العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة التوبة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 09:58 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي تفسير سورة التوبة [ من الآية (25) إلى الآية (27) ]

تفسير سورة التوبة
[ من الآية (25) إلى الآية (27) ]

بسم الله الرحمن الرحيم

{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) }


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 09:58 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الزهري عن كثير بن عباس بن عبد المطلب عن أبيه في قوله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم قال لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون فولى المسلمون يومئذ فلقد رأيت النبي وما معه أحد إلا أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذا بغرز رسول الله ورسول الله لا يألو ما أسرع نحو المشركين قال فأتيت حتى أخذت بلجامه وهو على بغلة له شهباء فكففتها فقال يا عباس ناد أصحاب السمرة قال فناديت وكنت رجلا صيتا فاديت بصوتي الأعلى أي أصحاب السمرة فأقبلوا كأهم الإبل إذا حنت إلى أولادها يقولون يا لبيك يا لبيك وأقبل المشركون فاقتتلوا والمسلمون ونادت الأنصار يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج فنظر النبي وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها ثم قال انهزموا ورب الكعبة انهزموا ورب الكعبة مرتين قال فوالله مازلت أرى أمرهم مدبرا وحدهم كليلا حتى هزمهم الله فكأني أنظر إلى النبي يركض خلفهم على بغلة له
قال الزهري وأخبرني ابن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي قال الزهري وأخبرني عروة أنهم جاءوا مسلمين بعد ذلك إلى النبي فقالوا يا نبي الله أنت خير الناس وأنت أبر الناس وقد أخذت أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا قال إن عندي من ترون وإن خير القول أصدقه قال فاختاروا مني إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقام النبي خطيبا فقال إن هؤلاء قد جاءوا مسلمين وإنا قد خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان عنده شيء فطابت نفسه أن يرده فبسبيل ذلك ومن أبي فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطه مكانه قالوا يا نبي الله رضينا وسلمنا قال إني لا أدري لعل فيكم من لم يرض فأمروا عرفاءكم فليرفعوا ذاكم إلينا فرفعت إليه أن قد رضوا وسلموا). [تفسير عبد الرزاق: 1/269-271]

قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتمّ مدبرين}.
يقول تعالى ذكره: لقد نصركم اللّه أيّها المؤمنون في أماكن حربٍ توطّنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرةٍ. {ويوم حنينٍ} يقول: وفي يوم حنينٍ أيضًا قد نصركم.
وحنينٌ: وادٍ فيما ذكر بين مكّة والطّائف، وأجري لأنّه مذكّرٌ اسم المذكّر، وقد يترك إجراؤه ويراد به أن يجعل اسمًا للبلدة الّتي هو بها، ومنه قول الشّاعر:
نصروا نبيّهم وشدّوا أزره = بحنين يوم تواكل الأبطال
- حدّثني عبد الوارث بن عبد الصّمد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا أبان العطّار، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: حنينٌ: وادٍ إلى جنب ذي المجاز.
{إذ أعجبتكم كثرتكم} وكانوا ذلك اليوم فيما ذكر لنا اثني عشر ألفًا.
وروي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذلك اليوم: لن نغلب من قلّةٍ وقيل: قال ذلك رجلٌ من المسلمين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو قول اللّه: {إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا} يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئًا.
{وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم. والباء هاهنا في معنى في ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها، يقال منه: مكانٌ رحيبٌ: أي واسعٌ، وإنّما سمّيت الرّحاب رحابًا لسعتها.
{ثمّ ولّيتمّ مدبرين} عن عدوّكم منهزمين مدبرين، يقول: ولّيتموهم الأدبار، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أنّ النّصر بيده ومن عنده، وأنّه ليس بكثرة العدد وشدّة البطش، وأنّه ينصر القليل على الكثير إذا شاء ويخلّي القليل فيهزم الكثير.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ} حتّى بلغ: {وذلك جزاء الكافرين} قال: وحنينٌ ماءٌ بين مكّة والطّائف قاتل عليها نبيّ اللّه هوازن وثقيفًا، وعلى هوازن مالك بن عوفٍ أخو بني نصرٍ، وعلى ثقيفٍ عبد ياليل بن عمرٍو الثّقفيّ. قال: وذكر لنا أنّه خرج يومئذٍ مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اثنا عشر ألفًا، عشرة آلافٍ من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطّلقاء، وذكر لنا أنّ رجلاً قال يومئذٍ لن نغلب اليوم بكثرةٍ، قال: وذكر لنا أنّ الطّلقاء انجفلوا يومئذٍ بالنّاس، وجلوا عن نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى نزل عن بغلته الشّهباء. وذكر لنا أنّ نبيّ اللّه قال: أي ربّ آتني ما وعدتني قال: والعبّاس آخذٌ بلجام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال له النّبيّ: ناد يا معشر الأنصار ويا معشر المهاجرين فجعل ينادي الأنصار فخذًا فخذًا، ثمّ نادى: يا أصحاب سورة البقرة، قال: فجاء النّاس عنقًا واحدًا. فالتفت نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وإذا عصابةٌ من الأنصار، فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبيّ اللّه، واللّه لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمنٍ لكنّا معك، ثمّ أنزل اللّه نصره، وهزم عدوّهم، وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول اللّه كفًّا من ترابٍ، أو قبضةً من حصباء، فرمى بها وجوه الكفّار، وقال: شاهت الوجوه، فانهزموا. فلمّا جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الغنائم، وأتى الجعرانة، فقسم بها مغانم حنينٍ، وتألّف أناسًا من النّاس فيهم أبو سفيان بن حربٍ والحارث بن هشامٍ وسهيل بن عمرٍو والأقرع بن حابسٍ، فقالت الأنصار: حنّ الرّجل إلى قومه، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في قبّةٍ له من أدمٍ، فقال: يا معشر الأنصار، ما هذا الّذي بلغني؟ ألم تكونوا ضلاّلاً فهداكم اللّه، وكنتم أذلّةً فأعزّكم اللّه وكنتم وكنتم قال: فقال سعد بن عبادة رحمه اللّه: ائذن لي فأتكلّم، قال: تكلّم قال: أمّا قولك: كنتم ضلاّلاً فهداكم اللّه، فكنّا كذلك، وكنتم أذلّةً فأعزّكم اللّه، فقد علمت العرب ما كان حيٌّ من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منّا، فقال الرّسول: يا سعد أتدري من تكلّم؟ فقال: نعم أكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار واديًا والنّاس واديًا لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. وذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: الأنصار كرشي وعيبتي، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم. ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب النّاس بالإبل والشّاء، وتنقلبون برسول اللّه إلى بيوتكم؟ فقالت الأنصار: رضينا عن اللّه ورسوله، واللّه ما قلنا ذلك إلاّ حرصًا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّ اللّه ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّ أمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الّتي أرضعته أو ظئره من بني سعد بن بكرٍ أتته فسألته سبايا يوم حنينٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّي لا أملكهم وإنّما لي منهم نصيبي، ولكن ائتيني غدًا فسليني والنّاس عندي، فإنّي إذا أعطيتك نصيبي أعطاك النّاس فجاءت الغد فبسط لها ثوبًا، فقعدت عليه، ثمّ سألته، فأعطاها نصيبه، فلمّا رأى ذلك النّاس أعطوها أنصباءهم.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ} الآية: إنّ رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ قال: يا رسول اللّه لن نغلب اليوم من قلّةٍ، وأعجبته كثرة النّاس، وكانوا اثني عشر ألفًا. فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فوكّلوا إلى كلمة الرّجل، فانهزموا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، غير العبّاس وأبي سفيان بن الحارث وأيمن ابن أمّ أيمن، قتل يومئذٍ بين يديه. فنادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أين الأنصار؟ أين الّذين بايعوا تحت الشّجرة؟ فتراجع النّاس، فأنزل اللّه الملائكة بالنّصر، فهزموا المشركين يومئذٍ، وذلك قوله: {ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها} الآية.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزّهريّ، عن كثير بن عبّاس بن عبد المطّلب، عن أبيه، قال: لمّا كان يوم حنينٍ التقى المسلمون والمشركون، فولّى المسلمون يومئذٍ، قال: فلقد رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وما معه أحدٌ إلاّ أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، آخذًا بغرز النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، لا يألو ما أسرع نحو المشركين. قال: فأتيت حتّى أخذت بلجامه وهو على بغلةٍ له شهباء، فقال: يا عبّاس ناد أصحاب السّمرة وكنت رجلاً صيّتًا، فأذّنت بصوتي الأعلى: أين أصحاب السّمرة؟ فالتفتوا كأنّها الإبل إذا حنّت إلى أولادها، يقولون: يا لبّيك يا لبّيك يا لبّيك، وأقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون، وتنادت الأنصار: يا معشر الأنصار، ثمّ قصرت الدّعوة في بني الحارث بن الخزرج، فتنادوا: يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم، فقال: هذا حين حمي الوطيس. ثمّ أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها، ثمّ قال: انهزموا وربّ الكعبة، انهزموا وربّ الكعبة قال: فواللّه ما زال أمرهم مدبرًا وحدّهم كليلاً حتّى هزمهم اللّه. قال: فلكأنّي أنظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يركض خلفهم على بغلته.
- حدّثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، عن الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، أنّهم أصابوا يومئذٍ ستّة آلاف سبيٍ، ثمّ جاء قومهم مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول اللّه، أنت خير النّاس، وأبرّ النّاس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّ عندي من ترون، وإنّ خير القول أصدقه، اختاروا إمّا ذراريّكم ونساءكم وإمّا أموالكم قالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئًا. فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: إنّ هؤلاء قد جاءوني مسلمين، وإنّا خيّرناهم بين الذّراريّ والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا، فمن كان بيده منهم شيءٌ فطابت نفسه أن يردّه فليفعل ذلك، ومن لا فليعطنا، وليكن قرضًا علينا حتّى نصيب شيئًا فنعطيه مكانه فقالوا: يا نبيّ اللّه رضينا وسلّمنا. فقال: إنّي لا أدري، لعلّ منكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا وسلّموا.
- حدّثنا عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا مؤمّلٌ، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، قال: حدّثنا يعلى بن عطاءٍ، عن أبي همّامٍ، عن أبي عبد الرّحمن، يعني الفهريّ، قال: كنت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة حنينٍ، فلمّا ركدت الشّمس لبست لأمتي وركبت فرسي، حتّى أتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في ظلّ شجرةٍ، فقلت: يا رسول اللّه قد حان الرّواح، فقال: أجل فنادى: يا بلال يا بلال فقام بلالٌ من تحت سمرةٍ، فأقبل كأنّ ظلّه ظلّ طيرٍ، فقال: لبّيك وسعديك، ونفسي فداؤك يا رسول اللّه، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أسرج فرسي فأخرج سرجًا دفّتاه حشوهما ليفٌ، ليس فيهما أشرٌ ولا بطرٌ. قال: فركب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فصاففناهم يومنا وليلتنا، فلمّا التقى الخيلان ولّى المسلمون مدبرين، كما قال اللّه، فنادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا عباد اللّه، يا معشر المهاجرين قال: ومال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن فرسه، فأخذ حفنةً من ترابٍ فرمى بها وجوههم، فولّوا مدبرين. قال يعلى بن عطاءٍ: فحدّثني أبناؤهم عن آبائهم أنّهم قالوا: ما بقي منّا أحدٌ إلاّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التّراب.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، وسأله رجلٌ من قيسٍ: فررتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ؟ فقال البراء: لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يفرّ، وكانت هوازن يومئذٍ رماةً، وإنّا لمّا حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسّهام، ولقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على بغلته البيضاء وإنّ أبا سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها، وهو يقول أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: سأله رجلٌ: يا أبا عمارة، ولّيتمّ يوم حنينٍ؟ فقال البراء وأنا أسمع: أشهد أنّ رسول اللّه لم يولّ يومئذٍ دبره، وأبو سفيان يقود بغلته، فلمّا غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب فما رئي يومئذٍ أحدٌ من النّاس كان أشدّ منه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني جعفر بن سليمان، عن عوفٍ الأعرابيّ، عن عبد الرّحمن مولى أمّ برثنٍ، قال: حدّثني رجلٌ كان من المشركين يوم حنينٍ، قال: لمّا التقينا نحن وأصحاب محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام لم يقفوا لنا حلب شاةٍ أن كشفناهم. فبينا نحن نسوقهم، إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء، فتلقّانا رجالٌ بيضٌ حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا، وركبنا القوم فكانت إيّاها.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن يعقوب، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: أمدّ اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين قال: ويومئذٍ سمّى اللّه الأنصار مؤمنين. قال: {أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها}.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا} قال: كانوا اثني عشر ألفًا.
- حدّثنا محمّد بن يزيد الآدميّ، قال: حدّثنا معن بن عيسى، عن سعيد بن السّائب الطّائفيّ، عن أبيه، عن يزيد بن عامرٍ، قال: لمّا كانت انكشافة المسلمين حين انكشفوا يوم حنينٍ، ضرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يده إلى الأرض، فأخذ منها قبضةً من ترابٍ، فأقبل بها على المشركين وهم يتّبعون المسلمين، فحثاها في وجوهم وقال: ارجعوا شاهت الوجوه قال: فانصرفنا ما يلقى أحدٌ أحدًا إلاّ وهو يمسح القذى عن عينيه.
- وبه عن يزيد بن عامرٍ السّوائيّ، قال: قيل له: يا أبا حاجزٍ، الرّعب الّذي ألقى اللّه في قلوب المشركين ماذا وجدتم؟ قال: وكان أبو حاجزٍ مع المشركين يوم حنينٍ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطّست فيطنّ، ثمّ يقول: كان في أجوافنا مثل هذا.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسن بن عرفة، قال: حدّثني المعتمر بن سليمان، عن عوفٍ، قال: سمعت عبد الرّحمن مولى أمّ برثنٍ أو أمّ مريم، قال: حدّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنينٍ، قال: لمّا التقينا نحن وأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ، لم يقوموا لنا حلب شاةٍ، قال: فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم، حتّى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. قال: فتلقّانا عنده رجالٌ بيضٌ حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا، فكانت إيّاها). [جامع البيان: 11/386-395]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين (25)
قوله تعالى: لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ
قوله: لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ أوّل ما أنزل من براءة يعرفهم بنصره ويوطّنهم لغزوة تبوك.
قوله تعالى: ويوم حنينٍ
[الوجه الأول]
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ- فيما كتب إليّ- ثنا أبي ثنا عمّي عن أبيه عن جدّه عن ابن عبّاسٍ قوله: ويوم حنينٍ وحنين فيما بين مكّة والمدينة. وروي عن الضّحّاك مثله.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد ثنا يزيد عن سعيدٍ عن قتادة قوله: ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم قال: وحنين ما بين مكّة والطّائف، قاتل نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هوازن وثقيفٍ وعلى هوازن: مالك بن عوفٍ أخو بني نصرٍ وعلى ثقيفٍ عبد ليل بن عمرو الثقفي.
- حدّثنا أبي ثنا عليّ بن نصرٍ الجهضميّ ثنا عبد الصّمد بن عبد الوارث ثنا أبان بن يزيد العطّار ثنا هشام بن عروة عن أبيه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أقام عام الفتح نصف شهرٍ ولم يزيد على ذلك، حتّى جاءته هوازن وثقيف فنزلوا بحنين، وحنين وادي إلى جنب ذي المجاز.
قوله تعالى: إذ أعجبتكم كثرتكم الآية.
- حدّثنا أبي ثنا عبد اللّه بن الزّبير الحميديّ ثنا سفيان قال: سمعت الزّهريّ يقول: أخبرني كثير بن عبّاسٍ عن أبيه قال: كنت مع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- يوم حنينٍ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على بغلته الّتي أهداها له الجذاميّ فلمّا ولّى المسلمون قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا عبّاس، ناد يا أصحاب السّمرة، يا أصحاب سورة البقرة، وكنت رجلا صيّتًا فقلت: يا أصحاب السّمرة، يا أصحاب سورة البقرة، فرجعوا عطفةً كعطفة البقر على أولادها وارتفعت الأصوات وهم يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار ثمّ قصرت الدّعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقال: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج، فتطاول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو على بغلته فقال: هذا حين حمى الوطيس، وهو يقول: قدمًا يا عبّاس، ثمّ أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حصياتٍ فرمى بهنّ، ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: انهزموا- وربّ الكعبة- قال سفيان: وربّ محمّدٍ.
- حدّثنا أبي ثنا محمّد بن الوزير بن الحكم السّلميّ ثنا خالد بن عبد الرّحمن المرّوذيّ حدّثنا مالك بن مغولٍ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ في قوله: ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فقال رجلٌ: لا نغلب اليوم لكثرةٍ.
- أخبرنا أحمد بن عثمان- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السدي ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم وأنّ رجلا ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم وأنّ رجلا من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم حنينٍ: يا رسول اللّه، لا نغلب اليوم من قلّةٍ، وأعجبه كثرة النّاس فكانوا اثني عشر ألفًا.
قوله تعالى: وضاقت عليكم الأرض بما رحبت
- حدّثنا المنذر بن شاذان ثنا أحمد بن إسحاق ثنا أبو الأشهب عن الحسن قوله: وضاقت عليكم الأرض بما رحبت قال: هكذا يقع ذنب المؤمن من قبله.
قوله تعالى: ثمّ ولّيتم مدبرين
- حدّثنا أبو زرعة ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ ثنا ابن لهيعة ثنا عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: ثمّ ولّيتم مدبرين يعني: منهزمين عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فبلغ فلال المسلمين مكّة، فلم يجعل اللّه لهم النّار وهذا بعد قتال أحدٍ). [تفسير القرآن العظيم: 6/1772-1774]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لقد نصركم الله في مواطن كثيرة قال هذا أول ما نزل من براءة يعرفهم نصره أو يوطئهم أو يوطنهم لغزوة تبوك). [تفسير مجاهد: 275]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 25 – 27
وأخرج الفريابي عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} قال: هي أول ما أنزل الله تعالى من سورة براءة.
وأخرج ابن أبي شيبة وسنيد، وابن حرب، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه قال: أول ما نزل من براءة {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} يعرفهم نصره ويوطنهم لغزوة تبوك
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} قال: هذا مما يمن الله به عليهم من نصره إياهم في مواطن كثيرة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه قال {حنين} ماء بين مكة والطائف قاتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم هوازن وثقيف وعلى هوازن مالك بن عوف وعلى ثقيف عبد يا ليل بن عمرو الثقفي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة رضي الله عنه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقام عام الفتح نصف شهر ولم يزد على ذلك حتى جاءته هوازن وثقيف فنزلوا بحنين وحنين واد إلى جنب ذي المجاز.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه قال لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا: الآن والله نقاتل حين اجتمعنا فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم فالتقوا فهزمهم الله حتى ما يقوم منهم أحد على أحد حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أحياء العرب إلي فوالله ما يعرج إليه أحد حتى أعرى موضعه فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية ناحية فناداهم: يا أنصار الله وأنصار رسوله إلى عباد الله أنا رسول الله فعطفوا وقالوا: يا رسول الله ورب الكعبة إليك والله فنكسوا رؤوسهم يبكون وقدموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليهم.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع رضي الله عنه أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم}
قال الربيع: وكانوا اثني عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة وأحمد البغوي في معجمه، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي عبد الرحمن الفهري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر فلما زالت الشمس لبست لامتي وركبت فرسي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته قد حان الرواح يا رسول الله، قال أجل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، فثار من تحت سمرة كان ظله ظل طائر فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك، ثم قال: أسرج لي فرسي، فأتاه بدفتين من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر قال: فركب فرسه ثم سرنا يومنا فلقينا العدو وتشامت الخيلان فقاتلناهم فولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه وحدثني من كان أقرب إليه مني: أنه أخذ حفنة من تراب فحثاها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه، قال يعلى بن عطاء رضي الله عنه: فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد فهزمهم الله عز وجل.
وأخرج الطبراني والحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى الناس عنه وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا نحو من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته فمضى قدما فقال ناولني كفا من تراب، فناولته فضرب وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا وولى المشركون أدبارهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس رضي الله عنه، أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء والصبيان والإبل والغنم فجعلوهم صفوفا ليكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقى المسلمون والمشركون فولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله ثم قال: يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله فهزم الله المشركين ولم يضرب بسيف ولم يطعن برمح.
وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد وأحمد ومسلم والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلقد رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب فلزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه وهو على بلغته الشهباء التي أهداها له فروة بن معاوية الجذامي فلما التقى المسلمون والمشركون ولي المسلمون مدبرين وطفق النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين وأبو سفيان بن الحرث آخذ بغرز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس نادي أصحاب السمرة يا أصحاب سورة البقرة فوالله لكأني عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ينادون يا لبيك يا لبيك فأقبل المسلمون فاقتتلوا هم والكفار وارتفعت الأصوات وهم يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحرث بن الخزرج فتطاول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته فقال: هذا حين حمى الوطيس ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى فما هو إلا أن رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصيات فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا حتى هزمهم الله عز وجل.
وأخرج الحاكم وصححه، عن جابر رضي الله عنه قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين الأنصار فقال: يا معشر الأنصار، فأجابوه لبيك - بأبينا أنت وأمنا - يا رسول الله، قال أقبلوا بوجوهكم إلى الله ورسوله يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، فأقبلوا ولهم حنين حتى أحدقوا به كبكبة تحاك مناكبهم يقاتلون حتى هزم الله المشركين
وأخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم فقال القوم: اليوم والله نقاتل فلما التقوا واشتد القتال ولوا مدبرين فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال: يا معشر المسلمين إلي عباد الله أنا رسول الله، فقالوا: إليك - والله - جئنا فنكسوا رؤوسهم ثم قاتلوا حتى فتح الله عليهم.
وأخرج الحاكم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من بعير ثم قال: أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر
هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة وعليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الأنفال ويقول: ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيتنا يوم حنين وإن الفئتين لموليتان وعن عكرمة قال: لما كان يوم حنين ولى المسلمون وولى المشركون وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا محمد رسول الله ثلاث مرات - وإلى جنبه عمه العباس - فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمه: يا عباس أذن يا أهل الشجرة فأجابوه من كل مكان لبيك لبيك حتى أظلوه برماحهم ثم مضى فوهب الله له الظفر فأنزل الله {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} الآية.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله بن عمير الليثي رضي الله عنه قال كان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف من الأنصار وألف من جهينة وألف من مزينة وألف من أسلم وألف من غفار وألف من أشجع وألف من المهاجرين وغيرهم فكان معه عشرة آلاف، وخرج باثني عشر ألفا وفيها قال الله تعالى في كتابه {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا}.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم، وابن مردويه عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قيل له: هل كنتم وليتم يوم حنين قال: والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح فلقوا جمعا رماة هوازن وبني النضر ما يكاد يسقط لهم سهم فرشقوهم رشقا ما كادوا يخطئون فأقبلوا هنالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب يقود به فنزل ودعا واستنصر ثم قال:
أنا النّبيّ لا كذب * أنا ابن عبد المطلب ثم صف أصحابه). [الدر المنثور: 7/294-302]

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لّم تروها وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}.
يقول تعالى ذكره: ثمّ من بعد ما ضاقت عليكم الأرض بما رحبت وتوليتكم الأعداء أدباركم، كشف اللّه نازل البلاء عنكم، بإنزاله السّكينة وهي الأمنة والطّمأنينة عليكم. وقد بيّنّا أنّها فعيلةٌ من السّكون فيما مضى من كتابنا هذا قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
{وأنزل جنودًا لم تروها} وهي الملائكة الّتي ذكرت في الأخبار الّتي قد مضى ذكرها. {وعذّب الّذين كفروا} يقول: وعذّب اللّه الّذين جحدوا وحدانيّته ورسالة رسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم بالقتل وسبي الأهلين والذّراريّ وسلب الأموال والذّلّة. {وذلك جزاء الكافرين} يقول: هذا الّذي فعلنا بهم من القتل والسّبي جزاء الكافرين، يقول: هو ثواب أهل جحود وحدانيّته ورسالة رسوله.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وعذّب الّذين كفروا} يقول: قتلهم بالسّيف.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو داود الحفريّ، عن يعقوب، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ: {وعذّب الّذين كفروا} قال: بالهزيمة والقتل.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} قال: من بقي منهم). [جامع البيان: 11/395-396]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26)
قوله تعالى: ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله
- (*) حدّثنا أبي ثنا يحيى بن المغيرة ثنا جريرٌ عن يعقوب عن جعفرٍ عن سعد بن جبيرٍ قال: في يوم حنينٍ أمدّ اللّه تعالى رسوله بخمسة آلافٍ من الملائكة مسوّمين ويومئذٍ سمّى اللّه الأنصار مؤمنين فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين
قوله تعالى: وأنزل جنودًا لم تروها
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: وأنزل جنودًا لم تروها قال: هم الملائكة.
قوله تعالى: وعذّب الّذين كفروا
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ حدّثنا أبو داود الحفريّ عن يعقوب القمّيّ عن جعفرٍ عن سعيد بن جبيرٍ وعذّب الّذين كفروا قال: بالهزيمة.
- حدّثنا أبي ثنا يحيى الحمّانيّ ثنا يعقوب عن جعفرٍ عن ابن أبزيّ في قوله: وعذّب الّذين كفروا قال: بالهزيمة والقتل.
- أخبرنا أحمد بن عثمان الأوديّ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ وعذّب الّذين كفروا قال: قتلهم بالسّيف.
قوله تعالى: وذلك جزاء الكافرين
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ- فيما كتب إليّ- أنبأ أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيدٍ يقول في قول اللّه: وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين قال: من بقي منهم). [تفسير القرآن العظيم: 6/1774]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله {وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا} قال: قتلهم بالسيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: في يوم حنين أمد
الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ويومئذ سمى الله تعالى الأنصار مؤمنين قال {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين}.
وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: رأيت قبل هزيمة القوم - والناس يقتتلون - مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة عليهم السلام ولم يكن إلا هزيمة القوم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله {وعذب الذين كفروا} قال: بالهزيمة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن أبزي رضي الله عنه في قوله {وعذب الذين كفروا} قال: بالهزيمة والقتل، وفي قوله {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} قال: على الذين انهزموا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
وأخرج ابن سعد والبخاري في التاريخ والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن عياض بن الحرث عن أبيه، قال: أن رسول صلى الله عليه وسلم أتى هوازن في اثني عشر ألفا فقتل من الطائف يوم حنين مثل قتلى يوم بدر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فرمى بها وجوهنا فانهزمنا.
وأخرج أحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فلما واجهنا العدو وتقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميته بسهم فتوارى عني فما دريت ما صنع فنظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم وأصحاب والنبي صلى الله عليه وسلم وأنا متزر وأرجع منهزما وعلي بردتان متزرا بإحدهما مرتديا بالأخرى فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأى ابن الأكوع فزعا فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله تعالى وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين.
وأخرج البخاري في التاريخ والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن سفيان الثقفي رضي
الله عنه قال قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الحصى فرمى بها في وجوهنا فانهزمنا فما خيل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا.
وأخرج البخاري في التاريخ، وابن مردويه والبيهقي عن يزيد بن عامر السوائي - وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم - قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الأرض فرمى بها في وجوه المشركين وقال: ارجعوا شاهت الوجوه فما أحد يلقاه أخوه إلا وهو يشكو قذى في عينيه ويمسح عينيه.
وأخرج مسدد في مسنده والبيهقي، وابن عساكر عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال: حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة إلا كفيناهم فبينا نحن نسوقهم في أدبارهم إذ التقينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقتنا عنده رجال بيض حسان الوجوه قالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا وكانت إياها.
وأخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق حدثنا أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أنه حدث أن مالك بن عوف رضي الله عنه بعث عيونا فأتوه وقد تقطعت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم فقالوا: أتانا رجال بيض على خيل بلق فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي، وابن عساكر عن مصعب بن شيبة بن عثمان الحجبي عن أبيه قال خرجت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما خرجت إسلاما ولكن خرجت اتقاء أن تظهر هوازن على قريش فوالله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت: يا نبي الله إني لأرى خيلا بلقا، قال: يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر، فضرب بيده عند صدري حتى ما أجد من خلق الله تعالى أحب إلي منه فقال: فالتقى المسلمون فقتل من قتل ثم أقبل النّبيّ وعمر رضي الله عنه آخذ باللجام والعباس آخذ بالغرز فنادى العباس رضي الله عنه: أين المهاجرون أين أصحاب سورة البقرة - بصوت عال - هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
أنا النّبيّ غير كذب * أنا ابن عبد المطلب
فأقبل المسلمون فاصطكوا بالسيوف فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس). [الدر المنثور: 7/302-306]

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء واللّه غفورٌ رحيمٌ}.
يقول تعالى ذكره: ثمّ يتفضّل اللّه بتوفيقه للتّوبة والإنابة إليه من بعد عذابه الّذي به عذّب من هلك منهم قتلاً بالسّيف على من يشاء، أي يتوب اللّه على من يشاء من الأحياء يقبل به إلى طاعته. {واللّه غفورٌ} لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها. {رحيمٌ} بهم فلا يعذّبهم بعد توبتهم، ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم). [جامع البيان: 11/396]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء واللّه غفورٌ رحيمٌ (27)
قوله تعالى: ثمّ يتوب اللّه
- ذكر عن أبي داود الحفريّ عن يعقوب عن جعفرٍ عن ابن أبزى ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء قال: على الّذين انهزموا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: يتوب اللّه يعني: يتجاوز.
قوله تعالى: واللّه غفورٌ رحيمٌ
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ ثنا محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة قال محمّد بن إسحاق: واللّه غفورٌ أي يغفر الذّنب رحيمٌ يرحم العباد على ما فيهم). [تفسير القرآن العظيم: 6/1775]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن أبزي رضي الله عنه في قوله {وعذب الذين كفروا} قال: بالهزيمة والقتل، وفي قوله {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} قال: على الذين انهزموا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين). [الدر المنثور: 7/303] (م)


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 10:00 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ...}
نصبت المواطن لأن كلّ جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان فهو لا يجري؛ مثل صوامع، ومساجد، وقناديل، وتماثيل، ومحاريب. وهذه الياء بعد الألف لا يعتدّ بها؛ لأنها قد تدخل فيما ليست هي منه، وتخرج ممّا هي منه، فلم يعتدّوا بها؛ إذ لم تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أنه مثال لم يأت عليه شيء من الأسماء المفردة، وأنه غاية للجماع؛ إذا انتهى الجماع إليه فينبغي له ألاّ يجمع. فذلك أيضا منعه من الانصراف؛ ألا ترى أنك لا تقول: دراهمات، ولا دنانيرات، ولا مساجدات. وربّما اضطرّ إليه الشاعر فجمعه. وليس يوجد في الكلام ما يجوز في الشعر. قال الشاعر:
* فهنّ يجمعن حدائداتها *
فهذا من المرفوض إلا في الشعر.
ونعت {المواطن} إذا لم يكن معتلاّ جرى. فلذلك قال: {كثيرةٍ}.
[قوله: {ويوم حنينٍ} وحنين وادٍ بين مكة والطائف. وجرى {حنين} لأنه اسم لمذكّر. وإذا سمّيت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكّر لا علّة فيه أجريته. من ذلك حنين، وبدر، وأحد، وحراء، وثبير، ودابق، وواسط. وإنما سمّى واسطا بالقصر الذي بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد البلدة أو اسما مؤنّثا لقال: واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحنين وبدر، اسما لبلدته التي هو بها فلا يجرونه؛ وأنشدني بعضهم:
نصروا نبيّهم وشدّوا أزره =بحنين يوم تواكل الأبطال
وقال الآخر:
ألسنا أكرم الثّقلين رجلا= وأعظمه ببطن حراء نارا
فجعل حراء اسما للبلدة التي هو بها، فكان مذكرا يسمى به مؤنّث فلم يجر. وقال آخر:

لقد ضاع قوم قلّدوك أمورهم =بدابق إذ قيل العدوّ قريب
رأوا جسدا ضخما فقالوا مقاتل =ولم يعلموا أن الفؤاد نخيب
ولو أردت ببدر البلدة لجاز أن تقول مررت ببدر يا هذا). [معاني القرآن: 1/428-429]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مّدبرين}
وقال: {في مواطن كثيرةٍ} لا تنصرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف وبعد الألف حرف ثقيل أو اثنان خفيفان فصاعدا فهو لا ينصرف في المعرفة ولا النكرة نحو "محاريب" و"تماثيل" و"مساجد" وأشباه ذلك إلا أن يكون في آخره الهاء فإن كانت في آخره الهاء انصرف في النكرة نحو "طيالسة" و"صياقلة". وإنما منع العرب من صرف هذا الجمع أنه مثال لا يكون للواحد ولا يكون إلا للجمع والجمع أثقل من الواحد. فلما كان هذا المثال لا يكون إلا للأثقل لم يصرف. وأما الذي في آخره الهاء فانصرف لأنها منفصلة كأنها اسم على حيالها. والانصراف إنما يقع في آخر الاسم فوقع على الهاء فلذلك انصرف فشبه بـ"حضرموت" و"حضرموت" مصروف في النكرة). [معاني القرآن: 2/30]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين}
أي وفي حنين، أي ونصركم في يوم حنين، وحنين: اسم واد بين مكة والطائف.
وقوله: {في مواطن كثيرة} أي في أمكنة، كقولك في مقامات.
تقول استوطن فلان بالمكان إذا أقام فيه.
وزعم بعض النحويين أن {مواطن} لم ينصرف ههنا لأنه جمع.
وأنها لا تجمع.
قال أبو إسحاق: وإنما لم تجمع لأنها لا تدخل عليها الألف والتاء، لا نقول مواطنات، ولا حدائدات إلا في شعر، وإنما سمع قول الخليل أنه جمع لا يكون عنى مثال الواحد، وتأويله عند الخليل أن الجموع أبدا تتناهى إليه فليس بعده جمع، لو كسرت أي جمعت على التكسير أقوال، فقلت أقاويل لم يتهيأ لك أن تكسر أقاويل، ولكنك قد تقول أقاويلات.
قال الشاعر:
فهنّ يعلكنّ حدائداتها
وإنما لم ينصرف {مواطن} عند الخليل لأنه جمع وأنه ليس على مثال.
الواحد ومعنى ليس على مثال الواحد، أي ليس في ألفاظ الواحد ما جاء على لفظه وأنه لا يجمع كما يجمع الواحد جمع تكسير.
ومعنى الآية أن اللّه جلّ وعزّ أعلمهم أنّه ليس بكثرتهم يغلبون وأنهم إنما يغلبون بنصر اللّه إياهم فقال جلّ وعزّ:
{ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا}.
يروى أنهم كانوا اثني عشر ألفا في ذلك اليوم، وقال بعضهم: كانوا عشرة آلاف فأعجبوا بكثرتهم، فجعل الله عقوبتهم على إعجابهم بالكثرة - وقولهم: " لن نغلب اليوم من قلّة بأن رعّبهم حتى ولّوا مدبرين، فلم يبق مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب، ثم أنزل اللّه عليهم السكينة حتى عادوا وظفروا فأراهم اللّه في ذلك اليوم من آياته ما زادهم تبيينا بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: {إنّما يعمر مساجد اللّه}.
وقرئت مسجد اللّه، فمن قرأ (مسجد اللّه) عنى به المسجد الحرام ودخل معه غيره، كما تقول: ما أسهل على فلان إنفاق الدّرهم والدينار، أي هذا الجنس سهل عليه إنفاقه.
ويجوز أن يكون مساجد الله يعني به المسجد الحرام، كما تقول إذا
ركب الرجل الفرس، قد صار فلان يركب الخيل، فعلى هذا تجري الأسماء التي تعبّر عن الأجناس). [معاني القرآن: 2/439-441]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة}
أي في أماكن ومنه استوطن فلان المكان أي أقام به). [معاني القرآن: 3/194]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( ثم قال جل وعز: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم}
أي ونصركم يوم حنين
قال قتادة حنين اسم ماء بين مكة والطائف قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار وألفين من الطلقاء فقال رجل لن تغلبوا اليوم فتفرق أكثرهم ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم فأجيب ونصر فأعلمهم الله جل وعز أنهم لم يغلبوا من كثرة وإنما يغلبون بأن ينصرهم الله). [معاني القرآن: 3/194]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( {بما رحبت} أي: اتسعت، يقال منه: فعل يفعل فعلا). [ياقوتة الصراط: 242]

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) )
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {أنزل الله سكينته} مجازه مجاز فعليه من السكون، قال أبو عريف الكليبيّ:
لله قبرٌ غالها ماذا يجنّ... لقد أجنّ سكينةً ووقارا). [مجاز القرآن: 1/254 -255]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {سكنيته}: من السكون). [غريب القرآن وتفسيره: 162]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {سَكِينَتَهُ}: التثبيت والنصر). [العمدة في غريب القرآن: 147]

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 10:02 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]


تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) }

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) }
تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) }

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 10:02 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 10:03 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:30 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:30 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين (25) ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء واللّه غفورٌ رحيمٌ (27)
هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم، ومواطن جمع موطن بكسر الطاء، والموطن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة، و «المواطن» المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة، ولم يصرف مواطن لأنه جمع ونهاية جمع، ويوم عطف على موضع قوله في مواطن أو على لفظة بتقدير وفي يوم، فانحذف حرف الخفض، وحنينٍ واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [حسان رضي الله عنه]: [الكامل]
نصروا نبيّهم وشدّوا أزره = بحنين يوم تواكل الأبطال
وقوله إذ أعجبتكم كثرتكم روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفا قال: لن نغلب اليوم من قلة، وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس، ثم عطف القدر بنصره، وقوله وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها، ف «ما» مصدرية، وقوله ثمّ ولّيتم مدبرين يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفا سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصافّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي، فانهزم المسلمون، قال قتادة: ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء، وقال أبو عبد الرحمن الفهري: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وبين يديه أيمن بن أم أيمن، وثم قتل رحمه الله، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض، قاله البراء بن عازب، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه، وقال عبد الرحمن: تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة، فرجع الناس عنقا واحدا وانهزم المشركون، قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير.
وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفا، وهذا غلط، ومدبرين نصب على الحال المؤكدة كقوله: وهو الحقّ مصدّقاً [البقرة: 91] والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الأدبار). [المحرر الوجيز: 4/ 283-285]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ثمّ أنزل اللّه سكينته الآية، ثمّ هاهنا على بابها من الترتيب، و «السكينة» النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس والحال، والإشارة بالمؤمنين إلى الأنصار على ما روي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى في ذلك اليوم يا معشر الأنصار، فانصرفوا وهم ردوا الهزيمة، و «الجنود» الملائكة، و «الرعب» قال أبو حاجز يزيد بن عامر: كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب، «وعذاب الذين كفروا» هو القتل الذي استحرّ فيهم والأسر الذي تمكن في ذراريهم، وكان مالك بن عوف النصري قد أخرج الناس بالعيال والذراري ليقاتلوا عليها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة، وقال لمالك بن عوف راعي ضأن وهل يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد بن الصمة القتلة المشهورة، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي، ويقال ابن الدغنة). [المحرر الوجيز: 4/ 285-286]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء إعلام بأن من أسلم وتاب من الكفار الذين نجوا ذلك اليوم فإنهم مقبولون مسلمون موعودون بالغفران والرحمة). [المحرر الوجيز: 4/ 286]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:30 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:31 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين (25) ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26)}
قال ابن جريج، عن مجاهدٍ: هذه أوّل آيةٍ نزلت من [سورة] "براءة".
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إيّاهم في مواطن كثيرةٍ من غزواتهم مع رسوله وأنّ ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بعددهم ولا بعددهم ونبّههم على أنّ النّصر من عنده، سواءٌ قلّ الجمع أو كثر، فإنّ يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئًا فولّوا مدبرين إلّا القليل منهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ثمّ أنزل [اللّه] نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الّذين معه، كما سنبيّنه إن شاء اللّه تعالى مفصّلًا ليعلمهم أنّ النّصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإنّ قلّ الجمع، فكم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن اللّه، واللّه مع الصّابرين.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا وهب بن جريرٍ، حدّثنا أبي، سمعت يونس يحدّث عن الزّهريّ، عن عبيد اللّه، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "خير الصّحابة أربعةٌ، وخير السّرايا أربعمائةٍ، وخير الجيوش أربعة آلافٍ، ولن تغلب اثنا عشر ألفًا من قلّةٍ".
وهكذا رواه أبو داود، والتّرمذيّ ثمّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا يسنده كبير أحدٍ غير جرير بن حازمٍ، وإنّما روي عن الزّهريّ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مرسلًا.
وقد رواه ابن ماجه والبيهقيّ وغيره، عن أكثم بن الجون، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، بنحوه واللّه أعلم.
وقد كانت وقعة: "حنين" بعد فتح مكّة في شوّالٍ سنة ثمانٍ من الهجرة، وذلك لمّا فرغ عليه السّلام من فتح مكّة، وتمهّدت أمورها، وأسلم عامّة أهلها، وأطلقهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه، وأنّ أميرهم مالك بن عوفٍ النّضري، ومعه ثقيف بكمالها، وبنو جشم وبنو سعد بن بكرٍ، وأوزاعٌ من بني هلالٍ، وهم قليلٌ، وناسٌ من بني عمرو بن عامرٍ، وعوف بن عامرٍ، وقد أقبلوا معهم النّساء والولدان والشّاء والنّعم، وجاءوا بقضّهم وقضيضهم فخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في جيشه الّذي جاء معه للفتح، وهو عشرة آلافٍ من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الّذين أسلموا من أهل مكّة، وهم الطّلقاء في ألفين أيضًا، فسار بهم إلى العدوّ، فالتقوا بوادٍ بين مكّة والطّائف يقال له "حنينٌ"، فكانت فيه الوقعة في أوّل النّهار في غلس الصّبح، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلمّا تواجهوا لم يشعر المسلمون إلّا بهم قد ثاوروهم ورشقوا بالنّبال، وأصلتوا السّيوف، وحملوا حملة رجلٍ واحدٍ، كما أمرهم ملكهم. فعند ذلك ولّى المسلمون مدبرين، كما قال اللّه، عزّ وجلّ وثبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو راكبٌ يومئذٍ بغلته الشّهباء يسوقها إلى نحر العدوّ، والعبّاس عمّه آخذٌ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب آخذٌ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلّا تسرع السّير، وهو ينوّه باسمه، عليه الصّلاة والسّلام، ويدعو المسلمين إلى الرّجعة [ويقول]:" أين يا عباد اللّه؟ إليّ أنا رسول اللّه"، ويقول في تلك الحال:
أنا النّبيّ لا كذب = أنا ابن عبد المطّلب
وثبت معه من أصحابه قريبٌ من مائةٍ، ومنهم من قال: ثمانون، فمنهم: أبو بكرٍ، وعمر، رضي اللّه عنهما، والعبّاس وعليٌّ، والفضل بن عبّاسٍ، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أمّ أيمن، وأسامة بن زيدٍ، وغيرهم، رضي اللّه عنهم ثمّ أمر صلّى اللّه عليه وسلّم عمّه العبّاس -وكان جهير الصّوت -أن ينادي بأعلى صوته: يا أصحاب الشّجرة -يعني شجرة بيعة الرّضوان، الّتي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على ألّا يفرّوا عنه -فجعل ينادي بهم: يا أصحاب السّمرة ويقول تارةً: يا أصحاب سورة البقرة، فجعلوا يقولون: يا لبيك، يا لبيك، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى إنّ الرّجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرّجوع، لبس درعه، ثمّ انحدر عنه، وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فلمّا رجعت شرذمةٌ منهم، أمرهم عليه السّلام أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضةً من التّراب بعدما دعا ربّه واستنصره، وقال: "اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني" ثمّ رمى القوم بها، فما بقي إنسانٌ منهم إلّا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثمّ انهزموا، فاتّبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقيّة النّاس إلّا والأسارى مجدّلةٌ بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد بن سلمة، أخبرنا يعلى بن عطاءٍ، عن عبد اللّه بن يسارٍ أبي همّامٍ، عن أبي عبد الرّحمن الفهريّ -واسمه يزيد بن أسيدٍ، ويقال: يزيد بن أنيس، ويقال: كرز -قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة حنينٍ، فسرنا في يومٍ قائظٍ شديد الحرّ، فنزلنا تحت ظلال الشّجر، فلمّا زالت الشّمس لبست لأمتي وركبت فرسي، فانطلقت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في فسطاطه، فقلت: السّلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه، حان الرّواح؟ فقال: "أجل". فقال: "يا بلال" فثار من تحت سمرةٍ كأنّ ظلّه ظلّ طائرٍ، فقال: لبّيك وسعديك، وأنا فداؤك فقال: "أسرج لي فرسي". فأخرج سرجًا دفّتاه من ليفٍ، ليس فيهما أشرٌ ولا بطر.
قال: فأسرج، فركب وركبنا، فصاففناهم عشيّتنا وليلتنا، فتشامّت الخيلان، فولّى المسلمون مدبرين، كما قال اللّه، عزّ وجلّ: (ثمّ ولّيتم مدبرين) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا عباد اللّه، أنا عبد اللّه ورسوله"، ثمّ قال: " يا معشر المهاجرين، أنا عبد اللّه ورسوله". قال: ثمّ اقتحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن فرسه فأخذ كفًّا من ترابٍ، فأخبرني الّذي كان أدنى إليه منّي: أنّه ضرب به وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه". فهزمهم اللّه عزّ وجلّ. قال يعلى بن عطاءٍ: فحدّثني أبناؤهم، عن آبائهم، أنّهم قالوا: لم يبق منّا أحدٌ إلّا امتلأت عيناه وفمه ترابًا، وسمعنا صلصلةً بين السّماء والأرض، كإمرار الحديد على الطّست الجديد.
وهكذا رواه الحافظ البيهقيّ في "دلائل النّبوّة" من حديث أبي داود الطّيالسيّ، عن حمّاد بن سلمة به
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرّحمن بن جابرٍ، عن أبيه جابرٍ عن عبد اللّه قال: فخرج مالك بن عوفٍ بمن معه إلى حنينٍ، فسبق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه، فأعدّوا وتهيّئوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، حتّى انحطّ بهم الوادي في عماية الصّبح، فلمّا انحطّ النّاس ثارت في وجوههم الخيل، فاشتدّت عليهم، وانكفأ النّاس منهزمين، لا يقبل أحدٌ عن أحدٍ، وانحاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذات اليمين يقول: "أيّها النّاس هلمّوا إليّ أنا رسول اللّه، أنا رسول اللّه، أنا محمّد بن عبد اللّه" فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضًا فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر الناس قال: "يا عبّاس، اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السّمرة". فأجابوه: لبّيك، لبّيك، فجعل الرّجل يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه في عنقه، ويأخذ سيفه وقوسه، ثمّ يؤمّ الصّوت، حتّى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائةٌ، فاستعرض الناس فاقتتلوا، وكانت الدّعوة أوّل ما كانت بالأنصار، ثمّ جعلت آخرًا بالخزرج وكانوا صبرًا عند الحرب، وأشرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم، فقال: "الآن حمي الوطيس": قال: فواللّه ما راجعه النّاس إلّا والأسارى عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ملقون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء اللّه على رسوله أموالهم وأبناءهم.
وفي الصّحيحين من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازبٍ، رضي اللّه عنهما، أنّه قال له رجلٌ: يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ، فقال: لكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يفرّ، إنّ هوازن كانوا قومًا رماة، فلمّا لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل النّاس على الغنائم، فاستقبلونا بالسّهام، فانهزم النّاس، فلقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو سفيان بن الحارث آخذٌ بلجام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم البيضاء، وهو يقول:
أنا النّبيّ لا كذب = أنا ابن عبد المطّلب
قلت: وهذا في غاية ما يكون من الشّجاعة التّامّة، إنّه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، هو مع ذلك على بغلةٍ وليست سريعة الجري، ولا تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهربٍ، وهو مع هذا أيضًا يركضها إلى وجوههم وينوّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه، صلوات اللّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدّين، وما هذا كلّه إلّا ثقةً باللّه، وتوكّلًا عليه، وعلمًا منه بأنّه سينصره، ويتمّ ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان؛ ولهذا قال تعالى: (ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله) أي: طمأنينته وثباته على رسوله، (وعلى المؤمنين) أي: الّذين معه، (وأنزل جنودًا لم تروها) وهم الملائكة، كما قال الإمام أبو جعفر بن جريرٍ: [حدّثنا القاسم قال] حدّثني الحسن بن عرفة قال: حدّثني المعتمر بن سليمان، عن عوفٍ -هو ابن أبي جميلة الأعرابيّ -قال: سمعت عبد الرّحمن مولى ابن برثن، حدّثني رجلٌ كان مع المشركين يوم حنينٍ قال: لمّا التقينا نحن وأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ لم يقوموا لنا حلب شاةٍ -قال: فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم، حتّى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -قال: فتلقّانا عنده رجالٌ بيضٌ حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا. قال: فانهزمنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إيّاها.
وقال الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ: أنبأنا أبو عبد اللّه الحافظ، حدّثني محمّد بن أحمد بن بالويه، حدّثنا إسحاق بن الحسن الحربيّ حدّثنا عفّان بن مسلمٍ، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، حدّثنا الحارث بن حصيرة، حدّثنا القاسم بن عبد الرّحمن، عن أبيه قال: قال ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنين، فولّى عنه النّاس، وبقيت معه في ثمانين رجلًا من المهاجرين والأنصار، قدمنا ولم نولّهم الدّبر، وهم الّذين أنزل اللّه عليهم السّكينة. قال: ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على بغلته يمضي قدما، فحادت بغلته، فمال عن السّرج، فقلت: ارتفع رفعك اللّه. قال: "ناولني كفًّا من التّراب". فناولته، قال: فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم ترابًا، قال: "أين المهاجرون والأنصار؟ " قلت: هم هناك. قال: "اهتف بهم". فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم، كأنّها الشّهب، وولّى المشركون أدبارهم.
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفّان، به نحوه
وقال الوليد بن مسلمٍ: حدّثني عبد اللّه بن المبارك، عن أبي بكرٍ الهذلي، عن عكرمة مولى ابن عبّاسٍ، عن شيبة بن عثمان قال: لمّا رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ قد عرى، ذكرت أبي وعمّي وقتل عليٍّ وحمزة إيّاهما، فقلت: اليوم أدرك ثأري منه -قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعبّاس بن عبد المطّلب قائمًا، عليه درعٌ بيضاء كأنّها فضّةٌ، يكشف عنها العجاج، فقلت: عمّه ولن يخذله -قال: فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، فقلت: ابن عمّه ولن يخذله. فجئته من خلفه، فلم يبق إلّا أن أسوّره سورةً بالسّيف، إذ رفع لي شواظ من نارٍ بيني وبينه، كأنّه برقٌ، فخفت أن تمحشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال: "يا شيب، يا شيب ادن منّي اللّهمّ أذهب عنه الشّيطان". قال: فرفعت إليه بصري، ولهو أحبّ إليّ من سمعي وبصري، فقال: "يا شيب قاتل الكفّار".
رواه البيهقيّ من حديث الوليد، فذكره ثمّ روى من حديث أيّوب بن جابرٍ، عن صدقة بن سعيدٍ، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ، واللّه ما أخرجني إسلامٌ ولا معرفةٌ به، ولكنّي أبيت أن تظهر هوازن على قريشٍ، فقلت وأنا واقفٌ معه: يا رسول اللّه، إنّي أرى خيلًا بلقا، فقال: "يا شيبة، إنّه لا يراها إلّا كافرٌ". فضرب بيده في صدري، ثمّ قال: "اللّهمّ، اهد شيبة"، ثمّ ضربها الثّانية، ثمّ قال: "اللّهمّ، اهد شيبة"، ثمّ ضربها الثّالثة ثمّ قال: "اللّهمّ اهد شيبة". قال: فواللّه ما رفع يده عن صدري في الثّالثة حتّى ما كان أحدٌ من خلق اللّه أحبّ إليّ منه، وذكر تمام الحديث، في التقاء النّاس وانهزام المسلمين ونداء العبّاس واستنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى هزم الله المشركين
قال محمّد بن إسحاق: حدّثني والدي إسحاق بن يسار، عمّن حدّثه، عن جبير بن مطعمٍ، رضي اللّه عنه، قال: إنّا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنينٍ، والنّاس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السّماء، حتّى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نملٌ منثورٌ قد ملأ الوادي، فلم يكن إلّا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة.
وقال سعيد بن السّائب بن يسارٍ، عن أبيه قال: سمعت يزيد بن عامرٍ السّوائي -وكان شهد حنينًا مع المشركين ثمّ أسلم بعد -فكنّا نسأله عن الرّعب الّذي ألقى اللّه في قلوب المشركين يوم حنينٍ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطّست فيطنّ، فيقول كنّا نجد في أجوافنا مثل هذا.
وقد تقدّم له شاهدٌ من حديث يزيد بن أبي أسيدٍ فاللّه أعلم.
وفي صحيح مسلمٌ، عن محمّد بن رافعٍ، عن عبد الرّزّاق أنبأنا معمر، عن همّام قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "نصرت بالرّعب، وأوتيت جوامع الكلم"
ولهذا قال تعالى: (ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 125-130]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء واللّه غفورٌ رحيمٌ (27)}
وقوله: {ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء واللّه غفورٌ رحيمٌ} قد تاب اللّه على بقيّة هوازن، وأسلموا وقدموا عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكّة عند الجعرّانة، وذلك بعد الوقعة بقريبٍ من عشرين يومًا، فعند ذلك خيّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستّة آلاف أسيرٍ ما بين صبيٍّ وامرأةٍ، فردّه عليهم، وقسّم أموالهم بين الغانمين، ونفل أناسًا من الطّلقاء ليتألّف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائةً مائةً من الإبل، وكان من جملة من أعطي مائةً مالك بن عوفٍ النّضري، واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته الّتي يقول فيها:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله = في النّاس كلّهم بمثل محمّد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى = ومتى تشأ يخبرك عمّا في غد
وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها = بالسّمهريّ وضرب كلّ مهنّد
فكأنّه ليثٌ على أشباله = وسط الهباءة خادر في مرصد). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 130]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:40 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة