبانيّة حقّ رعايتها بعض الطّوائف الّتي ابتدعتها، وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر أنّه آتى الّذين آمنوا منهم أجرهم؛ قال: فدلّ بذلك على أنّ منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الّذي قال جلّ ثناؤه: {فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم}. إلاّ أنّ الّذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكنٌ أن يكون كانوا على عهد الّذين ابتدعوها، وممكنٌ أن يكونوا كانوا بعدهم، لأنّ الّذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائزٌ في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرةٍ من هذا الكتاب.
وقوله: {فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم}. يقول تعالى ذكره: فأعطينا الّذين آمنوا باللّه ورسله من هؤلاء الّذين ابتدعوا الرّهبانيّة ثوابهم على ابتغائهم رضوان اللّه، وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة، وكثيرٌ منهم أهل معاصٍ، وخروجٍ عن طاعته، والإيمان به.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ {فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم} قال: الّذين رعوا ذلك الحقّ). [جامع البيان: 22/427-434]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا محمّد بن صالح بن هانئٍ، ثنا يحيى بن محمّد بن يحيى الشّهيد، ثنا عبد الرّحمن بن المبارك، ثنا الصّعق بن حزنٍ، عن عقيل بن يحيى، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه، {وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها، فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون} [الحديد: 27] قال ابن مسعودٍ: قال لي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا عبد اللّه بن مسعودٍ» فقلت: لبّيك يا رسول اللّه، ثلاث مرارٍ، قال: «هل تدري أيّ عرى الإيمان أوثق؟» قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: «أوثق الإيمان الولاية في اللّه بالحبّ فيه والبغض فيه، يا عبد اللّه بن مسعودٍ» قلت: لبّيك يا رسول اللّه، ثلاث مرارٍ، قال: «هل تدري أيّ النّاس أفضل؟» قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: «فإنّ أفضل النّاس أفضلهم عملًا إذا فقهوا في دينهم، يا عبد اللّه بن مسعودٍ» قلت: لبّيك وسعديك، ثلاث مرارٍ، قال: «هل تدري أيّ النّاس أعلم؟» قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: " فإنّ أعلم النّاس أبصرهم بالحقّ إذا اختلفت النّاس، وإن كان مقصّرًا في العمل وإن كان يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقةً نجا منها ثلاثٌ، وهلك سائرها، فرقةٌ وازت الملوك وقاتلتهم على دين اللّه ودين عيسى ابن مريم حتّى قتلوا، وفرقةٌ لم يكن لهم طاقةٌ بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين اللّه ودين عيسى ابن مريم فقتلتهم الملوك، ونشرتهم بالمناشير، وفرقةٌ لم يكن لهم طاقةٌ بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى اللّه وإلى دين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهّبوا فيها فهم الّذين قال اللّه {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها} [الحديد: 27] إلى قوله {فاسقون} [الحديد: 27] فالمؤمنون الّذين آمنوا بي وصدّقوني والفاسقون الّذين كفروا بي وجحدوا بي «هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرّجاه»). [المستدرك: 2/522]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (س) (ابن عباس - رضي الله عنهما -): قال: كانت ملوكٌ بعد عيسى -عليه السلام- بدّلوا التّوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، قيل لملوكهم: ما نجد شتماً أشدّ من شتمٍ يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] مع ما يعيبونا به في أعمالنا في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنّا، فدعاهم فجمعهم، وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التّوراة والإنجيل، إلا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا، فقالت طائفةٌ منهم: ابنوا لنا أسطواناً، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نرد عليكم، وقالت طائفةٌ: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفةٌ منهم: ابنوا لنا دوراً في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، ولا نرد عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحدٌ من القبائل إلا وله حميمٌ فيهم، قال: ففعلوا ذلك، فأنزل الله عز وجل: {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان اللّه - فما رعوها حقّ رعايتها} [الحديد: 27] والآخرون قالوا: نتعبّد كما تعبّد فلانٌ، ونسيح كما ساح فلانٌ، وهم على شركهم، ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلمّا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا قليلٌ، انحطّ رجلٌ من صومعته، وجاء سائحٌ من سياحته، وصاحب الدّير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال الله تبارك وتعالى: {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} [الحديد: 28]: أجرين، بإيمانهم بعيسى عليه السلام، وبالتوارة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وتصديقهم، وقال: {ويجعل لكم نوراً تمشون به} [الحديد: 28]: القرآن، واتّباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: {لئلّا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] الذين يتشبّهون بكم {ألّا يقدرون على شيءٍ من فضل اللّه}... الآية. أخرجه النسائي.
[شرح الغريب]
(نهيم) هام في البراري: إذا ذهب لوجهه على غير جادة، ولا طالب مقصد.
(الفيافي) البراري). [جامع الأصول: 2/376-378]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه} الآية
أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر من طرق عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله: قلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرات قال: هل تدري أي عرا الإيمان أوثق قلت: الله ورسوله أعلم
قال: أوثق عرا الإيمان الولاية في الله بالحب فيه والبغض فيه قال: هل تدري أي الناس أفضل قلت: الله ورسوله أعلم قال: أفضل الناس أفضلهم عملا إذا تفقهوا في الدين يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا بالعمل وإن كان يزحف على أسته واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة (من الفراق) وزت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم حتى قتلوا وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} الذين آمنوا بي وصدقوني {وكثير منهم فاسقون} الذين كفروا بي وجحدوني). [الدر المنثور: 14/287-289]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل فكان منهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل فقيل لملوكهم: ما نجد شيئا أشد من شتم يشتمنا هؤلاء أنهم يقرؤون (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة الآية 44) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (المائدة الآية 45) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (المائدة الآية 47) مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قرءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا: ما تريدون إلى ذلك دعونا فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا ترفع به طعامنا وشرابنا ولا ترد عليكم وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا وقالت طائفة: ابنوا لنا ديورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ففعلوا ذلك فأنزل الله {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} قال: والآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفني من قد فني منهم قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ ديورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فلما بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم {ويجعل لكم نورا تمشون به} القرآن واتباعهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم). [الدر المنثور: 14/289-290]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج أبو يعلى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم}). [الدر المنثور: 14/290-291]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج البيهقي في الشعب عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن جبير عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تشددوا على أنفسكم فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات). [الدر المنثور: 14/291]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه، وابن نصر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن الله كتب عليكم صيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم قيامه وإنما القيام شيء ابتدعتموه فدوموا عليه ولا تتركوه فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة فعابهم الله بتركها وتلا هذه الآية {ورهبانية ابتدعوها}). [الدر المنثور: 14/291]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله). [الدر المنثور: 14/291]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {ورهبانية ابتدعوها} قال: ذكر لنا أنهم رفضوا النساء واتخذوا الصوامع). [الدر المنثور: 14/292]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 7 رجب 1434هـ/16-05-2013م, 03:10 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,137
افتراضي


التفسير اللغوي


تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ...}.
ذكر أن الله عز وجل أنز ل: القلاة والكلبتين والمطرقة.
قال الفراء: القلاة: السّندان). [معاني القرآن: 3/136]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {فيه بأسٌ شديدٌ...}.
يريد: السلاح للقتال، ومنافع للناس مثل: السكين، والفأس، والمز وما أشبه ذلك). [معاني القرآن: 3/136]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({ليقوم النّاس بالقسط} : أي : بالعدل.
{وأنزلنا الحديد} : ذكروا: «أن اللّه انزل العلاة - وهي: السّندان - والكلبتين والمطرقة».
{فيه بأسٌ شديدٌ}: للقتال، {ومنافع للنّاس}: مثل السكين، والفأس، والمر، والإبرة). [تفسير غريب القرآن: 454]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب إنّ اللّه قويّ عزيز (25)}
جاء في التفسير أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض بالعلاة , والمطرقة , والكلبتين.
والعلاة هي التي يسميها الحدادون: السّندان.
وقوله عزّ وجلّ { فيه بأس شديد}
أي: [يمتنع به]، ويحارب به.
{ومنافع للنّاس}: يستعملونه في أدواتهم وما ينتفعون به من آنيتهم، وجميع ما يتصرف وقوله: {وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب}: أي : ليعلم الله من يقاتل مع رسله في سبله.
وقد مر تفسيره , ومعناه). [معاني القرآن: 5/129]

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {النّبوّة...}.
وفي مصحف عبد الله بالياء بياءين: النّبييّة بباءين , والهمزة في كتابه تثبت بالألف في كل نوع،
فلو كانت همزة لأثبتت بالألف، ولو كانت الفعولة لكانت بالواو، ولا تخلو أن تكون مصدر النبأ أو النبيّية مصدرا فنسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والعرب تقول: فعل ذلك في غلوميته، وفي غلومته، وفي غلاميته، وسمع الكسائي العرب تقول: فعل ذلك في وليديته يريد: وهو ليد أي: مولود، فما جاءك من مصدر لاسم موضوع، فلك فيه: الفعولة، والفعولية، وأن تجعله منسوباً على صورة الاسم، من ذلك أن تقول: عبد بين العبودية، والعبودة والعبدية، فقس على هذا). [معاني القرآن: 3/136-137]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ثمّ قفّينا على آثارهم }: أتبعناه). [مجاز القرآن: 2/254]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ ما كتبناها عليهم }: ما كلّفناهموها). [مجاز القرآن: 2/254]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({ورهبانيّةً}...: اسم مبني من «الرّهبة»، لما فضل عن المقدار وأفرط فيه, وهو ما نهي اللّه عنه إذ يقول: {لا تغلوا في دينكم}. ويقال: دين اللّه بين المقصر والغالي.
{ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان اللّه} أي: ما أمرناهم بها إلا ابتغاء رضوان اللّه، أي أمرنا منها بما يرضي اللّه عز وجل، لا غير ذلك). [تفسير غريب القرآن: 454-455]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفة ورحمة ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون}
{ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا}: أي أتبعنا نوحا وإبراهيم رسلا بعدهم.
{وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل}: جاء في التفسير أن الإنجيل آتاه اللّه عيسى جملة واحدة.
وقوله {وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفة ورحمة}
ويجوز رآفة على وزن السماحة، حكى أبو زيد أنه يقال: رؤفت بالرجل رأفة، وهي القراءة.
وقد قرئت ورآفة.
وقوله: {ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان اللّه} : هذه الآية صعبة في التفسير.
ومعناها - واللّه أعلم - يحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون المعنى في قوله: {ورهبانيّة ابتدعوها}: ابتدعوا رهبانية كما تقول: رأيت زيدا، وعمرا أكرمته، وتكون { ما كتبناها عليهم}:معناها لم نكتبها عليهم ألبتّة، ويكون{إلا ابتغاء رضوان الله}: بدلا - من الهاء والألف، فيكون المعنى ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان اللّه، وابتغاء رضوان اللّه اتباع ما أمر به.
فهذا - واللّه أعلم - وجه, وفيها وجه آخر في {ابتدعوها}
جاء في التفسير أنّهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه , فاتخذوا أسرابا وصوامع.
فابتدعوا ذلك، فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع , ودخلوا فيه لزمهم إتمامه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفترض عليه لزمه أن يتمّه.
وقوله عزّ وجلّ: {فما رعوها حقّ رعايتها}: على ضربين - واللّه أعلم :-
أحدهما : أن يكونوا قصّروا فيما ألزموه أنفسهم.
والآخر : وهو أجود أن يكونوا حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمنوا به كانوا تاركين لطاعة اللّه، فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها, ودليل ذلك قوله عزّ وجلّ: {فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم}
أي : الذين آمنوا منهم بالنبي عليه السلام.
{وكثير منهم فاسقون}: أي : وكافرون). [معاني القرآن: 5/130-131]

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 7 رجب 1434هـ/16-05-2013م, 03:13 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,137
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]


تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (والحديد –إذا كان سلاحا-: نسب إلى السلطان؛ وما كان غير ذلك: نسب إلى متاع الدنيا ومنافعها؛ قال الله عز وجل: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} ). [تعبير الرؤيا: 158]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 7 ربيع الأول 1440هـ/15-11-2018م, 03:00 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري
...

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 7 ربيع الأول 1440هـ/15-11-2018م, 03:00 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري
...

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 7 ربيع الأول 1440هـ/15-11-2018م, 03:03 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (و"الكتاب" اسم جنس لجميع الكتب المنزلة، و"الميزان": العدل في تأويل أكثر المتأولين، وقال ابن زيد وغيره من المتأولين: أراد الموازين المصرفة بين الناس، وهذا خير من القول الأول، وقوله تعالى: {ليقوم الناس بالقسط} يقوي القول الأول.
وقوله تعالى: "وأنزلنا الحديد"، عبر تعالى عن خلقه واتخاذه بالإنزال، كما قال في الثمانية الأزواج من الأنعام وأيضا فإن الأمر بكون الأشياء لما كان يلقى من السماء، جعل الكل نزولا منها، وقال جمهور كثير من المفسرين: الحديد هنا أراد به جنسه من المعادن وغيرها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة. قال حذاق من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية: فإن الله تعالى أخبر أنه أرسل رسلا، وأنزل كتبا وعدلا مشروعا، وسلاحا، يحارب بها من عاند ولم يهتد بهدي الله، فلم يبق عذر، وفي الآية -على هذا التأويل- حض على القتال وترغيب فيه، وقوله تعالى: {وليعلم الله من ينصره} يقوي هذا التأويل، ومعنى قوله تعالى: "وليعلم الله" أي: ليعلمه موجودا، فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود، وقوله تعالى: "بالغيب" معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة فآمن بها لقيام الأدلة عليها، ثم وصف تبارك وتعالى نفسه بالقوة والعزة ليبين أنه لا حاجة به إلى النصرة لكنها نافعة من عظم بها نفسه من الناس). [المحرر الوجيز: 8/ 238-239]

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (ثم ذكر تعالى رسالة نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام تشريفا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل عليهم السلام، ثم ذكر تعالى نعمه على ذريتهما، وقوله تعالى: "والكتاب" يعني الكتب الأربعة أنهم مع ذلك منهم من فسق وعند، فكذلك -بل أحرى- جميع الناس ولذلك يشرع السلاح للقتال).[المحرر الوجيز: 8/ 239]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}
"قفينا" معناه: جئنا بهم بعد الأولين، وهو مأخوذ من القفا، أي: جاء بالثاني في قفا الأول، فيجيء الأول بين يدي الثاني، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر، ثم ذكر تعالى عيسى عليه السلام تشريفا وتخصيصا، وقرأ الحسن: "الإنجيل" بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: هذا مثال لا نظير له، و"رأفة ورحمة ورهبانية" مفعولات "جعلنا"، والجعل في هذه الآية بمعنى: الخلق، وقوله تعالى: "ابتدعوها" صفة لـ "رهبانية"، وخصها بأنها ابتدعت لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيهما، وأما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضع للتكسب، قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله تعالى، والرهبانية هم ابتدعوها، والمراد بالرأفة والرحمة حب بعضهم في بعض وتوادهم، والمراد بالرهبانية رفض النساء واتخاذ الصوامع، والمعتزلة تعرب "رهبانية" أنها نصب بإضمار فعل يفسره "ابتدعوها" وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة، ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله، فيعربون الآية على هذا، وكذلك أعربها أبو علي.
وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق: ففرقة قاتلت الملوك على الدين فغلبت وقتلت، وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه، ولم تقاتل، فأخذتها الملوك فنشرتها بالمناشير، وقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وذاك وتسموا بالرهبان، واسمهم مأخوذ من الرهب وهو الخوف، فهذا هو ابتداعهم، ولم يعرض الله تعالى ذلك عليهم لكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة، وقال مجاهد: المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله، فـ "كتب" -على هذا- بمعنى: قضى، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات; لأن ابتغاء رضوان الله تعالى بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة، فالاستثناء -على هذا الاحتمال- متصل.
واختلف الناس في الضمير الذي في قوله تعالى: {فما رعوها حق رعايتها}، من المراد به؟ فقيل: إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه، بل غيروا وبدلوا، قاله ابن زيد وغيره، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى، أي: لم يرعوها بأجمعهم، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتنقل وتطوع، أنه يلزمه أن يرعاه حق رعاية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم، وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها، وباقي الآية بين، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: "كتبناها عليهم لكن ابتدعوها").[المحرر الوجيز: 8/ 239-240]

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 7 ربيع الأول 1440هـ/15-11-2018م, 03:33 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري
...

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 7 ربيع الأول 1440هـ/15-11-2018م, 03:37 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للنّاس وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب إنّ اللّه قويٌّ عزيزٌ (25)}
يقول تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات} أي: بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدّلائل القاطعات، {وأنزلنا معهم الكتاب} وهو: النّقل المصدّق {والميزان} وهو: العدل. قاله مجاهدٌ، وقتادة، وغيرهما. وهو الحقّ الّذي تشهد به العقول الصّحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السّقيمة، كما قال: {أفمن كان على بيّنةٍ من ربّه ويتلوه شاهدٌ منه} [هودٍ: 17]، وقال: {فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها} [الرّوم: 30]، وقال: {والسّماء رفعها ووضع الميزان} [الرّحمن: 7]؛ ولهذا قال في هذه الآية: {ليقوم النّاس بالقسط} أي: بالحقّ والعدل وهو: اتّباع الرّسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، فإنّ الذي جاؤوا به هو الحقّ الّذي ليس وراءه حقٌّ، كما قال: {وتمّت كلمة ربّك صدقًا وعدلا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنّواهي. ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنّات، والمنازل العاليات، والسّرر المصفوفات: {الحمد للّه الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ} [الأعراف: 43].
وقوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ} أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحقّ وعانده بعد قيام الحجّة عليه؛ ولهذا أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة بعد النّبوّة ثلاث عشرة سنةً توحى إليه السّور المكّيّة، وكلّها جدالٌ مع المشركين، وبيانٌ وإيضاحٌ للتّوحيد، وتبيانٌ ودلائل، فلمّا قامت الحجّة على من خالف شرع اللّه الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسّيوف، وضرب الرّقاب والهام لمن خالف القرآن وكذّب به وعانده.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، من حديث عبد الرّحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسّان بن عطيّة، عن أبي المنيب الجرشيّ الشّاميّ، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "بعثت بالسّيف بين يدي السّاعة حتّى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجعل الذّلّة والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقومٍ فهو منهم"
ولهذا قال تعالى: {فيه بأسٌ شديدٌ} يعني: السّلاح كالسّيوف، والحراب، والسّنان، والنّصال، والدّروع، ونحوها. {ومنافع للنّاس} أي: في معايشهم كالسّكّة والفأس والقدوم، والمنشار، والإزميل، والمجرفة، والآلات الّتي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطّبخ والخبز وما لا قوام للنّاس بدونه، وغير ذلك.
قال علباء بن أحمد، عن عكرمة، أنّ ابن عبّاسٍ قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم: السّندان والكلبتان والميقعة -يعني المطرقة. رواه ابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ.
وقوله: {وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب} أي: من نيّته في حمل السّلاح نصرة اللّه ورسله، {إنّ اللّه قويٌّ عزيزٌ} أي: هو قويٌّ عزيزٌ، ينصر من نصره من غير احتياجٍ منه إلى النّاس، وإنّما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعضٍ). [تفسير ابن كثير: 8/ 27-28]

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم وجعلنا في ذرّيّتهما النّبوّة والكتاب فمنهم مهتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون (26) ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون (27)}
يخبر تعالى أنّه منذ بعث نوحًا، عليه السّلام، لم يرسل بعده رسولًا ولا نبيًّا إلّا من ذرّيّته، وكذلك إبراهيم، عليه السّلام، خليل الرّحمن، لم ينزل من السّماء كتابًا ولا أرسل رسولًا ولا أوحى إلى بشرٍ من بعده، إلّا وهو من سلالته كما قال في الآية الأخرى: {وجعلنا في ذرّيّتهما النّبوّة والكتاب} [يعني] حتّى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الّذي بشّر من بعده بمحمّدٍ، صلوات اللّه وسلامه عليهما؛ ولهذا قال تعالى: {ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل} وهو الكتاب الّذي أوحاه اللّه إليه {وجعلنا في قلوب الّذين اتّبعوه} وهم الحواريّون {رأفةً ورحمةً} أي: رأفةً وهي الخشية {ورحمةً} بالخلق.
وقوله: {ورهبانيّةً ابتدعوها} أي: ابتدعتها أمّة النّصارى {ما كتبناها عليهم} أي: ما شرعناها لهم، وإنّما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
وقوله: {إلا ابتغاء رضوان اللّه} فيه قولان، أحدهما: أنّهم قصدوا بذلك رضوان اللّه، قال سعيد بن جبيرٍ، وقتادة. والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنّما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان اللّه.
وقوله: {فما رعوها حقّ رعايتها} أي: فما قاموا بما التزموه حقّ القيام. وهذا ذمٌّ لهم من وجهين، أحدهما: في الابتداع في دين اللّه ما لم يأمر به اللّه. والثّاني: في عدم قيامهم بما التزموه ممّا زعموا أنّه قربةٌ يقرّبهم إلى اللّه، عزّ وجلّ.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرّازيّ، حدّثنا السّنديّ بن عبدويه حدّثنا بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان، عن القاسم بن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن مسعودٍ، عن أبيه، عن جده بن مسعودٍ قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا ابن مسعودٍ". قلت: لبّيك يا رسول اللّه. قال: "هل علمت أنّ بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقةً؟ لم ينج منها إلّا ثلاث فرقٍ، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم، عليه السّلام، فدعت إلى دين اللّه ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت، ثمّ قامت طائفةٌ أخرى لم يكن لها قوّةٌ بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين اللّه ودين عيسى ابن مريم، فقتّلت وقطّعت بالمناشير وحرّقت بالنّيران، فصبرت ونجت. ثمّ قامت طائفةٌ أخرى لم يكن لها قوّةٌ بالقتال ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبّدت وترهّبت، وهم الّذين ذكرهم اللّه، عزّ وجلّ: {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم}
وقد رواه ابن جريرٍ بلفظٍ آخر من طريقٍ أخرى فقال: حدّثنا يحيى بن أبي طالبٍ، حدّثنا داود بن المحبّر، حدّثنا الصّعق بن حزن، حدّثنا عقيلٌ الجعديّ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد بن غفلة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اختلف من كان قبلنا على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، نجا منهم ثلاثٌ وهلك سائرهم = " وذكر نحو ما تقدّم، وفيه: " {فآتينا الّذين آمنوا منهم أجرهم} هم الّذين آمنوا بي وصدّقوني {وكثيرٌ منهم فاسقون} وهم الّذين كذّبوني وخالفوني"
ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبّر، فإنّه أحد الوضّاعين للحديث، ولكن قد أسنده أبو يعلى، وسنده عن شيبان بن فرّوخ، عن الصّعق بن حزن، به مثل ذلك فقوي الحديث من هذا الوجه.
وقال ابن جريرٍ، وأبو عبد الرّحمن النّسائيّ-واللّفظ له-: أخبرنا الحسين بن حريث، حدّثنا الفضل بن موسى، عن سفيان بن سعيدٍ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما قال: كان ملوكٌ بعد عيسى، عليه السّلام، بدّلت التّوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التّوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شيئًا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]، هذه الآيات، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنّا. فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التّوراة والإنجيل، إلّا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا: فقالت طائفةٌ منهم: ابنوا لنا أسطوانةً، ثمّ ارفعونا إليها، ثمّ أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نردّ عليكم. وقالت طائفةٌ: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفةٌ: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نردّ عليكم ولا نمرّ بكم. وليس أحدٌ من القبائل إلّا له حميمٌ فيهم، ففعلوا ذلك فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {ورهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان اللّه فما رعوها حقّ رعايتها} والآخرون قالوا: نتعبّد كما تعبّد فلانٌ، ونسيح كما ساح فلانٌ، ونتّخذ دورًا كما اتّخذ فلانٌ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الّذين اقتدوا بهم فلمّا بعث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يبق منهم إلّا القليل، انحطّ منهم رجلٌ من صومعته، وجاء سائحٌ من سياحته، وصاحب الدّير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال اللّه، عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم والتّوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وتصديقهم قال {ويجعل لكم نورًا تمشون به} [الحديد: 28]: القرآن، واتّباعهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: {لئلا يعلم أهل الكتاب} الّذين يتشبّهون بكم {ألا يقدرون على شيءٍ من فضل اللّه وأنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم}
هذا السّياق فيه غرابةٌ، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الأخريين على غير هذا، واللّه أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصليّ: حدّثنا أحمد بن عيسى، حدّثنا عبد اللّه بن وهبٍ، حدّثني سعيد بن عبد الرّحمن بن أبي العمياء: أنّ سهل بن أبي أمامة حدّثه أنّه دخل هو وأبوه على أنس بن مالكٍ بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أميرٌ، وهو يصلّي صلاةً خفيفةً كأنّها صلاة مسافرٍ أو قريبًا منها، فلمّا سلّم قال: يرحمك اللّه، أرأيت هذه الصّلاة المكتوبة، أم شيءٌ تنفّلته؟ قال: إنّها المكتوبة، وإنّها صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أخطأت إلّا شيئًا سهوت عنه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول: "لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد عليكم، فإنّ قومًا شدّدوا على أنفسهم فشدّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصّوامع والدّيارات، رهبانيّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم". ثمّ غدوا من الغد فقالوا: نركب فننظر ونعتبر قال: نعم فركبوا جميعًا، فإذا هم بديارٍ قفرٍ قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا، خاويةٍ على عروشها فقالوا: تعرف هذه الدّيار؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها. هؤلاء أهل الدّيار، أهلكهم البغي والحسد، إنّ الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدّق ذلك أو يكذّبه، والعين تزني والكفّ والقدم والجسد واللّسان، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يعمر، حدّثنا عبد اللّه، أخبرنا سفيان، عن زيدٍ العمّي، عن أبي إياسٍ، عن أنس بن مالكٍ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لكلّ نبيٍّ رهبانيّةٌ، ورهبانيّة هذه الأمّة الجهاد في سبيل اللّه عزّ وجلّ"
ورواه الحافظ أبو يعلى، عن عبد اللّه بن محمّد بن أسماء، عن عبد اللّه بن المبارك به ولفظه: "لكلّ أمّةٍ رهبانيّةٌ، ورهبانيّة هذه الأمّة الجهاد في سبيل اللّه"
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسينٌ -هو ابن محمّدٍ-حدّثنا ابن عيّاشٍ -يعني إسماعيل-عن الحجّاج بن مروان الكلاعيّ، وعقيل بن مدركٍ السّلميّ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، رضي اللّه عنه، أنّ رجلًا جاءه فقال: أوصني فقال: سألت عمّا سألت عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من قبلك، أوصيك بتقوى اللّه، فإنّه رأس كلّ شيءٍ، وعليك بالجهاد فإنّه رهبانيّة الإسلام، وعليك بذكر اللّه وتلاوة القرآن، فإنّه روحك في السّماء وذكرك في الأرض. تفرّد به أحمد). [تفسير ابن كثير: 8/ 28-31]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:31 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة