تفسير قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياس كلٌّ من الصّالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضّلنا على العالمين (86)}
ووهبنا عطف على آتيناها وإسحاق ابنه من سارة، ويعقوب هو ابن إسحاق، وكلًّا ونوحاً منصوبان على المفعول مقدمان على الفعل، وقوله: من قبل لقومه صلى الله عليه وسلم، وقوله: ومن ذرّيّته المعنى وهدينا من ذريته، والضمير في ذرّيّته قال الزجّاج جائز أن يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكر «لوط» عليه السلام وهو ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن أخته ويتخرج عند من يرى الخال أبا وقيل: يعود الضمير على نوح وهذا هو الجيد، وداود يقال هو ابن إيشى وسليمان ابنه، وأيّوب هو فيما يقال أيوب بن رازح بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، ويوسف هو ابن يعقوب بن إسحاق، وموسى وهارون هما ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، ونصب داود يحتمل أن يكون ب وهبنا ويحتمل أن يكون ب هدينا وهذه الأسماء كلها فيها العجمة والتعريف، فهي غير مصروفة، وموسى عند سيبويه وزنه مفعل فعلى هذا يتصرف في النكرة، وقيل وزنه فعلى، فعلى هذا لا يتصرف في معرفة ولا نكرة، وكذلك نجزي المحسنين وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عمله وترغيب في الإحسان). [المحرر الوجيز: 3/ 408-409]
تفسير قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وزكريّا فيما يقال هو ابن آذر بن بركنا، وعيسى ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزينا، وإلياس هو ابن نسي بن فنحاص بن العيزان بن هارون بن عمران، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إدريس هو الياس ورد ذلك الطبري وغيره بأن إدريس هو جد نوح تظاهرت بذلك الروايات، «وزكرياء» قرأته طائفة بالمد وقرأته طائفة بالقصر «زكريا»، وقرأ ابن عامر باختلاف عنه، والحسن وقتادة بتسهيل الهمزة من الياس، وفي هذه الآية أن عيسى عليه السلام من ذرية نوح أو إبراهيم بحسب الاختلاف في عود الضمير من ذريته، وهو ابن ابنته، وبهذا يستدل في الأحباس على أن ولد البنت من الذرية). [المحرر الوجيز: 3/ 409]
تفسير قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وإسماعيل هو أكبر ولدي إبراهيم عليه السلام وهو من هاجر واليسع قال زيد بن أسلم وهو يوشع بن نون، وقال غيره: هو أليسع بن أخطوب بن العجوز، وقرأ جمهور الناس «وأليسع» وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» كأن الألف واللام دخلت على فيعل، قال أبو علي الفارسي: فالألف واللام في «اليسع» زائدة لا تؤثر معنى تعريف لأنها ليست للعهد كالرجل والغلام ولا للجنس كالإنسان والبهائم ولا صفة غالبة كالعباس والحارث لأن ذلك يلزم عليه أن يكون «اليسع» فعلا، وحينئذ يجري صفة. وإذا كان فعلا وجب أن يلزمه الفاعل ووجب أن يحكى إذ هي جملة ولو كان كذلك لم يجز لحاق اللام له إذ اللام لا تدخل على الفعل فلم يبق إلا أن تكون الألف واللام زائدة كما هي زائدة في قولهم الخمسة العشر درهما، وفي قول الشاعر: [الرجز]
يا ليت أمّ العمر كانت صاحبي
بالعين غير منقوطة، وفي قوله: [الطويل]
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا ....... شديدا بأعباء الخلافة كاهله
قال وأما الليسع فالألف واللام فيه بمنزلتها في الحارث والعباس لأنه من أبنية الصفات لكنها بمنزلة «اليسع» في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجئ فيها شيء هو على هذا الوزن كما لم يجئ منها شيء فيه لام تعريف فهما من الأسماء الأعجمية إلا أنهما مخالفان للأسماء فيما ذكر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وأما اليزيد فإنه لما سمي به أزيل منه معنى الفعل وأفردت فيه الاسمية فحصل علما وزيدت فيه الألف واللام لا لتعريف، وقال الطبري دخلت الألف واللام اتباعا للفظ الوليد، ويونس هو ابن متّى ويقال يونس ويونس ويونس وكذلك يوسف ويوسف ويوسف وبكسر النون من يونس والسين من يوسف قرأ الحسن وابن مصرف وابن وثاب وعيسى بن عمر والأعمش في جميع القرآن والعالمين معناه عالمي زمانهم). [المحرر الوجيز: 3/ 409-411]
تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ومن آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراطٍ مستقيمٍ (87) ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) أولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوّة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين (89) أولئك الّذين هدى اللّه فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجراً إن هو إلاّ ذكرى للعالمين (90)}
والمعنى وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات، ف من للتبعيض والمراد من آمن منهم نبيا كان أو غير نبي، ويدخل عيسى عليه السلام في ضمير قوله: ومن آبائهم، ولهذا قال محمد بن كعب الخال أب والخالة أم، واجتبيناهم معناه تخيرناهم وأرشدناهم وضممناهم إلى خاصتنا وأرشدناهم إلى الإيمان والفوز برضى الله تعالى. قال مجاهد معناه أخلصناهم، و «الذرية» الأبناء وينطلق على جميع البشر ذرية لأنهم أبناء، وقال قوم: إن الذرية تقع على الآباء لقوله تعالى:{ وآيةٌ لهم أنّا حملنا ذرّيّتهم في الفلك} [يس: 41] يراد به نوع البشر). [المحرر الوجيز: 3/ 411]
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ذلك هدى اللّه يهدي به الآية، ذلك إشارة إلى النعمة في قوله: واجتبيناهم وإضافة الهدى إلى الله إضافة ملك، ولحبط معناه تلف وذهب لسوء غلب عليه). [المحرر الوجيز: 3/ 411]
تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وأولئك إشارة إلى من تقدم ذكره والكتاب يراد به المصحف والتوراة والإنجيل والزبور، والحكم يراد به اللب والفطنة والفقه في دين الله، وهؤلاء إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كل كفار في ذلك العصر، قاله قتادة وابن عباس والسدي وغيرهم، وقوماً يراد به مؤمنو أهل المدينة، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم، فالآية على هذا التأويل وإن كان القصد في نزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال قتادة أيضا والحسن بن أبي الحسن المراد ب «القوم» من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقال أبو رجاء: المراد الملائكة، والباء في به متعلقة بقوله: بكافرين والباء في قوله بكافرين زائدة للتأكيد). [المحرر الوجيز: 3/ 411-412]
تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {أولئك الّذين هدى اللّه ... الآية}، الظاهر في الإشارة، ب أولئك أنها إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين ومعنى الاقتداء اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة، وإنما يصح اقتداؤه بجميعهم في العقود والإيمان والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف وأما أعمال الشرائع فمختلفة، وقد قال عز وجل: {لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً} [المائدة: 48] ويحتمل أن تكون الإشارة ب أولئك إلى قوله قوماً.
-قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم ويقلق بعضها، قال القاضي ابن الباقلاني: واختلف الناس هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه متعبدا بشرع من كان قبله، فقالت طائفة كان متعبدا، واختلف بشرع من؟ فقالت فرقة بشرع إبراهيم، وفرقة بشرع موسى، وفرقة بشرع عيسى، وقالت طائفة بالوقف في ذلك، وقالت طائفة لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله وهو الذي يترجح.
-قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا يحمل كلام القاضي على أنه لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله في توحيد ولا معتقد لأنّا نجد شرعنا ينبئ أن الكفار الذين كانوا قبل النبي عليه السلام كأبويه وغيرهما في النار ولا يدخل الله تعالى أحدا النار إلا بترك ما كلف، وذلك في قوله تعالى: {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15] وغير ذلك وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب ولا يكلف وإنما يوجب الشرع، فالوجه في هذا أن يقال إن آدم عليه السلام فمن بعده دعا إلى توحيد الله دعاء عاما واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي البالغ أن يبحث على الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن ولا يعبد غير الله، فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله وهو مع ذلك لم يكفر ولا عبد صنما بل تخلى فأولئك أهل الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث فعبد صنما وكفر فهذا تارك للواجب عليه مستوجب العقاب بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل بتوحيد الله عز وجل، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم إذ هي مختلفة وإذ لم يدعهم إليها نبي، وأما بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهل هو وأمته مخاطبون بشرع من تقدم فقالت فرقة لسنا مخاطبين بشيء من ذلك وقالت فرقة نحن مخاطبون بشرع من قبلنا.
-قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن قال من هذه الطائفة إن محمدا عليه السلام وأمته مخاطبون بكل شرائع من تقدم على الإطلاق فقد أحال لأن أحكام الشرائع تأتي مختلفة، وإنما يتحدق قول من قال منها إنّا متعبدون بما صح نقله من شرائع من قبلنا ولم تختلف فيه الشرائع وبالآخر مما اختلفت فيه لأنه الناسخ المتقدم ويرتبط في صحة نقل ذلك إلى ما وقع في القرآن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حكاية أحكام سالفة كقوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به} [ص: 44] وكقوله: {أقم الصّلاة لذكري} [طه: 14] وكحكاية تزويج شعيب ابنته بموسى عليهما السلام، وكحديث النبي عليه السلام في قضية سليمان بين المرأتين في الولد ونحو ذلك، ولا يقتضي قولهم أكثر من جواز أن يتعبد بذلك وأما وجوب أن تعبد فغير لازم، ولا يتعلق عندي أشبه في ذلك من أن يقال النبي عليه السلام شرع لأمته أن يصلي الناس صلاته إذا ذكرها، ثم مثل في ذلك لا على طريق التعليل بقوله عز وجل لموسى: {وأقم الصّلاة لذكري} [طه: 14] فننقل نحن هذا إلى غير ذلك من النوازل ونقول إنه كما شرع عندنا المثال في نسيان الصلاة كذلك نشرع هذه الأمثلة كلها.
-قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قياس ضعيف، ولو ذكر النبي عليه السلام قوله تعالى: {وأقم الصّلاة لذكري} [طه: 14] على جهة التعليل لكانت الحجة به قوية، ولا يصح أن يقال يصح عندنا نقل ما في الشرائع من جهة من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره صحة ننقلها، وكذلك ما شرعه الحواريون لا سبيل إلى صحة شرع عيسى عليه السلام له، وقرأ ابن كثير وأهل مكة ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة وعاصم «اقتده» بهاء السكت ثابتة في الوقف والوصل، وقرأ حمزة والكسائي «اقتد» قال بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف، وهذا هو القياس، وهي تشبه ألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء وتوصل غير مبتدأ بها، فكذلك هذه تثبت في الوقف وتحذف في الوصل، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء دون بلوغ الياء، قال ابن مجاهد وهذا غلط لأنها هاء وقف لا تعرب على حال، قال أبو علي ووجه ذلك أن تكون ضمير المصدر كأنه قال اقتد الاقتداء، وقرأ ابن ذكوان على هذه «اقتده» بإشباع الياء بعد الهاء، وقالت فرقة إن كسر الهاء إنما هو في هاء السكت كما قد تسكن هاء الضمير أحيانا.
-قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، ولا تجوز عليه القراءة بإشباع الياء، وقوله تعالى: قل لا أسئلكم الآية، المعنى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله وتوحيده أستكثر بها وأختص بدنياها، إن القرآن إلا موعظة، وذكرى ودعاء لجميع العالمين). [المحرر الوجيز: 3/ 412-415]